الفصل الرابع

نظرية الكم والزمكان

آر بنروز
إن أعظم النظريات الفيزيائية في القرن العشرين هي نظرية الكم (QT)، والنسبية الخاصة (SR)، والنسبية العامة (GR)، ونظرية المجال الكمي (QFT). وهذه النظريات ليس منفصلًا بعضها عن بعض؛ فقد بُنيت النسبية العامة على أساس النسبية الخاصة، وتُعَد النسبية الخاصة ونظرية الكم مدخلات لنظرية المجال الكمي (انظر الشكل ٤-١).
قيل إن نظرية المجال الكمي هي النظرية الفيزيائية الأدق على الإطلاق؛ إذ تبلغ دقتها حوالَي جزء من نحو ، لكني أودُّ الإشارة إلى أنه وُجد أن النسبية العامة، بطريقةٍ واضحة معيَّنة، صحيحة لجزء من (وواضحٌ أن هذا المستوى من الدقة يقتصر فقط على دقة الساعات على كوكب الأرض). أتحدَّث هنا عن نجم هالس-تايلور الثنائي النابض PSR 1913 + 16، وهو زوج من نجمَين نيوترونين يدوران بعضهما حول بعض، وأحدهما نجمٌ نابض. بحسب النسبية العامة، سيضمحل هذا المدار ببطء (وسوف تقصر الدورة) بسبب فقد الطاقة من خلال انبعاث الموجات الثقالية. وقد رُصِد ذلك بالفعل، ويتفق توصيف الحركة برمَّته — الذي يتضمن المدارات النيوتونية من ناحية، وتصحيحات النسبية العامة، وحتى التسارع المداري نتيجة إشعاع الجاذبية من ناحيةٍ أخرى — مع النسبية العامة (التي أعتبرها تشمل النظرية النيوتونية) من حيث المستوى المميز من الدقة المذكور أعلاه على مدار فترة تراكمية تصل إلى عشرين عامًا. حازت الاكتشافات المتعلقة بهذا النظام على جوائز نوبل. ودائمًا ما ادَّعى المُختصون بنظرية الكم أنه بسبب دقة نظريتهم، يجب تعديل النسبية العامة لتتناسب مع نموذجهم، لكنني أعتقد الآن أن نظرية المجال الكمي هي النظرية التي يجب تطويرها.
fig42
شكل ٤-١: نظريات القرن العشرين العظيمة في الفيزياء، ومشكلاتها الأساسية.

رغم أن تلك النظريات الأربع قد حقَّقت نجاحًا باهرًا، فهي لا تخلو من المُعضِلات. تُواجه نظرية المجال الكمي معضلة أنك كلما حسبت سعة شكل فاينمان المُتعدد الترابط، وجدت الناتج لا نهائيًّا. ويجب طرح هذه اللانهائيات أو تصغيرها ضمن عملية إعادة تطبيع النظرية. وتتوقع النسبية العامة وجود متفردات في الزمكان. وفي نظرية الكم لدينا «معضلة القياس»، التي سأشرحها لاحقًا. يمكن افتراض أن حلَّ معضلات تلك النظريات يكمن في حقيقة أنها ليست مكتملةً بذاتها. على سبيل المثال، يعتقد الكثيرون أن نظرية المجال الكمي يمكنها «محو» متفردات النسبية العامة بطريقةٍ ما. ويمكن حلُّ معضلات التباعد في نظرية المجال الكمي، جزئيًّا، بالاستعانة بالنسبية العامة، بوضع حد أقصى لقيمة الطاقة (التي تؤخَذ في الاعتبار عند إجراء العمليات الحسابية). وأعتقد أن معضلة القياس كذلك سوف تُحَل عندما تُضَم النسبية العامة إلى نظرية الكم بشكلٍ مناسب ليكوِّنا نظريةٍ جديدة.

