ألوان من المذهب المادي: المذهب السلوكي ومذهب الهُوِية السيكوفيزيقية
في الفصل الثاني بدأنا بفحص رأي ديكارت القائل بأن العقول والأجسام المادية نوعان متمايزان من الجوهر. ثم فحصنا عددًا من الآراء المرتبطة به، تلك التي يمكن أن تُغزَلَ من نقطة بدايتنا الديكارتية عن طريق نَبذ أو تعديل واحدٍ أو اثنين من مكوِّناته. وفي هذا الفصل سوف أقوم بتفحص وصفين ماديين للعقل.
ينكر الماديون أن العالم يتضمن كلا الجوهرين العقلي والمادي، فكلُّ جوهرٍ هو جوهرٌ مادي. والعقولُ مصمَّمة، على نحوٍ ما، من نفس المواد المصنوع منها الصخور والأشجار والنجوم. فإذا أخذنا الجسيمات الأساسية التي تكوِّن الأشياءَ غيرَ الحية ونظمناها على النحو الصحيح فالنتيجة تكون مخلوقًا ذا عقل. العقل ليس كيانًا منفصلًا غير مادي، وإنما هو مادة فحسب منظمة على نحوٍ ملائم.
ورغم أن كثيرًا من الفلاسفة قد يصفون أنفسَهم، إذا ألححتَ عليهم، بأنهم ماديون، فإن المادية تأتي بنكهاتٍ مختلفة. ومن شأن الاختلافات بين الماديين أن تُغَشِّي على اتفاقهم في رفض الثنائية. وقد أدى عدم الارتياح للافتراضات المادية في السنوات الأخيرة إلى انبعاثٍ جديدٍ للاهتمام بصورٍ من الثنائية. ومن عجبٍ أن كثيرًا من هذا الاهتمام قد وَلَّدَه العملُ في علوم الأعصاب حيث صعوباتُ التوفيق بين خصائص المنظومات المادية المعقدة وخصائص الخبرات الشعورية شديدةٌ للغاية.
قَلَّما تكون العلاقةُ بين الفلسفةِ والعلومِ التجريبية واضحةً مستقيمة. لقد أَسهَمَ فلاسفةُ العقل، مِن جهةٍ، إسهامًا مهمًّا في تشكيل التصورات الخاصة بالعقل التي ترشد الباحثين التجريبيين. ومن جهةٍ أخرى فقد طَفِقَ الفلاسفةُ يعيدون تقييمَ نظرياتِ كلِّ فترةٍ في ضوء مستجدات التقدم في العلوم. من نتائج ذلك أن تجد التأثيراتُ الفلسفية على العلوم طريقَ عودتِها ثانيةً إلى الفلسفة، وعندما يحدث ذلك فقد تكتسب دعوى فلسفيةٌ ما، دون وجهِ حق، سيماءَ هيبةٍ تجريبيةٍ في عقول الفلاسفة الحريصين على اعتناقِ أحكامِ العِلم.
لم يتفطن الفلاسفةُ أحيانًا، في غَمرةِ إعجابِهم بالسلوكية في علم النفس، إلى أن التصوراتِ السلوكيةَ للعقل كانت، إلى حَدٍّ كبير، نِتاجًا لِتَصَوُّرٍ فلسفي معين للمنهج العلمي. وللسخرية فإن جذورَ هذا التصورِ تكمن في تقليدٍ وضعي لم يكن جديرًا بأن يَروقَ هؤلاء الفلاسفةَ أنفسَهم. من الدروس المستفادة من ذلك أنه من الخطأ بالنسبة لفلاسفةِ العقل أن يَقبَلوا دون تمحيصٍ ودون إنعامِ نظرٍ دعاوي صادرةً من علم النفس أو من علوم الأعصاب.
السلوكية
الخصوصية ومترتباتها
ما إن نَشرَع في المضي في هذا الطريق حتى نكون عُرضةً للشك في أن الحالات الذهنية — كشيءٍ مختلف عن مُلازِماتِه الفيزيولوجية — هي موضوعٌ يصلح للدراسة العلمية. وفي النهاية، فإن فكرة أننا حتى في موقع يتيح تأسيس ترابطات بين وقائع عقلية ومجريات في الجهاز العصبي، هذه الفكرةُ نفسُها يمكن أن تغدو موضعَ شك. تخيلْ أنك في كل مرةٍ تَخبُر فيها نوعًا معينًا من الخبرة (ولتكن رؤية درجة معينة من الحمرة، حمرة طماطمة ناضجة مثلًا) تعتري دماغَك حالةٌ معينة، «س». كذلك كلما اعترت دماغَك الحالةُ «س» فأنت تَخبُر نفسَ الدرجة من الحمرة. إنه لَيبدو كأن هناك بالضرورة ارتباطًا بين الخبرات التي من هذا النوع وبين حالاتٍ نيورولوجية من النوع «س».
افترض الآن أنك تلاحظ دماغي في الحالة «س». وأنا أُعلِنُ أني أَخبُر درجةً معينةً من الأحمر، درجةً أَصِفُها بأنها حمرةُ طماطمةٍ حمراء. قد يبدو أن هذا يقدم دليلًا ثانيًا على الترابط الملاحَظ للتو في حالتك. ولكن هل هذا صحيح؟ في حالتك أنت، فإن لديك مَنفذًا إلى كلٍّ من حالتك الذهنية ومُلازِمِها النيورولوجي. أما حين تلاحظني، فإن لديك مَنفذًا إلى حالتي النيورولوجية فحسب، فكيف يحق لك أن تفترض أن حالتي الذهنيةَ تماثل حالتَك؟
صحيحٌ أنني أصف خبرتي كما تصف خبرتَك بالضبط، وأننا متفقان في أننا نَخبُر لونَ طماطم ناضج. إلا أن هذا، بالطبع، هو كيف تَعَلَّم كلانا أن يحدد خبرته الشخصية. إن لديَّ نوعًا معينًا من الخبرة البصرية عندما أشاهد طماطمةً ناضجة في ضوء الشمس الساطع، وأنا أصف هذه الخبرةَ على أنها ذلك النوع من الخبرة التي تكون لديَّ عندما أشاهد طماطمةً ناضجةً في الشمس الساطعة. وأنت لديك نوع معين من الخبرة عندما تشاهد طماطمةً ناضجة تحت ظروف مماثلة للمشاهدة، وقد تعلمتَ أن تصف هذه الخبرةَ على أنها ذلك النوع من الخبرة التي تكون لديك عندما تشهد طماطمةً ناضجةً في الشمس الساطعة. ولكن كيف يحق لأيٍّ منا أن يقول إن الخبرتين الموصوفتين بذلك متماثلتان تمامًا؟ فلعل خبرتَك أَشبَهُ بالخبرة التي قد تُلِم بي إذا ما شاهدتُ ليمونةً في الشمس الساطعة. إن وصفينا متفقان تمام الاتفاق، ولكن الحالة الذهنية التي أصفها أنا تختلف اختلافًا كيفيًّا كبيرًا عن حالتك أنت.
يبدو، إذن، أن محاولات الربط بين أنواعٍ من المجريات النيورولوجية وأنواعٍ من المجريات العقلية تتبخر إلى ارتباطات بين مجريات نيورولوجية وأوصافٍ لوقائع عقلية. إننا نتعلم أن نصف كيفيات حالاتنا الذهنية بالإشارة إلى أشياء قابلة للملاحظة اعتدنا منها أن تثير هذه الحالات. وهذا يترك الاحتمالَ مفتوحًا بأنه بينما تتطابق أوصافُنا لهذه الحالات، فإن الحالاتِ نفسَها تختلف اختلافًا شديدًا.
قد يبدو هذا قلقًا لا داعيَ له، مجرد احتمالٍ فلسفي خالص. ولكنْ سَلْ نفسَك: هل من مبرِّرٍ لديك لكي تعتقد أن حالاتك الذهنية تماثل كيفيًّا الحالات الذهنية للآخرين؟
لعل صَبرَكَ قد بدأ يَنفَدُ تجاه هذا الخط من التفكير. نحن بالطبع نعرف أن للآخرين حيواتٍ ذهنيةً مماثلةً لحيواتنا من جهاتٍ عديدة، ومختلفة أيضًا، وبالإمكان أيضًا أن نعرف ذلك. حسنًا، ولكن من الصعوبة أن نرى كيف يمكن تبرير هذه الثقة ما دمنا قد قَبِلنا فكرةَ أن العقول ومحتوياتها شأنٌ خصوصيٌّ غيرُ قابلٍ للتَفَحُّص العام.
الجُعرانُ في العلبة the beetle in the box
ربما تكون نقطة بدايتنا هي المسئولة عن المأزق الذي نحن فيه. لقد وَجَّه خُطانا في مسلكنا إلى الحديقة تصورٌ معينٌ عن العقل موروثٌ من ديكارت. فإذا بدأنا في وضع هذا التصور موضع الشك فقد يتسنى لنا أن نرى طريقنا بوضوح إلى حل لمشكلتنا، حل أكثر توافقًا مع فكرة حِسِّنا المشترك بأن بوسعنا أن نعرف أن الآخرين لديهم عقول، وأن عقولهم تماثل عقولنا.
افترض أن كل شخص لديه علبة فيها شيءٌ ما، ونحن نسميه «جعرانًا». ليس بِمُكنةِ أحدٍ أن ينظرَ في علبةِ أي شخص آخر، وكل واحد يقول إنه يعرف ما هو الجعران بالنظر إلى جعرانِه فحسب. هنا يجوز تمامًا أن يكونَ لدَى كل واحد شيءٌ ما مختلفٌ في علبته، بل يمكن للمرء أن يتخيل أن هذا الشيءَ دائبُ التغير.
