الفصل الأول

النظرية الكلاسيكية

إس دبليو هوكينج

في هذه المحاضرات، سأعرض أنا وروجر بِنروز وجهاتِ نظرنا ذات الصلة بعضها ببعض — على اختلافها — حول ماهيَّة المكان والزمان. سيُلقي كلٌّ منا ثلاث محاضرات بالتبادل، تتبعها جلسةٌ نقاشية حول أساليبنا المختلفة لتناول الأمر. وجب التنويه إلى أن هذه المحاضرات ستكون عالية التخصص، ونفترض أنه لدى المتلقِّي إلمام بمبادئ النسبية العامة ونظرية الكم.

كتب ريتشارد فاينمان مقالةً قصيرةً يصف فيها تجارِبه أثناء مؤتمر حول النسبية العامة. أعتقد أنه كان يتحدث عن مؤتمر وارسو الذي عُقِد عام ١٩٦٢. وقد أشار في المقال على نحوٍ سلبي للغاية إلى تدنِّي كفاءة الحاضرين عمومًا، وعدم ملاءمة مجالات عملهم لما كانوا يفعلونه. إن ما جنَتْه النسبية العامة من شهرة واهتمام كبيرين في مدةٍ قصيرة يعود الفضل فيه بدرجةٍ كبيرة إلى جهد روجر البحثي؛ فحتى ذلك الحين كانت النسبية العامة قد تمثَّلت في مجموعةٍ غير مرتَّبة من المعادلات التفاضلية الجزئية في نظامٍ أحادي الإحداثيات. وقد سعد الناس كثيرًا عند التوصل إلى حل لها، حتى إنهم لم يكترثوا لكَوْنه على الأغلب ليس ذا معنًى في الواقع المادي، إلا أن روجر أدخل بعض المفاهيم الحديثة، مثل السبينورات والأساليب الشمولية، وكان هو أولَ من بيَّن إمكانية اكتشاف الخصائص العامة من دون حل المعادلات حلًّا دقيقًا. وكانت مُبَرهَنته الأولى حول المتفردات هي التي فتحت لي الباب لدراسة البِنية السببية، وكانت مصدر الإلهام لي في أبحاثي في الفيزياء الكلاسيكية على المتفردات والثقوب السوداء.

أعتقد أنني وروجر نتفق بدرجةٍ كبيرة في وجهتَي نظرنا حول الفيزياء الكلاسيكية، لكننا نختلف في طريقة تعاملنا مع الجاذبية الكمية، وبالطبع مع نظرية الكم ذاتها. ومع أن المتخصصين في فيزياء الجسيمات يعدُّونني شخصًا ثوريًّا خطرًا بسبب طرحي لفكرة احتمال فقد الترابط الكمي، فإنني بالتأكيد أُعَد مُحافظًا مقارنةً بروجر؛ فأنا أتبنَّى وجهة النظر الوضعية القائلة بأن أيَّ نظرية فيزيائية ما هي إلا نموذجٌ رياضي، وأنه لا مَغزى من أن نسأل إن كانت تعكس الواقع أم لا. كلُّ ما يمكن للمرء أن يتساءل بشأنه هو مدى توافق التنبؤات التي تأتي بها مع الملاحظات المرصودة. أعتقد أن روجر أفلاطوني حقًّا، لكن عليه الرد على ذلك بنفسه.

على الرغم من ظهور مقترَحات بأنه قد يكون للزمكان بِنيةٌ مميزة، فإنني لا أرى داعيًا لنبذ نظريات الوسط المتصل الناجحة للغاية. إن النسبية العامة نظريةٌ رائعة تتفق مع جميع الملاحظات المرصودة. قد تتطلب بعض التعديلات على مقياس بلانك، لكنني لا أعتقد أن ذلك سيؤثر على كثير من التنبؤات التي يمكن استنباطها منها. قد تكون مجرد تقريب منخفض الطاقة لنظريةٍ أخرى أكثر جوهرية، مثل نظرية الأوتار، لكنني أعتقد أن نظرية الأوتار قد رُوِّج لها بأكثر مما تستحق. أولًا، ليس من الواضح أن النسبية العامة، عند مزجها مع مجالاتٍ أخرى متنوعة للتوصل إلى نظرية للجاذبية الفائقة، لا يمكنها أن تُعطيَنا نظرية كم معقولة. إن ما يورَد عن اندثار الجاذبية الفائقة ما هو إلا مبالغات؛ ففي وقتٍ ما، كان الجميع يعتقدون أن الجاذبية الفائقة محدودة، وفي السنة التالية تغيَّرت الوجهة، وبدأ الجميع يقول إنه لا بد أن يكون في الجاذبية الفائقة انحرافات، مع أنه لم يُعثَر في الواقع على أيٍّ من ذلك. والسبب الثاني لعدم مناقشتي لنظرية الأوتار هو أنها لم تقدِّم أيَّ تنبؤات قابلة للاختبار. وعلى النقيض، أتى التطبيق المباشر لنظرية الكم على النسبية العامة — وهو ما سأتحدَّث عنه — بتنبؤين قابلَين للاختبار؛ ويبدو أن أحدهما — وهو ظهور اضطرابات بسيطة أثناء التضخم — قد تأكَّد من خلال ملاحظات حديثة لاضطرابات في إشعاع الخلفية الميكروي. أما التنبؤ الثاني — وهو أن الثقوب السوداء لا بد أن تُشِع حراريًّا — فيمكن اختباره من حيث المبدأ. كل ما علينا فِعله هو العثور على ثقبٍ أسود قديم، لكن مع الأسف لا يبدو أنه يوجد الكثير من تلك الثقوب فيما حولنا؛ فلو كان يوجد الكثير منها كنا سنتمكن من التوصل إلى طريقة لقياس الجاذبية قياسًا كميًّا.