سأتحدَّث الآن عن فقد المعلومات في الثقوب السوداء، وهو ما أزعم أن له علاقةً بهذه المسألة الأخيرة. إنني أتفق تقريبًا مع كل ما قاله ستيفن في هذا الموضوع، لكن بينما يعتبر ستيفن أن فقدَ المعلومات بسبب الثقوب السوداء يزيد عدم التيقن في الفيزياء أكثر كثيرًا من مقدار عدم التيقن الذي تأتي به نظريةُ الكم، أعتبره أنا قدْرًا «مكمِّلًا» من عدم التيقن. دعوني أشرح لكم ما أعنيه بهذا. في زمكانٍ يحتوي على ثقبٍ أسود، يمكننا أن نرى كيف تُفقد المعلومات من خلال رسم شكل كارتر للزمكان (انظر الشكل ٤-٢). تُحدَّد المعلومات الداخلة على اللانهائية الصفرية الماضية ، والمعلومات الخارجة على اللانهائية الصفرية المستقبلية . يمكننا القول إن المعلومات تُفقَد عند سقوطها عبر أفق الثقب الأسود، لكنني أفضِّل اعتبارها تُفقَد عند التقائها بالمتفردة. فلننظر الآن في انهيار كتلة من المادة لتكوِّن ثقبًا أسود، يتبعه تبخُّر الثقب الأسود بإشعاع هوكينج (بالتأكيد سننتظر وقتًا طويلًا ليحدث ذلك، ربما كان وقتًا أطول من عمر الكون نفسه!) إنني أتفق مع وجهة نظر ستيفن بأن المعلومات تُفقد في عملية الانهيار والتبخر تلك. يمكننا أيضًا رسم شكل كارتر لهذا الزمكان بالكامل (انظر الشكل ٤-٣).
fig43
شكل ٤-٢: شكل كارتر لانهيار ثقب أسود.
fig44
شكل ٤-٣: شكل كارتر لتبخر ثقب أسود.
إن المتفردة الموجودة داخل الثقب الأسود هي متفردةٌ شِبه مكانية، ولها انحناء فايل كبير، وفقًا لما ذكرتُه في محاضرتي السابقة (الفصل الثاني). ومن الممكن أن تفلت بعض المعلومات عند لحظة تبخر الثقب الأسود، من قطعةٍ متبقية من متفردة (التي ستبدو لماضي مستقبل المراقبين الخارجيين ذات منحنى فايل صغير، أو من دون منحنًى على الإطلاق)، لكن هذا القدر الضئيل من المعلومات المكتسَبة سيكون أقلَّ كثيرًا من المعلومات المفقودة في الانهيار (وهذا ما أعتبره تصورًا معقولًا للاختفاء النهائي للثقب). إذا ما وضعنا هذا النظام في صندوقٍ واسع — وهذه تجربةٌ افتراضية — يمكننا تصور تطور فضاء الطور للمادة داخل الصندوق. في نطاق فضاء الطور المتناسب مع الأوضاع التي يكون الثقب الأسود فيها موجودًا، ستتقارب مسارات التطور الفيزيائي، وسوف تنكمش الحجوم التي تتبع تلك المسارات. يرجع هذا لفقد المعلومات في المتفردة في الثقب الأسود. ويتعارض هذا الانكماش تعارضًا مباشرًا مع مبرهنة في الميكانيكا الكلاسيكية العادية تُسمى «مبرهنة ليوفيل»، والتي تنصُّ على أن الحجوم في فضاء الطور تظلُّ ثابتة (هذه مبرهنةٌ كلاسيكية. إذا توخَّينا الدقة، فمن الأحرى أن ندرس إحداث تطور كمي في فضاء هيلبرت، وحينها من شأن خرق مبرهنة ليوفيل أن يُكافئ عملية تطورية غير موحدة)؛ ومن ثَم يخرق الزمكان لثقبٍ أسود عمليةَ الحفظ تلك. لكن، في تصوري أنا، يوازَن هذا الفقد في حجوم فضاء الطور بعملية قياس كمي «تلقائية»، تُكتسب فيها المعلومات وتزداد حجوم فضاء الطور؛ لذلك أعتبر أن عدم التيقن الذي يؤدي إليه فقدُ المعلومات في الثقوب السوداء «مكمِّل» لعدم التيقن الذي تتضمنه نظريةُ الكم؛ أي إنهما وجهان لعملةٍ واحدة (انظر الشكل ٤-٤).

