مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن «لا في الشعر الجاهلي»

افتتح المؤلف هذا الفصل بمؤانسة الذين يكلفون بالأدب العرب القديم، فأخذ يؤامنهم من الخوف على الحياة الجاهلية، ويعدهم بأنه لا يقطع الطريق بينهم وبين هذه الحياة التي يجدون في درسها لذة علمية وفنية ثم قال في ص١٥: «فأزعم أني سأستكشف لهم طريقًا جديدة واضحة قصيرة سهلة لا يصلون منها إلى هذه الحياة الجاهلية، أو بعبارة أصح: يصلون منها إلى حياة جاهلية لم يعرفوها، إلى حياة جاهلية قيمة مشرقة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة التي يجدونها في المطولات وغيرها مما ينسب إلى الشعراء الجاهليين.»

لا عجب أن يخيل إلى المؤلف أن الناس سيلاقون ذلك البحث بإعجاب وتقليد ولا يلبثون أن يلتقطوا كل شعر جاهلي حواه كتاب لغة أو أدب ويضربوا به ثبج هذا البحر، ولا عجب أن يرقَّ لحال الذين يكلفون بالأدب العربي القديم ويهدئ فزعهم على الحياة الجاهلية بما يبادرهم به من أن كتابه لا ينوي محو أثرها وحرمانهم من التمتع بمشاهدتها.

وإن تعجب فعجب له يدعي في غير مزاح أنه استكشف للحياة الجاهلية طريقًا جديدة، ثم لا يكون منه إلا أن يذكر في بيان هذه الطريق الجديدة كتاب الله الذي درسه أولو حكمة لم يأت المؤلف حتى الآن بأثر قيم يجعله شيئًا مذكورًا في حسابهم. ماذا صنع علماء العربية ومن أفرغ قريحته في تفسير القرآن منهم؟ ألم يتفقه أولئك الحكماء في معاني الكتاب العزيز! وهل كانت الحياة الجاهلية المقتبسة من القرآن غير المعاني التي يفصلها هؤلاء العلماء عند تفسير آية تحكي شيئًا من شؤون أولئك الجاهليين أو ترد عليهم بعض أقوالهم.

فعلماء الشرق درسوا الحياة الجاهلية فيما صح من أشعارهم وفيما يقصه القرآن من أقوالهم وأفعالهم. نعم، هم لم يعرفوا الحياة الجاهلية في الصورة التي سيلفقها المؤلف، ولا يريدون أن يعرفوها إلا أن تنقلب عقولهم شهوات، وعلومهم شكوكًا وتخرصات.

•••

قال المؤلف في ص١٥: «فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير؛ لأني لا أثق بما ينسب إليهم، وإنما أسلك إليها طريقًا أخرى، وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، أدرسها في القرآن. فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي.»

احتوى القرآن نبذة من أنباء الجاهلية جاءت في سبيل النعي على بعض عقائدهم الضالة كالشرك بالله، ومبتدعاتهم الخاسرة كعبادة الأوثان، وعوائدهم الممقوتة كوأد البنات، وآرائهم الجامدة كقولهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ.

وما جاء عنهم في هذا الصدد لا ينفي أن يكون فيهم ذكاء وبلاغة وحكمة وشيء من مكارم الأخلاق؛ لأن القرآن لم ينزل لتمجيدهم أو ليكون مرآة لحياتهم، وإنما هو كتاب نزل لتقويم العقائد وتهذيب الأخلاق وتنظيم الصلة بين الخالق والمخلوق، وإماطة الأذى عن طريق الحياة الاجتماعية الراقية. وهذا يستدعي توجهه إلى ما في الأمم من نقص ليكمله أو فساد ليصلحه، وهذا يقتضي ألا يعرج على ما يدل أو يشعر بشيء من محاسن العرب إلا قليلًا.

فالمقتصر في تاريخ العرب قبل الإسلام على القرآن إنما يؤخذ صورة خالية من تلك المزايا التي لم يهملها القرآن إنكارًا لها وإنما سكت عنها؛ لأنه لم يأت مؤرخًا ولا مادحًا. فدعوى أن القرآن يمثل «حياة جاهلية قيمة مشرقة» إنما يهجم عليها من لا يدري أن للمباحث العلمية وقارًا ترتجف أمامه كل لاغية.

•••

قال المؤلف في ص١٦: «وأدرسها في شعر هؤلاء الشعراء الذين عاصروا النبي وجادلوه.»

الشعراء الذين شهدوا عصر النبوة أربع طوائف، منهم من كان يهجو النبي أو يحث على محاربته، وهذه الطائفة صنفان: صنف استمر بحالته الجاهلية كأبي عزة الجمحي، وصنف عاد إلى الإسلام كعبد الله بن الزبعرى.

ومنهم من لم يسمع عنه شعر في هجاء النبي أو الإغراء عليه، وهذه الطائفة صنفان أيضًا: صنف لبس هدى الإسلام كحسان بن ثابت، وصنف لم يعرف له إسلام كالأعشى ميمون بن قيس.

وعبارة المؤلف صريحة في أنه يثق بشعر الذين جادلوا النبي فتتناول الصنفين الأولين فقط، ومقتضى هذا أنه يعتمد في حياة الجاهلية شعر أبي عزة الجمحي وعبد الله بن الزبعرى، ولا يعتمد فيها شعر حسان والأعشى، وهذا من تعسفاته التي لا يجد لها القارئ رائحة ولا طعمًا. ثم إن دراسة الحياة الجاهلية في شعر الذين جاءوا بعد النبي يقضي عليه بأن يدرسها في شعر المخضرمين كحسان ولبيد والنابغة الجعدي، بالأحرى. ولعل كلمة «وجادلوه» إنما زينتها له العاطفة ودفعتها على حين غفلة من الفكر، فأخذت في الفقرة موقعًا لا يليق بها.

•••

قال المؤلف في ص١٦: «وفي شعر هؤلاء الشعراء الذين جاءوا بعده ولم تكن نفوسهم قد طابت عن الآراء والحياة التي ألفها آباؤهم قبل ظهور الإسلام، بل أدرسها في الشعر الأموي نفسه، فلست أعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية.»

من الشعر ما يشتمل على وصف أمر أو حكاية واقعة، ومنه ما يعبر عن معان في نفس الشاعر كالحب والبغض والسرور والحزن والرغبة في الشيء والنفور منه. وله بعد هذا المعنى الذي تدل عليه الألفاظ بحسب وضعها معنى آخر يذهب إليه الناظر من طريق الاعتبار كطراز تفكير الشاعر ومبلغ جودة قريحته وقوة خياله وسمو بلاغته وآداب خطابه.

وهذا القسم بسائر مدلولاته لا يستفاد من الشعر إلا أن تكون نسبته لقائله صحيحة.

