الفصل الرابع

الفعل الجمعي والهوية

أعتقد أنها زادتْني قوة. أعتقد أنها بصَّرتني فعلًا بحقيقتي … أشعر أن لحياتي قضية. لم أَعُد كتلك النملة الضئيلة التي تحيا وتعمل وسط جموع النمل الأخرى في مستعمرة النمل. ثمة أشياء أهتم بها اهتمامًا عميقًا حقًّا، وهو ما يُفعِم حياتي بالمعنى. لقد احتفظت بذلك المعنى، وأظنني سأحتفظ به دومًا.

ناشطة في حركةٍ نسويةٍ راديكالية، كولومبوس، أوهايو، الولايات المتحدة الأمريكية، مقتبس في ويتير (١٩٩٥: ٩٥)

حتى عامَين مَضَيا، كنتُ امرأةً مملوكة لرجل، ثم التقَيت بنساء الجمعية، وشيئًا فشيئًا اكتسبتُ مهارةَ القُدرة على إقامة علاقاتٍ جديدة ومختلفة مع الآخرين. واليوم، أشعر أنني طرفٌ مساوٍ في علاقتي مع هذا الرجل وكذلك في علاقاتي مع نساء الجمعية.

مارتينا، عضو في جمعية نسائية، ميلان، إيطاليا، مقتبس في بيانكي ومورمينو (١٩٨٤: ١٦٠)

بعد التحاقي بجرينهام، أدركتُ كيف أنني في الواقع كنتُ أبخس نفسي حقها بين الحين والآخر. لم أكن أسعى للتعبير عن خواطري بما يَكفي لمجرد وجود رجال حولي. لم أكن أبادر بالتقدم إلى الأمام … كان الرجال مُهيمنين، وكنتُ أسمح لهم بفرض سيطرتهم عليَّ.

كارولا أدينجتون، ناشطة في جرينهام كومن، المملكة المتحدة، مقتبس في روزنيل (١٩٩٥: ١٤٦)

لسنا بحركةٍ نقابية، ولا نمُتُّ بصلةٍ إلى النقابية؛ فلهم تنظيماتهم ولنا تنظيماتنا. نحن نُقدِّم بديلًا من أجل النساء وبالاستعانة بهن.

لورا، عاملة وناشطة، ماناجوا، نيكاراجوا، مقتبس في باندي وبيكام-ميندز (٢٠٠٣: ١٧٩)

لو أن أحدًا سألني «مَن أنتِ؟» أنا ناشطة نِسوية راديكالية … وأرى النسوية الراديكالية مهمة حياتي، حتى وإن كنتُ أُمضي أغلب الأيام والأسابيع والسنوات أمارس نشاطًا آخر.

موظَّفة في إحدى منظمات المصلحة العامة، كولومبوس، أوهايو، الولايات المتحدة الأمريكية، مقتبس في ويتير (١٩٩٥: ٩٥)

إنَّ كوني جزءًا من مجموعةٍ نسائية يمثل، بالنسبة إليَّ، تأثيرًا جوهريًّا ليس على أسلوب حياتي فقط، بل على أسلوب تفكيري أيضًا. من المهم أن تعرف ذاتك. لقد ذوت الجمعية وبُعثت مرارًا، ومعها كانت تذوي وتبعث تطلعاتي الخاصة. أينما ذهبتُ سأجد دومًا مجموعةً نسوية.

إرما، عضو في جمعيةٍ نسائية، ميلان، إيطاليا، مقتبس في بيانكي ومورمينو (١٩٨٤: ١٥٩)

كان هناك إضراب لعمال المناجم واعتاد كثير من زوجاتهن أن ينضممن إلينا … كما حضر الهنود الأمريكيون القادمون من محميات الهنود الحمر … وأقبلت وفود من جنوب أفريقيا. كنا مجرد نساءٍ عاديات ينتمين إلى الطبقة العاملة، جئن من أحياءٍ فقيرة، وكنا نخاطب المنخرطين انخراطًا مباشرًا في الصراعات من جميع أنحاء العالم.

تريشا، ناشطة في جرينهام كومن، المملكة المتحدة، مقتبس في روزنيل (١٩٩٥: ١٤٩)

تُمدُّنا هذه [الزيارة] بمزيد من الثقة لمواصلة كفاحنا؛ إذ أدركنا أننا لسنا بمفردنا … نأمل أن تمضوا قدمًا [أي منظِّمي العمالة والأنشطة المجتمعية القادمين من أمريكا الشمالية في زيارة للمكسيك] مُتسلِّحين بالمحبة، لأجل إخوانكم وأخواتكم، لأجل مجتمعات كمُجتمعاتنا. إنه الكفاح ذاته في جميع أنحاء العالم.

هورتنسيا، عاملة وناشطة، تيخوانا، المكسيك، مقتبس في باندي وبيكان-ميندز (٢٠٠٣: ١٧٩)
كانت إرما ومارتينا عضوتين في جمعية تيتشينيزيه، وهي جمعيةٌ نسائية نشطت في ميلان في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات (بيانكي ومورمينو ١٩٨٤). وكانت تريشا وكارولا من بين النساء اللواتي شاركن في احتلال منطقة جرينهام كومن، حيث وُجِدت القذائف الموجَّهة في بريطانيا بين عامي ١٩٨٣ و١٩٩١ (روزنيل ١٩٩٥). أما هورتنسيا ولورا، فقد نشطتا في تعبئة عاملات الماكيلا، وهي وحداتٌ صناعيةٌ صغيرة تُنتِج جميع أنواع السلع المعَدَّة للتصدير في أمريكا الوسطى، وهو ما يَحدث عادةً في ظل ظروف عمل مزرية (باندي وبيكام-ميندز ٢٠٠٣). وأخيرًا، يُعزى الاقتباسان غير المذيَّلَين بأسماء١ إلى سيدتَين شاركتا في الحركة النسوية الراديكالية التي نشطت في المدينة الأمريكية كولومبوس الواقعة في ولاية أوهايو بين السبعينيات ومطلَع التسعينيات من القرن الماضي (ويتير ١٩٩٥، ١٩٩٧). كانت خَصائص هذه الحركات مختلفة، وكذلك كان السياق السياسي والثقافي الذي تبلورت في ظلِّه. ورغم كل هذه الاختلافات، فإن هذه الاقتباسات تكشف عما هو أعمق من مجرد قواسمَ مشتركةٍ عشوائية؛ إذ تبدو جميعها، كلٌّ بأسلوبه الخاص، تمثيلًا للعلاقة بين التجربة الجمعية والتجربة الفردية في الحركات الاجتماعية. تُخبرنا هذه الاقتباسات، بوجهٍ خاص، عن التداخُل بين المشاركة الجمعية والانخراط الشخصي والذي يميز الفعل الجمعي إلى حدٍّ كبير (ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩٥؛ روب وتايلور ١٩٨٧؛ ديلا بورتا ١٩٩٢؛ كالهون ١٩٩٤أ؛ جودوين وجاسبر وبوليتا ٢٠٠١؛ داونتن وفير ١٩٩٧؛ باسيريني ١٩٨٨).

تدور هذه القصص، من ناحية، حول التغير الشخصي؛ فهي شاهدة على شعورٍ جديد بالتمكين وبرهان على تعزيز الذات، وهي أمور تَنبع من الفعل الجمعي. فبفضل مكافحتها للقَذائف الموجهة في سياق حملة قوامها «النساء فقط»، أدركت كارولا كم استهانت بإمكانياتها في الماضي، لا سيما في المواقف ذات الحضور الذكوري الطاغي. بالنسبة إلى تريشا، فإنَّ مشاركتها في جرينهام كومن أفسحت المجال أمامها لإقامة علاقات واكتساب خبرات لم تكن لتَحظى بها نتيجةً لأصولها المنحدرة من الطبقة العاملة. أما لورا، فإن نشاطها في محلِّ عملها يعني خلق تجربةٍ جديدة من تمثيل المصالح من منظور جنساني، وهو ما يعني بدوره إعادة التأكيد على استقلاليتها عن النماذج الذكورية المتجسِّدة في المُمارسات النقابية. أما مارتينا، فكان الانضمام إلى إحدى مجموعات الوعي الذاتي دلالة على تحوُّل في حياتها الخاصة، دون تكوين التزامٍ قوى حيال المشاركة العامة. لكن حتى في حالتها، كانت طبيعة التجربة الجمعية هي العامل الذي جعل نموَّها الشخصي أمرًا ممكنًا.

من ناحيةٍ أُخرى، تبرز تلك القصص الاستمرارية التي يُضفيها الشعور بالانتماء الجمعي على حياة المرء؛ فقد خلق الانضمام إلى الحركة النسوية، بالنسبة إلى إرما وغيرها من نساء كولومبوس، رابطة تجمع مختلف المراحل الحياتية ومختلف أنواع التجارب، وليس بالضرورة أن تكون هذه الرابطة بين نقاط زمنية مختلفة؛ فهي توجد أيضًا — كما تُشير إلى ذلك كلمات تريشا وهورتينسيا — بين أفراد ينشطون في مواقعَ مختلفةٍ وحول قضايا مختلفة، لكنهم توحَّدوا حول مجموعةٍ مشتركة من القيم والتطلعات.

تدور هذه القصص، بعبارةٍ أخرى، حول الهوية: وبوجهٍ خاص، حول العلاقة بين الهوية والفعل الجمعي (بيتسورنو ١٩٧٨؛ كوين ١٩٨٥؛ ميلوتشي ١٩٨٩؛ كالهون ١٩٩١، ١٩٩٤أ؛ ماخ ١٩٩٣؛ سترايكر وأوين ووايت ٢٠٠٠؛ هورتون ٢٠٠٤؛ هَنت وبينفورد ٢٠٠٤). عند الحديث عن الهوية، فإنَّنا لا نُشير إلى موضوعٍ مستقل، ولا إلى إحدى سمات الفاعِلين الاجتماعيِّين، بل نقصد العملية التي يُعرف من خلالها الفاعلون الاجتماعيون — ويَعرفهم غيرهم من الفاعلين — بأنهم جزء من زُمَرٍ أوسعَ ويُكوِّنون ارتباطاتٍ عاطفية بتلك الزمر (ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩٦؛ بوليتا وجاسبر ٢٠٠١؛ جودوين وآخرون ٢٠٠١: ٨-٩). لا يَلزم تعريف تلك «الزمر» في إطار سماتٍ اجتماعيةٍ محدَّدة، مثل الطبقة، أو النوع الاجتماعي، أو العرق، أو التوجُّه الجنسي أو ما شابه، ولا في إطار تنظيماتٍ محدَّدة (رغم أنها كثيرًا ما تُعرَّف وفق هذه الأطر). قد ترتكز الهويات الجمعية أيضًا على طائفةٍ مشتركة من التوجُّهات، والقيم، والمواقف، والرُّؤى الكونية، وأنماط الحياة، فضلًا عن تجاربَ مشتركةٍ للفعل (فمثلًا قد يشعر الأفراد بالتقارب مع من يعتنقون رؤًى ما بعد ماديةٍ مشابهةً أو يؤيدون الفعل المباشر، دون التعبير عن أي شعورٍ قويٍّ بالتقارب الطبقي أو العرقي أو الجنساني). قد تكون الهويات، في بعض الأحيان، إقصائية، مُستبعِدةً الأشكال الأخرى المُمكنة من التماهي (كما هو الحال بالنسبة إلى الفِرَق الدينية التي تُعرِب عن رفضها لهذا العالم الدنيوي جملةً وتفصيلًا، لكنَّها في أحيانٍ أخرى (بل في أغلبها في الواقع)، قد تكون جامعة وتعدُّدية؛ إذ ربما يشعر الأفراد بالتقارب مع أنماطٍ عديدة من الكيانات الجمعية في آنٍ واحد.)