يمكننا القولُ إن المتفردات الماضية تحمل قدرًا ضئيلًا من المعلومات، بينما تحمل المتفردات المستقبلية الكثير منها. وهذا أساس القانون الثاني للديناميكا الحرارية. إن عدم التناظر في هذه المتفردات مرتبطٌ أيضًا بعدم التناظر في عملية القياس؛ لذا دعونا نَعُد إلى معضلة القياس في نظرية الكم.

يمكن الاستعانة بمعضلة الشِّق المزدوج لتمثيل مبادئ نظرية الكم. وفي هذا الموقف، يُسلَّط شعاع من الضوء على حاجز مُعتِم به شقَّان A وB. ينتج عن ذلك نمط تداخل مكوَّن من نطاقاتٍ مُضيئة وأخرى مُعتمة على شاشة في الخلفية. تسقط فوتوناتٌ منفردة على الشاشة كلٌّ منها عند نقطة مختلفة، لكن بسبب نطاقات التداخل تلك توجد بعضُ النقاط على الشاشة التي لا يمكن الوصول إليها. فلنفترض أن هي إحدى تلك النقاط، بيدَ أنه يمكن الوصول إلى النقطة لو حُجِب أحد الشقين. إن هذا النوع من التداخل الهدَّام، حيث يمكن للاحتمالات البديلة أن يلغيَ بعضها بعضًا، هو إحدى أغرب سمات ميكانيكا الكم. ويمكننا استيعاب ذلك في ضوء «مبدأ التراكب الفائق» الخاص بنظرية الكم، والذي ينصُّ على أنه لو كان المسار A والمسار B مسارين محتملين للفوتون، مع الإشارة إلى حالتَي الفوتون بكلٍّ من و على الترتيب — ودعونا نفترض أن هذه مسارات يمكن للفوتون أن يتخذها ليصل إلى النقطة ، عن طريق المرور أولًا عبر أحدِ الشقين، أو المرور أولًا عبر الشق الآخر — لكان التكوين ممكنًا أيضًا، حيث و عددان مركبان.
fig45
شكل ٤-٤: يحدث فقدٌ في حجم فضاء الطور عند وجود ثقب أسود. قد يوازن ذلك إعادة اكتساب حجم فضاء الطور بفعل انهيار الدالة الموجية R.
من غير المناسب أن نتعامل مع و باعتبارهما احتمالات بأي شكل من الأشكال، حيث إنهما «عددان مركبان». وحالة الفوتون هي عبارة عن تراكبٍ فائق مركب وفقط. والتطور «الموحد» للنظام الكمي (الذي أسمِّيه U) يحفظ تلك التراكيب الفائقة، إذا كان هو تراكبٌ فائق عند الزمن ، فإنه بعد مدة زمنية ، سيكون ذلك قد تطوَّر إلى ، حيث إن و يمثِّلان التطور المُنفصل لكلٍّ من البديلين بعد مدة زمنية . عند قياس نظام كمي، حيث تُضخَّم البدائل الكمية لتُعطي نتائج كلاسيكية مميزة، يبدو أن نوعًا آخر من «التطور» يحدث، ويُسمى «اختزال» متجه الحالة أو «انهيار الدالة الموجية» (سأسمِّي هذا R). تظهر الاحتمالات فقط عند «قياس» النظام، في هذه الحالة، والاحتمالية النسبية لوقوع الحدثَين هي .
fig46
شكل ٤-٥: تجربةٌ بسيطة توضِّح أن الاحتمالات الكمية المتأصلة في R لا تنطبق في الاتجاه الزمني المعاكس.