الصورةُ هنا تماثل صورةَ العلاقة التي نحملها لحالاتِ عقلِنا وحالاتِ عقولِ الآخرين التي ما زلنا نسلِّم بها.
افترضْ أن كلمة «جعران» لها استعمال في لغة هؤلاء الناس. إذا صح ذلك فلن تُستخدم كاسمٍ لشيء. الشيء الذي في العلبة لا مكان له في لعبة اللغة على الإطلاق، ولا حتى كشيءٍ ما، فقد تكون العلبة حتى فارغة. لا أحد يستطيع أن يلعب بالشيء الذي في العلبة، فهو مُبطَلٌ لاغٍ أيًّا ما كان. يعني هذا أننا إذا أعربنا النحو الخاص بالتعبير عن الإحساس وفقًا لنموذج «الشيء والتلقيب»، فإن الشيء يسقط من الاعتبار على أنه غيرُ ذي صلة.
ماذا يريد فتجنشتين أن يقول؟ أنتَ تروِي أن علبتك تحتوي على جعران. وإن روايتَك لَملائمةٌ تمامًا. لقد تَعَلَّمتَ أن تستخدم كلمة «جعران» بالضبط بهذه الطريقة. افترض الآن أن الشيءَ الذي في علبتي مختلفٌ جدًّا عن الشيء الذي في علبتك. لو أننا كنا نملك مقارنة الشيئين لكان هذا واضحًا، غير أننا لم نكن قط في وضعٍ يتيح مقارنتَهما. افترض الآن أنني أروي أن علبتي تحتوي على جعران. إنني في فعلي هذا أستخدم كلمة «جعران» كما تَعَلَّمتُ استخدامها بالضبط. فعبارتي، شأنها شأن عبارتك، صحيحةٌ تمامًا.
افترض الآن أن كلًّا منا يقول إن علبتينا على التوالي تحتويان على جعران. هل أخطأ أيٌّ منا؟ كلا. يحاجُّ فتجنشتين أنه في هذا الموقف المتخيَّل تُستخدَم لفظة «جعران» بطريقةٍ لا يُحدِث فيها ما هو بداخلِ علبةِ أي شخصٍ أيَّ فارق؛ إذ تعني «جعران» في لهجتنا المتخيَّلة، على التقريب، «أيما شيءٍ يكون داخل العلبة». أن تتساءل عما إذا كان جعرانك يماثل جعراني هو إساءةٌ لفهمِ هذا الاستخدام للفظة «جعران». إنك إذن تعامل لفظة «جعران» كما لو أنها تسمِّي أو تُلَقِّب نوعًا من الأشياء أو الكيانات، إلا أن وجه الأمر أن «جعران» تُستخدم بطريقةٍ «تُسقِط الشيء من الاعتبار على أنه غير ذي صلة».
إن فكرة فتجنشتين ليست مجرد فكرة لغوية. فأية أفكار قد نضمرها وقد نعبر عنها باستخدام لفظة «جعران» يَلحقها نفس القيد. تلك الأفكار يتكشف أنها لا تتعلق بنوعٍ معين من الكيانات. وبتعبير آخر: إذا كانت لفظة «جعران» لا تشير إلى كيانات من صنفٍ معين، فكذلك، إذن، الأفكار المُعَبَّر عنها طبيعيًّا باستخدام لفظة «جعران».
السلوكية الفلسفية
كيف يمكن للأنالوجي أن يمتد إلى حالات العقل؟ إنك تستجيب وأنت طفلٌ بطرقٍ متعددة لما يحيط بك. في بعض الأحيان تئنُّ وتدعكُ رأسَك، فيخبرك الكبارُ بأن ما تعانيه يسمَّى صُداعًا. وغيرُك يتعلمون أن يستعملوا لفظة «صداع» على نحو مماثل. فهل «صداع» تُسمِّي نوعًا من الكِيان أو الحالة؟
ربما لا. ربما حين تنبئني بأن لديك صداعًا فأنت لا تُفرِد أيَّ شيءٍ محدد أو حالة خصوصية على الإطلاق (اذكرْ حكاية الجعران)، بل تُثبِت صداعَك فحسب. لقد تدرَّبتَ بطريقةٍ معينة. عندما تُدفَع إلى أن تئن وتدعك رأسك فأنت، من جراء هذا التدريب، تُدفَع أيضًا إلى أن تَفُوه بالكلمات «عندي صداع». إن الطابع الخاص لتلك الحالة قد يكون مختلفًا من فردٍ إلى آخر. وقد يتغير بشكلٍ مستمر، أو حتى، في بعض الحالات (الزومبيات؟) قد يكون غائبًا كليًّا. إلا أن وظيفة كلمة «صداع» ليست تسمية هذا الطابع الخاص، إنه «يسقط من الاعتبار على أنه غير ذي صلة».
افترضْ أن هذا الوصف لاستخدامنا كلمة «صداع» انطبق على معجمنا العقلي بعامة. إن الحدود (المصطلحات) العقلية، إذن، لن تُستخدَم لتسمية أنواعٍ من الكيانات أو الأحداث الخصوصية المماثلة كيفيًّا كما يريد لها ديكارت أن تكون. إن دورها جِد مختلف. وفي تلك الحالة فإن السؤال عما إذا كانت الحالة التي تسميها أنت ﺑ «الخبرة التي لديَّ عندما أشاهد طماطمةً ناضجة في ضوء الشمس الساطع»، تُضاهي كيفيًّا الحالة التي أسميها أنا عندما أستخدم نفس التعبير، هذا السؤال لا يمكن أن ينطرح. فطرحُ السؤال يعني إساءة تَصَوُّر خصائص المصطلحات العقلية، وبالتالي الهُراء التام.
«إن الأخطاء المقولية المثيرة نظريًّا هي تلك التي يرتكبها الأشخاص الذين هم على كفاءة تامة في تطبيق المفاهيم، على الأقل في المواقف المألوفة لديهم، ولكنهم لايزالون عُرضةً في تفكيرهم التجريدي لأن يُقَيِّضوا تلك المفاهيم لأنماطٍ منطقية لا تنتمي إليها.»
ولكننا الآن بإزاء سؤال جديد. ماذا يعني أن يكون لديك «استعداد» لأن تسلك بطريقةٍ معينة؟ ما هي الاستعدادات؟ إن الزَّهرية الهشة لديها استعداد للكسر. وفي انكسارها، عندما تُضرَب بحديدة إطارات، على سبيل المثال، فإنها تُظهِر هذا الاستعداد. وبلورة الملح لديها استعداد للذوبان في الماء، وفي ذوبانها عند وضعها في الماء فإنها تُظهِر قابليتَها للذوبان. غير أن الشيء يمكن أن يمتلك استعدادًا دون إظهار هذا الاستعداد؛ فالكوب الهَش ليس لِزامًا أن ينكسر على الإطلاق، وبلورة الملح ليس لزامًا أن تذوب.
وسيكون لديَّ المزيد لأقوله عن الاستعدادات في فصولٍ قادمة (انظر بخاصة الفصلَ السادس)، أما الآن فلا يهمنا إلا أن ندرك أن أي صيغة مقبولة عن السلوكية الفلسفية لا بد لها من أن تَعرِض لموضوع الاستعدادات. تقوم الاستعدادات (بين أشياءَ أخرى تقوم بها) بِمَلءِ الوَهدة بين ما أفعله وما بِمُكنتي أن أفعله. من المفترض أنني أفعل ما لديَّ استعدادٌ لفعله، ولكني قد يكون لديَّ استعدادٌ لفعلِ أشياء كثيرة لا أفعلها على الإطلاق لأن فرصةَ فعلِها لم تأذن، أو لأن استعداداتٍ منافِسةً قد طَغَت عليها. قد يكون لديك استعداد لأن تسلك بشجاعة عندما تواجَه بخطرٍ، ولكنك تقضي عمرَك في سكينةٍ مُخَيِّمة، وهذا لا ينتقص بالضرورة من شجاعتك. بالطبع إذا أنت لم تُظهِر قَط شجاعتَك فلن يكون لدينا ما يضطرنا إلى الاعتقاد بأنك شجاع، ولِنفس السبب، لن يكون لديك بالضرورة أدنَى معرفةٍ بها. وبالمثل لن يكون ثمة ما يُلزِمنا بالاعتقاد بأن مادةً غريبة معينة هي قابلة للذوبان في الماء إذا لم تَظهر ذوبانيتُها قَط. وقد يكون لديك استعدادٌ لأن تَبقَى صامدًا في مواجهةٍ خَطِرة، ولكنك تفر، رغم ذلك؛ لأن لديك استعدادًا أيضًا لأن تنتشل رفيقًا مهدَّدًا. وبنفس القياس، فإن بلورة الملح ذات الاستعداد للذوبان في الماء قد لا يمكنها أن تذوب إذا ما تعرضت لمجالٍ كهرومغناطيسي قوي.
بأي معنًى بالضبط «تربط السلوكيةُ الفلسفيةُ حالاتِ العقل بالسلوك»؟ يذهب السلوكيون إلى أن الإقرارات المتعلقة بحالات العقل يمكن أن تُترجَم إلى عبارات حول السلوك أو الاستعدادات للسلوك. لقد صار لدينا الآن ذوقٌ بذلك. فإذا كنتَ تعتقد أن دُبًّا في طريقك فإن لديك استعدادًا لاتخاذ فعلٍ مراوِغ، لأن تصدِّق على «هناك دُبٌّ في الطريق»، لأن تحذِّر رفاقَك، وما إلى ذلك.