يُعتبر بناء الهويات أو إعادة إنتاجها أحد المكونات المهمَّة للعمليات التي يُضفي الأفراد من خلالها على تجاربهم وما يطرأ عليهم من تحوُّلات عبر الزمن دلالة ومعنى. يجدر بنا ملاحظة التعقيد الذي تتَّسم به العلاقة بين البُعد الفردي والبُعد الجمعي لعملية بناء الهوية. فمن ناحية، يعمد الأفراد، من خلال إنتاج الهويات وصونها وإعادة إحيائها، إلى تعريف وإعادة تعريف مشروعاتهم الفردية واحتمالات الفعل المُمكنة وغير المُمكنة. إن ما نقلناه للتوِّ من قصصٍ فردية يُظهِر لنا بدقة أن «الهويات كثيرًا ما تكون بمنزلة مشروعاتٍ شخصية وسياسية نَنخرط فيها» (كالهون ١٩٩٤أ: ٢٨). لكن من ناحيةٍ أخرى، لا يُمكن اختزال بناء الهوية وإعادة اكتشاف المرء لذاته في مجرد آلياتٍ نفسية؛ بل هي عملياتٌ اجتماعية (بيرجر ولوكمان ١٩٦٦؛ موسكوفيتشي ١٩٨١؛ بيليج ١٩٩٥).

نناقش في الصفحات التالية بعضًا من الخصائص المميزة لعملية بناء الهوية. سوف نُثبت أولًا أن إنتاج الهوية هو أحد المُكوِّنات الجوهرية للفعل الجمعي، وذلك من خلال تعيين الفاعلين المنخرطين في الصراع، وتيسير علاقات الثِّقة بينهم، وإقامة صلاتٍ تربط وقائع من مختلف الحقب. اتساقًا مع ما أكدته طويلًا رؤى علم الاجتماع (تورين ١٩٨١؛ بيتسورنو ١٩٧٨؛ ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩٦) وعلم النفس الاجتماعي (موسكوفيتشي ١٩٧٩؛ دروري ورايكر ٢٠٠٠؛ هوارد ٢٠٠٠) فيما يخص الفعل الجمعي، فإننا لا نَعتبر الهوية شيئًا بوسع المرء أو الفاعلين امتلاكه، بل نعدُّها العملية التي يلجأ إليها الفاعلون الفرديون أو الجمعيون أو كلاهما كي يسندوا دلالةً محددة إلى سماتهم ومجريات حياتهم ومنظومات العلاقات الاجتماعية التي يُشكِّلون جزءًا لا يَتجزَّأ منها، وهم يُحقِّقون ذلك في ظلِّ تفاعُلهم مع غيرهم من الفاعلين الاجتماعيِّين.

نواجه، نتيجةً لذلك، بعض المتناقِضات التي يوجدها حتمًا مفهومٌ عصيٌّ على التحديد كمفهوم الهوية. بادئ ذي بدء، تجمع عملية التماهي الاجتماعي بين الثبات والديناميكية في آنٍ واحد؛ فمِن ناحية، تُثير الإشارة إلى الهوية في الذهن استمرارية الولاءات ومتانتها عبر الزمن. لكن الهوية، من ناحيةٍ أُخرى، عرضة كذلك لعملياتٍ متواصلة من إعادة التعريف. إن ما يفترضه الفاعلون الاجتماعيون من صلات بتجاربَ تاريخيةٍ ومجموعاتٍ معينة يبدو دائمًا، في الواقع، عارضًا ومشروطًا؛ فما تلك الصلات إلا ثمار لعمليات إعادة التفسير الرمزي للعالم، وهي عملياتٌ تتميَّز بالانتقائية والتحيُّز (كالهون ١٩٩٤أ؛ ميلوتشي ١٩٩٦). فضلًا عن ذلك، تتشكَّل الهويات وتتكيَّف في خضمِّ الصراع مع إمكانية خضوع حدودها لتعديلاتٍ جذرية خلال العملية (بيرنشتاين ١٩٩٧؛ دروري ورايكر ٢٠٠٠؛ دروري ورايكر وستوت ٢٠٠٣)، ويترتَّب على ذلك أن مشاعر التماهي، بالرغم من ثباتها النِّسبي، قد تخضع — بل تخضع بالفعل — لتعديلاتٍ متكرِّرة.

ثمة تناقض ثانٍ يُمثله وجود هوياتٍ متعدِّدة، أو بعبارةٍ أخرى شعور الأفراد بالانتماء إلى عدة كياناتٍ جمعيةٍ مختلفة، يَجري توصيفُها في بعض الأحيان استنادًا إلى معايير غاية في الاختلاف. تُعتبر الهوية، من وجهة نظر معينة، مبدأً منظِّمًا فيما يتعلَّق بالخبرة الفردية والجمعية؛ فهي تُساعِد الفاعلين، مثلًا، على تحديد حلفائهم وخصومهم، لكن في الوقت ذاته، كثيرًا ما يكون تحديد خطوط التضامُن والمعارضة أبعد ما يكون عن الوضوح؛ فعلى سبيل المثال، أفرز صعود الحركات النسوية خطوطًا جديدة من التماهي، كثيرًا ما أثبتت تعارضها مع سابقاتها (كخطوط التماهي الطبقي). وبدلًا من اقتلاع خطوط الهوية القديمة، تتعايش الهويات الجديدة معها؛ مما يخلق توتُّرات بين تمثُّلات الفاعلين الذاتية المختلفة،٢ أو بين الناشطين ممَّن يتماهون مع الحركة ذاتها لكنهم ينتمون إلى أجيالٍ مختلفة (ويتير ١٩٩٥، ١٩٩٧؛ شنيتكر وفريز وباول ٢٠٠٣). وبالرغم من أن فكرة التشابُه تَكمُن بلا شك خلف مفهوم الهوية الجمعية (طالع مثلًا بريزين ٢٠٠١: ٨٤)، فإن مثل هذا التجانس قلَّما يكون متعدد الأبعاد؛ فالفاعلون الذين تجمعهم بعض السمات/المواقف/التجارب المشتركة قد يختلفون اختلافًا جوهريًّا في أبعادٍ أخرى (سيميل ١٩٥٥؛ دياني ٢٠٠٠أ). ولكن يتعيَّن علينا أن نلاحظ أيضًا أن الهويات المتعدِّدة ليس بالضرورة أن تجمعها علاقة توتر.

(١) كيف تؤدي الهوية دورها؟

ينبغي ألا ننظر إلى بناء الهوية باعتباره مجرد شرطٍ مسبق للفعل الجمعي. مما لا شك فيه أن هُويات الفاعلين الاجتماعيين في فترةٍ معينة تعمل كدليل يرشد تصرفاتهم اللاحقة؛ فالفعل، في الحقيقة، يقع حين ينمي الفاعلون قدرة على تعريف ذواتهم وغيرهم من الأطراف الاجتماعية الفاعلة، وتعريف «المحور» الذي تقوم عليه علاقاتهم المشتركة (تورين ١٩٨١). لكن هذا لا يَعني، في الوقت ذاته، أن الهوية خاصية ثابتة أو فعل سابق الوجود؛ فالفعل، على العكس من ذلك، هو الإطار الذي إما أن تقوى من خلاله مشاعر الانتماء أو تضعف. بعبارة أخرى، ينتج تطور الفعل الجمعي عملياتٍ مستمرة لإعادة تعريف الهوية ويحفزها (فانتيجا ١٩٨٨؛ هيرش ١٩٩٠؛ ميلوتشي ١٩٩٥؛ بيرنشتاين ١٩٩٧؛ جودوين وآخرون ٢٠٠١؛ دروري وآخرون ٢٠٠٣).

لنُلقِ نظرةً أكثر إمعانًا على الآليات التي «يُشكِّل» الفعل من خلالها الهوية. تبدأ العملية بتعيين الحدود الفاصلة بين الفاعلين المُنخرطين في صراعٍ ما. خلافًا لمناهج تحليل الصراعات الاجتماعية ذات الطابع البِنيوي الكلي، جذب علم اجتماع الفعل الأنظار نحو الطبيعة الإشكالية للصلة بين البِنية والفعل، مُشدِّدًا على عدم إمكانية تفسير الصراع حصريًّا في ضوء العلاقات البِنيوية والمصالح المتضاربة التي حدَّدتها تلك العلاقات. فالصراع ينشأ، بالأحرى، من التفاعل بين التوتُّرات البنيوية وبروز فاعلٍ جمعيٍّ يُعرِّف نفسه وخصومه استنادًا إلى طائفةٍ معيَّنة من القيم أو المصالح أو كلتيهما (تورين ١٩٨١). فلا يُمكن أن يقع الفعل الجمعي إلا بتحقُّق شرطَين: وجود «ذات جمعية» ذات سماتٍ مشتركة وعلاقة تضامُن محدَّدة، وتعيين «الآخر» المسئول عن وضع الفاعل الاجتماعي الذي ينادَى بالتعبئة لمناهضته (جامسون ١٩٩٢ب). بناءً على ما سبق، ينطوي بناءُ الهوية على تعريفَين؛ تعريفٍ إيجابي للمشاركين في مجموعةٍ معيَّنة وتعريفٍ سلبي لا يقتصر على المُستبعَدين من المجموعة بل ومن يعارضهم على نحوٍ نشط أيضًا (تورين ١٩٨١؛ ميلوتشي ١٩٩٦؛ تايلور وويتير ١٩٩٢؛ روبنيت ٢٠٠٢؛ تيلي ٢٠٠٤أ). كما تشمل العملية أيضًا علاقة مع من يجدون أنفسهم في موقفٍ محايد؛ فهويات الحركات تتشكَّل وتدبُّ فيها الحياة في إطار «الأنصار والخصوم والجماهير» (هَنت وبينفورد وسنو ١٩٩٤).

ثانيًا: يُقابل إنتاجَ الهويات بروزٌ لشبكاتٍ جديدة من علاقات الثقة بين فاعلي الحركة العاملين في إطار بيئاتٍ اجتماعيةٍ معقَّدة.٣ وتكفل مثلُ هذه العلاقات طائفةً من الفرص للحركات (انظر الفصل الخامس من هذا الكتاب)، وتُشكِّل الأساس لنشأة شبكات التواصل غير الرسمي والتفاعل والدعم المتبادَل، عند الضرورة. كما تبدو هذه العلاقات بديلًا ضروريًّا لندرة الموارد التنظيمية؛ فضلًا عن ذلك، تسري المعلومات سريعًا عبر الشبكات فيما بين الأشخاص، في تداركٍ جزئيٍّ على الأقل للإمكانية المحدودة للوصول إلى الوسائل الإعلامية؛ كما أن الثقة بين من يعتنقون مسعًى سياسيًّا وثقافيًّا واحدًا تُمكِّن المعنيين به من مواجهة التكاليف والمخاطر المرتبطة بمحاولات القمع بمزيدٍ من الفاعلية؛ وأخيرًا، فإن تعريفهم لأنفسهم — وتعريف الآخرين لهم — كجزء من حركةٍ ما يعني أيضًا قدرتهم على الاعتماد على مساعدة ناشطيها وتضامنهم (جيرلاتش وهاين ١٩٧٠؛ جيرلاتش ١٩٧١).

إن وجود مشاعر الهوية والتضامن الجمعي ييسر مواجهة المخاطر والشكوك المرتبطة بالفعل الجمعي. ففي مثال الحركة العمالية، سنجد أن القرب الشديد بين مقارِّ العمل ومحالِّ الإقامة سهَّل تفعيل روابط التضامن وإعادة إنتاجها (انظر الفصل الثاني من هذا الكتاب)، كما أنشأت الثقافات الاشتراكية الفرعية «مجالات المساواة»، حيث اعتبر المشاركون أنفسهم على قدم المساواة وشعروا بالانتماء إلى مصيرٍ مشترك (بيتسورنو ١٩٩٦)، غير أن الأمر اختلف في المُجتمعات ما بعد الصناعية؛ إذ وهنت العلاقات الاجتماعية المباشرة القائمة على التقارب الإقليمي. ورغم أن هذا لم يَعنِ بالضرورة تلاشي العلاقات المجتمعية، فإن منظومات العلاقات الاجتماعية لم تعد، إجمالًا، وثيقة الارتباط بحيِّزٍ إقليمي محدَّد كما كانت من قبلُ؛ إذ تمتد حدودها الآن لتشمل مجتمعاتٍ كاملة، قومية وفوق وطنية (ويلمان وآخرون ١٩٨٨؛ جيدنز ١٩٩٠؛ كاستيلز ١٩٩٦؛ ساسن ١٩٩٨؛ فيرتوفيك وكوين ٢٠٠٣). ونتَج عن هذا التغير أن صار الفاعلون الجمعيُّون الآن أقلَّ ميلًا إلى تعريف أنفسهم في إطار الموقع، وأضحت الهوية الجمعية أقل اعتمادًا على التفاعُلات المباشرة وجهًا لوجه، والتي تنشأ في المجتمعات المحلية وميادين النشاط اليومي. إنَّ مثل هذه الظواهر قد أشارت بالفعل إلى التحوُّل من حقبة ما قبل الحداثة إلى الحداثة، وظهور رأيٍ عام توحَّد عبر الكلمة المطبوعة (أندرسون ١٩٨٣؛ تارو ١٩٩٨)، لكنَّها تعرَّضت لمزيد من التسارع تزامنًا مع توسع المنظومة الإعلامية والثورة الإلكترونية (كالهون ١٩٩٢؛ واسكو وموسكو ١٩٩٢؛ بينيت ٢٠٠٣؛ ويلمان وهايثورنويت ٢٠٠٢).