لن يتغير أيٌّ من هذين التنبؤين حتى وإن كانت نظرية الأوتار هي بالفعل النظرية الأساسية الشاملة في الطبيعة. بيدَ أن نظرية الأوتار — على الأقل في حالتها الحالية غير المكتملة — غير قادرة مطلقًا على التوصل إلى هذه التنبؤات من دون الاستناد إلى النسبية العامة باعتبارها النظرية الفعَّالة القائمة. وأظن أن الحال قد يظل كذلك دائمًا، وأنه قد لا يكون بالإمكان التوصل إلى أي تنبؤات باستخدام نظرية الأوتار لا يمكن التوصل إليها أيضًا من خلال النسبية العامة أو الجاذبية الفائقة. وإن صح ذلك، فإنه يُثير التساؤل عما إذا كانت نظرية الأوتار نظريةً علميةً حقيقية. وهل يُعَد الجمال والكمال من الناحية الرياضية كافيًا في ظل غياب تنبؤات مختلفة قابلة للاختبار بالرصد؟ وهذا لا يعني حتى أن نظرية الأوتار بشكلها الحالي جميلة أو كاملة.

لهذه الأسباب، سأتحدَّث في هذه المحاضرات عن النسبية العامة، وسأركِّز على جانبين يبدو فيهما أن الجاذبية قد تُرشدنا إلى خواصَّ مختلفة تمامًا عن نظريات المجال الأخرى؛ الجانب الأول هو فكرة أن الجاذبية من شأنها أن تجعل للزمكان بداية، وربما نهاية أيضًا. أما الجانب الثاني فهو اكتشاف أنه يبدو أن ثَمة إنتروبيا جذبية أصيلة غير ناتجة عن التبسيط العياني؛ فقد ادَّعى البعض أن هذه التنبؤات ما هي إلا أدوات لتقريب شبه كلاسيكي، ويقولون إن نظرية الأوتار — وهي نظرية الجاذبية الكمية الحقيقية — سوف تُنحِّي المتفردات جانبًا، وتظهر ترابطات في الإشعاع الصادر من الثقوب السوداء، بحيث يتضح أنها شبه حرارية فحسب، من منظور التبسيط. ولو كانت كذلك، فستكون الأمور مُملَّة بعضَ الشيء؛ إذ لن تختلف الجاذبية عن أي مجال آخر. لكنني أعتقد أنها مختلفة اختلافًا واضحًا؛ لأنها تعمل على تشكيل النطاق الذي تؤثر فيه، بعكس المجالات الأخرى التي تكون موجودة في خلفيةٍ زمكانية ثابتة. وهذا هو ما يقود إلى احتمالية أن يكون للزمن بداية، كما يأخذنا أيضًا لمناطقَ من الكون لا يمكن رصدها؛ وهو ما يؤدي بدوره إلى ظهور مبدأ الإنتروبيا الجذبية باعتباره مِقياسًا لما لا يمكننا معرفته.

في هذه المحاضرة سأستعرض مبادئ النسبية العامة الكلاسيكية التي تقودنا إلى تلك الأفكار، وفي محاضرتيَّ الثانية والثالثة (الفصلين الثالث والخامس)، سأبيِّن كيفية تغيُّر هذه المبادئ وتوسُّع نطاقها مع انتقالنا إلى نظرية الكم. ستكون المحاضرة الثانية عن الثقوب السوداء، والثالثة عن علم الكونيات الكمي.