وهناك معنى ثالث وهو أن الناظر في شعر كثير يعزى إلى شعراء أمة في عصر أو عصور، يمكنه أن يستفيد من مجموع هذه الأشعار معاني عامة ويثبتها للأمة في جملتها، ومثل هذا آداب خطابها ومبلغ فصاحتها وقوة تعقلها وسعة تخيلها، وكيفية تنقلها من معنى إلى معنى ومن غرض إلى غرض، إلى ما يشاكل هذا من تصرفها في الكلام بنحو الرقة والجزالة والإيجاز والإطناب.

وإذا كان الشعر الأموي إنما يمثل من حياة الجاهلية هذا المعنى الدائر حول آداب اللغة، فإن الشعر الذي ينسب للأعشى وزهير والنابغة وطرفة ويدعي المؤلف أو غيره انتحاله، يمثل هذا المعنى أيضًا بمقدار ما يمثله شعر الفرزدق وجرير، حيث كان مصطنعوه من شعراء العهد الأموي.

•••

قال المؤلف في ص١٦: «فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة والشماخ وبشر بن أبي خازم.»

إذا جعل المؤلف موضوع كتابه البحث عن الشعر الجاهلي، فما خطبه يذكر الشماخ بن ضرار وقد أدرك الإسلام وشهد وقعة القادسية وتُوفي في غزوة موقان لعهد عثمان بن عفان رضي الله عنه؟

فإن كان عذر المؤلف في التعرض للشماخ أنه نشأ في الجاهلية، أفسد عليه هذا الاعتذار تصريحه بأنه يدرس الحياة الجاهلية في شعر الذين عاصروا النبي وجادلوه، وشعر الشعراء الذين جاءوا بعده، والشماخ عاصر النبي ولكنه لم يجادله، ولا أحسب عدم مجادلته علة تقتضي رفع الثقة بشعره إلا في رأي الفاسق عن أمر ديكارت، ومن ذا الذي يقبل الفرق بين الشماخ وأبي عزة الجمحي فلا يثق بما ينسب إلى الأول ويضع ثقته فيما ينسب إلى الثاني. ولا ينفع المؤلف أن يوجد أشخاص يدعون بهذا الاسم ولهم شعر، فالشماخ بن ضرار هو صاحب الديوان وهو المشهور في كتب الأدب والتراجم، وليس لغيره أثر في الأدب يُهيِّئُه إلى أن يُذكر في جانب عنترة وبشر بن أبي خازم.

•••

أخذ المؤلف يصور نظرية أن القرآن أصدق مرآة لحياة الجاهلية وجعل يورد أشياء ألفها الناس من قبل، وعلى الرغم من وضوحها لم تستطع أن تعقد صلة بينها وبين هذه الصورة التي انساب فيها قلمه وطغى.

ذكر المؤلف أن العرب أعجبوا بالقرآن؛ لأنهم فهموه ووقفوا على أسراره، وإنما فهموه لما بينهم وبينه من الصلة وهي كونه كتابًا عربيًّا، وانصرف من هذا إلى أن في القرآن ردًّا على الوثنيين واليهود والنصارى والصابئة والمجوس، وأن لأصحاب هذه الملل والنحل فرقًا في بلاد العرب تمثلهم، وأن هذه الفرق هي التي كانت تعارض القرآن حين هاجم دياناتهم، وخرج من هذا إلى أن القرآن حيث يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات إنما يتحدث عن العرب وعن نحل وديانات ألفها العرب، وكان يلقى من المعارضة والتأييد بقدر ما لهذه النحل والديانات من السلطان على نفوس الناس، إذًا القرآن «يمثل لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال»، وادعى بعد هذا أن القرآن يمثل الأمة العربية في حياة عقلية قوية إلى حياة سياسية متصلة بالسياسة العامة، إلى حضارة راقية. ولنعد إلى مناقشته فيما عرضناه عليك ملخصًا، وإليك المناقشة:

قال المؤلف في ص١٦: «قلت: إن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية، وهذه القضية غريبة حين تسمعها ولكنها بديهية حين تفكر فيها قليلًا.»

يعرف كل من قرأ القرآن أو استمع إلى قراءته أنه تحدث عن قوم جاهليين، فيأخذ في نفسه صورة لحياة أولئك القوم على قدر ما دلت عليه الآيات صراحة أو إيماء، مطابقة أو اقتضاء. فإن أراد المؤلف أن في القرآن ما يدل على شيء من حياة الجاهلية، فالقضية بديهية، ولا حاجة إلى أن نفكر فيها قليلًا أو كثيرًا، وإن قصد أن في القرآن حياة جاهلية مشرقة ممتعة فالقضية خيالية لا يمتاز في إدراك سرها الأذكياء عن الأغبياء.

•••

قال المؤلف في ص١٦: «وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدًا كله على العرب، فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه ولا آمن به بعضهم، ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر، إنما كان القرآن جديدًا في أسلوبه، جديدًا فيما يدعو إليه، جديدًا فيما شرع للناس من دين وقانون، ولكنه كان كتابًا عربيًّا، لغته هي اللغة الأدبية التي يصطنعها الناس في عصره.»

شأن هذه الفقرات أن توضع في كتاب يبعث به إلى قوم لا يدرون ما اللغة العربية ولم يسمعوا من القرآن ولو آية، ومن المحتمل أيضًا أن تقال على وجه التنبيه للأطفال الذين أخذوا يترددون على المكاتب الأولية. أما أنها تلقى في كلية الآداب أو تدرج في «نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد» فذلك ما لا يجد له الذوق مساغًا.

ثم إن قول المؤلف: «وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن إلخ.» يضع في ذهن القارئ أن أحدًا من الناس قال: كان القرآن جديدًا كله على العرب، وأن هذا القائل هو الذي وثب عليه المؤلف بالتكذيب وطعنه بحجة أنه لو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه، ولم يقل أحد: إن القرآن جديد كله على العرب، فإن كان المؤلف يريد أن يوهم طلابه في الجامعة أنه القوي على دحض أقوال القدماء، فخير له من هذا أن يريهم الطعن في أقوال حقيقية وآراء لا تزال قائمة.

•••

ذكر المؤلف أن القرآن يرد على الوثنيين واليهود والنصارى والصابئة والمجوس ثم قال في ص١٧: «وهو لا يرد على يهود فلسطين، ولا على نصارى الروم ومجوس الفرس وصائبة الجزيرة وحدهم، وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية نفسها.»

يضع المؤلف بعض الكلم في غير مواضعها فتكبو بها الجملة في لبس أو تدافع، كما قال في هذه الجمل: إن القرآن لا يرد على يهود فلسطين ونصارى الروم وصابئة الجزيرة وحدهم، وهذه الفقرة تقتضي أنه يرد عليهم ولا يخصهم بالرد بل يتناول به غيرهم. ثم قال: وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية، وهذه الفقرة المصدرة بأداة الاختصاص تدل على أن الرد مقصور على الفرق التي كانت تمثلهم في البلاد العربية. والحقيقة أن القرآن إذا تحدث عن أهل ملة فحديثه عائد إلى ما يتقلدونه من عقائد أو شعائر، وسواء عليه أكان الظاهرون بهذه التقاليد عربًا أو غير عرب، وإذا ورد بعض الآيات خطابًا لفريق من العرب فلأمر اقتضى خطابهم، كأن يعترضوا الدعوة بأذى أو يجادلوا على غير بينة.