علاوةً على ما سبق، فإن التماهي مع حركةٍ ما يَنطوي على شعورٍ بالتضامُن حيال من لا يرتبط المرء بهم عادةً بصلات شخصية مُباشرة ولكن تجمعُه بهم، في الوقت ذاته، تطلعاتٌ وقيمٌ مشتركة. إنَّ الناشطين والمتعاطفين مع الحركات على وعيٍ بمشاركتهم في واقعٍ أرحبَ أفقًا وأعقدَ طبيعةً مقارنةً بذلك الواقع الذي لهم خبرةٌ مباشرة به. وفي ضوء هذا المجتمع الأوسع نطاقًا يستقي الفاعلون التحفيز والتشجيع اللازمين للإقدام على الفعل، حتى وإن بدا ميدان الفرص المادية محدودًا وتصاعد شعورٌ قويٌّ بالعزلة. ولا شك أنه لم يُحسَم بعدُ مدى مساهمة انتشار التواصُل بواسطة الكمبيوتر في تيسير نشر الهويات المنفصلة عن إشاراتٍ لأي زمان ومكان محدَّدَين (انظر الفصل الخامس من هذا الكتاب، قسم ٤).

ثالثًا: تربط الهوية الجمعية تجارب الفعل الجمعي المُتفرِّقة عبر الزمان والمكان، وتسند إليها دلالةٌ مشتركةٌ معينة (انظر مثلًا لاملي ١٩٩٠؛ فاريل ١٩٩٧). وتتَّخذ هذه العملية في بعض الأحيان شكل الرابط بين وقائع متصلة بصراعٍ محدَّد بغية إظهار استمرارية الجهود الكامنة خلف النماذج الراهنة للفعل الجمعي. لنُلقِ نظرةً مثلًا على «نداء الحركات الاجتماعية الأوروبية» الذي صدر قبل انعقاد المنتدى الاجتماعي الأوروبي في فلورنسا بتاريخ نوفمبر عام ٢٠٠٢: «لقد جئنا معًا من الحركات الاجتماعية وحركات المُواطنين المُنتشرة في كل بقاع أوروبا، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. لقد اتحدنا جميعًا عبر رحلةٍ طويلة؛ تظاهرات أمستردام وسياتل وبراج ونيس وجنوة وبروكسل وبرشلونة، والاحتشادات الضخمة ضد الليبرالية الجديدة، فضلًا عن الإضرابات العامة دفاعًا عن الحقوق الاجتماعية وجميع الاحتشادات التي انطلقت مناهضةً للحروب، جميعها تثبت إرادتنا لبناء أوروبا أخرى. نحن نقرُّ على الصعيد العالمي بميثاق المبادئ الذي تبناه المنتدى الاجتماعي العالمي ونداء الحركات الاجتماعية في بورتو أليجري» (مقتبس في أندريتا ٢٠٠٣). إننا نشهد في وقتنا الراهن ربطًا بين وقائع جرت في فتراتٍ زمنيةٍ مختلفة باعتبارها البذور التي تمخَّض عنها لقاء عام ٢٠٠٢، وذلك من أجل إبراز الاستمرارية بين كل هذه الوقائع. على غرار ذلك، تتجلَّى لنا محاولةٌ عابرة للمَسافات تهدف إلى الربط بين عمليات التعبئة الجارية في كل أصقاع أوروبا، وكذلك ربطها بتطورات الفعل الجمعي الأخيرة على نطاقٍ عالمي.

إن لقضية الاستمرارية عبر الزمن أهمية أيضًا؛ نظرًا لأن الحركات الاجتماعية تتسم بالتناوب ما بين أطوار «ظاهرة» وأخرى «كامنة» (ميلوتشي ١٩٩٦). في الأطوار الظاهرة، يهيمن البُعد العام للفعل، في هيئة تظاهرات، ومبادرات عامة، وتدخلات إعلامية وما شابه، مع مستوياتٍ عالية من التعاون والتفاعل بين شتى الفاعلين محل التعبئة. أما في الأطوار الكامنة، فيسود الفعل داخل إطار التنظيمات ويُهيمِن الإنتاج الثقافي، وتقتصر الاتصالات بين التنظيمات والمجموعات المناضلة في مُجمَلها على العلاقات غير الرسمية بين الأشخاص، أو العلاقات بين التنظيمات والتي لا تفرز في العموم القدرة على التعبئة الجماهيرية. ويُلاحظ في تلك الحالات أن التضامن الجمعي والشعور بالانتماء إلى قضيةٍ ما لا يتَّضحان بنفس الجلاء الذي يَبدوان عليه في فترات التعبئة المكثفة؛ فالأفعال الخفية لعددٍ محدود من الفاعلين تُغذِّي الشعور بالهوية. إنَّ قدرة تلك المجموعات المحدودة على إعادة إنتاج تمثُّلات ونماذج للتضامن عبر الزمن هي التي تخلق الظروف المواتية لإحياء الفعل الجمعي وتُتيح الفرصة أمام الأطراف المعنية لرد جذور الموجات الجديدة من الفعل العام إلى عمليات التعبئة السابقة (ميلوتشي ١٩٩٦؛ روب وتايلور ١٩٨٧؛ جونستون ١٩٩١ب؛ مولر ١٩٩٤؛ ويتير ١٩٩٥).٤

لا تقتصر الهُوية في أداء وظيفتها الرابطة على صعيد التمثُّلات الجمعية والتصورات الشائعة اجتماعيًّا لظواهرَ اجتماعيةٍ معينة فقط؛ بل تربط كذلك تلك التمثُّلات والتصورات بالتجربة الفردية؛ فحين يعمد الأفراد إلى بناء هويتهم، يُسندون وحدة ودلالة إلى مختلف أطوار تاريخهم العام والخاص. وكثيرًا ما يَنعكِس هذا في تاريخ حياتهم وسيرهم الذاتية؛ أي بعبارة أخرى «المنظومات الفردية من الدلالات الثقافية والأمور الشخصية والشعور بالذات، المستمَدَّة من تجارب الحياة الشخصية» (جاسبر ١٩٩٧: ٤٤)؛ فتنشأ مسيرة حياة النضال طويلة المدى وتتطوَّر حاملةً في طياتها التزامًا ثابتًا بقضيةٍ ما، حتى وإن عُبِّر عن ذلك بأساليبَ مختلفةٍ وفي أوقاتٍ شتَّى (داونتن وفير ١٩٩٧). صحيح أن أي موجةٍ تعبوية قد تجذب إلى الحركات الاجتماعية أشخاصًا لا عهد لهم بالفعل الجمعي، لأسباب شخصية على الأقل، بيد أن طائفةً واسعة من الدراسات قد أكَّدت على استمرارية النضال — أي أنَّ مَن سبقت لهم المشاركة في الماضي يكونون أكثر ميلًا إلى الانخراط في الفعل مرةً أخرى مقارنةً بمن لم يَخوضوا التجربة قط — وقد كُرِّست هذه الدراسات إلى النماذج المعاصرة (ماكادم ١٩٨٨ب؛ ويتير ١٩٩٥ و١٩٩٧؛ كلاندرمانس ١٩٩٧: الفصل الرابع؛ روبنيت ٢٠٠٢)، والنماذج «التاريخية» للفعل الجمعي (تومبسون ١٩٦٣؛ جولد ١٩٩٥؛ كاتانزارو ومانكوني ١٩٩٥؛ باسيريني ١٩٨٨). فعلى سبيل المثال، احتشد «جيل ١٩٦٨» أكثر من مرة في إطار موجاتٍ احتجاجيةٍ مختلفة، كان آخرها في حملات العدالة العالمية (ديلا بورتا ٢٠٠٥ﻫ).

إنَّ الحديث عن الاستمرارية عبر الزمن لا يعني بالضرورة افتراضنا أن الهوية تدوم، ناهيك عن كونها ثابتة. إنَّ الإشارة إلى الماضي دائمًا ما تكون، في حقيقة الأمر، انتقائية، و«الاستمرارية» تعني في تلك الحالة إعادة التشكيل الفعال لعناصر سيرة الفرد الذاتية وإعادة تنظيمها في سياقٍ جديد، وهكذا يَصير مُمكنًا الجمع بين وقائع شخصية وجمعية، ربما لولاها لبدت مُتعارضة ومتناقضة. لنُلقِ نظرة مثلًا على أحد نماذج الفعل الجمعي الراديكالي التي يبدو أنها تقتضي مسبقًا تحوُّلًا شخصيًّا جذريًّا وقت التعبئة، ألا وهو نموذج الإرهاب. تكشف السير الذاتية لإرهابيي السبعينيات في إيطاليا (ديلا بورتا ١٩٩٠) تحوُّلهم في كثير من الحالات من النضال في التنظيمات الكاثوليكية إلى الكفاح المسلح، واتَّضح في تلك الحالة وجود تحوُّلٍ ملحوظ في أنماط الفعل والبرامج السياسية. غير أن تلك السير الذاتية لم تخلُ من عناصر التماسُك، بالرغم من كونها تبدو، في الظاهر، مفتقرةً للغاية إلى الاستمرارية. كان من بين هذه العناصر التطلُّع نحو بناء علاقاتٍ اجتماعية تتجاوز مظاهر الجور والقُبح المترع بها حاضرهم. من العناصر المشتركة كذلك بين كلتا المرحلتين الذاتيتَين تصور الفعل الجمعي كتصريح بالحقائق المطلَقة وإقرارٍ ملموس بما يعتنقه المرء من مُثُل (وأيديولوجيات)، بصرف النظر عن مدى ما طالها من تشوُّه.

من ناحيةٍ أخرى، يَنطوي انطلاق كل تجربةٍ جديدة للفعل الجمعي حتمًا على قطيعة مع الماضي إلى حدٍّ ما. في بعض الحالات، يترتَّب على قرار الأفراد بالانخراط في فعلٍ جمعي، أو الانضمام إلى تنظيم أو مشروعٍ ما، يَختلف بوضوح عما فعلوه حتى وقتهم هذا؛ تحولٌ شخصيٌّ جذري. ويَشهد الأفراد في تلك الحالات تحولاتٍ حقيقية، كثيرًا ما تعني انسلاخًا من وشائجهم الاجتماعية السابقة. ويُمكن أن يصير تحوُّل الهوية في مثل هذه الحالات أبعد أثرًا وأشد عمقًا؛ إذ لن يؤثر هذا التحول على ميول الأفراد السياسية ومُستويات انخراطهم في الفعل الجمعي فحسب، بل سيَترُك أثره على الخيارات الحياتية الشاملة بل وحتى على تنظيم الحياة اليومية.