ما هي توقعات النجاح بالنسبة للتحليلات الرَّدِّيَّة لحالات العقل؟ من بواعث القلق أن التحليلات السلوكية مفتوحة للتعديلات. مثال ذلك أنه لا حَد لقائمة الأشياء التي عساك أن تفعلها أو يكون لديك استعداد لفعلها إذا أضمرتَ الاعتقادَ بأن هناك دُبًّا في أَثَرِك. إن ما ستفعله سيتوقف على الظروف، والظروف قد تتنوع بطرقٍ لا حصر لها. وفضلًا عن ذلك، فيبدو من الواضح أن من بين الأشياء التي سيكون لديك استعداد لِفِعلِها أن تُكَوِّن اعتقاداتٍ جديدة وتكتسب رغباتٍ جديدة، وكلٌّ من هذه الاعتقادات والرغبات سيقتضي تحليلَه السلوكيَّ الخاص.
من المؤكد أن هذا يُعَقِّد الصورة، غير أنه لا يشكِّل بالضرورة عقبةً كئودًا بالنسبة للسلوكي الفلسفي. فالتحليلات المتصوَّرة لا يلزم أن تكون متناهية، إن بِوُسعِنا أن نقبل تحليلًا رَدِّيًّا، ما دام بِمُكنتِنا أن نرى كيف يمكن أن يمتد، حتى إذا لم نكن في موضع يسمح لنا بأن نقوم بذلك بأنفسنا.
ثمة صعوبة أخرى أعصَى على الإغفال. أنت ترى دُبًّا على الطريق وتكوِّن الاعتقادَ بأن هناك دبًّا على الطريق. ولكنْ مِن البَيِّن أن ما تفعله، وما لديك استعدادٌ لأن تفعله، يعتمد على حالتك الذهنية الإجمالية: ماذا تعتقد غير ذلك وتريد، مثلًا. وهكذا الحالُ في أي حالةٍ ذهنية. افترِض أنك تعتقد أن هناك دبًّا على الطريق، ولكنك تريد أن تُلقِي نظرةً أَوثَق، أو أنك تعتقد أن الدببةَ غيرُ ذاتِ خَطَر. أو افترِض أن لديك تَوقًا لِأن تعيشَ في خَطَر.
لكي تُقَدِّر ضخامةَ المشكلة، تَأَمَّل اعتقادَك بأن هناك دبًّا على الطريق. هذا الاعتقاد، بالتناغم مع الاعتقاد بأن الدببة خطرة، والرغبة في تجنب الحيوانات الخطرة، قد يؤدي بك إلى الفرار بعيدًا. ولكنْ تَخَيَّل الآن أنك تعتقد أن هناك دبًّا في طريقك، وتعتقد أن الدببة خطرة، وترغب في تجنب الحيوانات الخطرة (وهي اعتقاداتك ورغباتك كالسابق)، غير أنك تعتقد بالإضافة إلى ذلك أن الجريَ السريعَ لن يُفضِي إلا إلى جذب انتباهِ الدببة. في هذه الحالة سوف تميل إلى (يكون لديك استعداد) أن تسلك، وسوف تسلك، على نحوٍ جِد مختلف.
يوضح هذا المثالُ نقطةً عامة. كل محاولة للقول بما هو السلوك الذي سيترتب على حالةٍ ذهنيةٍ معطاةٍ قد يَثبُتُ خطؤها بإنتاج مثالٍ تكون فيه الحالة الذهنية قائمةً، ولكنْ بفضل وجود اعتقادات ورغبات جديدة، فإن السلوك لا يحدث. ولن يُجدِي شيئًا أن نحاول استبعادَ مثل هذه الحالات عن طريق مُستَثنٍ عام: إذا كنتَ تعتقد أن هناك دبًّا على الطريق، وتعتقد أن الدببة خطرة، وترغب في تجنب الحيوانات الخطرة، إذن، ما دمتَ لا تضمر اعتقادات ورغبات أخرى متعارضة، فسوف تميل إلى أن تُوَلِّيَ الأدبار. المشكلة هنا هي أننا قد أعدنا إدخال ذِكر حالات ذهنية في عبارة الاستثناء. وهذه (الحالات) بالضبط ما كنا نحاول استبعاده بالتحليل. إن المشروع التحليلي يبدو متعذرًا. (في الفصل الرابع سوف نجد تكنيكًا — مرتبطًا بفرانك رامزي وديفيد لويس — للتعامل مع مثل هذه الحالات، والذي يمكن للسلوكي أن يتبناه. عندئذٍ يبرز السؤال عما إذا كان هذا كافيًا لجعل السلوكية اختيارًا جذابًا.)
تَرِكة السلوكية الفلسفية
إذا كانت محاولةُ تحليل الحديث عن الحالات العقلية إلى حديثٍ عن السلوك محاولةً غيرَ عملية، فماذا يتبقَّى من السلوكية الفلسفية؟ صحيحٌ بالتأكيد أن الأسباب التي ننسب بها حالاتٍ عقليةً إلى بعضنا البعض هي أسبابٌ سلوكية، إلا أن هذه نقطةٌ إبستمولوجية، نقطةٌ حول ما يشكِّل دليلًا تستند إليه اعتقاداتُنا عن الحيوات العقلية لبعضنا البعض، وهي نقطةٌ بِوُسعِ الديكارتي أن يقبلها بسرور.
وماذا عن توكيد رايل على أنه من الخطأ أن تعتبر امتلاكك عقلًا هو مسألة وضع جسمك في علاقة معينة مع كيان ممايِز، هو عقلك؟ وماذا عن مقترَح فتجنشتين بأن الحدود المستخدَمة في عَزْو حالاتٍ عقليةٍ لا تُستخدَم لكي تسمِّي أشياء من صنفٍ محدَّدٍ ما؟ إن كلتا هاتين الفكرتين مستقلةٌ عن المشروع التحليلي للسلوكي، وكلتاهما باقية في توصيفات العقل المضادة للسلوكية عن وعي ودراية. هكذا قد يَسَع المرءَ أن يفترض أن امتلاك عقل ما هو إلا امتلاكُ نوعٍ معين من التنظيم، تنظيم ينجم عنه ما يجب أن نسميه سلوكًا ذكيًّا. وقد يَسع المرءَ أن يتخيل أن امتلاك حالةٍ ذهنيةٍ معينةٍ ما هو إلا أن تكون في حالةٍ ما أو أخرى تسهم بطريقة مميزة في عمل هذا الجهاز المنظَّم.
يمكننا أن نميز بين طبيعة الشيء الكيفية الداخلية وبين استعداداته أو قواه العِلِّية. فَكُرةُ البلياردو لديها القوة على التدحرج عبر الطاولة، والقوة على أن تكسر لوحًا زجاجيًّا، والقوة على أن تعكس الضوءَ بطريقةٍ معينة. ولكنَّ لدى الكرة أيضًا طبيعةً كيفيةً معينة؛ شكلًا معينًا، حجمًا معينًا، درجة حرارة معينة. والعلاقة بين قُوَى الشيء أو استعداداته وبين خصائصه الكيفية هي أمرٌ دقيقٌ كما سوف نرى لاحقًا. وبحسبنا الآن أن ندرك أن من الممكن فيما يبدو التمييز بين الجوانب الكيفية للشيء وميوله أو قواه العِلِّية. ومرة أخرى تَعتبِر السلوكيةُ الطبيعةَ الكيفيةَ الداخليةَ للحالات العقلية غير ذات صلة.
لقد قلتُ إن إنكار هذا قد يبدو غير مقبول، إلا أن السلوكيين ينكرونه بالفعل. وكما سوف نرى، فإن كثيرًا من الفلاسفة، الفلاسفة الرافضين للسلوكية، ينكرونه أيضًا. يُحاجُّ هؤلاء الفلاسفةُ بأن الحالات العقلية تعود هويتُها لا إلى طبيعتها الكيفية الداخلية (إن صَحَّ حقًّا أن لديها مثل هذه الطبيعة أصلًا)، بل تعود حصريًّا إلى قواها العِلِّية أو، كما أُفَضِّل أن أسميه، استعداداتها. ولن يَتَسَنَّى لنا تقييمُ مثل هذه الدعاوي إلا بعد أن يستوِي لنا فهمٌ للمسائل الميتافيزيقية التي تتبطنها. ولكن قبل أن نُكِبَّ على هذا المشروع، دعونا ننظر باختصار إلى السلوكية السيكولوجية.
السلوكية السيكولوجية
السلوكية الفلسفية هي دعوى عن معنى الحدود العقلية، وجوهريًّا، حول طبيعة المفاهيم العقلية. ويَعتبر أنصارُها أن الأسئلة الفلسفية حول طبيعة العقل يمكن ردها إلى أسئلة حول طابع هذه المفاهيم. وهم يفكرون هكذا: إذا أردنا أن نعرف ماذا تكونه العقول فيجب علينا أن نصرِّح بما تعنيه كلمة «عقل» ومُشابِهاتها. ويذهبون إلى أن هذا يعني التصريح بكيف تُستعمَل كلمةُ «عقل» ومُشابِهاتُها في الحديث اليومي. فالعقول هي أيُّما شيء ينطبق على كلمة «عقل».