•••

قال المؤلف في ص١٧: «ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه، وضحوا في سبيل تأييده بالأموال والحياة.»

لا يتحامى المؤلف من أن ينشر في أذهان طلابه بالجامعة ظنونًا غير صادقة، فيفرض خصومة ناشبة، ويمثل قلمه في موقف الهجوم والطعن. يخيل إلى قارئ هذا البحث أن الناس لا يفقهون أن في بلاد العرب فرقًا من اليهود والنصارى والوثنيين داخلون فيما يتحدث به القرآن عن أصحاب هذه الديانات، حتى يحسب أن المؤلف انفرد بمعرفة هذه الفرق حيث أخذ يستدل على وجودها بمثل قوله: ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه.

لماذا لا تكون للقرآن قيمة إلا حيث يرد على فرق في البلاد العربية تمثل هذه النحل والديانات؟ أفلا تكون له قيمة لو اتفق أن الأمة العربية كلها من الدهريين الذين يقولون — فيما ينبئنا القرآن — مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ فيدعو أصحاب هذه النحلة ثم يتعرض لإصلاح ما في غيرها من النحل والديانات التي لا يوجد في بلاد العرب من يمثلها؟ بلى! ولكن المؤلف يريد أن يناجي الذين في قلوبهم مرض بأن ليس للقرآن قيمة ولا شأن إلا حيث يرد على الفرق التي تقيم في البلاد العربية.

وما معنى أن مؤيديه لم يحفلوا به إلا لأنه رد على فرق في البلاد العربية تمثل هذه النحل والديانات؟

أليس من الممكن بل من اليسير أن يحفلوا به؛ لأنهم أولو فطر سليمة وبصائر نيرة، والقرآن نور يمشي بين أيدي أوليائه؟ ولماذا حفلت به الأمم غير العربية كالفرس والترك والهنود والبربر وقسم عظيم من أوروبا؟ فهل احتفلوا به وجاهدوا في سبيله؛ لأنه يرد على فرق في البلاد العربية أو فرق في أقطارهم تمثل هذه النحل والديانات؟ كلا! إنما يحفل بالقرآن من يحفل به؛ لأنه برهان هداية وسعادة، ولأن في حججه ما يقف في لهاة المعاند للحق «لا يرتقي صدر منها ولا يرد».

•••

قال المؤلف في ص١٧: «أفترى أحدًا يحفل بي لو أني أخذت أهاجم البوذية أو غيرها من هذه الديانات التي لا يدينها أحد في مصر؟ ولكني أغيظ النصارى حين أهاجم النصرانية، وأهيج اليهود حين أهاجم اليهودية، وأحفظ المسلمين حين أهاجم الإسلام. وأنا لا أكاد أعرض لواحد من هذه الأديان حتى أجد مقاومة الأفراد ثم الجماعات ثم مقاومة الدولة نفسها تمثلها النيابة والقضاء.»

يقتضب المؤلف هذه الجمل وأمثالها ليذروها كالرماد في عيون السذج ويخيل إليهم أنه لم يهاجم الإسلام بأشد ما يهاجم به دين تعتنقه أمة ذات عزة وحجة وبيان.

هل يتربص فرصة تمكنه من أن يطعن في الإسلام بأكثر مما طعن فيه اليوم؟ وهل فوق تكذيب القرآن وقذف مقام النبوة بالاحتيال على عقول العرب هجوم! وهل بعد الغمز في نسب الرسول الأعظم شيء يخوض قلوب المسلمين بالحفيظة والامتعاض!

قد اتخذ اسم البحث العلمي كستار يعمل من ورائه ما لا يسوغه قانون الاجتماع، وسدله على جانب من البحث وبقي جانب آخر مكشوفًا حتى عجز رهطه أن يمدوا عليه طرفًا من ذلك الستار المستعار. وستراه كيف يهاجم الإسلام على طريق يسميه بحثًا وما هو ببحث، وإنما هو الطعن الذي يدع في النفوس ألمًا، ولا نجد له في العلم أو الأدب أثرًا.

•••

قال المؤلف في ص١٨: «فأنت ترى أن القرآن حين يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات إنما يتحدث عن العرب وعن نحل وديانات ألفها العرب.»

تحدث القرآن عن أمم من غير العرب كالقبط ويهود مصر وفلسطين وذكر قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم لوط، وقد تعرض لنحل هؤلاء الأقوام وقص علينا جدالهم لرسلهم، ومحاجة الرسل عليهم السلام لتلك الأمم التي ليست من العرب في قبيل.

فالقرآن لا يراد منه إصلاح حال العرب وحدهم، وليس من نحلة باطلة أو عقيدة مبتدعة إلا في أصوله ما يمحو أثرها ويقطع دابرها. ويكفي الكتاب الذي يخاطب البشر جميعًا أن يتحدث عن أصول الديانات والنحل بحديث يعرف به حال ما يشتق منها أو يتمثل في بعض صورها.

•••

قال المؤلف في ص١٨: «فأما هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين فيظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي العاطفة الدينية المسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العملية، وإلا فأين تجد شيئًا من هذا في شعر امرئ القيس أو عنترة! أوليس عجيبًا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين!»

هذه الشبهة مما استلبه المؤلف من مقال مرغليوث — حيث يقول: «تجد في هذه الأشعار ما يبعث على الدهشة، فشعراء كل أمة يشرحون دينهم وعقائدهم شرحًا واضحًا، والمخطوطات العربية مملوءة بذلك، ففي كل مخطوطة نجد اسم معبود أو أكثر وأشياء تتعلق بعباداتهم … وقلما نعثر في هذه الأشعار على شيء يتعلق بالدين إلا نادرًا.»

وقد تعرض جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية١ إلى هذه الشبهة وما يدفعها فقال: «أما العرب فيخالفون العبرانيين من حيث الشعر الديني؛ لأنه لم يكن عندهم في الجاهلية كما كان عند العبرانيين، ولا يعقل أنهم خالفوا إخوانهم فيه ولا بد أنهم نظموا الأشعار وخاطبوا بها هبل واللات والعزى وغيرها واستعطفوها وصلوا إليها وتخشعوا لها، ولكن منظوماتهم في هذا الموضوع ضاعت في ثنايا الأجيال لعدم تدوينها، ولاشتغالهم عنها بالحماسة والفخر بسبب الحروب التي قامت بينهم قبل الإسلام. فلما جاء الإسلام أغضى الرواة عنها؛ لأنها وثنية، والإسلام يمحو ما كان قبله.»
وقال الأستاذ «أدور براونلش» في رده٢ على مرغليوث: «لاحظ العلماء أن الشعر الجاهلي قلما دل على شيء من دين العرب قبل الإسلام: وقد ذكر بعضهم في سبب ذلك أن علماء المسلمين يرفضون من الشعر ما يخالف الدين الإسلامي ويروون سائره، وهذا مما يثق الإنسان بوقوعه.»