لقد كانت الطريقة الأساسية لدراسة المتفردات والثقوب السوداء التي قدَّمها روجر، وساعدت أنا في تطويرها، تكمُن في دراسة البِنية السببية العامة لنسيج الزمكان. حدد المجموعة باعتبارها مجموعة كل النقاط التي تشكِّل الزمكان ، والتي يمكن الوصول إليها من النقطة عن طريق منحنيات شِبه زمنية متجِهة للمستقبل (انظر الشكل ١-١). ويمكننا اعتبار أن هي مجموعة الأحداث التي قد تتأثر بما يحدث عند . وثَمة تعريفاتٌ أخرى مشابهة، تحلُّ فيها إشارة السالب محلَّ إشارة الموجب، والماضي محل المستقبل. وسأفترض هنا أن هذه التعريفات واضحة ولا تحتاج إلى شرح.
fig1
شكل ١-١: التسلسل الزمني المستقبلي للنقطة .
لننظر الآن إلى الحد İ+(S) لمستقبل المجموعة . من السهل جدًّا ملاحظة أن هذا الحد لا يمكن أن يكون شبه زمني؛ فلو كان كذلك لكانت النقطة التي تقع مباشرةً خارج الحد، هي مستقبل النقطة الموجودة داخله مباشرةً. كما لا يمكن للحد المستقبلي أن يكون شِبه زمني إلا عند المجموعة نفسها؛ لأنه في تلك الحالة، كل منحنًى متجه للماضي من النقطة نحو مستقبل الحد، سيعبُر النطاق ويترك خلفه مستقبل المجموعة ، وسيتعارض ذلك مع حقيقة أن تقع في مستقبل (الشكل ١-٢).
fig2
شكل ١-٢: لا يمكن لحدِّ التسلسل الزمني المستقبلي أن يكون شِبه زمني أو شِبه مكاني.
fig3
شكل ١-٣: بالأعلى: تقع النقطة على حد المستقبل؛ ومن ثَم توجد قطعةٌ جيوديسية صفرية في الحد الذي يمرُّ عبر النقطة . بالأسفل: إذا كان يوجد أكثر من قطعة جيوديسية واحدة، فستكون النقطة هي نقطة النهاية المستقبلية لتلك القطع الجيوديسية.
fig4
شكل ١-٤: بحذف خط من فضاء منكوفسكي، يكون للحد المستقبلي للمجموعة مولِّد ليس له نقطة نهاية ماضية.
ومن ثَم نستنتج أن الحد المستقبلي صفري، بمعزل عن المجموعة ذاتها. وعلى نحوٍ أدق، إذا كانت النقطة داخل الحد المستقبلي، ولكنها ليست في نهاية المجموعة ، فإنه توجد قطعةٌ جيوديسية صفرية متجِهة للماضي، تمرُّ عبر النقطة الواقعة داخل الحد (انظر الشكل ١-٣). قد يوجد أكثر من قطعة جيوديسية صفرية واحدة تمرُّ عبر النقطة الواقعة داخل الحد، لكن في هذه الحالة تكون النقطة هي نقطة نهاية مستقبلية لتلك القِطع الجيوديسية. وبعبارةٍ أخرى، ينشأ حد مستقبل المجموعة عن قِطع جيوديسية صفرية، لها نقطة نهاية مستقبلية داخل الحد، وتمرُّ إلى داخل الجزء الداخلي من المستقبل إذا تقاطعت مع مولِّد آخر. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن مولِّدات القِطع الجيوديسية الصفرية يمكن أن يكون لها نقاط نهاية ماضية على المجموعة فقط. بيدَ أنه يحتمل أن يوجد زمكاناتٌ تحتوي على مولِّدات للحد المستقبلي لمجموعة لا تتقاطع أبدًا مع المجموعة . والمولِّدات من هذا النوع لا يمكن أن يكون لها نقاط نهاية ماضية.
ثَمة مثالٌ بسيط على ذلك هو فضاء منكوفسكي محذوف منه قطعةٌ مستقيمة أفقية (انظر الشكل ١-٤). إذا كانت المجموعة تقع في ماضي الخط الأفقي، فسينشأ عن الخط ظلٌّ، وستوجد نقاط على الجانب المستقبلي من الخط ليست في مستقبل المجموعة . وسيوجد مولِّد للحد المستقبلي للمجموعة يعود إلى نهاية الخط الأفقي. لكن، بما أن نقطة نهاية الخط الأفقي محذوفة من الزمكان، فلن يكون لمولِّد الحد هذا نقطةُ نهاية ماضية، وسيكون هذا الزمكان غير مكتمل، لكن المرء يستطيع معالجة ذلك بضرب وحدة القياس في عاملٍ مُتوازٍ مناسبٍ قرب نهاية الخط الأفقي. ومع أن أمكنة كهذه مصطنعة جدًّا، فهي مهمة لإظهار مدى الحرص اللازم أثناء دراسة البِنية السببية. في الواقع، أشار روجر بنروز — الذي كان أحد المُمتحِنين لي أثناء مناقشة رسالة الدكتوراه — إلى أن مكانًا مِثل الذي ذكرته للتوِّ هو مثال مضادٌّ لبعض ما زعمته في أطروحتي.
لإظهار أن كل مولِّد للحد المستقبلي له نقطة نهاية ماضية في المجموعة، علينا فرضُ شرط عام على البِنية السببية، والشرط الأقوى والأهم فيزيائيًّا هو شرط الزائدية العامة. تُعَد المجموعة المفتوحة زائدية بشكلٍ عام إذا:
  • (١)
    كان التقاطع بين مستقبل النقطة وماضي النقطة ، لكل نقطتين و في المجموعة ، منغلقًا بإحكام. بعبارةٍ أخرى، هي منطقةٌ محصورة بحدود تتخذ شكلَ المعيَّن (انظر الشكل ١-٥).
  • (٢)
    تحقَّقت سببيةٌ قوية عند المجموعة ؛ أي إنه لا توجد منحنياتٌ شِبه زمنية مغلقة أو شِبه مغلقة في المجموعة .
fig5
شكل ١-٥: التقاطع بين مستقبل النقطة وماضي النقطة منغلق بإحكام.
fig6
شكل ١-٦: مجموعة من أسطح «كوشي» للمجموعة .
fig7
شكل ١-٧: في فضاءٍ يتَّسم بالزائدية العامة، توجد قطعةٌ جيوديسية يبلغ طولُها أقصى ما يمكن بين أي نقطتين يمكن التوصيل بينهما بمنحنًى شِبه زمني أو بمنحنًى صفري.
تكتسب الزائدية العامة أهميتها الفيزيائية من كَوْنها تدلُّ على وجود مجموعة من أسطح «كوشي»، ، للمجموعة (انظر الشكل ١-٦). وسطح «كوشي» للمجموعة هو سطحٌ شِبه مكاني، أو صفري، يقطع كل منحنًى شِبه زمني في المجموعة مرةً واحدة فقط. ويمكننا توقُّع ما سيحدث في المجموعة من خلال البيانات على سطح «كوشي»، كما يمكننا وضع نظرية مُنضبطة للمجال الكمي على أساس الزائدية العامة. أما فيما يتعلق بإمكانية صياغة نظرية معقولة للمجال الكمي على أساس الزائدية غير العامة، فإن إمكانية ذلك ليست واضحة بالقدر نفسه. إذن، قد تكون الزائدية العامة ضرورةً فيزيائية، لكن من وجهة نظري أنه يجب علينا ألا نفترضَ وجودها؛ لأن ذلك يجعلنا نُغفل أمرًا تُحاول الجاذبية توضيحه لنا، بل يُفترض أن نستنتج عن طريق افتراضات فيزيائية معقولة أخرى أن بعض مناطق الزمكان تتَّسم بالزائدية العامة.
تكتسب الزائدية العامة أهميتها فيما يتعلق بمبرهنات المتفردات من الآتي. افترض أن المجموعة تتسم بالزائدية العامة، وأن و نقطتان في المجموعة يمكن التوصيل بينهما بمنحنًى شِبه زمني أو بمنحنًى صفري. وتوجد قطعةٌ جيوديسية شِبه زمنية أو صفرية بين النقطتين و ، تزيد طول المنحنيات شبه الزمنية أو المنحنيات الصفرية من النقطة إلى النقطة ليصل إلى أقصى طول ممكن (انظر الشكل ١-٧). لبرهنة ذلك، لا بد من إثبات أن الفضاء الذي يحتوي على كل المنحنيات شبه الزمنية أو المنحنيات الصفرية، الممتدة من النقطة إلى النقطة ، منضغط في شكلٍ طوبولوجي معيَّن؛ ومن ثَم نُثبِت أن طول المنحنى هو عبارة عن دالةٍ عليا نِصف متصلة في هذا المكان؛ لذا لا بد أن يصل إلى أقصى طول له، والمنحنى ذو الطول الأقصى سيكون قطعةً جيوديسية؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكانت الاختلافات البسيطة ستؤدي إلى منحنًى أطول.
fig8
شكل ١-٨: إلى اليسار: إذا كانت توجد نقطةٌ مرافقة بين النقطتين و على قطعةٍ جيوديسية، فهذه إذن ليست القطعة الجيوديسية الأقصر. إلى اليمين: القطعة الجيوديسية التي ليست هي الأقصر، الممتدة من النقطة إلى النقطة ، لها نقطةٌ مرافقة عند القطب الجنوبي.
ويمكننا الآن الانتقال إلى شكلٍ آخر مختلف من أطوال القِطع الجيوديسية، وهو . يمكننا إظهار أن يمكن تغييره لمنحنًى أطول في حال كانت توجد قطعةٌ جيوديسية قريبة جدًّا من النقطة ، تتقاطع مع مرةً أخرى عند النقطة بين النقطتين و ، وتُعتبر النقطة مرافقة للنقطة (انظر الشكل ١-٨). ويمكننا تصوُّر ذلك بتخيُّل نقطتين و على سطح كوكب الأرض. وبدون أن نتخلَّى عن العمومية، يمكننا تحديد موقع النقطة عند القطب الشمالي. ولأن كوكب الأرض له فضاءٌ مِتري محدَّد موجب، وليس مترية لورنتز، فإنه توجد قطعةٌ جيوديسية هي أقصر ما يمكن، وليس قطعة جيوديسية أطول ما يمكن. هذه القطعة الجيوديسية الأقصر ستكون عبارة عن خط طول ممتد من القطب الشمالي إلى النقطة . لكن ستوجد قطعةٌ جيوديسية أخرى ممتدة من النقطة إلى النقطة ، تمرُّ في الخلف من أعلى لأسفل، من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، ثم من أسفل لأعلى نحو النقطة . تتضمن هذه القطعة الجيوديسية نقطةً مرافقة للنقطة عند القطب الجنوبي، حيث تتقاطع كلُّ القِطع الجيوديسية المنبعثة من النقطة . كلتا القطعتين الجيوديسيتين من النقطة إلى النقطة تمثِّلان نقاطَ طولٍ ثابتة في ظل تغايُر بسيط. لكن في فضاءٍ متري محدَّد موجب، قد ينتج عن التغاير الثاني للقِطع الجيوديسية، التي تتضمن نقطة مرافقة، منحنًى أقصر يمتد من النقطة إلى النقطة . لذلك، في مثال الكرة الأرضية، يمكننا استنباط أن القطعة الجيوديسية التي تمتد لأسفل باتجاه القطب الجنوبي ثم ترجع متجهةً لأعلى، ليست المنحنى الأقصر الممتد من النقطة إلى النقطة . هذا مثالٌ واضح جدًّا، لكن في حالة الزمكان، يمكننا إظهار أنه مع وجود افتراضات معيَّنة لا بد أن توجد منطقة تتَّسم بالزائدية العامة، ويُفترض أن تكون فيها نقاطٌ مرافقة على كل قطعة جيوديسية ممتدة بين نقطتين. وينشأ عن ذلك تناقضٌ يُثبِت أن افتراض الكمال الجيوديسي، الذي يمكن اتخاذُه تعريفًا لزمكانٍ غير متفرد، هو افتراضٌ خاطئ.