مثلُ هذا التصور يفرق بدقة بين الفلسفة وعلم النفس. فمهمةُ الفلاسفة توضيح دقائق تصور العقل المَذخور في اللغة العادية. أما السيكولوجيون وغيرهم من العلماء التجريبيين فيدرسون طبيعة العالَم. إن لغتنا تُقَطِّع العالمَ بطريقةٍ معينة. وليس بِوُسعِنا أن نُؤَوِّل الدعاوي العلمية إلا بعد أن نقارن المفاهيمَ المستخدمة في هذه الدعاوي بالمفاهيم المُرَمَّزة في اللغة العادية. عندما يتحدث السيكولوجيون عن «اعتقاد» أو «انفعال» أو «صورة ذهنية»، فهل يَعنون ما تعنيه اعتياديًّا كلمة «اعتقاد» و«انفعال» و«صورة ذهنية»؟ لكي نتبيَّن ذلك، فإن علينا أن نرى كيف تعمل هذه التعبيرات في النظريات السيكولوجية، ونقارن ذلك باستعمالها في اللغة اليومية.
وبوسعنا أن نعبِّر عن ذلك بقولنا إنه وفقًا للتصور السلوكي، فالعقول والخبرات الواعية وما إليها لا وجود لها، والحديث عن مثل هذه الأشياء إنما يعكس فحسب ماضيًا خرافيًّا كانت فيه الخصائصُ المشاهَدة للأشياء تُفَسَّر بالإحالة إلى أشباحٍ وأرواح اعتُبِرَت قاطنةً فيها، وإن إنكار الأشباح والأرواح — والحالات العقلية — لا يعني إنكار أن الأشياء والمخلوقات الذكية لها سماتٌ معقدة قابلة للملاحظة، ولا أن هذه قابلة للتفسير العلمي الصارم. وبالضبط مثلما نفضنا أيدينا من تفسيرات السلوك المعتوه التي تلجأ إلى التلبس بالأرواح الشريرة، كذلك ينبغي أن ننفض أيدينا من التفسيرات التي تلجأ إلى الوقائع الداخلية الخصوصية. هذا ما شَرَعَ السلوكيون في فعله.
إن الحديثَ هنا عن «اكتشاف» الفأر لِصِلةٍ بين الصوت والقضيب الذي في القفص، ونَيل كُرَيَّة طعام، هو بالطبع حديثٌ مجازي صرف؛ إذ إنه يُوحِي بعمليةٍ داخلية من الصنف الذي يستهجنه السلوكيون. فإذا ما التزمنا بالوقائع السلوكية الخالصة، نجد أن الفأر يضغط على القضيب عند حدوث صوتٍ معين ويتلَقَّى كُرَيَّةَ طعام. وفيما بعد يصبح ضغط الفأر على القضيب مرتبطًا بحدوث وقعات الصوت. وبتعبيرٍ أدق، فإن احتمال أن الفأر سيضغط على القضيب عند حدوث الصوت يزداد زيادةً مشهودة. وفي النهاية يضغط الفأر على القضيب أثناء، وفقط أثناء، فترةٍ تَعقُبُ حدوثَ الصوت مباشرةً. هذه، في حقيقة الأمر، هي غاية ما يعنيه «اكتشاف» الفأر لِلصِّلة.
كان لهذه الهجمة على الثيمات السلوكية المركزية تأثيرٌ مدمِّر على البرنامج السلوكي. فأصبح كثيرٌ من السيكولوجيين غيرَ قانعين بالمذاهب السلوكية المتصلبة، وأخذوا يمضون بالفعل في اتجاهات جديدة. لقد قَرَّرَتْ مراجعةُ تشومسكي — بالاشتراك مع اهتمام متنامٍ بالنشاطات المحكومة بقواعد بصفة عامة — قَرَّرَت مصيرَ السلوكية بشكلٍ نهائي. ولم تَعُد لها أبدًا تلك السطوةُ التي كانت لها في يومٍ من الأيام. وأخذ يتضح يومًا بعد يوم أن السلوكية تأسست على وجهةِ نظر عن المشروعية العلمية، وجهةِ نظر متجذرة في مذاهب فلسفية غير مستحبة ترتد في الزمن إلى باركلي على أقل تقدير. لقد اشترط السلوكيون على كل تعبير مقدَّر علميًّا أن يكون بالإمكان ترجمته في حدود من الملاحظات التي من شأنها أن تؤيد تطبيقَه، وهم بذلك قد صَدُّوا ضروبًا من التفسير ثبتَ أنها مثمرة في علومٍ أخرى. مَيَّزَت هذه الضروبُ من التفسير، كما لم يميز السلوكيون في الأغلب، بين الكيانات المفترضة من أجل أن تفسر الملامحَ الملاحَظة للعالم، وبين الملاحظات التي تشكِّل الدليل على هذه الكيانات.
لكن الأشياء لِسوء الحظ ليست بهذه البساطة. تأملْ ضغطَ الفأر على القضيب. وافترِضْ أن الفأر يضغط على القضيب مرةً بمخلبه الأيمن، ثم عاد بعد ذلك وضغط بمخلبه الأيسر. نحن نَعُد هذين المثالين من نفس السلوك — «سلوك ضغط القضيب» — وإن كانت الحركتان الجسميتان ليستا نفس الشيء. ولكننا الآن قد ابتعدنا عن نموذج المنعكَس الأساسي. إن من السهل نسبيًّا أن تتصور آليةً بسيطةً تُعَلِّل لاهتزاز رجلك عندما تُقرَع ركبتُك. ولكن الآلية المسئولة عن ضغط الفأر على القضيب عند حدوث صوتٍ معين ليست كهذه، فهذه الآلية تربط حدوث صوتٍ معين بتنويعةٍ من ضروبٍ شتى من الحركة الجسمية. ولا يجمع بين هذه الحركات الجسمية إلا أن كلًّا منها يؤدي إلى ضغط القضيب. والآن يبدو كأن أي ميكانزم وراء سلوك ضغط الفأر للقضيب يجب أن يحدَّد بالإحالة إلى ما نَصِفُه نحن غيرَ السلوكيين بِخَجَلٍ على أنه رغباتُ الفأر أو أغراضه. وهذه الأشياء لسوء الحظ حالاتٌ عقليةٌ غير قابلة للملاحظة، ومن ثم فهي محظورة رسميًّا عند السلوكي.
وحين نأتي إلى السلوك البشري المعقد فالموقف بَعدُ أسوأ. تأملْ ردَّكَ على الباب عندما يرنُّ جرسُ الباب. قد نُسَمِّي هذا سلوكَ الرد على الباب. ولكن ليس ثمة بالضرورة حركات جسمية مشتركة لهذا السلوك. فقد تمشي أحيانًا بهدوء إلى الباب وتفتحه. وقد تهرول، مرات أخرى، إلى الباب، أو تتسحب على أطراف أصابع قدميك، أو قد تكتفي إذا كنتَ مشغولًا بأن تصيح: «ادخلْ». مرة أخرى، من الصعب تَخَيُّلُ أن الميكانزم الذي يربط رنين جرس الباب بسلوك ردك-على-الباب هو ميكانزم منعكَسٍ بسيط. إنه يبدو، للعالم كله، مثل حالة عقلية معقدة نسبيًّا.
افترِض أننا لا يمكننا أن نخلص إلى توصيفٍ مستقلٍ وغير دائري ﻟ «مثير فتح-الباب»، ذلك الذي لا يستحضر الشيءَ نفسَه الذي لأجله افتُرِضَ مثيرًا، أعني «سلوك فتح-الباب». عندئذٍ يبدو كأن اللجوء إلى مثل هذه المثيرات في تفسيرات السلوك سيغدو تافهًا: استجابة يُحدِثُها مثير. أيُّ مثير؟ المثير المحدِث للاستجابة. ليس يعني ذلك أن توكيد السلوكي بأن كل سلوك هو قابل للتفسير بالإحالة إلى علاقات المثير-الاستجابة، وأن التعلم يمكن تفسيرُه بالإحالة فحسب إلى التدعيمات العارضة لِهذه العلاقات، هو بذلك توكيدٌ مُدان. إلا أنه يُوحِي بقوةٍ أن الأفكار المركزية للمثير والاستجابة لا تكتسب اعتمادًا إلا باتخاذ إحداها طلاءَ الأخرى. وإذا كان ذلك كذلك، فالنظرية لا تقول شيئًا.
ربما يمكن التغلب على هذا القلق بإزاء خواء التفسير السلوكي. ولكن حتى لو أمكن ذلك، فثمة ما يدعو إلى الشك بأن النموذج السلوكي مُضَلَّلٌ في صميمه. تأملْ لحظةً في استجابتِكَ لِمُثيرٍ معطًى، وهو ظهورُ دب في طريقك على سبيل المثال. إنه لَيبدو، بصريح العبارة، أن الدب ليس هو ما يُحدِث استجابتَك (أيًّا ما تكون هذه الاستجابة)، بل إدراكُك أو ملاحظتُك، بطريقةٍ ما، للدب. فإذا ظهر الدب في طريقك وبقيتَ غافلًا عنه فلن يثيرك الدب. وبالمثل تمامًا، فأنت قد تعمد إلى استجابةِ تَجَنُّب الدب حتى لو كان الدب غيرَ موجود. فقد تنفعل بشدة إذا ظننتَ أن هناك دبًّا في طريقك، أيًّا ما كان مبرِّرُ هذا الظن.
لا شيء من هذه التأملات يكيل حجةً قاضيةً ضد السلوكية. فقد حاول السلوكيون أن يردوا على شبهاتٍ من الصنف الذي وَجَّهناه. وأنا لن أقتفي تلك الردودَ هنا. ولننطلق بدلًا من ذلك إلى مجالات قد تكون أرحب وأخصب.