وخلاصة الجواب أن معظم شعر العرب كان في الفخر والحماسة، وأن المسلمين صرفوا عنايتهم عن رواية الشعر الذي يمثل دينًا غير الإسلام، ولا سيما دين اللات والعزى، وعلى الرغم من هذا كله وصلت إلينا بقية من الشعر الذي يحمل شيئًا من الروح الديني، تجده في كتاب الأصنام لابن الكلبي وغيره.

•••

قال المؤلف في ص١٩: «ولكن القرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها وإنما يمثل شيئًا آخر غيرها لا نجدها في الشعر الجاهلي، يمثل حياة عقلية قوية، يمثل قدرة على الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظًّا عظيمًا، أليس القرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون النبي بقوة الجدال والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة.»

دلالة القرآن على ما عند العرب من دهاء وبراعة في الكلام مما تعلمه المؤلف من القدماء ثم انقلب يرميهم بسبة الجهل به، وهذا الجاحظ يقول في كتاب البيان:٣ «وذكر الله تعالى حال قريش في بلاغة المنطق ورجاحة الأحلام وصحة العقول، وذكر العرب وما فيها من الدهاء والنكراء والمكر ومن بلاغة الألسنة واللدد، عند الخصومة فقال: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ثم ذكر خلابة ألسنتهم واستمالتهم الأسماع بحسن منطقهم فقال: وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ثم قال: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مع قوله: وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ

فهذا مما يرفع الثقة بزعم المؤلف أنه صاحب نظرية «أن في القرآن مرآة للحياة الجاهلية».

•••

قال المؤلف في ص٢٠: «وفيما كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون؟ في الدين وفيما يتصل بالدين في هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم دون أن يوفقوا إلى حلها: في البعث، في الخلق، في إمكان الاتصال بين الله والناس، في المعجزة، وما إلى ذلك.»

تظهر قوة العقل من ثلاث جهات:
  • أولها: طريق الجدل في الآراء العلمية المستندة إلى التجارب أو قياس النظير على النظير.
  • ثانيها: طريق الجدل في الآراء المستندة إلى حجج العقل كالبحث فيما وراء الطبيعة.
  • ثالثها: الحديث في شؤون الأفراد والجماعات.
ونحن نعلم أن ذكاء الناس ونبوغهم يختلف في هذه الطرق اختلافًا كثيرًا، فمنهم من يجيدون النظر في الطريق الأول أو الثاني حتى إذا أخذوا بالحديث في الطريق الثالث كانوا بمنزلة قوم لا يبصرون، ومنهم من تظهر ألمعيتهم في الطريق الثالث ولا يكادون يصرفون أنظارهم في الطريق الأول أو الثاني إلا رأيتهم كالأنعام أو أضل سبيلًا.

والقرآن يصف هؤلاء الجاهليين بشيء من العلم بهذه الحياة فقال: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وهذا العلم يرجع إلى بعض شؤون الأفراد والجماعات وما دخل تحت تجاربهم من السنن الكونية. ويصفهم مع هذا بسعة العارضة واللدد في الخصومة اللذين هما أثر من آثار المهارة في هذا الفن من العلم، وقد يستحق هذا الوصف من يأخذ الشبه التي تعرض لمن له حظ من النباهة الفطرية، ويلقيها في زخرف من فصاحة وحلية من بيان، حتى إذا طلعت الحجة ذهب زخرف الفصاحة وحلية البيان وبقي قصر النظر أو خطل الرأي مكشوفًا بارزًا. وصف القرآن أولئك الجاهليين المجادلين بشيء من العلم بهذه الحياة والمهارة في فن الجدل، ونعى عليهم الجهل بأمر البعث والخلق والصلة بين الخالق والمخلوق وضعف بصيرتهم عن إدراك المعجزة، وما إلى ذلك من مذاهب مطموسة الأثر، وآراء لا منشأ لها إلا الأذواق المعتلة والشهوات الطاغية، ولمثل هذا تجده لا يصفهم بخلابة البيان أو العلم بظاهر من هذه الحياة إلا نقم عليهم خطل الآراء فيما لا يقع تحت أبصارهم أو تجاربهم، ونعى عليهم سفهها في تزيين بعض قبائحهم، وضعفها عن تقويم أهوائهم كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ وقال: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وقال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.

ففي الجاهليين المجادلين ذكاء وفيهم حذق في صناعة البيان ولكنهم لم يتجاوزا بهما ظاهرًا من هذه الحياة.

•••

قال المؤلف في ص٢٠: «أفتظن قومًا يجادلون في هذه الأشياء جدالًا يصفه القرآن بالقوة ويشهد لأصحابه بالمهارة، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين! كلا! لم يكونوا جهالًا ولا أغبياء ولا غلاظًا ولا أصحاب حياة خشنة جافية؟ وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة.»

لولا أن الشعر الجاهلي من الذائع الذي يعترض القارئ في كل سبيل، لقلنا: إن المؤلف تصدى للبحث فيه ولم يستمع إلى شيء منه سوى قطع ذات نسج مرذول ومعان مرمية على قارعة الطريق، ولاغترفنا من موارده الصافية وأدرنا على قراء هذه الصحائف كأسًا دهاقًا.

في الشعر الجاهلي معان سامية وحكمة صادقة، ومن يقرؤه خالي الذهن من كل ما قيل فيه، يقضي العجب من ذكاء منشئيه وسعة خيالهم، وإقصائهم النظر في تأليف المعاني والتصرف في فنون الكلام.

يبخس المؤلف قيمة الشعر الجاهلي ويريد أن يجعله مثال الجهل والغباوة والخشونة، وهذا جرجي زيدان وهو عربي لا يقل في تذوق الشعر عن هذا المؤلف قد عرف كيف يستدل بهذا الشعر على أن العرب لم يكونوا أصحاب جهالة وهمجية فقال في تاريخ آداب اللغة العربية:٤ «وقد يتبادر إلى الذهن أن أولئك البدو كانوا أهل جهالة وهمجية لبعدهم عن المدن وانقطاعهم للغزو والحرب، ولكن يظهر مما وصل إلينا من أخبارهم أنهم كانوا كبار العقول، أهل ذكاء ونباهة واختبار وحنكة وأكثر معارفهم من ثمار قرائحهم، وهي تدل على صفاء أذهانهم وصدق نظرهم في الطبيعة وأحوال الإنسان مما لا يقل عن نظر أعظم الفلاسفة فإن قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
رأيت المنايا خبط عشواء

إلى قوله:

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

لا يقل شيئًا على أحكام أكابر الفلاسفة.