كثيرًا ما توجد الظواهر عينها بين من ينضمُّون إلى جماعاتٍ دينية (روبنز ١٩٨٨: الفصل الثالث؛ سنو وآخرون ١٩٨٠؛ ويلسون ١٩٨٢؛ واليس وبروس ١٩٨٦).٥ غالبًا ما يَنطوي التحوُّل إلى طائفة أو فرقةٍ ما على تحولٍ راديكالي في هوية الفرد وولاءاته بصورة أو بأخرى، ويَزداد هذا التحوُّل عمقًا كلما كانت معايير العضوية في الجماعة الجديدة أشد صرامة. فالانضمام إلى مجموعة مثل هاري كريشنا، مثلًا، يقتضي ضمنًا قبول نمَط حياة زاخرٍ بالطقوس يسيرُ فيه كل شيء وفقًا لتعاليم الفرقة (روتشفورد ١٩٨٥). إلى جانب ذلك، يوثق تاريخ الصراعات التي ميَّزت المجتمعات الصناعية قوةُ الهويات السياسية «التقليدية» وطبيعة الفعل الجمعي الإقصائية والطائفية في كثير من الأحيان. في قرن الأيديولوجيات الكبرى، كان التخلي عن المواقف السياسية أو الطبقية أو كلتيهما — أي بعبارةٍ أخرى طرح منظومةٍ معينة من العلاقات الاجتماعية والانتماءات الوجدانية في سبيل اعتناق أخرى — أمرًا مكلفًّا دائمًا. ومن الأمثلة الدالة على ذلك تقسيم أيرلندا الشمالية حسب اعتباراتٍ دينية (ويُمكن أن نعتبر الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني أيضًا تمثيلًا جليًّا لهذا النمط)، ففي أيرلندا الشمالية، قدمت الهويات الدينية معايير لتنظيم الصلات الاجتماعية على المستويات كافة، بما فيها الروابط المجتمعية والأسرية؛ ولذلك نجد ندرة في الصلات التي تتخطَّى الحوائل الطائفية ونلاحظ أن المُنخرِطين في مثل هذه العلاقات دائمًا ما يُواجهون النبذ والإقصاء من مجتمعاتهم (بيو وآخرون ١٩٧٩؛ مكاليستر ١٩٨٣؛ أوسوليفان سي ١٩٨٦؛ ماجواير ١٩٩٣)، وهو ما جعل تفعيل الروابط مع أعضاء المجموعات المناوئة من الممارسات الباهظة التَّكلفة للغاية، وتنطوي في كثير من الأحيان على مخاطرَ جمة. ينسحب الأمر ذاته على تنظيمات الحركات الاجتماعية أيضًا، وهو ما كان يُؤدِّي في الغالب إلى الإخفاق في تخطِّي الانقسامات الطائفية. فعلى الرغم من بذلِ كثير من المساعي على مدار العقدَين الفائتين على يد مختلف أنواع التنظيمات، من التنظيمات المدافعة عن البيئة إلى تلك المنادية بحقوق المرأة (كونولي ٢٠٠٢؛ سينالي ٢٠٠٢)، في سبيل خلق أنماطٍ جديدةٍ متعددة الثقافات من المشاركة السياسية، لم تزل مظاهر الفصل الاجتماعي منتشرة في أيرلندا الشمالية، حتى عقب توقيع اتفاق الجمعة العظيمة عام ١٩٩٨ (ماجاري ٢٠٠١).

(٢) هويات مُتعدِّدة

كثيرًا ما تُجسَّد الحركات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة «كشخصياتٍ» ذات قدرةٍ استراتيجية على الفعل ودورٍ ثقافي محدَّد؛ ولهذه الأسباب يُنظَر إليها أيضًا كشخصياتٍ ذات هويةٍ مُتجانسة وموحدة. لم تحظَ منظومات العلاقات التي ينخرط فيها الفاعلون إلا باهتمامٍ محدود، وهو ما حال دون الإقرار بتعدُّد الهويات والولاءات في أوساط المناضلين ومجموعات الحركات، بل رجَّح الميل إلى رؤية الهوية كمِرآةٍ تعكس واقعًا موضوعيًّا ضمنيًّا.٦
بيد أن التماهي الجمعي، في الواقع، نادرًا ما تُعبِّر عنه الهويات الموحَّدة والمتجانسة التي تفترضها تلك الرُّؤى للحركات مسبقًا.٧ فنظرًا لأنَّ الهوية تمثل، في المقام الأول، عمليةً اجتماعية لا خاصيةً ثابتة، تتسم مشاعر الانتماء الناشئة وسط المجموعات والتجمعات نتيجة لتلك الهويات، إلى حدٍّ معين، بالتقلُّب. فإذا ألقينا نظرة على منهج أقل جمودًا في تناول مسألة الهوية، فسنجد أنه يدفعنا إلى الإقرار بأن الهوية لا تستلزم دائمًا «ذاتًا جمعيةً» قوية (ليميرت ١٩٩٤؛ بيليج ١٩٩٥)؛ إذ إن تماهي الأفراد مع حركةٍ ما لا يعني بالضرورة تقاسمهم رؤيةً منهجية ومتَّسقة للعالم، ولا يَمنعهم أيضًا من توجيه مشاعرَ متشابهةٍ نحو مجموعات وحركاتٍ أخرى. بل إن أنماط الولاء غير القوية أو غير الإقصائية على نحوٍ بالغ يمكن أن تكفل، في سياقاتٍ معينة، استمرارية الفعل الجَمعي (ميلوتشي ١٩٨٤أ؛ دياني ١٩٩٥أ). يندر، في الحقيقة، أن نجد هويةً مهيمنةً قادرة على دمج جميع ما سواها، وإنما الأغلب هو أن تتسم الهويات ببِنيةٍ متعدِّدة المراكز لا بنيةٍ هرمية.٨ لكنَّ الإصرار المُفرِط على دور الهوية كمَصدر للاتساق كثيرًا ما يؤدي إلى إغفالٍ ما لأنماط الهوية المتعدِّدة من أهمية (كالهون ١٩٩٤أ).

إن ما يقع من توترات بين مختلف أنواع التماهي يتعلَّق، في المقام الأول، بحقيقةٍ مفادها أن الدوافع والتوقعات الكامنة خلف مشاركة الأفراد في الحركات الاجتماعية هي، في الواقع، أكثر اتساعًا وأشد تنوعًا مما قد توحي به الصور العامة التي تُصدِّرها القيادات عن تلك الحركات. فالمنخرطون في حياة حركةٍ ما كثيرًا ما يطلبون بهذا استجابة لطموحاتهم الخاصة وحلًّا لمخاوفهم؛ فعلى سبيل المثال، رأت نساء ميلان، اللواتي خضعن لدراسة ميلوتشي وزملائه في أوائل الثمانينيات، انخراطهن في الحركة النسوية من زوايا كثيرةٍ مُختلفة. فبعضهنَّ أَعطَيْن الصدارة للتأمل الشخصي، بينما أَسندت أُخرياتٌ أهمية أكبر إلى التدخل الخارجي. وتُعطي بعض المشاركات للفعل الجماعي الأولوية على جميع العناصر التضامنية والوجدانية، في حين تُصرُّ أخريات على أهمية تكوين أنماطٍ جديدة لتفسير العالم (بيانكي ومورمينو ١٩٨٤). وقد أثبتَت ريجر (٢٠٠٢)، في الإطار نفسه، إمكانية التوفيق بين مختلف المواقف داخل التنظيم نفسه، وللتدليل على ذلك استعانت بنموذج المنظمة الوطنية للنساء، لا سيما فرع نيويورك، الذي ضمَّ بين أعضائه ناشطاتٍ نسويات يُركِّزن توجُّههن على الدعاية السياسية وأخريات يؤثرن ممارسات التمكين الشخصي؛ ولذلك فحتى هوية المجموعة الواحدة يُمكن أن تُعتبر نقطة التقاء لخلفياتٍ تاريخية واحتياجاتٍ شخصية وتمثُّلاتٍ متباينة.

توجد آلياتٌ شبيهة في إطار العلاقة بين التنظيمات المنفردة والحركات بالمفهوم الواسع. تسعى التنظيمات، من ناحية، إلى التأكيد على صياغتها الخاصة لهويتها الجمعية باعتبارها الهوية الشاملة للحركة، غير أن ترسيخ هويةٍ تنظيميةٍ معينة، من ناحيةٍ أخرى، يتيح في الوقت ذاته، التمايز عن بقية الحركة (تايلور ١٩٨٩). ولذلك لا يتماهى الفرد مع تنظيمٍ ما لكي يشعر فقط بكونه جزءًا من جهدٍ جمعيٍّ أوسع، بل لكي يَصير أيضًا مكونًا خاصًّا ومُستقلًّا ومميزًا من هذا الجهد. وهكذا يَتسنَّى ربط الهوية بالأشكال التنظيمية الأكثر بِنيوية ورسوخًا من تلك التي تُشكِّلها شبكات من العلاقات غير الرسمية بين شتى مكونات الحركة. وعليه، فإن ما نُسارع بتسميته «هوية الحركة» غالبًا ما يكون، في الواقع، نتاجًا عرضيًّا لعمليات التفاوض بين الصور الجمعية التي ينتجها مختلف الفاعلين وشتى التنظيمات، بل إن حتى المجموعات الصغيرة قد تَشهد أيضًا تعدد التوجهات الذي يُميِّز هوية حركةٍ ما في مجملها (ميلوتشي ١٩٨٤أ). من الأمثلة الدالة على ذلك جمعية تيتشينيزيه النشطة في ميلان؛ إذ أتاح تحليل تجربة هذه الجمعية الفرصة لتعيين نمطين من التوتُّرات الأساسية التي اعترت كيفية تصور النشاط النسوي (بيانكي ومورمينو ١٩٨٤)؛ أما أولهما فميَّز بين الفعل الموجَّه نحو المجتمع مُتجاوِزًا نطاق الحركة والفعل الموجَّه داخليًّا نحو المجموعات الصغيرة، وأما ثانيهما ففرَّق بين الفعل ذي الصبغة الوجدانية التضامنية المحضة والفعل الهادف إلى تقدير كفاءات النساء ومناقبهن المهنية. وقد قدَّمت هذه الانقسامات الثنائية ذاتها مدخلًا مفيدًا لقراءة هوية الحركة ككل؛ فثمة مجموعاتٌ توعوية أو جماعات المثليات جنسيًّا التي لا تكاد تأبه، في الواقع، بالفعل العام، وجُلُّ تركيزها منصبٌّ على الشق الوجداني التضامني للفعل، بينما نجد، في المقابل، أن مجموعات الكاتبات والمعنيات بالتفكير المُتمعِّن في القضايا الفكرية من منظورٍ نسائي قد ربطن ضعف مستوى التدخل الخارجي بما يَهدفن إليه من لفت الأنظار إلى قدرات النساء الفكرية والمهنية. أما المجموعات المعنية بالتدخل الخارجي، فقد أَوْلى بعضها أهميةً كبرى للعنصر التضامني، كالجمعيات النسوية في كوميونات الاستقطان، في حين اهتمَّت مجموعاتٌ أخرى بترسيخ الوجود الاجتماعي للنساء على الصعيد الاقتصادي وصعيد الإنتاج الثقافي على السواء (بيانكي ومورمينو ١٩٨٤: ١٤٧).

ينبغي ألَّا يغيب عن أذهاننا أنه من المُمكن تقاسُم هويات الحركات بين أفراد لا يحملون أي ولاءاتٍ تنظيمية. بل يُمكن في الواقع الشعور بالانتماء إلى حركةٍ معينة دون التماهي مع أي تنظيم محدَّد، بل قد يُصاحبه في الحقيقة تعبير عن المعارضة الصريحة لفكرة التنظيم برمَّته. ففي ظل ظروفٍ مُفعَمة بالمعنويات العالية والحماسة، فإن مجرد المشاركة في لقاءات وتظاهُرات من شأنها أن تمنح شعورًا زاخمًا بالقدرة على الوثوق في أهداف الحركة وتعريف خططها، حتى وإن لم تَنطبِق عليه معايير تنظيماتٍ محدَّدة. في الحقيقة، حين تنزع آليات التماهي إلى التحول بصورةٍ أساسية في اتجاه أطرافٍ فاعلة محدَّدة ومنظَّمة، يعتبر هذا مؤشرًا على فناء الحركة. كانت إحدى السمات المُميِّزة لموجة الاحتجاجات العمالية التي اجتاحت إيطاليا بين عامي ١٩٦٨ و١٩٧٢ إدخال بعض التعديلات على العلاقة بين النضال في تنظيماتٍ نقابيةٍ معيَّنة والنضال في الحركة العمالية بمفهومها الواسع (بيتسورنو وآخرون ١٩٧٨)؛ إذ أُدخِلت أنماطُ تمثُّلٍ جديدةٌ في المصانع (مجالس المصانع) أتاحت فرصًا وافرة للمشاركة حتى لغير المقيدين في أيٍّ من النقابات التقليدية. كما شهدت تلك السنوات دفعًا قويًّا باتجاه تحقيق الوحدة النقابية وتخطِّي الولاءات السابقة الوجود للمجموعات، ولم تعُدِ الولاءات للمجموعات إلى سابق قوَّتها إلا حين تراجعت التعبئة وضعفت هوية الحركة. يلاحظ أن ما أجراه الباحثون من تحليل للحراك الشعبي للطبقة العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية يَدعم هذا الادعاء؛ فعادةً ما تَميل أطوار الصراع المتصاعد إلى تعزيز نزعات التضامُن الجَمعي الأوسع بدلًا من تقوية التماهي مع نقاباتٍ محددة (فانتيجا ١٩٨٨).