يعود السبب في ظهور نقاط مرافقة في الزمكان إلى أن الجاذبية قوةٌ جاذبة؛ ومن ثَم فإنها تتسبَّب في انحناء الزمكان على نحوٍ يجعل القِطع الجيوديسية المجاورة ينحني بعضها تجاه بعض، بدلًا من أن تنحنيَ نحو الخارج. ويمكننا فهم ذلك من خلال معادلتَي رايشودوري أو نيومان-بنروز، واللتان سأكتبهما في صيغةٍ موحَّدة.

معادلة رايشودوري-نيومان-بنروز

حيث لجميع القِطع الجيوديسية الصفرية،
و للقِطع الجيوديسية شِبه الزمنية.
إن هنا هو مُعاملٌ تآلفي لائتلاف من القِطع الجيوديسية، بمتجهٍ مماسٍّ ، وهو متعامد على المستوى الفائق. الكمية هي متوسط معدل تقارُب القِطع الجيوديسية، بينما هو مقياس للقص، ويعبِّر الحد عن تأثير الجاذبية المباشر للمادة على مدى تقارُب القِطع الجيوديسية.
معادلة أينشتاين
شرط الطاقة الضعيف
لأي متجه شبيه بالزمن.
حسب معادلات أينشتاين، تكون قيمة الناتج غير سالبة لأي متجه صفري، في حال خضوع المادة لما يُسمى شرط الطاقة الضعيف، ويعني ذلك أن كثافة الطاقة تكون قيمتها غير سالبة في أي إطار. ويخضع موتِّر زخم الطاقة الكلاسيكي في حالة أي مادة معقولة، مثل المجال القياسي أو الكهرومغناطيسي، أو مائع له معادلة حالة معقولة، إلى شرط الطاقة الضعيف. لكنه قد لا يتحقق محليًّا بالقيمة الميكانيكية الكمية المتوقعة لموتِّر زخم الطاقة. سيكون الحديث عن ذلك مُناسبًا أكثر في محاضرتيَّ الثانية والثالثة (الفصل الثالث والفصل الخامس).
لنفترض أن الأمور تخضع لشرط الطاقة الضعيف، وأن القِطع الجيوديسية الصفرية الممتدة من النقطة تبدأ في الانحناء بعضها نحو بعض مجدَّدًا، وأن يتخذ القيمة الموجبة . يُستنبط حينها من معادلة نيومان-بنروز أن التقارب يصبح لا نهائيًّا عند النقطة ضِمن مسافة مُعامل تآلفي إذا كان بالإمكان مدُّ القطعة الجيوديسية الصفرية بطول هذه المسافة.
إذا كان عند فإن ؛ لذلك توجد نقطةٌ مرافقة قبل .
ستتقاطع القطع الجيوديسية الصفرية القريبة جدًّا، المنبعثة من النقطة ، عند النقطة . ويعني ذلك أن النقطة ستكون مرافقة للنقطة على طول القطعة الجيوديسية الصفرية التي تصل بين النقطتين. أما فيما يتعلق بالنقاط فيما بعد النقطة المرافقة على القطعة الجيوديسية ، فسيكون ثَمة تغيُّر في شكل ، يؤدي إلى منحنًى شِبه زمني منبعِث من النقطة ؛ لذلك لا يمكن للقطعة الجيوديسية أن تقع في النطاق المستقبلي للنقطة فيما بعد النقطة المرافقة . إذن، سيكون للقطعة الجيوديسية نقطة نهاية مستقبلية بمثابة مولِّد للنطاق المستقبلي للنقطة (انظر الشكل ١-٩).
والوضع مُشابه لذلك في حالة القِطع الجيوديسية شِبه الزمنية، إلا أن شرط الطاقة القوي اللازم لجعل قيمة غير سالبة لكل متجه شِبه زمني يكون أقوى، مِثلما يُشير اسمه. لكن هذا يظل معقولًا من الناحية الفيزيائية — على الأقل في المتوسط — في النظرية الكلاسيكية. فإذا ما كان شرط الطاقة القوي مُنطبقًا، وبدأت القِطع الجيوديسية شِبه الزمنية والمنبعثة من النقطة في الانحناء بعضها نحو بعض مجدَّدًا، فسيكون ثَمة نقطة مرافقة للنقطة .