وإن كنت ترغب في أن تنظر إلى العاطفة كيف تتقلب بالأفكار والأذواق تقلب الرياح بخفيف الزنة يقع في مهبها، فهذا المؤلف يقول: إن الجاهليين أرقى عقولًا وأوسع علمًا وأرق عاطفة وألين عيشًا من أن يمثلهم هذا الشعر الجاهلي، وذلك الدكتور مرغليوث يرى أن هذا الشعر أحكم صنعة وأعلى بلاغة من أن يقوله أولئك الرعاع حيث قال في المقال المشار إليه آنفًا: «فهل من المعقول أن البدو الجهلاء غير المتمدينين يكون لهم شعر بهذه الدرجة من البلاغة والرقي؟!»

والحقيقة أن هذا الشعر لم يكن بأدنى من منزلة الجاهليين في العلم والذكاء والعاطفة ولين العيش كما يقول المؤلف، ولم يكن بالمنزلة التي تقصر عنها قرائحهم ولا تبلغها فصاحتهم كما يقول مرغليوث، بل الشعر الملائم لحالتهم من كل ناحية، وقد رد الأستاذ (إدور براونلش) على مرغليوث في هذا المعنى وسنسوق وجوه رده عليه في غير هذا المقام.

•••

بعد أن احتاط المؤلف في وصف الجاهليين بالعلم والذكاء والعواطف والعيش اللين، ونبه القراء على أن هذا الوصف لا يقع على جميعهم، وأنهم كغيرهم من الأمم القديمة وكثير من الأمم الحديثة ينقسمون إلى طبقتين قال في ص٢٠ مبينًا هاتين الطبقتين: «طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالثروة والجاه والذكاء والعلم، وطبقة العامة الذين لا يكاد يكون لهم من هذا كله حظ».

أتى المؤلف في بيان الاستنارة على أربع مزايا: الثروة والجاه والذكاء والعلم وقد يقف القارئ في فهم الاستنارة ولا يدري: أهي هذه الأمور الأربعة بحيث لا استنارة إلا لذي ثروة وجاه وذكاء وعلم؟ ومقتضى هذا أن العالم الذكي إذا لم تكن له ثروة نزل إلى طبقة العامة وحُرم الدخول في طبقة المستنيرين، أم الاستنارة محصورة في هذه المزايا فمن تجرد منها كان من طبقة العامة، ومن حاز قسطًا منها كان من طبقة المستنيرين؟ ومقتضى هذا التأويل أن صاحب الثروة والجاه القائم عليها مستنير ولو هوى به الجهل والغباوة إلى درك سحيق. والصواب أن الاستنارة إنما هي العلم وحصافة العقل، أما الثروة والجاه فلا يدخلان في حقيقتها ولو أتياها على منهج ديكارت وطرق لهما مرغليوث أبوابها باليمين والشمال.

•••

قال المؤلف في ص٢٠: «والقرآن يحدثنا عن جفوة الأعراب وغلظتهم وإمعانهم في الكفر والنفاق وقلة حظهم من العاطفة الرقيقة التي تحمل على الإيمان والتدين. أليس هو الذي يقول: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ.

يشير المؤلف في هذه الفقرة إلى المكيدة التي نصبها رهطه لهدم الإيمان وشرائع الإسلام حيث يزعمون أن الإيمان والدين تتلقاه العواطف، وأن العلم تتناوله العقول، ويقولون دون أن تحمر وجوههم خجلًا: إن الواحد منهم يحمل اعتقادين متناقضين: أحدهما ديني تعتنقه العاطفة. وثانيهما علمي ينضوي تحت لواء العقل، يقولون هذا وهم لا يريدون إلا جحود حقائق الدين ومحو أثره من النفوس جملة.

ألا إن الدين الذي يخاطب العقل، ويدعو خصومه إلى تحكيم العقل والعلم ويرفع شأن العقل والعلم، لا يقبل ذلك التأويل في حال، ولا ترضى عقائده وأحكامه وآدابه إلا أن تأخذ أرسخ مكانة في العقل. اقرأوا إن شئتم قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وقوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ وقوله: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ وقوله: لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وقوله: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وقوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وقوله: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا وقوله: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.

هذا ما يصرح به القرآن، وهذا ما يعتقده المسلمون قاطبة، وهذا ما تشهد به العقول التي تميز العلم من الظن وتفرق بين الحق والباطل، فمن سمى نفسه مسلمًا ثم قال: إن في القرآن ما يخالف العلم الصحيح، قد غمس لسانه في حمأة النفاق لكي يستطيع العبث بالدين واختلاس العقيدة السليمة من قلوب أبناء المسلمين وهم لا يشعرون.

•••

قال المؤلف في ص٢١: «فالقرآن إذًا يمثل الأمة العربية على أنها كانت كغيرها من الأمم القديمة فيها الممتازون المستنيرون الذين كان النبي يجادلهم ويجاهدهم، وفيها العامة الذين لم يكن لهم حظ من استنارة أو امتياز والذين كانوا موضوع النزاع بين النبي وخصومه والذين كان النبي يتألفهم بالمال أحيانًا.»

قال المؤلف آنفًا: إن المستنيرين هم أصحاب الثروة والجاه والعلم والذكاء، ثم عاد إلى التقسيم وجعل مناطه الأمة العربية ووصف المستنيرين بأنهم الذين كان النبي يجادلهم ويجاهدهم، وجعل العامة هم الذين كانوا موضوع النزاع بين النبي عليه الصلاة والسلام وخصومه، والذين كان النبي عليه الصلاة والسلام يتألفهم بالمال أحيانًا.

تضع هذه الفقرات في نفوس القراء أن النبي صلوات الله عليه كان في جانب وأن أولئك المستنيرين من العرب كانوا في جانب آخر، وأن العامة كانوا ما بينهما يغالبهم النبي عليه السلام في طائفة منهم فيأخذهم إلى الإسلام، ويغالبونه في أخرى فيضعونها في حزبهم.

ولأمرٍ ما رسم المؤلف للعرب في عهد النبوة هذه الصورة المختزلة. والواقع أن العرب كانوا — لعهد نزول القرآن — على فريقين: الأول فريق استحب جاهليته على الإسلام، وهؤلاء طبقتان: طبقة كانت على مهارة في تصريف الكلام والتقلب في فنون الجدل والخصام، وطبقة لا تفهم من القول إلا صريحًا ولا تعي من الحجج إلا ما كان عليه آباؤها الأولون. والآخر فريق ابتغى الإسلام دينًا، وهؤلاء طبقتان أيضًا: طبقة ذات عقول راجحة، وأخرى ذات فطر سليمة، ولكنها دون الطبقة الأولى في قوة الحجة والخبرة بدقائق الأشياء، والقرآن كما يمثل الطبقتين الأوليين يمثل هاتين الطبقتين أيضًا في مثل قوله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولا أراني في حاجة إلى أن أسوق أسماء بعض الرجال الذين عرفوا باستنارة العقل لذلك العهد واعتنقوا الإسلام بسريرة نقية، وكان لهم في حمايته والدعوة إلى سبيله مواقف مشهودة وسيرة أصفى من طلعة القمر ليس دونها سحاب.