قد تتعارَض الهويات الجمعية التي تُعبِّر عنها مختلف الحركات أو مختلف تنظيمات الحركات فيما بينها في بعض الحالات؛ فقد أماط صعود الحركة النسوية اللثام عن تبعية النساء المستمرة داخل تنظيمات الحركة العُمالية، أو كثير من «الحركات الجديدة» ذاتها، لتكشف بذلك عن التناقُضات العميقة الكامنة في هويات الفاعلين والتي يمكن تفسيرها، مع ذلك، في إطار المجال ذاته داخل الحركات «التقدمية». لو تناولنا الأمر من وجهة نظر أخرى فسنجد أن بروز الهويات الدينية أو القومية العرقية كثيرًا ما تَسبَّب في مواجهة الفاعلين لمعضلاتٍ مثيرة؛ نظرًا لصعوبة دمج هذه الهويات بغيرها من مصادر التماهي؛ فالولاء لأيدولوجيةٍ قوميةٍ راديكالية كتلك التي يَعتنقها الصرب، أو لحركة دينية كالأصولية الجزائرية على سبيل المثال، من شأنه أن يضع صعوباتٍ جمةً في طريق تلك النسوة الراغبات في المحافظة على هويتهن الجنسانية وتأكيدها على السواء (كالهون ١٩٩٤أ؛ انظر أيضًا فانتيجا وهيرش ١٩٩٥). من ناحيةٍ أخرى نجد أن ناشطي العدالة العالمية قد أبدوا حتى الآن قدرًا كبيرًا من التسامح حيال توليفات الهويات المتعددة للآخر (ديلا بورتا ٢٠٠٥ﻫ؛ بينيت ٢٠٠٤ﺟ).

(٣) هل تلعب الهوية دورًا في تيسير المشاركة؟

إن الإشارة إلى الهوية أمر من الأهمية بمكان — حتى إن كان مثيرًا للجدل، كما سنرى — من أجل استيعاب الآليات الكامنة خلف قرارات الأفراد بالانخراط في الفعل الجمعي. تعود جذور هذا الجدل إلى عقد الستينيات حين أطلق مانكور أولسن (١٩٦٣) أُطروحته المثيرة بشأن افتقار الفعل الجمعي إلى البُعد العقلاني. تحظى حجة أولسن بشهرةٍ واسعة؛ ولذلك يمكن استعراضها في عباراتٍ معدودة. يُمكننا أن نعتبر نقطة الانطلاق لرؤيته هي مفهوم الفعل الجمعي كفعلٍ معنيٍّ بإنتاج السلع الجمعية التي تستمدُّ طبيعتها من حقيقةٍ مفادُها أنه بمجرد الحصول عليها قد يتمتع بها أيٌّ من أعضاء مجموعةٍ اجتماعية ما، بصرف النظر عن إسهامه في نصرة القضية. تتألف «المجموعة الاجتماعية» في بعض الأحيان من أُناسٍ يعيشون في مكانٍ معين؛ فعلى سبيل المثال، متى نجح ائتلاف بيئي محلي في تطبيق ضوابط أشد صرامةً على انبعاثات السيارات داخل مجتمعه؛ تتوافَر السلعة الجمعية «الهواء الأنقى» لجميع قاطني هذا المكان، سواءٌ أكانوا داعمين للحملة أم لا. في أحيانٍ أخرى، قد تتكون «المجموعة الاجتماعية» من كيانٍ جمعي ما تُشكِّله سماتٌ محدَّدة؛ فمثلًا، بمجرد أن مُنِحت النساء حق التصويت، صار لأي امرأة الحق في ذلك، بصرف النظر عن إسهامها في الحركة المُطالِبة بمنح النساء الحقَّ في التصويت. أو لو نجَحت رابطة مهنية إقليمية في الضغط على الحكومة لبدءِ خطةِ استثمارٍ ضخمة في مجال الاتصالات العامة بالمنطقة، فسوف يَستفيد منها جميعُ أصحاب الشركات العاملة في هذا المجال، بمَن فيهم غير الأعضاء في هذه الرابطة. إن خواصَّ السلع الجمعية تُحدِّد اللاعقلانية الجوهرية التي يتَّسم بها الفعل الجمعي، وذلك إذا قُيِّم استنادًا إلى معايير العقلانية الأداتية ذات الصبغة الفردية؛ فلن يكون من العقلاني إطلاقًا بالنسبة إلى فرادى الفاعلين استثمارُ مواردهم في مشروعٍ ما — إنتاج سلعةٍ جمعيةٍ ما — لو تَعيَّنَ عليهم تكبُّدُ تكاليف الفشل بالرغم من إمكانية استفادتهم من جميع ثمرات النجاح دون الاضطرار إلى المساهمة المباشِرة في إنتاج هذه السلعة.

لكي يتحقق الفعل الجمعي، ينبغي على رواد الأعمال المُنخرطين في عالم السياسة أو التنظيمات السياسية إما إرغام المشاركين المُحتملين أو توزيع حوافز انتقائية، وهو ما يُمكِّن المشاركين مِن تلقِّي قدرٍ أكبر مِن الفوائد مقارنةً بمن أحجموا عن المشاركة. تَنطبق هذه المشكلة، في المقام الأول، على المجموعات الكبيرة، أو بعبارةٍ أخرى على المجموعات التي لن يكون أي إسهامٍ فرديٍّ داخلها من الأهمية بحيث يؤثر على النتيجة النهائية لمشروعٍ جمعي ما. وثمة عاملان يُضاعفان من صعوبات التعبئة بالنسبة إلى المجموعات الكبيرة؛ أولًا: حجمهم الكبير الذي يَستتبِع ارتفاعًا في تكاليف التنسيق. ثانيًا: ازدياد صعوبة تفعيل بعض الحوافز الاجتماعية — كالوجاهة الاجتماعية أو الاحترام أو الصداقة — والتي قد تَفي بالغرض في المجموعات الصغيرة، مع اتِّساع حجم المجموعة.

من غير المُستغرَب أن تختلف ردود الأفعال حيال نموذج أولسن اختلافًا بالغًا؛٩ فقد عمد بعض الباحثين إلى توسيع مفهوم الحوافز الانتقائية بحيث تضم مكافآتٍ ذات طابعٍ تضامني ومعياري، قد تَنقسِم بدورها إلى فئتين على الأقل: حوافز انتقائية خارجية، وحوافز انتقائية داخلية. تتألف الحوافز الانتقائية الخارجية من توقُّعات الأفراد بشأن المجموعة التي ينتمون إليها؛ إذ يُنظَر إلى تلك الحوافز، بصورةٍ أعم، باعتبارها مكافآت وعقوبات على حدٍّ سواء يُمكن أن تستغلها هذه المجموعة وغيرها من الفاعلين الاجتماعيين عند مواجهة قرار بالانخراط الجمعي أو مواجهة رفض له. أما بالنسبة إلى الحوافز الانتقائية الداخلية، فتُغطِّي الآليات الداخلية التي تدفع الأفرادَ إلى إسناد قيمةٍ معياريةٍ معينة إلى الفعل الجمعي، أو أن يستمدُّوا منه متعةً ذاتية، أو أن يشهدوا تحولًا تطهيريًّا (أوب ١٩٨٩: ٥٨-٥٩). وقد أشارت عدة أبحاث عن المشاركة الفردية إلى أنه من بين كل «الحوافز الانتقائية»، تبرز الإشارة إلى القيم والروابط التضامنية المشتركة داخل المجموعة، لا الحوافز ذات الطبيعة المادية باعتبارها أفضل العناصر المُنبِئة بالفعل الجمعي (مارويل وإيمز ١٩٧٩؛ والش وورلاند ١٩٨٣؛ أوليفر ١٩٨٤؛ أوب ١٩٨٨، ١٩٨٩؛ باسي ٢٠٠٣).

بيد أن دمج عناصر معيارية ورمزية في الحوافز الانتقائية لا يحل إحدى أهم إشكاليات نموذج أولسن، أَلَا وهي عدم اهتمامه بالبُعْد الزماني؛ فعقلانية الاقتصاد الجزئي التي تقوم عليها حجة أولسن سرعان ما تقوِّض ذاتها خلال فترةٍ زمنيةٍ قصيرة، بينما يُعَدُّ الفعل الجمعي، في المقابل، عملية تتطور عبر الزمن، لا سيما فيما يتعلَّق بإنجاز الأهداف؛ ومن ثم يصعب، إن لم يَستحِل، تحديدُ التكاليف والفوائد كما ينبغي. توجد من ناحيةٍ يقينيةُ الانخراط وقبول المخاطر على المدى القصير، لكن توجد من ناحيةٍ أخرى دائرةُ النتائج المجهولة والتي لا يَصعب فقط تقديرها من منظور الفرد، بل يبدو تحقيقها أيضًا أملًا بعيدَ المنال. تُقلِّل الهوية الجمعية من هذه المصاعب؛ ففي حين يفترض منهج أولسن إطارًا زمنيًّا قصير المدى لتحقيق أكبر قدرٍ من المنفعة الفردية، نجد أن الهوية الجمعية، في المقابل، تَنتهج منظورًا زمنيًّا أطول كما رأينا، حتى إن تعريف مصالح الفاعلين هو عملية اجتماعية تستدعي تعريفًا لمَن «نحن» ومَن «هم»؛ ولذلك ترتبط ارتباطًا وثيقًا ببناء الهوية. ويترتب على ذلك أن شعور المرء بكونه جزءًا من مسعًى مشتركٍ وتعيينه لمصالحه الخاصة، ليس فقط على الصعيد الفردي بل على الصعيد الجمعي كذلك، إنما يجعل من التكاليف والمخاطر أمرًا أكثر قبولًا مما لو كانت بخلاف ذلك. وقد تبدو المخاطر البدنية والحرمان المادي، وهي تكاليف لا تَمتُّ للعقلانية بصلة من المنظور الفردي القصير المدى، مبررةً لو نُظِر إليها باعتبارها تكاليفَ مرتبطةً بإنجازِ مشروعٍ تاريخي أطول أجلًا (بيتسورنو ١٩٧٨، ١٩٨٣، ١٩٨٦).

