الفصل الحادي عشر

خير أم شر، أم مزيج من هذا وذاك؟

«نتوقع نمو قطاع الملابس والمنسوجات بمعدل يُقدَّر ﺑ ٨ مليارات دولار خلال السنوات الثلاث القادمة.» قالها حبيب، أحد العاملين بجمعية مُصنِّعي ومُصَدِّري الملابس والمنسوجات في بنجلاديش. هو في مثل عمري تقريبًا ومُتحمِّس للحديث والدردشة. ويبدو أن احتمالات زيارة مُشتري الملابس لمقارِّهم هو احتمال ضعيف جدًّا.

قال إقبال، أحد زملاء حبيب في العمل، وهو يُجفِّف العرق عن جبينه بمنديل: «لا يُمكنك أن تتفوق على بنجلاديش فيما يتعلق بالجودة والسعر. كما أن خدمتنا هي الأفضل أيضًا؛ إنها جزء من ثقافتنا. أحيانًا يَقبل أصحاب المصانع طلبية ويتعادل المكسب والخسارة بالنسبة إليهم، بل ربما يخسرون أموالًا ليُقيموا علاقات طيبة مع أحد العملاء الجدد.»

كنت قد حدَّثتهم بالفعل عن أكذوبتي الخاصة بمتجر «ثياب السائح الصبياني»، وأخبرتُهم حينئذٍ بأنني سأزور كمبوديا والصين لأختار المكان الذي أرغب التوريد منه.

قال إقبال: «ستَذهب إلى الصين، إنهم لا يتحدثون الإنجليزية، كما أن مستوى جودتهم ليس مرتفعًا. جميع قمصاني مصنوعة في بنجلاديش. يُمكنني شراء قمصان مصنوعة في الصين مقابل ٦ دولارات، لكنني أُفضِّل شراء قمصان مصنوعة في بنجلاديش مقابل ٢٠ دولارًا.» جذب قميصه المُبلَّل بالعرق.

انقطع التيار الكهربائي مرةً أخرى، تجمَّع موظفو المكتب — الذين كانوا يَغفون أمام الشاشات المعتمة لأجهزة الكمبيوتر خاصتهم — حولنا ليَستمعوا إلى حديثنا. لم أكن متأكدًا مما إذا كانوا يَتحدَّثون اللغة الإنجليزية أم لا، ولكنهم كانوا يضحكون حين نضحك، ويَصيرون جادين حين نتحدث بجدية.

قلت وأنا يَتملكني الفضول لمعرفة ما إذا كانوا قد سمعوا عن مشروع القانون الذي يَتباحثه الكونجرس آنذاك: «ما رأيك في مشروع القانون الأمريكي المُقترَح لمناهضة المصانع المُستغِلة بصرف النظر عن توصيف المصنع المستغل؟» حوَّلت بصري عنه.

كان إقبال، بالإضافة إلى من هم داخل قطاع صناعة الملابس جميعًا، قَلِقًا من أن يؤدي مشروع القانون إلى زيادة مقاطعة ملصق «صُنع في بنجلاديش»، مثلما حدث في تسعينيات القرن العشرين.

«عمالة الأطفال لا تُمثِّل مشكلة هنا. وإذا وجدنا أن أحد أعضائنا يخرق هذا القانون، نفرض عليه غرامةً قدرها ١٠ آلاف دولار فورًا. وإذا حدَث هذا الأمر ثلاث مرات، نسحب منه رخصة التصدير.»

قبل أن آتي إلى بنجلاديش وألتقي بعريفة وأزور المصانع، كنتُ سأؤيد أي مشروعِ قانونٍ مُناهض للمصانع المستغلة وعمالة الأطفال. ولكنني أدركت أن الدنيا ليست أبيض أو أسود، خيرًا خالصًا أو شرًّا خالصًا. تبدو نوايا مشروع القانون طيبة إذا ما نُفِّذ القانون، وربما تؤدي إلى تحسين ظروف العمل في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، قد يؤدِّي هذا الأمر إلى فقدان الوظائف في بنجلاديش. إذا تمَّت الموافقة عليه، أتمنى أن يُفكِّر المشرعون في النتائج التي قد تؤثر على العمال البنجلاديشيين وأن يُخطِّطوا لمساعدة من يفقدون وظائفهم.

رويت قصتي لرفيقٍ جديد جلس في ركن من أركان المكتب: كيف أنني أرغب في التوريد من بنجلاديش، وأنتقل بمشروعي الصغير الذي سميته «ثياب السائح الصبياني» من تحقيق مكسب ٢١ ألف دولار إلى ٧٠ ألف دولار.

قاطعني إقبال قائلًا: «طريقة تفكيرك خاطئة، يا سيد كيلسي. لا تُفكِّر في الآلاف، بل فكر في الملايين.»