يحشر المؤلف قلمه في الحديث عن تاريخ عهد النبوة فيمشي في غير طريق، ولا ندري: أقصدٌ هذا الانحراف، أم هو ناشئ عن عدم درس ذلك التاريخ بروية وأناة؟ يصف المؤلف العامة بأنهم الذين كان النبي يتألفهم بالمال، والمعروف في تاريخ ذلك العهد أنه عليه الصلاة والسلام يتألف الفريق الذين يسميهم المؤلف مستنيرين وممتازين، ومن هؤلاء أبو سفيان الذي يلقبه المؤلف بزعيم قريش وحازمها، وابنه معاوية الذي أصبح مثلًا لنباهة الرأي والدهاء في السياسة، وفي صحيح البخاري: «بعث عليٌّ إلى النبي بذهيبة فقسمها بين أربعة: الأقرع بن حابس، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي، وعلقمة بن عُلاثة العامري، فغضبت قريش والأنصار، قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا، قال إنما أتألفهم.» ولم يقل أحد من أهل العلم: إن التأليف بالمال كان لطبقة العامة الذين لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يجادلهم ويجاهدهم، بل ترى بعضهم يجعل المؤلفة قلوبهم أشراف العرب كما قال صاحب الكشاف: «هم أشراف من العرب كان رسول الله يستألفهم على أن يسلموا.» ومنهم من يجعلهم طائفتين كما قال الشهاب القسطلاني في شرح الجامع الصحيح: «هم قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة، فيستألف قلوبهم، أو أشراف يرقب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم.»

•••

قال المؤلف في ص٢١: «والقرآن لا يمثل الأمة العربية متدينة مستنيرة فحسب، بل هو يعطينا منها صورة أخرى يدهش لها الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في دروس الحياة العربية قبل الإسلام، فهم يعتقدون أن العرب كانوا قبل الإسلام أمة معتزلة تعيش في صحرائها لا تعرف العالم الخارجي ولا يعرفها العالم الخارجي.»

ادعى المؤلف فيما سلف أنه استنبط من القرآن شيئًا خفي على القدماء وهو أن للأمة العربية دينًا، وفيها طبقة مستنيرة، وادعى في هذا الموضع أنه انتزع من القرآن صورة أخرى ووصفها بأنها ستدهش الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة الجاهلية، وسيعرض هذه الصورة المدهشة في قوله: إن العرب قبل الإسلام أصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة متأثرة بها مؤثرة فيها.

ابتدأ في تقرير هذه النظرية بدعوى أن الذين تعودوا أن يعتمدوا على الشعر الجاهلي يعتقدون أن العرب في جاهليتهم كانوا في عزلة وانقطاع عن العالم الخارجي لا يسمعون عنه خبرًا، ولا يعرف لهم شأنًا.

وهل يصدق أحد أن من يدرسون الشعر الجاهلي يتصورون العرب أمة معتزلة في صحراء من الأرض لا تعرف عما وراء حدودها من أحوال الأمم شيئًا؟ ومن أين يأتيهم هذا التصور وهم يجدون في هذا الشعر الجاهلي والأخبار المتصلة به ما يحدثهم بأن من الشعراء — وهم زعماء القبائل — من كانوا يسافرون إلى الشام وإلى اليمن بل إلى فارس وإلى القسطنطينية، تجد هذا في شعر عمرو بن كلثوم وامرئ القيس وأمية بن أبي الصلت والأعشى ميمون بن قيس.

هم يعرفون أشياء تبرئهم من أن يتصوروا العرب أمة ملقاة في فلاة من الأرض، ألم يدرسوا قول عمرو بن كلثوم:

وكأس قد شربت ببعلبك
وأخرى في دمشق اللذ تلينا

أولم يدرسوا قول امرئ القيس:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عيناك إنما
نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا

أولم يقرأوا أن أبا الصلت أو أمية بن أبي الصلت رحل إلى سيف بن ذي يزن ليهنئه بالانتصار على الحبشة وأنشد بين يديه قصيدته التي يقول فيها:

فاشرب هنيئًا عليك التاج مرتفعًا
في رأس غمدان دارًا منك محلالا

وقال فيها:

من مثل كسرى وسابور الجنود له
أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
بلى! وقرأوا أن الأعشى كان «يفد على ملوك فارس، ولذلك كثرت الفارسية في شعره».٥ وقرأوا أن النعمان بن المنذر وفد على كسرى بطائفة من فصحاء العرب: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والحارث بن عباد البكري، وعمرو بن الشريد، وخالد بن جعفر، وعلقمة بن علاثة، وقيس بن مسعود، وعامر بن الطفيل، وعمرو بن معدي كرب، والحارث بن ظالم. وقرأوا أن قابوس بن المنذر الأكبر بعث إلى كسرى بن هرمز بعدي بن زيد وإخوته فكانوا في كُتَّابه يترجمون.

وإذا كان هذا الشعر والأخبار المتصلة به من قبيل المصطنع في نظر المؤلف فذلك بحث آخر لا يعنيه المؤلف في هذا المقام، فهم على أي حال لا يتصورون العرب في ذلك الانقطاع البعيد كما يدعي عليهم، ولا يستطيعون أن يتصوروهم في هذا الاتصال الشديد الذي يحاول تخييله إلى قراء كتابه.

•••

قال المؤلف في ص٢١: «وهم يبنون على هذا قضايا ونظريات، فهم يقولون: إن الشعر الجاهلي لم يتأثر بهذه المؤثرات الخارجية التي أثرت في الشعر الإسلامي، لم يتأثر بحضارة الفرس والروم، وأنى له ذلك! لقد كان يقال في صحراء لا صلة بينها وبين الأمم المتحضرة.»

كأن المؤلف ينكر أن يكون الشعر في الإسلام أرقى من الشعر زمن الجاهلية ويحاول جحود المزية التي امتاز بها شعر الإسلاميين من كثرة إبداع المعاني والذهاب في الخيال إلى ما تنجذب له الألباب سحرًا وتخفق به الأفئدة طربًا، تلك المزية التي أحرزها الشعر الإسلامي لأسباب من أشدها أثرًا هذه المدنية التي انقلب إليها العرب بفضل أدب الإسلام واختلاطهم بالأمم وشهود الحواضر حيث يرحلون وحيث يقيمون.

وقد كتب علماء الأدب في وجوه ارتقاء الشعر وأسباب إحكامه وإبداعه فأجادوا النظر وأمتعوا البحث. وإليك صفوة ما كتبوا، حتى يستبين لك الفصل بين الشعر الجاهلي والشعر الذي أنشئ في الإسلام.

يهيئ الناشئ إلى إجادة النظم أن يعيش في بقعة جيدة الهواء أنيقة المناظر، وأن يشب بين قوم انتبذوا في الفصاحة مكانًا قصيًّا «فقلما برع في المعاني من لم تنشئه بقعة فاضلة، ولا في الألفاظ من لم ينشأ بين أمة فصيحة».٦

ثم هو لا يبرع في هذه الصناعة ألا تكون له قوة حافظة وقوة مائزة وقوة صانعة.