شرط الطاقة القوي

fig9
شكل ١-٩: النقطة مرافقة للنقطة على طول القِطع الجيوديسية الصفرية؛ ومن ثَم فإن القطعة الجيوديسية الصفرية التي تصل بين النقطتين و ستترك النطاق المستقبلي للنقطة عند النقطة .

وأخيرًا، ننتقل إلى شرط الطاقة العام. وهذا الشرط يتضمن أولًا تحقُّق شرط الطاقة القوي. وثانيًا، أن كل قطعة جيوديسية شِبه زمنية أو صفرية تلتقي بنقطةٍ ما، حيث يكون هناك قدرٌ من الانحناء لا يتماشى كثيرًا مع القطعة الجيوديسية. لا يتحقق شرط الطاقة العام في عدد من الحلول المحددة المعروفة، بيد أن هذه الحلول تُعَد حلولًا خاصة. وقد يتوقَّع المرء أن من شأن حل «عام» بالمعنى المناسب للكلمة أن يستوفيَ هذا الشرط. إذا تحقَّق شرط الطاقة العام، فسوف تلتقي كل قطعة جيوديسية بمنطقة تركيز جاذبي. ومن شأن ذلك أن يشير إلى وجود أزواج من النقاط المترافقة، إذا كان بإمكاننا مدُّ القطعة الجيوديسية لمسافةٍ بعيدة بما يكفي في كل الاتجاهات.

شرط الطاقة العام

(١) شرط الطاقة القوي مُتحقق.

(٢) تتضمن كل قطعة جيوديسية شِبه زمنية أو صفرية نقطةً معينة، حيث:

.

عادةً ما ننظر إلى المتفردة الزمكانية باعتبارها مساحةً يصبح فيها الانحناء كبيرًا بقدرٍ لا محدود، لكن المشكلة في هذا التعريف أنه بإمكاننا إذن ببساطةٍ أن نُنحِّي النقاط المتفردة جانبًا، ونقول إن المنطقة المُنطوية المُتبقية هي الزمكان بأكمله؛ لذلك من الأفضل تعريف الزمكان بأنه المنطقة المنطوية القصوى التي يكون فيها الفضاء المتري مستقرًّا على نحوٍ مناسب، ويمكننا حينئذٍ تمييز وجود متفردات من خلال وجود قِطع جيوديسية غير مكتملة، لا يمكن مدُّها إلى القيم اللانهائية للمُعامل التآلفي.

تعريف المتفردة

يمكن القول إن جزءًا من الزمكان هو متفردة إذا كانت قِطعه الجيوديسية شِبه الزمنية أو الصفرية غير مكتملة، ولا يمكن دمجها في نسيج الزمكان الأكبر.

يعكس هذا التعريف السمة الأكثر إثارةً للاعتراض بشأن المتفردات، وهي إمكانية وجود جُسيمات لتاريخها بدايةٌ أو نهاية عند زمن محدَّد. ثَمة أمثلة قد يتحقق فيها عدمُ اكتمال القِطع الجيوديسية مع بقاء الانحناء محدودًا، لكن يُعتقد أن الانحناءات ستتباعد بشكلٍ عام على طول القِطع الجيوديسية غير المكتملة. ويكون ذلك مهمًّا إذا ما لجأنا إلى التأثيرات الكمية لحل المشكلات الناشئة عن المتفردات في النسبية العامة الكلاسيكية.

وقد استخدمت أنا وبنروز، في الفترة بين عامَي ١٩٦٥ و١٩٧٠، الأساليب التي ذكرتها لإثبات عدد من مبرهنات المتفردات، وكان لهذه المبرهنات ثلاثة أنواع من الشروط؛ أولًا: كان يوجد شرطٌ خاص بالطاقة، مثل شرط الطاقة الضعيف، أو القوي، أو العام. وثانيًا: كان يوجد شرطٌ عام للبِنية السببية، مثل أنه يجب ألا توجد أيُّ منحنيات شِبه زمنية مغلقة. وأخيرًا: كان يوجد شرطٌ ينصُّ على أن الجاذبية تكون قوية جدًّا في إحدى المناطق، بما يمنع إفلات أي شيء منها.

مبرهنات المتفردات

(١) شرط الطاقة.

(٢) شرط البنية العامة.

(٣) جاذبية قوية بما يكفي لإبقاء منطقة ما محاصَرة.

fig10
شكل ١-١٠: عند سطح مُغلَق عادي تتباعد الأشعة الصفرية الخارجة من السطح، بينما تتقارب الأشعة الداخلة، وعند السطح المحصور المغلق تتقارب الأشعة الداخلة والأشعة الخارجة الصفرية.
ويمكن التعبير عن هذا الشرط الثالث بطرقٍ مختلفة؛ إحداها أن يكون المقطع العرضي المكاني للكون مغلقًا؛ لأنه حينئذٍ لا يكون ثَمة وجود لمنطقةٍ خارجية يمكن الإفلات إليها. الطريقة الأخرى هي أن يوجد ما يُطلق عليه سطحٌ محصورٌ مغلق، وهو عبارة عن سطحٍ مزدوج مغلق، بحيث تتقارب القِطع الجيوديسية الخارجة والداخلة الصفرية المتعامدة عليه (انظر الشكل ١-١٠). عادةً، إذا كان لديك سطحٌ كُروي مزدوج في فضاء منكوفسكي، فستتقارب القِطع الجيوديسية الداخلة الصفرية، بينما تتباعد القِطع الخارجة. لكن عند انهيار نجم، قد يكون مجال الجاذبية قويًّا جدًّا، حتى إن المخروطات الضوئية تميل نحو الداخل. وهذا يعني أنه حتى القِطع الجيوديسية الخارجة الصفرية تتقارب.