نظرية الهُوِية
دعونا مؤقتًا ننفي أفكار المذهب السلوكي-الفلسفي والسيكولوجي، ونعود إلى نقطة بدايتنا الديكارتية. ولنَزعُمْ أن الحالات العقلية هي حالات جوهرٍ مفرد، العقل، وأن العقل متمايز عن الجسم. إذا كانت الحالات العقلية ليست حالات الجسم، فهي ليست أيضًا حالات جزءٍ ما من الجسم، الدماغ مثلًا.
إلا أننا كلما عرفنا أكثر عن الجهاز العصبي اكتشفنا علاقاتٍ واضحةً بين الوقائع العقلية والمجريات النيورولوجية في الدماغ (وأنا أتبع العُرفَ وأتحدث عن مجريات في الدماغ، ولكن هذا يجب أن يُفهَم على أنه اختزال لمجريات في الجهاز العصبي المركزي. وبوسعنا، بديلًا عن ذلك، أن نتحدث عن الدماغ على أنه موزَّعٌ خلال الجسم). افترِضْ أن هذه الارتباطات كانت تامة، فكل حالة أو عملية عقلية يمكن مضاهاتها بحالةٍ ما أو عملية نيورولوجية. ماذا علينا أن نصنع بهذا؟ أحد الاحتمالات هو ذلك الذي يؤيده الديكارتيون؛ أن الارتباطات قائمة على تفاعل (تأثير متبادل) بين العقول والأدمغة. من هذه الناحية، فهي تشبه الارتباطات بين هبوط البارومترات وبين المطر. واحتمال آخر هو مذهب الظاهرة الثانوية؛ أن الارتباطات هي نتيجة أن المجريات العقلية منتَجةٌ كنواتج ثانوية مصاحبة للنشاط النيورولوجي. واحتمال ثالث، هو أن كل حدث عقلي أو مادي هو مُرادٌ من الله بطريقةٍ ما بحيث تجري المجريات في أنماطٍ منتظمة.
يبدو إذن أن نظرية الهوية — شريطة أنها هي والثنائية كلتيهما تفسران الظواهر — تفوز «غيابيًّا». ولكن هل نظرية الهوية حقًّا تفسر الظواهر؟
جاذبية الصورة الديكارتية
لنبدأ بسؤال، هل من الممكن أن تكون الحالات العقلية هي حالات الجسم، أو، بتحديدٍ أكبر، حالات الدماغ أو الجهاز العصبي المركزي؟ إن السبب الرئيسي لافتراض أن الحالات العقلية لا يمكن أن تكون حالات الدماغ هو أن الحالات العقلية والحالات المادية تبدو مختلفة في النوع اختلافًا جذريًّا.
يفسر الديكارتي هذا اللاتماثل الإبستمولوجي بقوله إن معرفة الغير لحالات المرء الذهنية تعتمد على الملاحظة، لا ملاحظة الحالات نفسها، بل ملاحظة تأثيراتها على الأجسام المادية. الحق أن من المضلِّل أن تتصور أنك تلاحظ أفكارك ومشاعرك بالمعنى الحرفي للملاحظة. خُذ الأفكار مثلًا، إن كل فكرة تحمل معها إمكانيةً للدراية الذاتية (وهي نقطة أكدها كانت منذ زمنٍ طويل). فالتفكير ليس شيئًا يحدث لك (مثل دقات قلبك، التي أنت مجرد متفرج تجاهها)، التفكير شيءٌ تفعله. وأنت، ككل شيء تفعله بوعي، لا يلزمك أن تلاحظ نفسَك في الفعل لكي تميز ما أنت بِصَدَدِه (ولنضرِبْ صَفحًا الآن عن حالات العقل غير الواعية). عندما تضمر فكرةَ أنها تمطر وتميز بوعيٍ أن هذا ما تفكر فيه، فإن تمييزك الواعي ليس قائمًا على فعلٍ ثانٍ من الملاحظة الداخلية للفكرة الأصلية، وإنما هذه الفكرة تُفَكَّر بوعي ذاتي. إذا كانت كل فكرة هي «بالقوة» فكرةٌ واعية ذاتيًّا، إذن من الممكن لهذه الفكرة الواعية ذاتيًّا أن تُضمَر بوعيٍ ذاتي، بمعنى أن بمُكنتِك أن تكون على دراية بأنك تفكر أنك تفكر أنها تمطر. جَرِّب ذلك، ولاحظ أن هذه الفكرة مستقلة بذاتها تمامًا. إنها فكرةٌ مفردةٌ لا سلسلةٌ من الأفكار المتمايزة.
إن كل وصفٍ للعقل لا بد، فيما يبدو، أن يستوعب هذا الصنف من الوعي الذاتي. والنظرة الديكارتية تفعل ذلك بأن تجعل هذا الوعي الذاتي متأصلًا في طبيعة العقليات، فَكَونُ الحالاتِ العقلية تتحلى بهذه القدرة هو مجرد جانب من الجوانب التي تختلف فيها العقول عن الأجسام المادية. وعلى كل مَن يأمل في أن يستوعب العقول في الأجسام (أو الأدمغة على الأخص) أن يكون مستعدًّا للرد على الديكارتي بهذا الصدد.
والعقبةُ الثانيةُ التي تواجه كل من يريد أن يبدل الصورة الديكارتية هي عقبة أنطولوجية؛ إن الأحداث والحالات والخواص العقلية لتبدو مختلفةً تمامًا في النوع عن الأحداث والحالات والخواص المادية. والفرق لافتٌ عندما نتأمل كيفيات حالاتنا الخاصة العقلية الواعية، ونقارنها بكيفيات الأجسام المادية، بما فيها كيفيات الأدمغة. إن خبرتك البصرية بطماطمة ناضجة في ضوء الشمس الساطع تبدو مختلفة كيفيًّا اختلافًا شديدًا عن المجريات التي في جهازك العصبي. أما المجريات النيورولوجية، فتمكن ملاحظتها ووصفها بدقةٍ كبيرة، ولكن لاحظ كما سوف نفعل، يبدو أننا لا نجد للخبرة الواعية شبيهًا على الإطلاق.
هذا الخط من الاستدلال لا يُجدِي قضيةَ أعداء الديكارتية كثيرَ جدوَى. فإذا كانت طبائع الخبرات الواعية بالألوان ليست طبائع الأجسام المادية، فطبائع ماذا تُراها تكون؟ بِوُسعِ الفيزيائي أن ينفيها إلى العقل، ولكن هذا يعني أن العقول ذاتها لا تُمْكِن موضَعتُها في العالم المادي. وبتعميمٍ أكبر: إذا كنا نميز بين المظهر والواقع المادي بأن ننسب المظاهر إلى العقل، فإننا فيما يبدو نضع العقول خارج النطاق المادي. وإذ نفترض أن العلم مكرَّس لِبَحثِ العالَم المادي، فإننا نكون قد عدنا إلى تصورٍ ديكارتي: العقول متمايزة عن الأجسام المادية.
برغم هذه المصاعب، فإن كثيرًا من الفلاسفة (وغير الفلاسفة) قد راقتهم وجهةُ النظر القائلة بأن العقول، في حقيقة الأمر، لا تعدو أن تكون الأجسام المادية: عندما ينتظم جسمٌ مادي بطريقةٍ معينة، بالطريقة التي ينتظم بها الدماغُ البشري مثلًا، فإن النتيجة عقل: كيانٌ ذكيٌّ شاعرٌ واعٍ. الخصائصُ العقلية هي في النهاية، وبرغم المظاهر، خصائصُ مادية.
الخواص والمحمولات
لقد تحدثتُ سابقًا عن الطبائع والحالات العقلية والمادية. ويتحدث أصحابُ نظرية الهوية عن تَماهِي العمليات العقلية مع عمليات الدماغ. وأنا أصوغ الآن نظرية الهوية كنظريةٍ عن الخواص. هذه التذبذبات الاصطلاحية تستحق التعليق.
وأنتَ قد تَصدِفُ عن ثنائية جوهرٍ من هذا النوع، وتشارك الثنائيَّ رغم ذلك في إصرارك على تمييزٍ بين الخواص العقلية والخواص المادية. وفقًا لهذه الوجهة من الرأي، هناك جوهرٌ واحد، الجسم، وهذا الجوهر يمتلك الخواص العقلية والخواص المادية معًا. إلا أن هذا غيرُ ما يَقِرُ في عقل أصحاب نظرية الهوية، إنما يذهب هؤلاء إلى أن كل خاصة عقلية هي في هويةٍ مع (متماهية مع) خاصةٍ ماديةٍ ما. (سنبحث حالًا فكرةَ الهوية بدقة أكبر.)
افترِضْ أن شعورك بالدُّوار هو عبارة عن كونك في حالة ذهنية معينة. إن كونك في هذه الحالة هو امتلاكك خاصةً عقلية معينة (معقدة ربما). افترِض الآن أن السؤال يَبرُز: هل شعورُك بالدوار — أي كونك في هذه الحالة العقلية — ما هو إلا كونك في حالة دماغية معينة (ولا أكثر من ذلك)؟ إذا كنتَ متفقًا مع صاحب نظرية الهوية في أن هذا ما يكونه شعورك بالدوار — أي كون دماغك في حالة معينة — فسوف تَقبَل إذن المُماهاةَ بين الخاصة العقلية لِكونِك في دُوار، وبين خاصةٍ نيورولوجية معينة.