إن U وR هما عمليتان مختلفتان جدًّا: U عمليةٌ حتمية وخطية ومحلية (في الفضاء التكويني) ومتناظرة زمنيًّا، بينما R عمليةٌ غير حتمية وبلا شكٍّ غير خطية، وغير محلية، وغير متناظرة زمنيًّا. وهذا الفرق بين العمليتين التطوريتين الأساسيتين في نظرية الكم أمرٌ مذهل، ومن غير المرجَّح أن تُستنبط العملية R باعتبارها تقريبًا للعملية U (رغم أن الناس كثيرًا ما يُحاولون فعل ذلك). هذه هي «معضلة القياس».
إن العملية R تحديدًا غير متناظرة زمنيًّا. فلنفترض أنه سُلِّط شعاع من الضوء صادر من مصدر للفوتونات L على مِرآةٍ نصف عاكسة، بزاوية ٤٥ درجة لأسفل، وهناك كاشفٌ خلف المِرآة (الشكل ٤-٥).
لما كانت المِرآة نصف عاكسة، فثَمة تراكب موزون بشكل مُتساوٍ بين الحالات المنتقلة والمنعكسة. وهذا يؤدي إلى احتمال بنسبة ٥٠٪ أن يُفعِّل أي فوتون منفرد الكاشف بدلًا من أن تمتصَّه أرضية المختبر. ونسبة اﻟ ٥٠٪ هذه هي إجابة السؤال: «إذا انبعث فوتون من L، فما احتمال أن يتلقَّاه D؟» تُحدَّد إجابة هذا النوع من الأسئلة بالشرط R. لكن يمكننا أيضًا أن نسأل: «لو تلقَّى D فوتونًا، فما احتمال أن يكون قد انبعث من L؟» قد نظن أنه بإمكاننا إيجاد الاحتمالات بنفس الطريقة التي استخدمناها من قبل. إن U عمليةٌ متناظرة زمنيًّا، فهل ينطبق ذلك أيضًا على R؟ لكن، بتطبيق ذلك على الماضي، نجد أن شرط R (المعكوس زمنيًّا) لا يُعطينا الاحتمالات الصحيحة. في الحقيقة، ما يُحدِّد إجابة هذا السؤال أمرٌ مختلف تمامًا، وهو القانون الثاني للديناميكا الحرارية — وهو يطبَّق هنا على الحائط — وعدم التناظر يرجع إلى عدم تناظر الكون في الزمن. أوضح أهارونوف وبيرجمان وليبوفيتش (١٩٦٤) كيف يمكن تكييف عملية القياس في إطارٍ تناظري زمنيًّا. حسب هذا النظام، يبرز عدم التناظر الزمني ﻟ R من شروط السطح غير المتماثلة في المستقبل والماضي. هذا الإطار العام هو أيضًا الإطار الذي تبنَّاه كلٌّ من جريفيث (١٩٨٤)، وأومنيه (١٩٩٢)، وجيل مان وهارتل (١٩٩٠). وإذ يمكن إرجاع أصل القانون الثاني إلى عدم التناظر في هيكل متفردة الزمكان، تُشير هذه العلاقة إلى أن معضلة القياس الخاصة بنظرية الكم، ومعضلة المتفردات الخاصة بالنسبية العامة، متصلتان. وأذكِّركم بأني قد طرحت في محاضرتي السابقة فكرة أن المتفردة الأولية تحوي معلومات ضئيلة جدًّا ولها موتِّر فايل مندثر، بينما المتفردة النهائية (أو المتفردات، أو اللانهائية) تحمل الكثيرَ من المعلومات ولها موتِّر فايل متباعد (في حالة المتفردات).