وتُظهر مبرهنات المتفردات المختلفة أن الزمكان لا بد أن يكون شِبه زمني أو صفريًّا وغير مكتمل القِطع الجيوديسية، إذا تحقَّقت توليفاتٌ مختلفة من أنواع الشروط الثلاثة. ويمكن للمرء إضعاف أحد الشروط إذا ما افترض وجود أشكال أقوى من الشرطين الآخرين، وسأوضِّح هذا من خلال شرح مبرهنة هوكينج-بنروز. تخضع هذه المبرهنة لشرط الطاقة العام، وهو الأقوى من بين شروط الطاقة الثلاثة. يُعَد الشرط الشامل ضعيفًا بعض الشيء، وهو أنه يجب ألا يكون ثَمة وجود لمنحنيات شِبه زمنية مغلقة، بينما شرط عدم الإفلات هو الأكثر شمولية، وهو ينصُّ على أنه لا بد أن يوجد إما سطحٌ محصور، أو سطحٌ ثلاثي شِبه مكاني مغلق.

fig11
شكل ١-١١: تطور «كوشي» المستقبلي لمجموعة ، وحده المستقبلي، أو الأفق «الكوشي»، .
ولأغراض التبسيط سأرسم برهانًا لحالة مجموعة ذات سطح ثلاثي شِبه مكاني مغلق. يمكننا تعريف تطور «كوشي» المستقبلي باعتباره منطقة النقاط ، حيث يتقاطع كلُّ منحنًى شِبه زمني مُنبعث منها ومتجه للماضي مع المجموعة (انظر الشكل ١-١١). إن تطور «كوشي» هو المنطقة الزمكانية التي يمكن توقُّعها من البيانات على المجموعة . افترض الآن أن تطور «كوشي» المستقبلي مُتراصٌّ. يعني ذلك أنه سيكون لتطور «كوشي» نطاقٌ مستقبلي يُطلَق عليه اسم «الأفق الكوشي»، . وبحجةٍ مُشابهة لتلك الخاصة بالحد المستقبلي لنقطةٍ ما، يتولَّد أفق «كوشي» بفعل قِطع جيوديسية صفرية ليس لها نقاطُ نهاية ماضية. لكن بما أنه يُفترض أن تطور «كوشي» مُتراصٌّ، سيكون الأفق «الكوشي» مُتراصًّا أيضًا؛ وهذا يعني أن مولِّدات القِطع الجيوديسية ستلتفُّ وتلتفُّ داخل مجموعة متراصَّة، وستقترب من قطعةٍ جيوديسية صفرية ومحدِّدة للمجموعة، هي القطعة ، وليس لها نقاط نهاية ماضية أو مستقبلية في الأفق «الكوشي» (انظر الشكل ١-١٢). لكن لو كانت القطعة مكتملة الجيوديسية، فسيؤدي شرط الطاقة العام إلى أن تتضمن النقطتين المرافقتين و ، ويمكن توصيل النقاط على فيما بعد النقطتين و بمنحنًى شِبه زمني، بيدَ أن ذلك سيشكِّل تناقضًا؛ لأنه لا يمكن لأي نقطتين على الأفق «الكوشي» أن تكونَا منفصلتين على نحوٍ شِبه زمني. لذلك، إما أن القطعة ليست مكتملة الجيوديسية؛ وبذلك تكون المبرهنة قد أُثبتت، وإما أن التطور «الكوشي» المستقبلي للمجموعة ليس مُتراصًّا.
fig12
شكل ١-١٢: توجد قطعةٌ جيوديسية صفرية ومحدِّدة للمجموعة، هي القطعة ، في الأفق «الكوشي»، وليس لها نقاط نهاية ماضية أو مستقبلية في الأفق «الكوشي».
fig13
شكل ١-١٣: إذا كان التطور «الكوشي» المستقبلي (أو الماضي) غيرَ متراصٍّ، يوجد منحنًى شِبه زمني متجه للمستقبل (أو للماضي) من المجموعة ، ولا يُفارق التطور «الكوشي» المستقبلي (أو الماضي) أبدًا.
ويمكننا في الحالة الأخيرة إثبات أنه يوجد منحنًى شِبه زمني متجه للمستقبل، وهو المنحنى من المجموعة ، ولا يُفارق التطور «الكوشي» المستقبلي للمجموعة أبدًا. ولأسبابٍ مُشابهة، قد يكون بالإمكان مدُّ المنحنى إلى الماضي، إلى منحنًى لا يُفارق التطور «الكوشي» الماضي أبدًا (انظر الشكل ١-١٣). لنتناول الآن تسلسلًا من النقاط ، على المنحنى المتجه للماضي، وتسلسلًا آخر مُشابهًا متجهًا للمستقبل. لكل قيمة ﻟ ، تكون النقاط و منفصلة على نحوٍ شِبه زمني، وتقع في التطور «الكوشي» للمجموعة العكسي بشكلٍ عام. لذلك، توجد قطعةٌ جيوديسية شِبه زمنية طولُها أقصى ما يمكن، هي القطعة ، تمتدُّ من إلى . ستقطع كلُّ القِطع الجيوديسية سطح شِبه المكاني المُتراص. هذا يعني أنه سيكون ثَمة وجود لقطعةٍ جيوديسية شِبه زمنية، ، في التطور «الكوشي»، هي حدٌّ للقِطع الجيوديسية شِبه الزمنية (انظر الشكل ١-١٤). إما أن ستكون غير مكتملة، وفي هذه الحالة تكون المبرهنة قد أُثبتت، وإما أنها ستحتوي على نقاطٍ مرافقة بسبب شرط الطاقة العام، لكن في تلك الحالة، ستحتوي القِطع الجيوديسية على نقاطٍ مرافقة ﻟ كبيرة جدًّا. ومن شأن ذلك أن يشكِّل تناقضًا؛ لأنه يُفترَض أن تكون القِطع الجيوديسية منحنيات طولُها أقصى ما يمكن. بإمكاننا إذن استنتاج أن الزمكان شِبه زمني، أو صفري وغير مكتمل الجيوديسية. بعبارةٍ أخرى، ثَمة وجود لمتفردة هنا.
fig14
شكل ١-١٤: لا بد أن تكون القطعة الجيوديسية ، المحدِّدة للنقاط ، غير مكتملة؛ لأنها لو لم تكن كذلك لاحتوت على نقاطٍ مرافقة.