ضحك الجميع وأومئوا برءوسهم تصديقًا على كلامه. «أبهذا» القدر من السهولة يستطيع الأجانب أن يَكسبوا أموالًا طائلة في بنجلاديش؟

عاد التيار الكهربائي مرة أخرى. تصبَّبتُ عرقًا نتيجة السير إلى مقارهم، والشاي الذي قدموه إليَّ، وربما بسبب ذلك القدر — القليل — من الكذب. وجَّهوا المروحة نحوي وناولوني بعض المناديل.

أحضر لي أحدهم تي-شيرتًا قائلًا: «هذا هدية لك. نأمل أن يكون هذا التي-شيرت الأول من طلبية كبيرة ستأخذها من بنجلاديش.»

شكرتهم وأخبرتهم بأنني ما زلت أفكر فيما إذا كنتُ سآخُذ الخطوة التالية أم لا. عدد منهم أعطوني بطاقات عملهم وسألوني عما إذا كنت مُهتمًّا بالتعامل مع شركات الملابس الصغيرة التي يمتلكونها إلى جانب وظائفهم الأساسية. كانوا جميعًا يُشجِّعونني على المضي قدمًا.

قال إقبال: «مَن الذي لا يرغب الدخول في هذا المشروع؟» استلقى إلى الخلف في مقعده وحدَّق بي من فوق نظارته.

•••

شخص واحد كان يعرف الإجابة بكل تأكيد ألا وهو ابن عم دالتون، سابون. كنت أقف مع سابون واثنين من شركائه داخل شركة تاتينج فاشون، ذات المسئولية المحدودة؛ وهي شركة لم تزد عن كونها اسمًا، على الأقل حينذاك. كان صدى أصواتنا يَتردَّد بين جنبات الجدران الخرسانية لأرضية المصنع الخالي.

قال سابون: «صناعة الملابس في بنجلاديش تنمو سريعًا، ونأمل أن نستفيد منها؛ فالمصانع الكبرى تحصل على طلبيات كبيرة وستكلفنا بالعمل.»

سألته قائلًا: «شركتك ستكون مُتعاقدة من الباطن؟»

فأجابني: «أجل.»

إذا كنت تبحث عن انتهاكات لحقوق العمال أو حقوق الإنسان بوجه عام في مجال صناعة الملابس، فإن أفضل مكان تبحث فيه هو شركات التعاقُد من الباطن؛ هذا إذا ما تمكَّنتَ من العثور على واحدة بالأساس. فالمشترون والعلامات التجارية يُرسلون طلبياتهم إلى مصانع كبرى، بل لعلهم يزورون هذه المصانع للتأكُّد من أن ظروف العمل تفي بالمواصفات التي يحددونها، أيًّا كانت هذه المواصفات. ولكن شركات التعاقد من الباطن بمنزلة أماكن خفية عادةً لا تخضع لأي نوعٍ من أنواع الرقابة؛ فهي شركات صغيرة وكثيرة للغاية. ولقد أرغمت حملة الانتقادات، التي شنَّتها الصحافة في تسعينيات القرن العشرين، العلامات التجارية الكبرى بمجال الملابس الجاهزة على تحمُّل مسئولية ظروف العمل في المصانع التي يُورِّدون منها، أما شركات التعاقد من الباطن فتتعاقد مع المصنع لا مع العلامة التجارية؛ ومن ثم تُضاف طبقة أخرى فاصلة. تبدو المصانع المُستغِلة التي تخيَّلتها أثناء دراسة مادة «مقدمة إلى علم الاجتماع» بَشِعة للغاية مثل مصانع التعاقد من الباطن. ولكن صورة السادة الأشرار القائمين على إدارة المصانع المستغلة التي كنتُ أتخيَّلها بعيدة تمامًا عن سابون.

سابون أشبه بالسيد فريد روجرز — مذيع شهير لبرنامج تعليمي للأطفال — حيث إنه رقيق الكلام دمث الخلق مُتحمِّس ليُعلمني كل شيء عن بنجلاديش. أول مرة التقيتُ به كان في قرية دالتون؛ لودويا. كان يصحبنا أثناء التنزُّه سيرًا على الأقدام، مُطوِّقًا كتفي بيده عادة أثناء شرحه لشيء عن القرية. وفي حين كان دالتون به شيء من المُراوَغة، اتسم سابون بالانفتاح والصدق.