ولتوضيح موقفي تجاه العلاقة بين نظرية الكم والنسبية العامة، أودُّ الآن الحديث عما نعنيه بما يُسمى «الحقيقة الكمية»: هل صحيحٌ أن متجه الحالة «حقيقي»، أم أن مصفوفة الكثافة «حقيقية»؟ تمثِّل مصفوفة الكثافة المعلومات المنقوصة لدينا حول الحالة؛ ومن ثَم فهي تحتوي على نوعين من الاحتمالات؛ عدم التيقن الكلاسيكي، وكذلك الاحتمال الكمي. يمكننا كتابة مصفوفة الكثافة على صورة:

حيث عبارة عن احتمالات، وهي أعدادٌ حقيقية حيث ، وكل مُعيَّر مع الوحدة. هذا مزيج من حالات احتمال مرجحة. هنا لا حاجة لأن يكون متعامدًا، كما أن قد يكون أكبر من أبعاد فضاء هيلبرت. مثال على ذلك تجربة من نوع EPR، حيث يضمحل جسيمٌ لفه المغزلي صفر، في حالة سكون في منتصف التجربة، مكوِّنًا جسيمَين اللف المغزلي لكلٌّ منهما نصف. يقفز الجسيمان في اتجاهين متعاكسين، ويُرصدان «هنا» (here) و«هناك» (there) ، حيث «هناك» قد يبعد مسافةً كبيرة عن «هنا»؛ فقد يكون على القمر مثلًا؛ ومن ثَم نكتب متجه الحالة على صورة تراكب من الاحتمالات:
(4-1)
حيث هي الحالة التي يكون فيها اللف المغزلي للجسيم «هنا» (here) ومتجهًا ﻟ «أعلى»، وهكذا. لنفترض الآن أن اتجاه اللف المغزلي في المحور قيس على القمر ولم نعرف نتيجة القياس. إذن يمكن وصف هذه الحالة هنا بمصفوفة الكثافة:
(4-2)
بدلًا من ذلك، كان بالإمكان قياسُ اتجاه اللف المغزلي في المحور على القمر. وبإعادة كتابة متجه الحالة (4-1) على الصورة الآتية:
حيث left يعني «لليسار» وright يعني «لليمين»، نحصل على مصفوفة الكثافة التي أصبحت الآن مناسبة:
والتي في الواقع تُساوي (4-2). لكن إذا كان متجه الحالة يصفُ الحقيقة، فإن مصفوفة الكثافة لا تُخبرنا بما يحدث، وإنما فقط تُعطينا نتائج القياس «هنا» بشرط أنك لا تدري ما يحدث «هناك». تحديدًا، قد يكون من المحتمل أن تصلني رسالة من القمر تُخبرني بطبيعة القياس ونتيجته هناك. وهكذا، إذا كان بإمكاني (من حيث المبدأ) أن أحصل على هذه المعلومات، فعليَّ إذن أن أصف النظام (المتشابك) كلَّه بالاستعانة بمتجه حالة.
عمومًا، يوجد الكثير من الطرق المختلفة لكتابة مصفوفة الكثافة المعطاة على صورة مزيج من الحالات المحتملة. إضافةً إلى ذلك، حسب مبرهنة حديثة وضعها هيوستن وجوسا وووترز (١٩٩٣)، فإنه لأي مصفوفة كثافةٌ تتكون بهذا الشكل باعتبارها اﻟ «هنا» الماضي لنظام EPR، ولأي تفسير لمصفوفة الكثافة هذه في صورة مجموعة من الحالات المحتملة، يوجد دائمًا قياس «هناك»، يؤدي تحديدًا إلى هذا التفسير «بعينه» لمصفوفة الكثافة «هنا» باعتبارها مزيجًا احتماليًّا.

على الجانب الآخر، يمكننا القول إن مصفوفة الكثافة تصفُ الحقيقة التي — حسب فهمي لها — هي أقرب إلى وجهة نظر ستيفن عند وجود ثقب أسود.