تتنبَّأ المبرهنات بوجود المتفردات في حالتين؛ إحداهما في المستقبل، في الانهيار الجاذبي للنجوم وغيرها من الأجرام الضخمة، وتشكِّل تلك المتفردات نهايةً للزمان، على الأقل للجسيمات التي تتحرك على القِطع الجيوديسية غير المكتملة. والحالة الأخرى التي يُتوقَّع فيها وجود المتفردات هي في الماضي، في بدايات التمدد الحالي للكون. وقد أدَّى ذلك إلى تجاهل المحاولات (التي قام بها الروس بالأساس) للقول بأنه قد حدثت مرحلة انقباض سابقة وقفزة غير متفردة نحو التمدد. بدلًا من ذلك، يعتقد الجميع تقريبًا الآن أن الكون، والزمن نفسه، كانت بدايته هي الانفجار الكبير، وهذا اكتشافٌ أهم بكثير من اكتشاف بضعة جسيمات غير مستقرة متنوعة، إلا أنه لم ينَل تقديرًا كافيًا من محكِّمي جوائز نوبل.

إن التنبؤ بوجود المتفردات يعني أن النسبية العامة الكلاسيكية ليست نظريةً كاملة. ولأن المتفردات لا بد أن تُستخرج من منطوية الزمكان، لا يمكننا تعريف معادلات المجال هناك، ولا التنبؤ بما ستئول إليه المتفردة. ولوجود المتفردة في الماضي، يبدو أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع هذه المشكلة هي اللجوء إلى الجاذبية الكمية. سأعود إلى هذه النقطة في محاضرتي الثالثة (الفصل الخامس)، لكن يبدو أن المتفردات المتوقَّعة في المستقبل تتسم بخاصيةٍ أطلق عليها بنروز اسم «الرقابة الكونية»، وهي أنها تحدُث على نحوٍ مُلائم في أماكن مثل الثقوب السوداء، مُتوارية عن أعيُن المُراقبين الخارجيين؛ ومن ثَم فإن أيَّ فشل في القدرة على التنبؤ، وهو ما قد يحدث عند هذه المتفردات، لن يؤثِّر على ما يحدث في العالم الخارجي، على الأقل ليس طبقًا للنظرية الكلاسيكية.

الرقابة الكونية

ترفض الطبيعة بشدةٍ وجود متفردة مجردة ظاهرة للعيان.

ومع ذلك، وكما سأوضح في محاضرتي التالية، لا توجد إمكانية للتنبؤ في نظرية الكم. يرتبط هذا بحقيقة أنه يمكن أن يكون لمجالات الجاذبية إنتروبيا داخلية ليست نتاج محاولات تبسيط وحسب. إن الإنتروبيا الجذبية، وحقيقة أن الزمن له بداية وربما يكون له نهاية، هما الفكرتان العامتان الغالبتان على محاضراتي؛ لأنهما ما يُميز الجاذبية عن غيرها من المجالات الفيزيائية الأخرى.

اكتُشفت حقيقة أن الجاذبية لها كمية تتصرف مثل الإنتروبيا للمرة الأولى في النظرية الكلاسيكية المحضة. وهي تعتمد على «حَدْسية الرقابة الكونية» التي أتى بها بنروز. إنها حدسيةٌ غير مُثبَتة، لكن يُعتقد أنها صحيحة فيما يخص البيانات الأولية العامة ومعادلات الحالة. سأستخدم هنا شكلًا ضعيفًا من أشكال الرقابة الكونية. قد نتعامل مع المنطقة المحيطة بنجم أثناء انهياره باعتبارها مسطحة على نحوٍ مُقارب؛ ومن ثَم، كما أوضح بنروز، يمكننا بشكلٍ متوازٍ غرسُ منطوية الزمكان في منطوية لها (انظر الشكل ١-١٥). وسيكون الحد عبارة عن سطحٍ صفري، وسيتكوَّن من جزأين؛ سطح لا نهائي صفري مستقبلي، وسطح لا نهائي صفري ماضي. ويُطلَق عليهما و . ويتعين القول إن الرقابة الكونية الضعيفة تتحقق إذا ما تحقَّق شرطان؛ أولًا: يُفترض أن تكون مولِّدات القِطع الجيوديسية الصفرية في كاملةً بمقياسٍ مُتوازٍ معيَّن، ما يعني أن المشاهدين البعيدين عن موقع الانهيار يعيشون حتى يهرموا، ولا تؤدي متفردة تنطلق كالصاعقة من النجم المنهار إلى محو وجودهم. وثانيًا: يُفترض أن ماضي يتسم بالزائدية العامة. هذا يعني أنه لا توجد متفرداتٌ مجردة يمكن رؤيتُها من مسافةٍ بعيدة. لدى بنروز صورةٌ أقوى من صور الرقابة الكونية، والتي تفترض أن الزمكان كلَّه يتسم بالزائدية العامة. بيدَ أن الصورة الضعيفة من الرقابة الكونية ستكون كافيةً لتوصيل ما أريد طرحه.
fig15
شكل ١-١٥: نجمٌ منهار، مغروس بشكل مُتوازٍ في منطوية لها حد.