والمَغزَى هو: ما دمنا نضع باعتبارنا أن هوية الحالة والحدث والعملية تتطلب هوية الخاصة، فإن بوسعنا أن نتحدث، دون اكتراث، عن نظرية الهوية على أنها تُوَحِّد (تُماهِي) بين الحالات والعمليات والأحداث العقلية وبين الحالات والعمليات والأحداث المادية.
من الأسباب التي تستدعي الانتباه إلى التمييز بين المحمولات والخواص أننا، كما سنرى لاحقًا، يجب أن نفعل ذلك كيما نفهم مَبلغَ الدعاوي حول هوية الخواص. وسببٌ آخر، هو أن كثيرًا من الفلاسفة يفترضون بدون حُجة أن كل محمول ما دام يمكن استخدامُه استخدامًا ذا معنًى فهو يُسَمِّي خاصةً. مثلُ هذا الرأي غيرُ موفَّق، فما تكونه الخواصُّ يُسأل عنه العلمُ بالأساس. أما المحمولات فيمكن تشييدُها ارتجالًا بلا قيد أو حد. تأمَّل المحمولَ «يكون أُذُنًا يُسرَى»، أو «مصنوعٌ من النحاس». هذا المحمول يَسرِي على أشياء كثيرة. فهو يسرِي على أي شيء يكون أذنًا يسرى (لذا فهو يَسرِي على أذنك اليسرى)، وأي شيء مصنوع من النحاس (لذا فهو يَسرِي على البِنس الذي على تسريحتك). كما أن المحمول يَسرِي على الأشياء بفضل الخواص التي تمتلكها، ولكن لا يترتب على هذا أن المحمول يُسمِّي خاصةً.
هذه مياهٌ عميقةٌ، وسوف نعود إليها في فصولٍ قادمة. وبِحَسْبِنا في نفس الوقت أن نضع باعتبارنا أن الخواص والمحمولات، حتى تلك المحمولات التي تُسمِّي خواص، تنتمي إلى أنظمةٍ مختلفة؛ المحمولات مظاهر لغوية للأشياء، والخواص مظاهر غير لغوية لها.
مفهوم الهوية
يذهب أصحاب نظرية الهوية إلى أن الخواص العقلية في هوية مع الخواص المادية أو الفيزيقية (الجسمية). وقد آن لنا أن نقول ماذا يعني هذا بالضبط. ولننظرْ أولًا كيف تنطبق الهويةُ على الأشياء.
إن نظرية الهوية تَمُد فكرةَ الهوية إلى الخواص. فالخواص، شأنها شأن الأشياء، قد تشملها دعاوي الهوية. «أحمر» هو لون الطماطم الناضج. ها هي خاصةٌ مفردة، لون، تُسَمَّى بمحمولين متمايزين: «يكون أحمر»، «يكون لون الطماطم الناضج». ومثلما يجوز للمرء أن يُلِمَّ بإرز روك وألُرو دون أن يعرف أن إرز روك وألُرو متماهيان، كذلك يجوز أن يفشل المرءُ في إدراك أن محمولين اثنين يُسَمِّيان في الحقيقة نفس الخاصة. فأنتَ قد تَعلم أن لونًا معينًا هو أحمر دون أن تعلم أنه لون الطماطم الناضجة (إذا كنتَ مثلًا تجهل الطماطم).
لا تزعمُ نظريةُ الهوية أنها تقدم دعاوى هويةٍ معينة. فتأسيس هذه الدعاوى إنما هو مهمة الباحثين في الدماغ الذين يكتشفون ارتباطات بين المجريات في الدماغ وإفادات الأشخاص عن خبراتهم، بل تقدم نظريةُ الهوية تأويلًا لهذه النتائج، حين نُدلِي بخبراتنا الواعية فإننا نُدلِي بمجرياتٍ في دماغنا. وسوف تتكشف التفاصيلُ كلما تقدمَت علومُ الأعصاب.
سؤال ٦٤$
تَخَيَّلْ أنك في يومٍ مشرقٍ وأنت تقف في ميدان ترافالجر تشاهد باصًا أحمر ذا طابقين يمر عليك مُدَمدِمًا. إن لديك خبرةً بصرية بباصٍ أحمر، أنت تسمعه، ومحتملٌ جدًّا أنك تشمه، ومن خلال أخمصَي قدميك تحس مرورَه. إن كيفياتِ خبراتِك الواعية ناطقةٌ، ويمكن تَذَكُّرُها. ولكن هل يمكن الآن أن يفكر أيُّ أحدٍ جِدِّيًّا أننا لو فتحنا جمجمتَكَ ولاحظنا تشغيلات دماغك وأنت تمر بهذه الخبرة فسنواجِه هذه الكيفيات؟ وإذا كان هذا لا يُعقَل، فكيف يمكن أن نفترض أن خبرتَك هي مجردُ عمليةٍ في دماغك؟
ثمة نقطةٌ تمهيدية يجدر ذكرُها. افترِضْ لحظةً أن نظريةَ الهوية صائبةٌ؛ حالات العقل هي حالات الدماغ، ومرورك بخبرةٍ ما — رؤية وسماع وحس وشم باصٍ عابر — يُفترَض أنها عبارة عن مرور دماغك بسلسلة معقدة من العمليات. تخيل الآن أن أحد العلماء يلاحظ دماغَك وهو يمر بهذه السلسلة من العمليات. إن خبرات العالِم الواعية بدماغك هي نفسها، فيما يُفترَض، لا تعدو أن تكون سلسلةً معقدةً من العمليات في دماغ العالِم. (تذكر أننا نفترض جدلًا أن نظرية الهوية صحيحة). ولكن هل هو واضحٌ حقًّا أن كيفيات خبرتك تختلف عن الكيفيات التي يلاحظها العلماءُ عندما يفحصون الأدمغة؟ (لا تخلطْ بين كيفيات خبرة العالِم بدماغِك وكيفيات خبرتك بالباص العابر أو، ما يؤدي نفس الشيء إذا صَحَّت نظريةُ الهوية، كيفيات دماغك.)
إن الكيفيات التي نقارنها في هذه الحالة هي كيفيات العمليات في دماغ العالِم، والتي تتزامن مع ملاحظته لدماغك. ما نقارنه، بعد كل شيء، هو، بصريح العبارة، كيف تبدو خبرةٌ واعيةٌ ما للملاحِظ، وكيف هي عند مَن يكابدها. يعني هذا أننا يجب أن نقارن كيفيات الخبرات الواعية للعالِم الذي يلاحظ دماغَك (التي، بحكم الفرضية، هي نفسها مجريات نيورولوجية) بكيفيات خبراتِكَ الواعية (هي أيضًا، فيما نفترض، أحداث نيورولوجية). ورغم أن هاتين المجموعتين من الكيفيات ستكونان مختلفتين — إذ إن ملاحظةَ دماغٍ هي شيءٌ مختلف كيفيًّا عن ملاحظة باصٍ عابر — فليس ثمة مبرِّر للاعتقاد بأنهما لا بد أن تكونا مختلفتين في النوع اختلافًا دراميًّا.
ما أردتُ من كل هذا إلا أن أؤكد على نقطة بسيطة؛ أن مكابدةَ خبرةٍ ما هي شيء، وملاحظةَ مكابدةِ خبرة (خبرةٍ محدَّدة) هي، مرةً أخرى، شيءٌ آخر، فكيفيات هاتين ستكون مختلفةً يقينًا. النظر إلى دماغٍ هو، بعد كل شيء، لا يشبه من قريب أو بعيد مشاهدة باص عابر. غير أن الكيفيات لا يتعين أن تكون مختلفة في النوع اختلافًا جذريًّا، مختلفة جذريًّا بالطريقة التي يطنُّ بها الثنائيون.
قد يبدو هذا كأنه يغفل النقطةَ الخاصة بهمنا الأصلي. كان مفادُ تلك النقطة أننا عندما نتأمل ماذا تشبه أن تكون مشاهدةُ باصٍ عابر، عندما نتأمل في كيفيات هذه الخبرة، فإن هذه الكيفيات لا تبدو مرشَّحةً لكيفياتٍ ممكنةٍ للأدمغة. نحن نعرف ماذا تشبه أن تكون خبراتُنا الواعية، ونعرف ماذا تشبه الأدمغة، ومن الواضح أن الخبرات الواعية ليست كالمجريات النيورولوجية. ولكن حتى لو صَحَّ ذلك، فإن نظرية الهوية لا يمكن أن تغادر الساحة.
«كما أن علينا أن نعترف أن الإدراك الحسي وذلك الذي يعتمد عليه لا يمكن أن يُفَسَّر ميكانيكيًّا، أي بصورٍ وحركات. افترضْ أن هناك آلة مُشَيَّدة بحيث تُنتِج تفكيرًا وشعورًا وإدراكًا حسيًّا، فإن بوسعنا أن نتخيلها وقد زِيدَت في الحجم، بينما هي محتفظةٌ بنفس النِّسَب، بحيث يمكن للمرء أن يَدخُلَها مثلما يَدخل طاحونة. عند ولوجنا بالداخل لن نرى إلا الأجزاء يرتطم أحدها بالآخر، ولن نرى ثَمَّ أيَّ شيء يمكن أن يفسِّر إدراكًا حسيًّا.»
(يمضي ليبنتز لِيُحاجَّ بأن «تفسير الإدراك يجب أن يُلتمَس في جوهرٍ بسيطٍ، وليس في مركَّبٍ أو في آلة».)