أشار جون بِل في بعض الأحيان إلى التوصيف المعياري لعملية اختزال متجه الحالة بالاختصار FAPP، وهو اختصار للتعبير for all practical purposes بالإنجليزية، ويعني «لجميع الأغراض العملية». حسب هذا النهج المعياري، يمكننا كتابة متجه الحالة الكلي على الصورة الآتية:
حيث تصف أشياء في البيئة المحيطة، خارج قياساتنا. إذا فُقدت المعلومات في البيئة المحيطة، فإن مصفوفة الكثافة تكون هي أفضل ما يمكننا فعله:
وما دام لا يمكن استعادة المعلومات من البيئة المحيطة، «فقد يكون من الممكن أيضًا» (لجميع الأغراض العملية) أن نفترض أن الحالة هي إما أو ، مع الاحتمالين أو على الترتيب.
بيدَ أننا ما زِلنا نحتاج إلى افتراضٍ آخر؛ إذ إن مصفوفة الكثافة لا تُخبرنا من أي الحالات هي مُكوَّنة. لتوضيح هذه النقطة، دعونا نتناول تجربة قطة شرودينجر الافتراضية. تصف التجربة ورطة قطة داخل صندوق، حيث ينبعث (فرضًا) فوتون ليصطدم بمِرآة نصف عاكسة، ويصطدم الجزء المنتقل من دالة الفوتون الموجية بكاشفٍ مجهز، بحيث إذا رصد فوتونًا يُطلق الرصاص آليًّا مُوديًا بحياة القطة (وتُسمى الحالة dead cat أو «قطة ميتة»). وإذا لم يرصد الكاشف الفوتون، تكون حينها القطة حية وعلى ما يُرام (وتُسمى الحالة live cat أو «قطة حية»). (أعرف أن ستيفن ضد الإساءة للقطط، حتى لو كان الأمر مجرد تجربة افتراضية!) ومن ثَم تكون دالة النظام الموجية عبارة عن تراكب لهذين الاحتمالين:
حيث يُشير كلٌّ من (إطلاق الرصاص) و (عدم إطلاق الرصاص) إلى حالتَي البيئة المحيطة.

ومن منظور العوالم المتعددة في ميكانيكا الكم، يصبح ذلك (مع تجاهل البيئة المحيطة) على الصورة الآتية:

(4-3)
حيث إن الحالتين تشير إلى الحالة الذهنية للشخص الذي يُجري التجربة (يشير know cat is dead إلى ظنِّه أن القطة ميتة، ويشير know cat is alive إلى ظنِّه أن القطة حية). لكن لماذا لا يُتيح لنا إدراكنا استنباط «التراكيب» العيانية لمثل هذه الحالات، وليس فقط «الاختيارين» العيانيين «القطة ميتة» و«القطة حية»؟ على سبيل المثال، في حالة أن ، يمكننا إعادة كتابة الحالة (4-3) على صورة التراكب الآتي:
وهكذا، إذا لم يكن لدينا سببٌ لاستبعاد «الحالات الممثلة لإدراك الشخص الذي يُجري التجربة»، مثل ، فنحن لم نقترب من الوصول إلى الحل بأكثر مما كنا عليه في السابق.
الأمر نفسه ينطبق على البيئة المحيطة، ويمكننا (مرةً أخرى في الحالة على سبيل المثال) إعادة صياغة مصفوفة الكثافة على صورة التراكب الآتي:

الذي يُخبرنا بأن فكرة «إزالة الترابط بفعل البيئة المحيطة» لا تفسِّر هي الأخرى سببَ كون القطة حيةً أو ميتة.