فضلًا عن ذلك، يُمكن أن تتفاوت حدَّةُ الهوية الجمعية، ومن قبلها نزعتُها الإقصائية، في تعريف حدود الفاعلين؛ لذلك فمن التساؤلات الرئيسية التساؤل عمَّا إذا كانت سماتُ الهوية المختلفة تؤثِّر على قرارات الانتقال إلى الفعل أم لا، ولو كان الأمر كذلك، فكيف يتحقَّق ذلك. افترَضَ البعضُ صلة، في تناسُبٍ عكسي، بين مستوى شمولِ تعريفٍ معين للهوية وانفتاحه والقدرة على التعبئة: «تسعى بعض المجموعات إلى حشد أعضائها من خلال ذاتٍ جمعيةٍ شاملة وجامعة … إنَّ مثل هذا الإطار الكلي يحول «نحن» إلى مجموعة من الأفراد بدلًا من تحويلها إلى فاعلٍ جمعيٍّ محتمَل … على النقيض، تتميَّز أُطُر الفعل الجمعي بطابع المواجهة والخصومة» (جامسون ١٩٩٢ب: ٨٥). لكن هذا لا يعني أن جميع الحركات الاجتماعية تكوِّن دائمًا هوياتٍ إقصائية؛ فثمة ثُلَّةٌ من الأمثلة التي تشي في الواقع بنقيض ذلك، ضمت حديثًا حركاتٍ بيئيةً وحركاتٍ داعية إلى العدالة العالمية. بيد أن قلَّة الخصوم الواضحين للحركة البيئية طالما أُشير إليها كأحد مصادر ضعف تلك الحركة (مثلًا دياني ١٩٩٥أ)، كما شكَّكَ البعض في قدرة حركة العدالة العالمية على حشد أنصارها فيما سوى تلك الفعاليات الأبرز حضورًا استنادًا إلى أسبابٍ مُشابِهةٍ للغاية (تارو ٢٠٠٥).

تكمن المشكلة، إذن، في كيفية تحقيق توازن بين النطاق والانتقائية (مارويل وأوليفر ١٩٩٣: ١٥٧–١٧٩)؛ أي بعبارةٍ أخرى، كيف تُحدِّد الحركة هويتَها بحيث تضمُّ أكبرَ عددٍ ممكن من الأفراد في دائرة أنصارها المُحتمَلين بينما تُواصِلُ تقديمَ حوافِزَ قويةٍ لأهم أنصارها. إن تبني حركةٍ ما لهويةٍ استيعابيةٍ ومَرِنة لن يُؤدِّي إلى ربطها بمجموعةٍ اجتماعية، أو أيديولوجيةٍ محددة، أو نمطِ حياة، أو قانونٍ رمزيٍّ معين، وهو ما من شأنه أن ييسر التواصل بين ناشطي الحركة والعالم الخارجي، إلى جانب تعزيز قدرتهم على مخاطبة مختلف السياقات الثقافية والسياسية. في المقابل، سوف تنزع الهوية الإقصائية، التي تحدد سمتَ حركةٍ معينة بقدر من العنف، إلى تأكيد العزلة عن العالم الخارجي، لكنها غالبًا ما ستتمكن من تقديم حوافز (انتقائية) أهم للإقدام على الفعل، مقدِّمةً في غضون ذلك تعريفًا أدق للفاعل وخصومه على حدٍّ سواء (فريدمان وماكادم ١٩٩٢).

لكن ينبغي على المرء أن يعيَ أن كيفية المزج الفعال بين هذَين المطلبَين المتعارضَين لا تخضع لسيطرة الفاعلين سوى خضوعٍ جزئي. ما من شك في أن الهوية الجمعية تتأثَّر بمحاولات الفاعلين المقصودة لصياغةِ رموزٍ مُميِّزة ومعالجتها؛ فهي بعبارةٍ أخرى تُعزَى جزئيًّا إلى فعلٍ استراتيجي، لكنها تَعتمد أيضًا — على نحوٍ أكبر على الأرجح — على الاتجاهات العقلية والذكريات الجمعية المُترسِّخة عبر الزمن، والتي لا يحظى ناشطو الحركات إلا بسيطرةٍ ضئيلة عليها. فضلًا عن حقيقة أن الفاعلين الاجتماعيِّين الآخرين قد يتمكَّنون بدرجاتٍ مُتفاوتة من التلاعب بالصورة الذاتية التي تعتمدها حركةٌ ما لنفسها (على سبيل المثال، الإعلام: جيتلين ١٩٨٠؛ جامسون وولفسفيلد ١٩٩٣؛ فان زونين ١٩٩٦؛ جامسون ٢٠٠٤؛ إيرل ومارتن ومكارثي وسول ٢٠٠٤؛ مايرز وكانيجليا ٢٠٠٤).

بالإضافة إلى ما سبق، من الأهمية بمكان التمييز في هذا الصدد بين تعبئة الأشخاص وتعبئة الموارد الأخرى، كالموارد التنظيمية أو المالية مثلًا (أوليفر ومارويل ١٩٩٢). تبدو الهويات الإقصائية أكثر فاعلية في تحفيز المشاركة المباشرة، بينما تبدو الهويات الجامعة الاستيعابية أجدى نفعًا، نظريًّا، في تعبئة النوع الثاني من الموارد (دياني ودوناتي ١٩٩٦). وتتزايد محاولات تنظيمات الحركات لتعبئة الموارد من خلال الأساليب والخطط التسويقية التقليدية مثل البريد المباشر (ماكفارلاند ١٩٨٤؛ دوناتي ١٩٩٦؛ جوردان ومالوني ١٩٩٧). وبالرغم من أن مثل هذه الرسائل كثيرًا ما تُصاغ بعناية لتُخاطب قطاعاتٍ محدَّدة من الجمهور وشرائح معينةً من السوق، فإن محتواها عادةً ما يكون شاملًا وجامعًا على نحوٍ أكبر من تلك الرسائل التي يطلقها ناشطو الحركات عبر شبكاتهم الشخصية (سنو وآخرون ١٩٨٠)، ومن ثم يصير الوصول إلى عامة الجمهور مهمةً أسهل على الصعيد العالمي بالنسبة إلى فاعلي الحركات أصحاب الهويات الاستيعابية، بينما لا تَحظى التنظيمات ذات الهوية الثقافية والسياسية الأكثر وضوحًا وتحديدًا بسهولة الوصول إلا إلى أشد قطاعات الرأي العام تعاطفًا معها.

وفي حين تُقرُّ الآراء المطروحة للتوِّ بالقيود التي يفرضها التفسير الاقتصادي المحض للفعل الجمعي، والفرصة السانحة لوضع الحوافز غير المادية في الاعتبار، فإنها متوافقة مع النموذج العقلاني. غير أن مجموعة أخرى من باحثي الحركات قد أعربوا في المقابل عن تحفُّظاتٍ جادة بشأن إمكانية الاستعانة بمفاهيم وُضِعت في الأساس استنادًا إلى نمطٍ نفعي من الفعل الفردي لتطبيقها على تحليل الفعل الجمعي (فايرمان وجامسون ١٩٧٩؛ فيري ١٩٩٢؛ ميلوتشي ١٩٨٩)، فالحديث عن الحوافز غير المادية، أو النظر إلى الهوية كمِعيار يُتيح المجال لتقدير تكاليف الفعل وفوائده عبر الزمن، لهو أمرٌ غير ملائم لأسبابٍ شتى. بادئ ذي بدء، يقع الافتراض القائل إنَّ الفاعلين الاجتماعيين دائمًا ما يسيرون استنادًا إلى مبادئ عقلانية محلِّ جدل؛ فالعناصر غير العقلانية، على النقيض من ذلك، كالانفعالات والعواطف والمشاعر لها أهميةٌ كبرى أيضًا (ميلوتشي ١٩٨٩؛ فلام ١٩٩٠؛ تايلور وويتير ١٩٩٥؛ شيف ١٩٩٤أ، ١٩٩٤ب؛ جاسبر وبولسين ١٩٩٥؛ جاسبر ١٩٩٧؛ جودوين وآخرون ٢٠٠١). من اليسير تفسير غلبة الرؤى العقلانية منذ عقد الستينيات في ضوء الحاجة إلى تحدي تلك التحليلات التي عمدت إلى اختزال الحركات في استعراضٍ لمَظاهر اللاعقلانية، واعتبارها مجرد نتاج للثغرات القائمة في عمليات التنشئة الاجتماعية (تايلور وويتير ١٧٩-١٨٠)، بيد أن هذا لا يُجيز دعم الفكرة القائلة إنَّ العواطف والمنطق لا مجال للتوفيق بينهما (ترنر وكيليان ١٩٨٧؛ جودوين وآخرون ٢٠٠١: ٢–١٦؛ كيم ٢٠٠٢).

علاوةً على ذلك، يتَّهم النقاد المنهج العقلاني بتجاهل حقيقة أن الفاعلين الاجتماعيين يتصرَّفون ويَصنعون اختياراتهم في إطار منظومة من الاعتماد المتبادل مع غيرهم من الفاعلين؛ فقرار الفاعلين بالانخراط في الفعل مشروط في الحقيقة بتوقُّعاتهم بشأن من يرتبط بهم الفعل. وتتفاوت قدرة الفاعل الاجتماعي على الاختيار المستقلِّ تبعًا للطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وتُقيِّدها التفاوتات في توزيع السلطة والموارد الاجتماعية (فيري ١٩٩٢). حين يُدرك المرء أن حتى الفعل الاقتصادي تحكمه شبكات من العلاقات ومعايير اجتماعية ملزمة للفاعلين (مثل وايت ١٩٨٨؛ ديماجيو وباول ١٩٩١؛ جرانوفيتر ١٩٨٥)، يبدو عندها اللجوء إلى مفهوم الفاعل العقلاني لتحليل الظواهر الجمعية مثار مزيد من الجدل بالنسبة إلى نقاده.

ثمة إشكالية أُخرى تنشأ عن كون تلك السلع التي ينبغي على الفاعل الاختيار بينها تختلف بطبيعة الحال عن تلك التي تشير إليها عادةً نماذج الحرمان الاقتصادي (فايرمان وجامسون ١٩٧٩: ٢٣–٢٧). لا ينبغي الاستهانة بصحة التشابهات الكامنة بين المصالح الفردية والجمعية؛ فكثير من «المنافع» التي تحتشد من أجلها الحركات تدين بوجودها ذاته إلى الفعل الجمعي. لنتأمل مثلًا تعزيز هوية النساء والتحولات الحاصلة في أنماط الحياة الخاصة والعامة للنساء. إن هذه «المنفعة» تخرج إلى حيِّز الوجود نتيجةً لوقوع الفعل الجمعي نفسه أيضًا. غير أن هذا لا ينفي أن كثيرًا من «المنافع» المُتحقِّقة للنساء (مثل تلك الناشئة عن تغيير السياسات) قد يَجري تناولها داخل حدود نماذج أولسن، لكننا نود الإشارة إلى أن معضلة الفعل الجمعي قد يُنظَر إليها أيضًا من زوايا ليست متوافِقة بالضرورة مع منهج أولسن في دراسة المنافع العامة.

ختامًا، يبدو لنا أن آخر افتراضات النماذج العقلانية — القائلة باستقرار بِنى التفضيلات التي تقوم عليها قرارات الأفراد بالانخراط في الفعل — مستبعدة للغاية في حالة الفعل الجمعي. لربما كان الأمر معقولًا بصفةٍ عامة لو كانت مسألة الفعل الجمعي أحد هذه القرارات اللحظية؛ كالقرارات المرتبطة بالمشاركة في تظاهرة معينة من عدمها. أما الفعل الجمعي، فغالبًا ما يكون عملية تتبلور بمرور الزمن تخضع خلالها الدوافع المؤدية إلى الفعل، وما يكمن خلفها من مخاوف، للتعديل من خلال العلاقات القائمة مع الفاعلين الآخرين، وتتجدَّد باستمرار قرارات الأفراد بمواصلة المشاركة فيه، كما أن كثيرًا من المشاركين في الفعل الجمعي لا يَحتشدون بالضرورة استنادًا إلى هويات قائمة بالفعل، بل ربما تتكوَّن هذه الهويات وتتبلور في غضون الفعل (هيرش ١٩٩٠؛ فانتيجا ١٩٨٨). كل ما سبق لا يُرجِّح دعم الفكرة القائلة بوجود بِنية معينة للتفضيلات.

خلاصة القول إن نموذج الفاعل العقلاني يطرح رؤية للفعل تتسم إلى حدٍّ ما، وفقًا لنقادها، بافتقارها إلى الواقعية وإخفاقها في مراعاة طبيعة الفعل الديناميكية أو ما لعمليات خلق الهوية من أهمية. علاوةً على ذلك، فإنه من عجيب المفارقات أن تبنِّي منظور الخيار العقلاني يُفضي في نهاية الأمر إلى حجب دور المصالح ذاته؛ فالفاعلون لا يَحتشدون باسم قضايا أو مطالب مُحدَّدة أو دعمًا لها، وإنما يَنزعون إلى الانخراط في تلك الأنماط من الفعل الجمعي التي تُقدِّم أعظم الحوافز. وأخيرًا، فإن توسيع نطاق النموذج ليشمل الحوافز المعيارية والتضامُنية؛ من شأنه أن يَنطوي على توسيعٍ لمفهوم الحافز يصل إلى حد التَّكرار المعيب (فايرمان وجامسون ١٩٧٩).