هذا الخط من الاستدلال مغلوط. فعندما تكابد خبرةً واعيةً ما — عندما تلاحظ باصًا عابرًا مثلًا — فإن خبرتك تكون مشبَّعةً كيفيًّا، ولكن ما هي كيفياتها بالضبط؟ أيًّا ما كانت تلك الكيفيات، فإنه ينبغي عدم الخلط بينها وبين كيفيات الشيء الملاحَظ (الباص في هذه الحالة). إن خبرتك للباص، أي كيفيات خبرتك للباص، ينبغي عدم الخلط بينها وبين كيفيات الباص.
إن نظرية الهوية تُماهِي (تُوَحِّد) بين خبرتك بالباص وواقعةٍ ما تَجرِي في دماغِك. ونحن في الأغلب نصف خبراتنا بالإشارة إلى الأشياء التي تُسببها في العادة. إن بإمكانك أن تُوَصِّل لي خبرةً أَلَمَّت بك في ميدان ترافالجر، بأن تنبئني أنها كانت خبرةً بباصٍ أحمر عابر ذي طابقين. وأنا لديَّ فكرةٌ لا بأس بها عما تشبه أن تكون ملاحظةُ باصاتٍ حمراء عابرة ذات طابقين، ولذا أكتسب حِسًّا بما خبرتَه أنت. ولكن، مرةً ثانية، فإن كيفيات الخبرة يجب عدم الخلط بينها وبين كيفيات الأشياء التي تُنتِجها. إن خبرةً بشيءٍ ما أحمر وضخم وذي رائحة ليست هي ذاتها حمراء وضخمة وذات رائحة.
ولقد أشرتُ إلى أن التمييز بين كيفيات الخبرات وكيفيات الأشياء المخبورة هو تمييزٌ محايدٌ نظريًّا، فالتمييز واجب على الثنائيين وعلى الماديين أيضًا. وجدير بالإشارة أنه ما دمنا نحفظ التمييز برسوخ في بالنا، يمكننا أن نبدأ في فهم نطاق من الظواهر العقلية التي قد تبدو ملغزة. هكذا الأمر، أيًّا ما يكون ما سنخلص إليه في النهاية عن وضع الكيفيات العقلية.
تأمل الأحلام، والصور الذهنية، والهلاوس، وما شابه. لقد أراد بعض المنظِّرين أن يُهَوِّن من شأن هذه الظواهر، أو يردها إلى عمليات معرفية محضة. المشكلة أنه لا مُتَّسَع في الدماغ للصور أو الهلاوس أو الأحلام، والتي تبدو كيفياتها مختلفة اختلافًا شديدًا عن الكيفيات القابلة للكشف في الأدمغة. افترض أنك تهلوس (ترى هلوسةً) طائرَ بطريقٍ ورديَّ اللون (أو تحلم أو تكوِّن صورةً ذهنية لطائرِ بطريقٍ وردي)، لا شيءَ في دماغك ورديٌّ أو بطريقيُّ الشكل. الحق أنه من الممكن تمامًا ألا يكون هناك أي شيء في أي مكان بقربك (أو، في هذه الحالة، في أي مكان على الإطلاق) هو وردي وبطريقي الشكل.
ولكن إذا كان لهذا أن يُوقِع الشكَّ في الهلوسة أو الحلم أو الخيال، فإنما يعتمد ذلك على خلطنا بين كيفيات الأشياء المهلوَسة (أو الحلمية أو المتخيَّلة) وبين كيفيات المهلوِس (الحالم، المتخيِّل). إن الهلوسة البصرية ببطريق وردي تشبه امتلاك خبرة بصرية ببطريق وردي، ولا تشبه بطريقًا ورديًّا. ومثلما أن الخبرة ليست وردية وبطريقية الشكل، كذلك الهلوسة ليست وردية أو بطريقية الشكل. ولا يلزمنا أيضًا أن نفترض أن الهلوسة أو التخيل أو الحلم ببطريقٍ وردي هو مسألة ملاحظة داخلية لمنظرٍ خيالي، يشبه الصورة، لِبطريقٍ وردي. إن فهم هذه النقاط يُمَكِّننا أن نسترخي قليلًا ونفكر بوضوحٍ أكبرَ حول طبيعة الهلوسة والخيال الذهني والحلم. (سيكون لديَّ المزيدُ لأقولَه عن أهمية الخيال وكيفيات الخبرات الواعية في الفصل السادس.)
مَهامُّ إبستمولوجية ناقصة
هذه مسائلُ صعبة. وإذا وَجَبَ أن يكون لدينا بصيصُ أملٍ في توضيحها داخل الإطار المادي الذي تقدمه نظريةُ الهوية، فلا بد أن نفسر بطريقةٍ ما ذلك اللاتماثلَ دون اللجوء إلى فكرة أن البنودَ والمجريات العقلية مخبوءةٌ في حجرة داخلية ولا يمكن أن يراها إلا صاحبُها. هذا هو النموذج الذي أجاد حصرَه مثالُ فتجنشتين عن الجعران في العلبة. ولكن كيف يمكن حصرُ اللاتماثل على نحوٍ آخر؟
تأملْ، أولًا، ملاحظةً سِيقَت آنفًا بخصوص الفكر الواعي. إن التفكير هو شيءٌ ما نقوم به. ومثل أي شيء نفعله، فنحن في فِعلِنا إياه نكون في وضعٍ يسمح لنا أن ندرك أننا بصدد فِعلِه. ونحن، على ذِكر ذلك، قلما نعبأ بالتأمل في حقيقة أننا نفعل ما نفعله، غير أننا عندما نتأمل حقًّا فنحن لا نعمل ذلك كملاحِظين (ملاحظين في موقع جيد إبستمولوجيًّا) لما نحن نفعله. إن تمييزك لما أنت بصدده ينجم من حقيقة أنه أنت الذي بهذا الصدد.
تخيلْ أنك ترسم رسمًا بيانيًّا على السبورة لإيضاح محاضرة في اقتصاد بريطانيا ما قبل الرومان، وأنا ضمن المستمعين. قارن فهمَك للرسم بفهمي له. أنا أشاهد ما رسمتَه وأحاول أن أُؤَوِّلَه في ضوء محاضرتك. وأنت، في المقابل، تفهم دلالته مباشرةً. أنت قادرٌ على أن تفعل هذا لا لأن لديك نظرةً أفضل وأوثق للرسم، بل لأنه رسمُك، أنت رسمتَه بهذه الدلالة. أنت تحمل علاقةً مماثلة بأفكارك الخاصة. أنت تفهم دلالة تلك الأفكار لا لأن رؤيتَك إياها جيدةٌ بشكل خاص أو غيرُ معاقة، بل لأنك تفكر بها. تنطبق هذه النقطة لا على مجرد التفكير، بل على أي نوع من الفعل العمد. إن قدرتك على أن تنط الحبل تتضمن قدرتك على أن تميز أن هذا هو ما أنت بصدد فِعلِه.
ولأننا لسنا دائمًا نفعل ما شرعنا في فعله، فإن قدرتنا على أن نميز ما نفعله غير معصومة. فقد أَعُدُّ نفسي سائرًا غربًا، في حين أنني في الحقيقة سائرٌ شرقًا. وقد أحسبني أفكر في جدتي بينما في الحقيقة أنا لا أفكر في جدتي؛ ذلك أن الشخص الذي كنتُ أفترض دائمًا أنه جدتي هو شخصٌ دَعِيٌّ.
ماذا عن «مَنفذنا ذي الامتياز» إلى أحداثنا الحسية. من الواضح أن تمييزك أنك تعاني صداعًا هو تمييز مباشر وغير متوسَّط بشكل لا يرقى إليه منفذي أنا إلى صداعك على الإطلاق. هل علينا أن نفترض أن ضروبَ الصداع أشياء أو أحداث لا تمكن رؤيتُها إلا لمن يعانيها؟
ثمة نقطتان تستحقان الذكر؛ أولًا: في معاناتك خبرةً حسية واعية فأنت لا (١) تَخبُر الخبرةَ، و(٢) تلاحظ الخبرةَ، ربما بوثوقٍ خاص وبعضوٍ أو متفرِّسٍ إدراكي موجَّهٍ إلى الداخل. إن درايتك بالخبرة تتشكل، جزئيًّا على الأقل، من حيازتِك إياها. هذا هو ما يجعل الحديثَ عن «مَنفَذ» إلى خبرات المرء الحسية حديثًا مضلَّلًا. إن تمييزك أن بك صداعًا يتشكل، جزئيًّا، من حيازتك أو معاناتك للصداع. وبتعبيرٍ آخر: إن خبرتك الواعية بالصداع هي مسألة حيازتك صداعًا، فليس الأمر أن الصداع يحدث وأنت، إذ تلاحظه داخليًّا، تَخبُر حدوثَه.
ثانيًا، وترجيعًا لنقطةٍ سِيقَت آنفًا، يجب أن نفرِّق بين منظومةٍ إذ تمر بعمليةٍ ما أو تكون في حالةٍ ما، وبين ملاحظةِ منظومةٍ هي في عملية أو في حالة. إن ثلاجتي تُزيل الصقيعَ أوتوماتيكيًّا. فإزالةُ النظام للصقيع ذات مرة هي، على نحوٍ واضح، مختلفةٌ جدًّا عن ملاحظتي لإزالتها الصقيع. وبالمثل، معاناتك ألمًا هو شيء مختلف جدًّا عن ملاحظتي لمعاناتك الألم. والآن، إذا كانت «الملاحظة المباشرة لإحساسٍ» تساوي امتلاك هذا الإحساس، فليس ثمة لغز على الإطلاق في فكرة أنك أنت وحدك من يمكنه أن «يلاحظ مباشرةً» إحساساتك. وليس هذا أكثر إلغازًا من فكرة أن ثلاجتي فقط هي ما يمكن أن تزيل صقيعها.