عمل والد سابون بكدٍّ لإعالة الأسرة ودفع مصروفات بضع سنوات دراسية، إلا أنه بمجرد أن صار عاجزًا عن العمل، ألقى بالمسئولية على كاهل سابون. ترك سابون المدرسة، وساعده عمه في الحصول على وظيفة إدارة أحد الفنادق. كانت مسئولية سابون الوحيدة هي إعالة والدته ووالده وأخته وأخويه؛ حيث سدَّد المصروفات الدراسية لأخوَيه وأعانهما في النهاية على ترك بنجلاديش والسفر إلى خارج البلاد — أحدهما سافر إلى سنغافورة والآخر إلى دبي. والآن هما يرسلان الأموال إلى سابون ليَستثمِرها في مشروعه التجاري.

قال سابون وهو يستعرض صفوف الماكينات بيديه: «طلبنا ٦٠ ماكينة من الصين للحياكة و٢٤ ماكينة لسرفلة القماش.» كان حجم القاعة في نفس حجم مطعم عائلي مُريح.

صعدنا مجموعة من السلالم وتركنا شريكَيه خلفنا. قال: «هذا مكان الوضوء وهذه غرفة الصلاة.»

تكاد عينا سابون تَخرجان من محجريهما عندما يركز حقًّا، وكان هذا ما حدث في الوقت الذي يتفحص فيه الغرفة. استطرد قائلًا: «يُمكننا أن نضع هنا المزيد من الماكينات وربما مكتبًا.» كانت الغرفة تَحتوي في ذلك الوقت على طاولة وكرسيين جلسنا عليهما.

سألته قائلًا: «كيف ترى مستقبل مشروعك التجاري؟»

أجابني: «خلال شهرين، يجب أن تكون الماكينات هنا، ثم سنبدأ العمل لحساب المصانع.»

طرحتُ السؤال التالي: «في رأيك كيف سيبدو المشروع التجاري إذا عدت بعد خمس سنوات؟»

أخذ نفَسًا عميقًا. فبعد كل هذا التخطيط وكل هذه الآمال والحوالات المالية من أخويه بالخارج، بات افتتاح المصنع وشيكًا للغاية، وأستطيع أن أجزم أنه من الصعب عليه أن يرى ما هو أبعد من تلك الخطوة. فجاءت إجابته: «إذا واصل مشروعنا التجاري التوسُّع، فسنحصل على رخصة للتصدير بعد خمس سنوات.»

سألته: «وكيف ستتغيَّر حياتك إذا نجح مشروعك؟»

مرة أخرى، أخذ يجمع أفكاره قبل أن يجيب: «عندما أكسب المزيد من المال ويتوسع المشروع التجاري، ربما أمكنني التوقُّف عن العمل في الفندق وأعمل هنا مع والدي. ولعلِّي أشتري أرضًا وأبني منزلًا وأُحضر والدي للعيش معي.»

سألتُه: «وماذا عن اختيار زوجة؟»

أجاب قائلًا: «في الوقع، لقد بلغتُ سن الزواج قبل عشر سنوات، ولكن بسبب أزمتي الاقتصادية الأسرية لم أستطع الزواج. بيد أنني في اللحظة الراهنة، لست على علاقة طيبة بفتاة يُمكنني اتخاذها زوجة لي.» ابتسم ابتسامة تنمُّ عن الخجل؛ ففي سن الخامسة والثلاثين، صارت الزوجة رفاهية لا يُمكنه تحملها. «أحاول البحث عن فتاة لطيفة لأتزوجها.»

سألته: «كم عدد الموظفين الذين ستُعيِّنهم؟»

ردَّ قائلًا: «نحو ٢٠٠ موظف.»

قلت له: «لقد قضيتَ الكثير من الوقت مع عمال صناعة الملابس هنا في بنجلاديش. كيف تبدو حياتهم؟»

قال: «العمالة البنجلاديشية رخيصة جدًّا، ولهذا السبب وَضْع قطاع صناعة الملابس في بنجلاديش جيد؛ فثمانون بالمائة من الناس يَعيش في القرى ومعظمهم لا يلتحق بالمدرسة. هم ينتمون إلى أُسَر أمية. ولهذا السبب ربما يُنجب الزوجان ستة وسبعة وثمانية أطفال. وعندما يصل أولادهم إلى مرحلة المراهقة يُسافرون إلى مدينة دكا ويعملون في مجال صناعة الملابس. قبل عشر سنوات، كانت أسرتي فقيرة للغاية، ثم جئتُ إلى دكا وحصلت على وظيفة وساعدتُ أسرتي في القرية. وأظن أن عمال صناعة الملابس يُمكنهم القيام بالشيء نفسه.»

سابون رجل لديه حلم؛ حلم مرتبط بنجاح صناعة الملابس. كان بعيدًا تمامًا عن الصورة الشريرة لأصحاب المصانع المُستغِلة؛ لم يكن كذلك على الإطلاق (شكل ١١-١).

•••

fig9
شكل ١١-١: سابون أمام مصنعه.