بالحافظة القوية يجد في نفسه صورًا كثيرة منتظمة واضحة فيتأتى له أن يتناول منها ما شاء بأقل ملاحظة «فإن المنتظم الخيالات كالناظم الذي تكون عنده أنماط الجواهر مجزأة محفوظة المواضع عنده فإذا أراد أي حجر شاء على أي مقدار شاء عمد إلى الموضع الذي يعلمه فيه فأخذه منه ونظمه».٧

وبالقوة المائزة يتخير ما يلائم الغرض من تلك الصور والخيالات أو من الألفاظ والأساليب.

وبالقوة الصانعة يؤلف ما تخيره من الصور المناسبة والألفاظ اللائقة حتى تجيء المعاني آخذًا بعضها برقاب بعض، وتجيء الألفاظ والأساليب في وضاءة وأحسن تقويم.

تختلف طبقات الشعراء على قدر اختلاف حظوظهم في هذه المهيئات والأسباب، فمن رزق جميعها كان بالمنزلة العليا، ومن قل نصيبه فيها وجدته على قدر ما فاته منها فإما في الوسط وإما في الدرجة الدنيا.

وإذا كانت هذه أصول إبداع الشعر وارتفاع شأن الشاعر فلنعقد موازنة بين العرب في الجاهلية والعرب بعد الإسلام.

لا نتحدث عن المناخ من حيث هواؤه ومناظره الطبيعية فإن مناخ العرب في الجاهلية هو مناخهم بعد الإسلام أو قريب منه، ولا نتحدث عن القوة الحافظة أو المائزة أو الصانعة، فتلك مزايا يتداولها الفريقان، فلا فضل فيها لجاهلي على إسلامي، ولا لإسلامي على جاهلي إلا أن يشاء الله.

وإنما نلقي النظر في هذه الموازنة على أمرين يتفاضل بهما شعر الأفراد والطبقات، وهما غزارة مادة الفصاحة، وكثرة ما يقع عليه نظر الناشئ من الصور الغريبة.

إذا كان الشعراء يتفاضلون بما يملكون من مواد الفصاحة فإن اللغة العربية أخذت بالإسلام هيئة غير هيئتها الأولى، واتسع نطاقها لأسباب شديدة الأثر، ومن هذه الأسباب ما تراه في القرآن من نظم رائع وأسلوب حكيم، فالقرآن نهج في إرشاده ومواعظه أساليب لا يعهدها الفصحاء من قبل، وهذه حقيقة لا تستدعي إقامة شاهد فقد أقر بها المؤلف نفسه في قوله: «إنما كان القرآن جديدًا في أسلوبه.» وممن خاض في هذا البحث ونبه على تأثير القرآن والحديث النبوي في رقي الشعر العلامة ابن خلدون في مقدمته٨ فسدد النظر وأصاب المرمى.

ومما يدخل في هذه الأسباب أن اجتماع العرب على اختلاف قبائلهم في هيئة أمة واحدة جعل اللغة الأدبية التي هي لغة قريش تقتبس من لغات القبائل الأخرى أكثر مما كانت تقتبسه قبل الإسلام، فالطفل الذي يشب في بيئة هذه اللغة بعد امتلائها بالألفاظ الأنيقة والأساليب الفائقة يكون محفوفًا من موارد الفصاحة بأكثر مما يتلقنه الطفل النابت في الجاهلية حيث لم يتسع نطاق اللغة إلى هذه الغاية القصوى.

وإذا كان الشعراء يتفاضلون بمقدار ما يرتسم في نفوسهم من الصور الغريبة فإن العرب دخلوا بالإسلام في مدنية زاخرة وحضارة منتظمة، ولا يستطيع أحد السبيل إلى دعوى أن اختلاطهم بالأمم وشهودهم الحواضر بعد الإسلام كحالهما زمن الجاهلية إلا أن يكون معتزلًا الأدب والتاريخ، هو لا يعرفهما وهما لا يعرفانه.

وإذا كان في شعراء الجاهلية من سافر إلى بعض الحواضر واتصل بالأمم الأخرى، فذلك لا يجعله بمنزلة الناشئ في مدنية منتظمة؛ إذ الصور الغريبة التي تقع إلى حافظة الناشئ في حضارة ونظام تكون أكثر وأوضح وأبقى.

•••

قال المؤلف في ص٢١: «كلا! القرآن يحدثنا بشيء غير هذا، القرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، بل كانوا على اتصال قوي قسمهم أحزابًا وفرقهم شيعًا، أليس القرآن يحدثنا عن الروم وما كان بينهم وبين الفرس من حرب انقسمت فيه العرب إلى حزبين مختلفين: حزب يتابع أولئك، وحزب يناصر هؤلاء، أليس في القرآن سورة تسمى سورة الروم وتبتدئ بهذه الآيات: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ للهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءٍُ.

الذي تدل عليه هذه الآيات أن الروم غلبتها أمة في حرب وأنهم سينتصرون على الأمة التي غلبتهم، ويغلبونها بعد قليل من السنين، وفي اليوم الذي ينتصر فيه الروم على هذه الأمة يفرح المؤمنون بنصر الله. ولو وقف المؤلف على حد الآية لم يفهم أكثر من هذا، ولكن الخطاب كان موجهًا إلى قوم بلغهم نبأ تلك الحرب ففهموا أن الأمة التي غلبت الروم هي أمة الفرس، وفهموا أنها ستقع في حرب معها ويكون الروم هم الغالبين.

فالآية لا تدل بصريحها على أن الحرب وقعت بين الروم وفارس، ولا تدل على أن العرب انقسموا إلى حزبين مختلفين: حزب يشايع الروم وحزب يناصر الفرس، وهذا كله إنما يذكره المفسرون أخذًا من سبب النزول. إذًا لم يأخذ المؤلف معنى اتصال العرب بالأمم الأخرى من القرآن مباشرة، وإنما أخذه من أيدي المفسرين. إذن يكون القدماء عرفوا هذا المقدار من الاتصال بين العرب وأمتي الروم والفرس، ولم يختص المؤلف في فهم الآية بشيء زائد على ما رووه أو فهموه.

•••

قال المؤلف في ص٢٢: «لم يكن العرب إذن كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين، فأنت ترى أن القرآن يصف عنايتهم بسياسة الفرس والروم وهو يصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة أو الفرس.»

يدل القرآن على أن لقريش رحلتين: إحداهما في الشتاء والأخرى في الصيف، ومن وقف على فهم الآية وحدها لا يدري أين يرحلون في الشتاء، ولا أين يرحلون في الصيف، ومن المحتمل أن تكون رحلتهم إلى حيث تقيم بعض القبائل الأخرى كقيس أو تميم. ولكن المفسرين بحثوا في طريق الرواية فعرفوا أن رحلتهم الشتائية كانت إلى اليمن، ورحلتهم الصيفية كانت إلى الشام. إذًا لم يفهم المؤلف من القرآن أن لقريش اتصالًا اقتصاديًّا بالروم والحبشة أو الفرس، وإنما تلقنه من المفسرين أو المؤرخين.