مثل هذه الاعتبارات تشهد ضد الصورة الديكارتية، لا بتقديم دحض لتلك الصورة، بل بتقديم تصويرٍ بديل لما قد يكون متضمَّنًا في عملية الوعي الذاتي. وفقًا للنموذج الديكارتي، فإن الوعي الذاتي يشبه الوعيَ بأشياء وأحداث «خارجية»، وقد حُوِّلَ إلى الداخل. غير أننا، كما بَيَّنَ العَرضُ السابق بوضوح، لا يلزمنا أن نعتنق هذه الطريقةَ في النظر إلى المسألة. ويبدو أننا، بِغَضِّ النظر عن التصور الديكارتي، ينبغي ألا نقبلها.
ليس يعني ذلك أننا يجب أن ننبذَ الثنائيةَ ونقبل نظريةَ الهوية أو شكلًا ما آخَر من المادية، بل يعني حقًّا أن اعتبارًا يحبِّذ الثنائية، فيما يبدو، يحتاج إلى إعادة نظر. فقد يكون من الممكن استيعاب اللاتماثل الإبستمولوجي الذي نكتشفه عندما نتأمل الحالات العقلية، دون اللجوء إلى الثنائية. وسوف تكون لدينا مناسبة في الفصل السادس للعودة إلى هذا الموضوع.
مُجمَل
تقدِّم نظرية الهوية نفسَها كبديلٍ عن الثنائية، بديلٍ يضطلع بتفسير الظواهر التي تفسرها الثنائية ولكن بطريقة أكثر أناقة. ولقد لمستُ جانبًا من الجوانب التي تُضفِي وَجاهةً على نظرية الهوية. أحيانًا ما يُحاجُّ الثنائيون كما لو أن من الجلي الواضح أن خواص الحالات العقلية لا يمكن أن تكون هي خواص الأدمغة، أو خواص أي كيانٍ مادي في الحقيقة. وقد أومأتُ إلى أن قوة هذه الحجة تعتمد إلى حد كبير على دمجٍ ضمني لكيفيات الخبرات وكيفيات الأشياء المخبورة. والحق أن الأخيرة مختلفة تمامًا عن الكيفيات التي نَخبُرُها أثناء مشاهدة الأدمغة. ولكن هذا ليس بالشيء الذي ينبغي أن يُقلِق صاحب نظرية الهوية. فإذا ما ظَل الثنائيُّ مُصِرًّا على أن كيفيات الخبرات الواعية لا يمكن أن تمتلكها الأدمغة، فإن الكرة، إذن، تعود إلى ملعب الثنائي.
لستُ أَعنِي أن أترك انطباعًا بأن هذا هو نهاية المسألة. لقد بينتُ أنه ليس من الواضح أن كيفيات الخبرات لا يمكن أن تتماهى مع كيفيات الأجسام المادية المعتادة، ولكن ليس من الواضح أيضًا أنها يمكن أن تتماهى. وإنني لأناشدُ بالشك في أَيِّما شخصٍ يَدَّعِي أن أيًّا من الجوابين على هذا السؤال واضح.
ثمة نقطة أخرى مُقلِقة تركتُها دون مَساس تتعلق بوحدة الخبرة. فمن ناحية، فإن المخ منظومةٌ معقدة نحن آخذون في فهمها أخذًا تدريجيًّا وئيدًا. ومن ناحية أخرى، فإن خبرتنا بالعالم موحَّدة على نحوٍ مميز، فرغم أننا جميعًا نمتلك مَلَكاتٍ عقلية مختلفة كثيرة، فإن كلًّا منا في اللحظة الواحدة يبدو أنا مفردة بوجهة نظر مفردة أو منظور مفرد. (ويمكن أن نحاجَّ بأن هذا صحيح حتى بالنسبة للأشخاص الذين يُقال إن لديهم شخصيات متعددة.) كيف التوفيق بين هذه الوحدة في الخبرة وبين الطبيعة الواسعة التشتت والتشظي للمعالجة العصبية؟ لقد خَبَت الآمالُ في العثور على «وَحدةِ معالجة مركزية» نيورولوجية، أيْ نظيرٍ نيورولوجي لوحدة المعالجة المركزية للآلة الحاسبة. وحتى لو وضعنا يدنا على وحدة معالجة مركزية نيورولوجية، فليس من الواضح على الإطلاق أن عملها سوف يفسِّر وحدة الخبرة. إن وجهةَ النظر ما هي إلا نقطةٌ منها يُدرَك العالم. والعلاقة بين هذه النقطة وبين العالم المخبور تشبه العلاقة بين العين والمجال البصري؛ ليست العين داخل المجال البصري، بل تقف على حَدِّه.
لقد سعَى العلمُ تقليديًّا إلى التوفيق بين المظهر والواقع بنفي المظاهر إلى العقل. فأُخِذَت كثيرٌ من الملامح الظاهرية للعالم — الألوان مثلًا — على أنها لا تنتمي إلى العالم، بل إلينا نحن، إلى نقطة نظرنا للعالم. فلو أملنا، مع ذلك، أن نجعل العقول أجزاء من واقعٍ واحد، فنحن نواجَه بمهمة إيجاد مكانٍ للمظاهر داخل الواقع. وهذا يتطلب وضع نقاط النظر إلى العالم جميعًا داخل العالم. والعمل البارع، كما رأينا في تناول كيفيات الخبرات، هو الوضوح تجاه طبيعة المظهر، طبيعة نقاط الرؤية.
قراءات مقترَحة
ملاحظة ١: س١ يتسم بالخاصة ص.
ملاحظة ٢: س٢ يتسم بالخاصة ص.
ملاحظة ٣: س٣ يتسم بالخاصة ص.
وهكذا.
إذن كل س يتسم بالخاصة ص.
يُستخدم التعميم الاستقرائي في مجالات كثيرة، مثل البحث العلمي والمسح الاجتماعي واستطلاعات الرأي السياسية … إلخ. غني عن القول أن ملاحظة جميع الأفراد (المجتمع الأصلي population) في المجموعات الهائلة العدد هو أمر صعب ومكلِّف، وكثيرًا ما يكون مستحيلًا عمليًّا. الأمر الذي يُلجِئنا إلى إجراء «أخذ عينة» sampling، وفحص هذه العينة لِتَبَيُّنِ خصائصِها، ثم «تعميم» generalization هذه الخصائص على جميع أعضاء المجموعة الأصلية (المجتمع الأصلي). ولكي يكون هذا التعميم صائبًا أو قريبًا من الصواب ينبغي أن تكون العينة «مُمَثِّلة» representative للمجموعة بكاملها، غير متحيزة لجانب دون جانب، أو مأخوذة من ركنٍ دون ركن.
هناك طرق كثيرة لاختيار العينة بحيث تقترب من النموذج المثالي لما ينبغي أن تكونه العينة، مثل طريقة «الاختيار العشوائي» random sampling، ولكي توصف العينة بالعشوائية لا بد من أن تخضع للقرعة، وأن تكون أمام جميع أفراد «المجتمع الأصلي المدروس» population فرص متساوية للوقوع في العينة.
ويتفاوت كم العينة الكافية لتمثيل مجتمعٍ ما وفقًا لطبيعة هذا المجتمع؛ هَبْ أن لديك دَلوًا به كرياتٌ من البِلي حمراء وخضراء وصفراء وبيضاء. إن عينة مكونة من ثلاث كريات من المحال أن تمثل المجموعة الكلية أيًّا كان عددها. وفي المقابل، هب أن لديك قِدْرًا ضخمًا من الحساء أو من المعكرونة قيد الطبخ. إن بإمكانك الحكم على ملوحة الحساء بتذوق ملعقة واحدة، وبإمكانك الحكم على درجة نضوج المعكرونة بتذوق واحدة منها؛ ذلك أن التجانس تام في هاتين المجموعتين بحيث تكفي عينة مكونة من فرد واحد للحكم على الكل. كذلك الحال بإزاء مجموعة كبيرة من الفئران المستنسخة التي يكاد كل فرد منها يطابق الآخر مطابقة تامة. لعلكَ الآن قد تبينتَ الصعوبة الكامنة في تحديد كم العينة التي تُعَد كافية لتمثيل مجتمع من المجتمعات أو مجموعة من المجموعات، والذي قد يتطلب تقنيات إحصائية ورياضية معقدة، ويبقى رغم ذلك أمرًا غير يقيني، ويهيب بملَكة الحُكْم لدينا، وربما باعتقاداتنا المسبقة عن أفراد المجموعة المَعْنِيَّة (للمزيد عن التعميم الاستقرائي ومنزلَقاتِه، انظر كتابنا «المغالطات المنطقية»، المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٧م، ص٥١–٥٨).
تلتقي جميع ضروب الخطأ المقولي في أنها تتضمن إساءة فهم لطبائع الأشياء التي تتحدث عنها. فهي تتجاوز الأخطاء العادية والبسيطة، كالتي تحدث حين ننسب لشيءٍ صفةً لا يتصف بها، ولكن كان من الجائز أن يتصف بها. الخطأ المقولي هو أن ننسب للشيء صفةً من المحال منطقيًّا، وفي جميع الأحوال الممكنة، أن يتصف بها. (المترجم)