بالنظر إلى أن هذه الإشكالية تُمثل خلافًا يغطي كامل العلوم الاجتماعية، فلن يكون من الواقعي أن نتطلع إلى توليفةٍ ملائمة تجمع بين المنظورين المطروحين ها هنا (كوين ١٩٨٥). يكفي أن نتذكر أن أنصار مناهج الخيار العقلاني حاولوا مواجهة سهام النقد التي صوَّبها نحوهم مُعتنقو نموذج الهوية، فسعوا، بوجهٍ خاص، إلى تحليل موقع الفاعلين في العلاقات المعقَّدة القائمة على الاعتماد المتبادَل وتكوين رؤية للفعل أكثر واقعية وأبعد عن الفرضية السابقة القائمة على فكرة الفاعل المستقلِّ (مارويل وأوليفر ١٩٩٣؛ جولد ١٩٩٣ب؛ أوب وجيرن ١٩٩٣؛ أوبرشال وكيم ١٩٩٦؛ هيكاثورن ١٩٩٦).

(٤) كيف يجري إنتاج الهوية وإعادة إحيائها؟

(٤-١) الهوية بين تعريفات الذات وتعريفات الآخر

لو كانت الهوية عبارة عن عمليةٍ اجتماعية لا إحدى سمات الفاعلين الاجتماعيين؛ فقد تكون مشاعر الانتماء والتضامن تجاه مجموعةٍ معينة، والإلمام بعناصر الاستمرارية والانقطاع في تاريخ الأفراد، وتعيين المرء لخصومه الشخصيين؛ خاضعةً جميعًا لعملياتٍ متكرِّرة من إعادة التشكيل. تنبثق الهوية من عمليات التعريف الذاتي والإقرار الخارجي. بل إنه دائمًا ما تقف تمثُّلات الفاعلين الذاتية في مواجهة مع الصور التي تصدرها عنهم المؤسسات والمجموعات الاجتماعية المتعاطفة والمعادية، والرأي العام والإعلام (ميلوتشي ١٩٩٦؛ دروري ودرايكر ٢٠٠٠؛ هوارد ٢٠٠٠).

تتضمَّن عملية بناء الهوية في الوقت ذاته تطلعًا إلى تمييز الذات عن بقية العالم ونَيل اعترافه بها (ميلوتشي ١٩٨٢؛ كالهون ١٩٩٤أ)؛ فلا يُمكن أن يوجد فاعل اجتماعي دون الاستناد إلى التجارب والرموز والأساطير التي يُمكِن أن تُمثِّل حجر الأساس لفرديته. غير أنَّ الإنتاج الرمزي، في ذات الوقت، لا يمكن أن يعتمد حصرًا على الشرعية الذاتية؛ فمن الأهمية بمكان أن تلقى تمثُّلاتٌ معينة للذات اعترافًا في الصورة التي يحملها الفاعلون الآخرون عنها؛ ولذلك تكافح الحركات بالفعل في سبيل نيل الاعتراف بهويتها. لا يمكن أن يوجد صراع ولا، بوجهٍ أعم، علاقات اجتماعية إلا في سياق من الاعتراف المتبادَل بين الفاعلين (سيميل ١٩٥٥؛ تورين ١٩٨١)، ودون هذا الإقرار المتبادل، ستُؤدِّي الهوية المؤكدة ذاتيًّا لمجموعةٍ ما حتمًا إلى تهميشها واختزالها في مجرد ظاهرةٍ شاذَّة.

إنَّ قضية الحركات تدور إذن حول قدرة أعضائها على فرض صورٍ معينة لأنفسهم، ومواجهة محاولات المجموعات المهيمنة للتقليل من تطلعاتهم نحو الاعتراف بكونهم مختلفين. ولعلَّ من أهم النماذج الدالة على هذه الحقيقة هي النماذج المُستمَدَّة من الصراعات المرتبطة ببناء الدولة القومية الحديثة. لقد أدَّى خلق وحداتٍ سياسيةٍ شاسعةٍ شديدة المركزية إلى تأكيد على التجانُس الثقافي عن طريق إقرار لغةٍ «قوميةٍ» واحدة وثقافةٍ «قوميةٍ» واحدة. وكثيرًا ما يتبع تلك التدابير سياساتٌ استيعابية، وذلك في ضوء التعدُّدية الثقافية التي تتَّسم بها طبيعة الأقاليم الخاضعة لسيادة الدول الجديدة. كثيرًا ما وُصِمت التقاليد الثقافية المخالفة لتقاليد المجموعات الاجتماعية الداعمة لبناء الدول القومية الجديدة بكونها من مخلَّفات الماضي؛ فعلى سبيل المثال، أسفر بناء الهوية القومية الفرنسية عن تهميش الثقافات البروفنسالية والبريتانية. وقد أمست تلك الثقافات مجرَّد بقايا من مجتمع رجعي مُنتمٍ إلى ما قبل الحداثة، مثَّل بقاؤها حجر عثرةٍ أمام انتشار قيم التقدُّم الإيجابية التي نصَّبت الدولة الفرنسية نفسها حاملةً لشعلتها (بير ١٩٧٧، ١٩٨٠؛ سافران ١٩٨٩؛ كانسياني ودو لا بيير ١٩٩٣).

في الواقع، تُعدُّ القدرة على فرض تعريفاتٍ سلبية ومشينة لهوية المجموعات الأخرى واحدةً من الآليات الرئيسية لتحقيق الهيمنة الاجتماعية، فلَطالما رمى أصحاب السلطة ناشطي الحركات الاجتماعية، لا سيما في المراحل المُبكِّرة من التعبئة؛ بالانحراف، والضعف الأخلاقي، والفساد، والعجز عن التعاطي مع قيم المجتمع الأساسية. ويَنطبق هذا الأمر على رجعيي أوائل القرن التاسع عشر الذين واجهوا تغيُّرًا اجتماعيًّا كاسحًا (تيلي ١٩٨٤أ: الفصل الأول)، كما يَنطبق أيضًا على محاولات المؤسسة الحاكمة لنزع الشرعية عن المُحتجِّين عقب التعبئة التي شهدتها جنوة عام ٢٠٠١ ضد مجموعة الثمانية. وحين انعقد المنتدى الاجتماعي الأوروبي بسلام في فلورنسا في الفترة من أغسطس ٢٠٠١ إلى نوفمبر ٢٠٠٢، شنَّت الحكومة الإيطالية والأبواق الإعلامية المتعاطفة معها حملةً شعواء مصورةً تلك الحركة باعتبارها عصبةً من المُشاغبين المُنفلِتين، وطبَّقت قيودًا صارمة على حقوق التظاهر (أندريتا وآخرون ٢٠٠٢؛ انظر أيضًا الفصل السابع من هذا الكتاب). لذا، وكما تَشي بذلك روايات أبطال حقبة ما بعد جنوة (أنيوليتو ٢٠٠٣: الفصل الثالث)، كان على ناشِطي الحركات بذْل جهود دءوبة في أنشطة التأطير المضاد.

لكن التعريفات التي يَصوغها خصوم الحركة لهُويتها ليس بالضرورة أن تكون ذات طابعٍ رافض. فكثيرًا ما حاوَل مُمثِّلو المؤسسات التجارية، مثلًا، عبر السنوات القليلة الماضية أن يُصوِّروا مُحتجِّي العدالة العالمية كأصحاب نوايا حسنة وعواطف وتوجهاتٍ نبيلة، ورغم أساليبهم التي كثيرًا ما تكون غير مقبولة، فإنه يجب التعامل معهم بجدية (فكِّر مثلًا في كلمات جورج سوروس المذكورة في دراسة الحالة الواردة في مطلع الفصل الثالث من هذا الكتاب)، وقيل إن المؤسسات التجارية الكبرى ينبغي أن تنخرط بفاعلية مع المحتجِّين من أجل إيجاد قواسمَ مشتركةٍ وخلق مساحة للحوار (كالينيكوس ٢٠٠١: ٣٩١).

إنَّ الحركات الاجتماعية الرامية إلى مواجهة أشكال الهيمنة المُتجذِّرة في الممارسات الثقافية وأنماط الحياة والعادات العقلية والقوالب النمطية الراسخة تُقدِّم تمثيلًا ملائمًا للغاية لتلك الديناميكيات. كثيرًا ما يُفضي الوصم القادم من الخارج إلى إعاقة تكوين هويةٍ مُستقلةٍ قوية والحد من احتمالات الفعل الجمعي، وهي حقيقة تتَّضح بجلاءٍ تام في نموذج حركات المثليِّين والمثليات جنسيًّا على سبيل المثال (أرمسترونج ٢٠٠٢؛ بيرنشتاين ١٩٩٧؛ فالوتشي ١٩٩٩)، وكذا الحركات الأقل إثارةً للجدل كتلك العاملة لصالح حقوق الحيوان (مثلًا أينفونر ٢٠٠٢). ويُعدُّ التصدي للقولبة النمطية السلبية، في جميع الحالات، مُكوِّنًا مهمًّا من مكونات الإنتاج الثقافي للحركات. ومن أشد الأمثلة وضوحًا في هذا الصدد القَولبة النمطية للنساء كأفراد غير معنيِّين بالأبعاد العامة والسياسية للحياة الاجتماعية، جل ميلهم إلى نطاق الحياة الخاصة لا سيما الحياة الأسرية، هذا بالإضافة إلى صورهن النَّمطية كأشخاصٍ مُفتقِرين إلى القدرات العقلية التي يُعتقَد أنها ضرورية للانخراط في الميدان العام (تايلور ١٩٩٦؛ فيري وماكلرج مولر ٢٠٠٤: ٥٩٦). إلى جانب خلق فرصٍ عملية لتيسير مشاركة المرأة، طالما سعت الحركة النسوية السياسية إلى تقويض مثل هذه الصور في مناطق تُضاهي في اختلافها الغرب المترف ما بعد الصناعي (مثلًا تايلور وويتير ١٩٩٥؛ تايلور ١٩٩٦؛ فيري وروث ١٩٩٨)، أو أمريكا الجنوبية المحرومة (أوييرو ٢٠٠٤؛ باندي وبيكهام-مينديز ٢٠٠٣)، أو الهند (راي ١٩٩٩). «لم أقبل أن أتعرَّض للضرب ولا أنبس ببنت شفة … لم أَعُد أقبل. لم أقبل [تحكُّمه] في جسدي … لو وضعت طلاءً للأظافر يقول «سوف أُحطمها بالمطرقة»، ولم أعد أقبل ذلك» (مقتبس في ثيار ٢٠٠١: ٢٥٠). هذه العبارة صادرة عن إحدى منظِّمات الأنشطة المجتمعية في واحدة من أقصى أطراف الأرض، سيرتاو البرازيلية، لكنها قد تصدر أيضًا من نساء في أي بقعة من بقاع العالم.

(٤-٢) إنتاج الهوية: رموز وممارسات وطقوس

مِن بين جميع الحركات المعاصرة، تُعد الحركات القومية على الأرجح أوضحها رسوخًا وتجذُّرًا في التَّجربة التاريخية، غير أن حتى دارسي الحركة القومية يَتشكُّكون في آراء أتباع المدرسة الجوهرية بشأن الهوية. عادةً ما تتمخَّض سلسلة الاختلافات الكامنة في الأسس التاريخية للرموز والأساطير عن خلق الهويات القومية الحديثة. ويرى البعض أن الهويات القومية الحديثة تَستمدُّ أُسسها من وقائع، وأعراف، وأساطير، ومرويات تسبق وجود الدولة القومية بزمنٍ طويل (سميث ١٩٨١، ١٩٨٦). بينما يحتجُّ آخرون بأن أجزاءً واسعة من الأساطير التي تقوم عليها الهويات تفتقر إلى أي أساسٍ تاريخي وأن علينا الحديث بدلًا من ذلك عن «اختراع التقاليد» (هوبزبوم ورينجر ١٩٨٣؛ انظر أيضًا أندرسون ١٩٨٣؛ هوبزبوم ١٩٩١).