ثم إن الآية وردت على قدر الحكمة التي استدعت ورودها، ودارسو الشعر الجاهلي يعرفون ما دلت عليه الآية بتفصيل؛ إذ يجدون في هذا الشعر وما يتصل به من الأخبار أن هاشمًا وعبد شمس والمطلب ونوفلًا كانوا يسمون المتجرين، فهاشم كان يؤالف ملك الشام فأمن به في تجارته إلى الشام، وعبد شمس كان يؤالف إلى الحبشة، والمطلب كان يرحل إلى اليمن، ونوفل كان يرحل إلى فارس، وفي هؤلاء الإخوة يقول شاعرهم:

يأيها الرجل المحول رحله
هلا نزلت بآل عبد مناف
الآخذون العهد من آفاقها
والراحلون لرحلة الإيلاف

فإن عاد المؤلف وقال: إني لا أثق بهذا الشعر ولا بما يتصل به من خبر، قلنا له: لا تخلط قولًا بآخر، فإنك تقول عليهم في هذا الموضع: إنهم يتصورون العرب في عزلة وانقطاع؛ لأن الشعر الجاهلي يمثلهم كذلك، فأريناك أن ما بين أيديهم من الشعر يضع في نفوسهم الصورة التي ترميهم بجهلها، أما كون الطريق الذي جاءت هذه الصورة من ناحيته صحيحًا أو خربًا فذلك ما لم يخطر له ذكر في هذا المقام.

•••

قال المؤلف في ص٢٢: «وسيرة النبي تحدثنا أن العرب تجاوزوا بوغاز باب المندب إلى بلاد الحبشة، ألم يهاجر المهاجرون الأولون إلى هذه البلاد؟! وهذه السيرة نفسها تحدثنا بأنهم تجاوزوا الحيرة إلى بلاد الفرس، وبأنهم تجاوزوا الشام وفلسطين إلى مصر، فلم يكونوا إذن معتزلين، ولم يكونوا إذن بنجوة من تأثير الفرس والروم والحبش والهند وغيرهم من الأمم المجاورة لهم.»

عنوان الفصل الذي يخوض فيه المؤلف «مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن»، وقد ذهب فيه إلى أنه اطلع في القرآن على أن العرب قبل الإسلام كانوا على دين، وكانت فيهم طبقة ذات ثروة وجاه وذكاء وعلم، أو طبقة كان النبي عليه الصلاة والسلام يجادلهم ويجاهدهم، ثم ادعى أن الذين يدرسون الحياة العربية في هذا الشعر الجاهلي يعتقدون أن العرب قبل الإسلام كانوا أمة معتزلة عن العالم الخارجي، وادعى أن القرآن يعطي صورة ستدهشهم وهي أن العرب كانوا على اتصال قوي بمن حولهم من الأمم، وأورد في بيان مأخذ هذه الصورة آية: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ وآية: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ.

فإذا كان موضوع الفصل «مرآة الحياة الجاهلية تلتمس في القرآن»، وكان موضوع البحث الأخير أن القرآن يعطي صورة يدهش لها الذين يعتقدون أن العرب كانت أمة معتزلة، فما وجه الاستدلال بما في سيرة النبي وهي ليست بقرآن؟ ثم لماذا يذكر في نتيجة البحث أن العرب لم يكونوا بنجوة من تأثير الهند، ولم يأت ذكر للهند فيما استشهد به من القرآن أو السيرة أو أقوال المفسرين؟

عجز المؤلف عن انتزاع هذه الصورة المدهشة من القرآن وحده فأضاف إليها نبذة من السيرة وأخرى من أقوال المفسرين، ولم يكفه هذا التصرف حتى زاد عليها شيئًا من عنده وهو قوله: «والهند وغيرهم من الأمم المجاورة لهم.»

إذًا منهج ديكارت لم يكن كمنطق أرسطو يحتم على الباحث أن يراعي المقدمات ويفصل النتيجة على قدرها، بل يبيح له أن يقيم قنطارًا من النتائج على مثقال من المقدمات.

•••

قال المؤلف في ص٢٣: «وإذا كانوا أصحاب علم ودين وأصحاب ثروة وقوة وبأس، وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة متأثرة بها مؤثرة فيها، فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية لا أمة جاهلة همجية.»

قد عرفت أن المؤلف لم يزد في هذا الفصل على أن امتشق مقالة الجاحظ في دلالة القرآن على رجاحة أحلام العرب ودهائهم وقوتهم في الجدل، وتحدث عن دينهم فلم يزد على ما يعرفه كل أحد من أن في العرب وقت نزول الوحي أديانًا مختلفة. ولم يأت في الاستشهاد على أنهم أصحاب سياسة تتصل بالسياسة العامة إلا بآيتين مع ما يضاف إليهما من بيان أسباب النزول:
  • أولاهما: تدل على أن حربًا وقعت بين الروم والفرس بمقربة من بلاد العرب ولم يلبث نبأ هذه الحرب أن وقع إلى قريش. وأنت تكاد تثق بأن الجماعات النازلة في أواسط إفريقية قد بلغها نبأ الحرب الناشبة بين إيطاليا وطرابلس الغرب، ولم يخف عليها أيضًا نبأ الحرب القائمة بين الريفيين وأسبانيا، بله الحرب التي كانت تشتعل بين دول شتى. ويعلمون أن إيطاليا منساقة بمطامع الاستعمار، وأن الريفيين يريدون خلع ربقة الاستعباد من أعناقهم. إذًا تكون هذه الجماعات كلها أصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة متأثرة بها مؤثرة فيها.
  • ثانيتهما: آية يؤخذ منها أن لقريش رحلتين إحداهما إلى اليمن والأخرى إلى الشام. وهما رحلتان تجاريتان يوجد أمثالهما لتلك الجماعات المتوغلة في صحراء إفريقية، وإنما ذكرهما القرآن في مساق الامتنان على قريش حيث إن حبل الأمن في الجزيرة مضطرب والسبل تكاد تغص بقطاعها، وهم يتقلبون بأموالهم في البلاد جنوبًا وشمالًا دون أن تمتد إليهم الأيدي بسوء.

إذًا لا نكسر ما بأيدينا من مرآة للحياة الجاهلية فإن المؤلف وعدنا فأخلفنا ولم يستطع أن يستكشف للحياة الجاهلية صورة ممتعة أو مدهشة.

١  ج١ ص٥٦.
٢  مجلة الأدبيات الشرقية عدد أكتوبر ١٩٢٦.
٣  ج١ ص٥.
٤  ج١، ص٢٩.
٥  الشعر والشعراء لابن قتيبة، ص١٣٧.
٦  المناهج الأدبية لحازم.
٧  المناهج الأدبية.
٨  ص٥٠٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