قال دالتون: «هنا تَلتقي عوالمنا.»

كنا نَجلس في بهو فندق نورث شور. عمل دالتون في منصب مدير المشروع على مدار العامَين اللذَين استغرقهما بناء الفندق. لم يَقتصر دوره على عمله محاسبًا ومعماريًّا وحارس أمن. كان يَشتري المؤن ويُعيِّن الموظَّفين ويَفصلهم من العمل. كان يعيش في الفندق ليلًا ونهارًا. وتمَّ تسريحه بمجرد أن اكتمل بناء الفندق. أخبره مالك الفندق أنه ليس لديه الخبرة الكافية للعمل في خدمة العملاء أو الإدارة أو في أي موقع آخر بالفندق. وعلى الرغم من أن دالتون شعر بالمرارة إزاء هذا الأمر، فإنه أحضَرني إلى هنا لأشهد إحدى الطقوس الليلية.

شاهدنا رجلًا أمريكيًّا ينزل إلى البهو في المصعد الزجاجي. كان يرتدي شبشبًا مطاطيًّا خفيفًا وسروالًا قصيرًا وتي-شيرتًا. تخيلت أنه من كاليفورنيا الجنوبية، ولكن للأمانة، من يُمكنه أن يجزم بذلك؟ الكثير من الناس يَعتقدون أن شعري الأشقر المُجعَّد يعني أنني من كاليفورنيا؛ ومن ثم خمَّنت أنه ربما قادم من أوهايو. وقفت سيدة ترتدي زي الساري ذا الألوان الزاهية لمقابلته. وفي بلد لا تنظر فيه بعض النساء إلى الأجانب أو يَمسَسنهم صافحتْه. جلَسا على كرسيَّين مستديرَين ومرتفعَي الظهر. أعطاها الرجل تي-شيرتًا، فحصتْه وأومأتْ برأسها.

كنت أعرف ماذا تقول: «أجل، يمكننا تصنيع هذا. يُمكننا تصنيع أي شيء بسعر أرخص من أيِّ مكان آخر.»

انعكست الأضواء الساطعة على الأرضية الرخامية اللامعة. وكما هي الحال دومًا؛ كان الفندق مزودًا بمُولِّد كهرباء. تساقطت قطرات المياه من النافورة. كانت تماثيل سمكة ذهبية تحمل طاولات زجاجية. بدا كل شيء مفرطًا من حيث الكُلفة والحداثة.

كانت تُعقَد عدة اجتماعات من هذا النوع مع المشترين من أوروبا والهند. وكان البنجلاديشيون الموجودون بالمكان يَحملون حقائب قماشية للأعمال اليدوية الخاصة بمصانعهم.

أخبرني دالتون قائلًا: «كل ليلة أشبه بهذه الليلة. التجارة تربط العالم بعضه ببعض.»

بمجرد ما انتهى الاجتماع، استقلَّ الأمريكي المصعد ليصعد إلى غرفته، وها قد تلقَّت السيدة البنجلاديشية طلبياتها التي سيُنفذها عمالها، ربما تكون عريفة من بينهم. فتح البواب الباب أمامها وهي تخرج حاملةً حقيبتها القماشية. اجتازت عتبة الباب لتغادر الفندق، الواحة الغربية، وتدلف إلى عالم بنجلاديش الواقعي أكثر من اللازم.

الحياة في الفندق أشبه بالحياة التي أعيشها مقارنة بواقع الحياة خارج الفندق. وبينما كنت أجلس على المقعد المزود بالوسائد وأستمع إلى الموسيقى الهادئة المنبعثة من السماعات المتوارية عن الأنظار، كنت أفكر فيما قالته بيبي راسل لي: «الجمال يَكمن في الفقر.»

يبدو العالم الذي نَنتمي إليه أقل واقعية مقارنةً بعالم بنجلاديش (شكل ١١-٢). الطفل الذي يضحك وهو محاط برفاهيات التكنولوجيا الحديثة خاصتنا ليس في مثل جمال ابنة عريفة وهي تستيقظ من الجوع في يوم قائظ قبل أن تشتدَّ حرارة الجو. وابتسامة أمٍّ أثناء تقطيع الخضراوات على الأرضية تبدو أكثر صدقًا من ابتسامة أمٍّ أمريكية أثناء غرفها المعكرونة بالجبن على طبق مُزخرَف فاخر. لا يوجد شيء يَندرج تحت المُسَلَّمَات: لا ابتسامة ولا ضحكة ولا حتى قطعة واحدة من الملابس الداخلية.

إذا كان الجمال يَكمُن في الفقر، فإن بنجلاديش جميلة جدًّا.

fig10
شكل ١١-٢: عريفة وهي تحمل ابنتها سعدية، الخلفية مدينة دكا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