لا أريد الإسهاب في مناقشة الأمور المتعلقة بالإدراك أو إزالة الترابط هنا. ففي رأيي، تكمن الإجابة على مشكلة القياس في شيءٍ آخر. أقترح أن خطأً ما يحدث في تراكيب الأشكال الهندسية البديلة الخاصة بالزمكان عند تدخُّل النسبية العامة في الأمر. قد يكون تراكب شكلين هندسيين مختلفين هو تراكب «غير مستقر»، ويضمحل ويؤدي إلى أحد البديلين. على سبيل المثال، قد تكون الأشكال الهندسية هي الزمكان لقطةٍ حية، أو لقطةٍ ميتة. أُطلق على هذا الاضمحلال الذي يؤدي إلى أحد البديلين اسمُ الاختزال الموضوعي، وأنا أحب هذا الاسم لأن له اختصارًا ظريفًا بالإنجليزية، وهو OR. فما علاقة طول بلانك سم بذلك؟ سيعتمد معيار الطبيعة لتحديد متى يكون شكلان هندسيان مختلفين اختلافًا جذريًّا على مقياس بلانك، وهذا يعدل المقياس الزمني حيث يحدث الاختزال الذي يؤدي إلى بدائل مختلفة.
fig47
شكل ٤-٦: قطة شرودينجر (أ)، ونسخة أخرى أكثر آدمية (ب).
يمكننا ترك القطة وشأنها قليلًا، ونعود مجددًا إلى معضلة المِرآة نصف العاكسة، لكن هذه المرة يحفز رصد الفوتون انتقال كتلة كبيرة من مكان لآخر (الشكل ٤-٦).
يمكننا تفادي مشكلة القلق بشأن اختزال الحالة في الكاشف إذا كانت الكتلة ببساطةٍ موضوعةً على حافَّة جُرف، بحيث يدفعها الفوتون لتسقط من فوقه! فمتى تكون كمية كافية من الكتلة قد تحرَّكت بحيث يُصبح تراكب البديلين غيرَ مستقر؟ قد تُجيب الجاذبية عن هذا السؤال، وهذا هو ما أطرحه هنا بالفعل (قارِن مع بنروز ١٩٩٣ و١٩٩٤، وأيضًا ديوسي ١٩٨٩، وجيراردي وجراسي وريميني ١٩٩٠). لحساب زمن الاضمحلال بحسب النهج المقترَح، انظر كمية الطاقة التي سيتطلبها إزاحة شكل من أشكال الكتلة — وهو ما يستبعد كونها مصادفةً — في مجال جاذبية الأخرى، حتى يؤدي موقعَا الكتلة هذان إلى التراكب الكتلي قيد الدراسة. يمكنني افتراض أن المقياس الزمني لانهيار متجه الحالة لهذا التراكب هو من الرتبة:
(4-4)
في حالة نوكليون يكون ذلك تقريبًا سنة؛ ومن ثَم فإن عدم الاستقرار لن يُرى في التجارب القائمة. لكن، لنقطة ماء حجمها سم، سيستغرق الانهيار نحو ساعتين. إذا كان حجم نقطة الماء سم، فسيستغرق الانهيار نحو عُشر الثانية، وإذا كان الحجم سم، فسينهار متجه الحالة في نحو من الثانية فقط. وهذا أيضًا هو التوقيت الذي تُعزل فيه الكتلة عن البيئة المحيطة؛ حيث يُسرَّع الاضمحلال بفعل حركة الكتلة في البيئة. عادةً ما تعترض منهجياتِ حلِّ مشكلة القياس هذه في نظرية الكم عدةُ مشكلات تتعلق بحفظ الطاقة والموضعية، لكن النسبية العامة تتضمن قدرًا من عدم التيقن حول طاقة الجاذبية، تحديدًا فيما يتعلق بكيفية مساهمة ذلك في حالة التراكب. إن طاقة الجاذبية غير موضعية في النسبية العامة؛ إذ تُسهم طاقة وضع الجاذبية (سلبًا) على نحوٍ غير موضعي في الطاقة الكلية، ويمكن للموجات الثقالية أن تحمل الطاقة غير الموضعية (الموجبة) بعيدًا عن النظام. يمكن للزمكان المسطح ذاته أن يُساهم في الطاقة الكلية في ظروفٍ معيَّنة. إن عدم التيقن من الطاقة في حالة تراكب اثنين من مواضع الكتلة، كما افترضنا هنا، ثابت (حسب مبدأ عدم التيقن لهايزنبرج) مع زمن الاضمحلال (4-4).

أسئلة وأجوبة

  • سؤال: ذكر البروفيسور هوكينج أن مجال الجاذبية هو بطريقةٍ ما مجالٌ أكثر تميزًا عن غيره من المجالات. ما رأيك في هذا؟
  • جواب: مما لا شك فيه أن مجال الجاذبية مميز. بطريقةٍ ما، تاريخ هذا الموضوع غريب وفيه ما يدعو للسخرية: بدأ نيوتن الفيزياء بنظرية الجاذبية، وهذه النظرية كانت هي النموذج الأصلي الذي فتح الباب لجميع التفاعلات الفيزيائية الأخرى. لكن اتضح الآن أن الجاذبية في الواقع تختلف اختلافًا تامًّا عن التفاعلات الأخرى. الجاذبية هي الشيء الوحيد الذي يؤثر على السببية، ولها دلالاتٌ أساسية وقوية فيما يخصُّ الثقوب السوداء وفقدان المعلومات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