الرقابة الكونية الضعيفة

(١) و كاملان.
(٢) تتسم بالزائدية العامة.
إذا تحقَّقت الرقابة الكونية الضعيفة، تُصبح المتفردات المتوقَّع ظهورها في الانهيار الجاذبي غيرَ مرئية من السطح ؛ وهذا يعني أنه لا بد من وجود منطقة في الزمكان ليست في ماضي السطح . وتُسمى هذه المنطقة بالثقب الأسود؛ لأنه لا يمكن للضوء أو أي شيء آخر الإفلاتُ منها والخروج إلى اللانهائية. والحد المحيط بالثقب الأسود يُسمى «أفق الحدث». ولأن أفق الحدث هو أيضًا الحد المحيط بماضي السطح ، فإنَّ أفق الحدث سيتولد عن القِطع الجيوديسية الصفرية التي قد يكون لها نقاط نهاية ماضية، وليس لها أيُّ نقاط نهاية مستقبلية؛ ومن ثَم يستتبع ذلك أنه إذا تحقَّق شرطُ الطاقة الضعيف، فلا يمكن لمولِّدات أفق الحدث أن تتقارب؛ لأنها لو كانت كذلك كانت سيتقاطع بعضها مع بعض في نطاق مسافة محدودة.
ويعني ذلك أن مساحة المقطع العرضي لأفق الحدث لا يمكن أن تقلَّ أبدًا بمرور الزمن، بل إنها عمومًا ستزداد. علاوةً على ذلك، لو تصادَم ثقبان أسودان واندمجَا معًا، فستكون مساحة الثقب الأسود الناتج أكبرَ من مجموع مساحتَي الثقبين الأسودين الأصليين (انظر الشكل ١-١٦). ويُشبِه ذلك كثيرًا سلوك الإنتروبيا حسب القانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي ينص على أن الإنتروبيا لا تتناقص أبدًا، وأن الإنتروبيا الكلية للنظام أكبر من مجموع إنتروبيا أجزائه المكوِّنة له.
القانون الثاني لميكانيكا الثقوب السوداء
القانون الثاني للديناميكا الحرارية
القانون الأول لميكانيكا الثقوب السوداء
القانون الأول للديناميكا الحرارية
fig16
شكل ١-١٦: عندما نُلقي بمادةٍ داخل ثقب أسود، أو نسمح بدمج ثقبين أسودين معًا، فإن المساحة الكلية لأفقَي الحدث لن تقلَّ أبدًا.
ويزداد التشابه مع الديناميكا الحرارية من خلال ما يُسمى «القانون الأول لميكانيكا الثقوب السوداء»، الذي يربط بين التغير في كتلة الثقب الأسود والتغير في مساحة أفق الحدث، وكذلك التغير في زخمه الزاوي وشحنته الكهربية. يمكننا مقارنة هذا بالقانون الأول للديناميكا الحرارية، الذي نحصل منه على مقدار التغير في الطاقة الداخلية بدلالة التغير في الإنتروبيا والتأثير الخارجي على النظام. ونُلاحظ أنه إذا كانت مساحة أفق الحدث تُناظر الإنتروبيا، فإن الكمية المناظرة لدرجة الحرارة هي ما يُسمى بالجاذبية السطحية للثقب الأسود ، وهي مقياس لشدة مجال الجاذبية المؤثر على أفق الحدث، بل يزداد التشابه مع الديناميكا الحرارية من خلال ما يُسمى ﺑ «القانون الصفري لميكانيكا الثقوب السوداء»، الذي ينص على أن الجاذبية السطحية واحدةٌ في كل مكان في أفق الحدث لثقبٍ أسود لا يؤثِّر عليه الزمن.
القانون الصفري لميكانيكا الثقوب السوداء
قيمة ثابتة في كل مكان في أفق الحدث لثقبٍ أسود لا يؤثِّر عليه الزمن.
القانون الصفري للديناميكا الحرارية
قيمة ثابتة في كل مكان في نظام في حالة اتزان حراري.

قدَّم بيكينشتاين (عام ١٩٧٢)، مدفوعًا بأوجه التشابه هذه، طرحًا مُفاده أن أحد مضاعفات مساحة أفق الحدث هو في الواقع نفس قيمة إنتروبيا الثقب الأسود، واقترح نسخةً معمَّمة من القانون الثاني، وهي أن مجموع إنتروبيا الثقب الأسود هذا وإنتروبيا المادة خارج الثقوب السوداء لن يقلَّ أبدًا.

القانون الثاني المعمَّم

لكنَّ طرحَه لم يكن قويًّا متسِقًا. فلو كان للثقوب السوداء إنتروبيا تتناسب طرديًّا مع مساحة الأفق، فلا بد أن يكون لها أيضًا درجة حرارة لا صفرية مُتناسبة طرديًّا مع جاذبية السطح. تخيَّلْ ثقبًا أسودَ على اتصال بإشعاعٍ حراري في درجة حرارة أقل من درجة حرارة الثقب الأسود (انظر الشكل ١-١٧)؛ حينها سيمتص الثقب الأسود بعضًا من الإشعاع، لكن لن ينبعث منه أيُّ شيء للخارج؛ لأنه، حسب النظرية الكلاسيكية، لا يمكن لأي شيء أن يخرج من الثقب الأسود. لذلك يحدث تدفُّق حراري من الإشعاع الحراري المنخفض الحرارة إلى الثقب الأسود ذي درجة الحرارة الأعلى. هذا يخرق القانون الثاني المعمَّم؛ لأن مقدار خسارة الإنتروبيا من الإشعاع الحراري سيكون أكبر من مقدار الزيادة في إنتروبيا الثقب الأسود. بيدَ أن التناسق قد عاد — كما سنرى في محاضرتي القادمة — عندما اكتُشف أن الثقوب السوداء تُطلِق إشعاعًا حراريًّا تمامًا. وهذه نتيجةٌ رائعة للغاية لدرجة أنها تنفي احتمالية كَوْنها مجرد مصادفة أو مقاربة؛ لذلك يبدو أن الثقوب السوداء تحتوي فعليًّا على إنتروبيا جذبية داخلية. وكما سأوضح، يتعلق ذلك بالطوبولوجيا غير الهيِّنة للثقب الأسود. ويعني وجود إنتروبيا داخلية أن الجاذبية تُضيف قدرًا إضافيًّا من انعدام القدرة على التنبؤ، يزيد من عدم التيقُّن المصاحب عادةً لنظرية الكم؛ ومن ثَم فقد أخطأ أينشتاين حين قال إن «الرب لا يلعب النرد.» إن دراسة الثقوب السوداء لا تُشير فحسب إلى أن الرب يلعب النرد، بل إنه أحيانًا يضعنا في حيرة بأن يُلقيَ النرد حيث لا يمكننا رؤيته (انظر الشكل ١-١٨).
fig17
شكل ١-١٧: سيمتص الثقب الأسود الذي يكون على اتصال بإشعاعٍ حراري بعضًا من هذا الإشعاع، ولكن لا يمكن، حسب النظرية الكلاسيكية، أن ينبعث منه أيُّ شيء للخارج.
fig18
شكل ١-١٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