حتى في حال توافُق الهوية مع تاريخ مجموعةٍ ما وجذورها الإقليمية والثقافية، دائمًا ما تجري عمليات لإعادة التشكيل الرمزي؛ فقد أظهرت دراسات الذاكرة الجمعية أن الفاعلين يَعمدون إلى إعادة استيعاب التجارب الاجتماعية والتاريخ ومعالجتهما وتحويلهما على نحوٍ خلَّاق، ومن ثم صياغة أساطير وأعراف جديدة (سويدلر وأرديتي ١٩٩٤: ٣٠٨–٣١٠؛ فرانزوسي ٢٠٠٤). في واقع الأمر، ليس من الضروري أن نَعزو إلى الهوية أسسًا «موضوعية» لكي نُدرك استمراريتها عبر الزمن؛ فالحس القومي بالانتماء، على سبيل المثال، لا يُعاد إنتاجه في فترات تأجُّج الحماس الوطني فحسب، بل على النقيض من ذلك، تَعتمِد إعادة إحيائه عبر الزمن على عواملَ أخرى أيضًا، ربما أهمها الممارسات ما قبل الشعورية، واستمرار الأنماط الذهنية، وأنماط الحياة الراسخة (بيليج ١٩٩٥). لكن لو كان الأمر كذلك، يَصير من المهم دراسة الأنماط التي تنشأ من خلالها الهوية وتبقى، قاصِدين ما هو أبعد من الإنتاج الفكري والعقدي.

إن المجازفة بوضع تصنيفٍ متكامل لهو مسعًى محفوفٌ بالمخاطر، لكن من المُمكن تعيين بعض المظاهر الأساسية.١٠ تُعزَّز هوية حركةٍ ما، بادئ ذي بدء، بالرجوع إلى نماذج للسلوك تُحدِّد بأساليبَ شتَّى خصوصية نشطائها بالنسبة إلى «عامة الناس» أو خصومهم؛ فعن طريق تبنِّيهم لأنماطٍ مُعيَّنة من السلوك أو طقوسٍ معيَّنة، يُعبِّر مناضلو الحركات تعبيرًا مباشرًا عن اختلافهم. تأمَّلْ مثلًا تجربة مجموعات البلاك بلوك وتوتِ بيانكِ (التي تعني حرفيًّا المُكتسين باللون الأبيض) في حركة العدالة العالَمية (أندريتا وآخرون ٢٠٠٢، ٢٠٠٣). كما يَلجَئون إلى سلسلة من الأشياء المرتبطة بأساليبَ شتَّى بتجربتهم. من بين تلك المنتجات طائفة من مُحدِّدات الهوية التي تتيح التعرُّف الفوري على أنصار قضيةٍ معينة (الشمس الضاحكة بالنسبة إلى رافضي الطاقة النووية، أو «الكوفية» الفلسطينية، أو الأوشام والرءوس الحليقة التي تُميِّز أعضاء الحركات اليمينية (بلي ٢٠٠٢))، وشخصيات لعبت دورًا محوريًّا في نشاط حركةٍ معينة أو في تشكيل أيديولوجياتها (إم إل كينج ومالكوم إكس في احتشادات السود التي شهدتْها الولايات المتحدة الأمريكية خلال ستينيات القرن الماضي، ورونالد لينج وفرانكو بازاليا في الحركات الراديكالية المعنية بالصحة النفسية خلال السبعينيات والثمانينيات [كروسلي ١٩٩٨، ١٩٩٩])، والأدوات، بما فيها الكتب أو الوثائق البصرية التي تمكِّن الأفراد من إعادة بناء تاريخ الحركة وجذورها عبر الزمان، أو تعيين مَحاورها (مثل كتاب كارسون «الربيع الصامت» (١٩٦٢)، أو كتاب كلاين «بلا شعار» (١٩٩٩)، أو حتى كتاب لينين «ما العمل؟» (١٩٦١ / ١٩٠٢))، ووقائع أو أماكن ذات دلالةٍ رمزية معيَّنة (كتظاهُرات سياتل المناهِضة لمنظمة التجارة العالمية عام ١٩٩٩ (سميث ٢٠٠١)، أو مقتل كارلو جولياني خلال التظاهرات المناهضة لمجموعة الثماني في جنوة عام ٢٠٠١ (أندريتا وآخرون ٢٠٠٢، ٢٠٠٣)، أو مجزرة ميدان السلام السَّماوي في بكين عام ١٩٨٩ (كالهون ١٩٩٤ج)). تنصهر كل تلك العناصر معًا مكونةً قصصًا أو مروياتٍ (سومرز ١٩٩٤) يتناقلها أعضاء حركةٍ ما بحيث تعكس رؤيتهم للعالم وتُعزِّز من تضامنهم.

كثيرًا ما يُؤدِّي مزج تلك العناصر معًا إلى إفراز هوياتٍ يصعب ربطها ربطًا وثيقًا بأي سمةٍ اجتماعية أو تجربةٍ تاريخية معينة؛ فقد لوحظ، مثلًا، أن المجتمعات التي تتميَّز بتعدُّدية الثقافات والتقاليد، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، تتوافَر فيها الظروف المواتية لنشأة أنماط من «العرقية الرمزية» (جانز ١٩٧٩). من الملاحظ أن مثل هذه الأنماط من تحديد الهوية ليس لها أي جذور في التراث التاريخي والثقافي لمجموعةٍ معينة، وإنما تدمج رموزًا ودلالاتٍ منبثقة من مجموعاتٍ اجتماعية متنوِّعة لتشكيل توليفةٍ جديدة. فالهويات الجمعية مثل الهوية الراستفارية مثلًا لا تقوم على نماذجَ ثقافيةٍ وولاءاتٍ دينيةٍ معيَّنة إلا بصورة جزئية، كما أن مثل هذه الهويات إنما هي نتاج لخياراتٍ لأفراد يَنتمون إلى طائفةٍ من الخلفيات لكنهم يستمدون مشاعر الانتماء ويتلقَّون الحوافز المشجِّعة على الفعل من خلال الإشارة إلى ثقافةٍ معينة. ومن ثم فمن المُمكن أن تصير من «الراستفاريين» دون أن يكون لك جذورٌ تاريخية في هذه الجماعة (كومبا وأجاناكو ١٩٩٨).

غالبًا ما تمتزج نماذج السلوك والمنتجات والمرويات في أنماطٍ طقسيةٍ محدَّدة؛ فالمُكوِّن الطقسي يؤدي دورًا مهمًّا في ممارسات الحركات، لا سيما في إنتاج الهويات. وتُمثِّل الطقوس، في العموم، أنماطًا من التعبير الرمزي تَنتقل من خلالها الرسائل المتصلة بالعلاقات الاجتماعية بطرقٍ مصطنعة ومبالَغٍ فيها (ووثناو ١٩٨٧؛ كرتسر ١٩٨٨). تتألَّف هذه الطقوس، بوجهٍ خاص، من إجراءات مشفَّرة نوعًا ما يتناقل من خلالها الأفراد رؤيتهم للعالم ويُعيدون إنتاج تجاربَ تاريخيةٍ أساسية، ويطيحون بقوانينَ رمزيةٍ سابقة (ساسون ١٩٨٤أ، ١٩٨٤ب). تُسهم الطقوس في تعزيز الهوية ومشاعر الانتماء الجمعية، كما تُمكِّن فاعِلي الحركات، في الوقت ذاته، من إطلاق العنان لعَواطفهم وانفعالاتهم (جودوين وآخرون ٢٠٠١).

إن الفعاليات البالغة الأهمية التي يَتكرَّر وقوعها في تاريخ حركات المعارضة أو دائرة أنصارها كثيرًا ما تتَّسم بممارساتٍ طقسية (كرتسر ١٩٩٦)؛ فمن تظاهر أعضاء الحركات العمالية والنسائية في الأول من مايو أو الثامن من مارس، إنما يعمدون إلى تذكير أنفسهم وتذكير مجتمعاتهم في العموم بجذورهم، ومن ثم إعادة إحياء هوياتهم. بالنظر إلى نطاقٍ أضيق، سوف نجد أن الحركات الاحتجاجية حول العالم قد روَّجت لعقد تظاهُرات توافق الذكرى السنوية لوقائعَ محوريةٍ فاصلة في تاريخ نشأتها، بدءًا من اغتيال الزعيمين الأمريكيَّين من أصل أفريقي مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس، مرورًا بحادثة المفاعل النووي تشرنوبل، وانتهاءً بتفجيرات ميلان عام ١٩٦٩، والتي كانت إيذانًا ببدء حقبةٍ مثيرة للغاية في تاريخ إيطاليا. تبقى الطقوس ذات أهمية حتى في تلك الحالات التي شهدت نجاح الحركات في الوصول إلى السلطة؛ فقد احتفَلَت الحكومة الفرنسية الثورية بمقدم «الرجل الجديد» في احتفالات ساحة دي مارس، أما النظام الإيطالي الفاشي، فقد أكَّد على ارتباطه بماضي إيطاليا المجيد باحتفاله بالذكرى السنوية لتأسيس مدينة روما (هَنت ١٩٨٤؛ بريزين ٢٠٠١).

يُقدِّم الدين، خاصة وليس حصرًا في الأنظمة السلطوية، الكثير من السياقات الملائمة لإنتاج الهوية (سميث ١٩٩٦)؛ فالمعارضة البولندية للنظام الشيوعي عوَّلت بشدة على الرموز والممارسات الدينية لتعزيز الهوية والالتزام بالقضية (أوسا ٢٠٠٣أ، ٢٠٠٣ب). وطالَما قدمت الاحتفالات الدينية السياق المُناسِب لإنتاج الأطر التفسيرية القومية وبثِّها في جمهوريات البلطيق أثناء ارتباطها القسري بالاتحاد السوفيتي، وأدَّت الكنائس الكاتالونية والباسكية دورًا مشابهًا خلال حقبة فرانكو الديكتاتورية في إسبانيا (جونستون ١٩٩١أ، ١٩٩١ب، ١٩٩٤). إنَّ إضفاء الشرعية على الطقوس الدينية من شأنه أن يخلق فُرصًا للقاءات الجمعية، ومن ثم إتاحة مجال أمام تقوية الرسائل البديلة في الأنظمة القمعية وانتشارها. على سبيل المثال، شكَّلت جنازة رئيس دير مونتسيرات عام ١٩٦٨، وهو شخصيةٌ قوميةٌ كاتالونيةٌ معروفةٌ معارضة لنظام فرانكو؛ فرصةً سانحة لاحتشاد مختلف قطاعات المعارضة الكالتالونية معًا وتعزيز تضامنها الجمعي (جونستون ١٩٩١ب: ١٥٦–١٥٨). بالمثل، أسهَمَت المراسم الدينية في إيران في عهد الشاه رضا بهلوي ليس فقط في دعم بروز ثَقافات معارضة في ذلك البلد، بل كفَلَت أيضًا لهذه الثقافات تطوير شخصيةٍ ثيوقراطيةٍ مميَّزة؛ مما مهَّد الطريق لظهور نظام آيات الله (معدل ١٩٩٢).

بيد أنه لا يُمكن اختزال الممارسات الطقسية في مجرد تظاهُراتٍ عامة ذات طابعٍ احتفالي؛ ذلك لأن جميع الفعاليات الاحتجاجية التي تُروِّج لها الحركات لها بُعدٌ طقسي كثيرًا ما يَحمل صبغةً استعراضيةً مثيرة ومفعمة بالمشاعر على نحوٍ قوي؛ فالأشكال التي تتَّخذها التظاهرات ونوعية الشعارات التي يهتف بها المتظاهرون، واللافتات أو اللوحات التي يُلوِّحون بها، بل وحتى سلوك المجموعات المقاتلة، جميعها عناصر يُمكن أن تجعل من ممارسات الحركات مظاهر مميزة. وكثيرًا ما اتجه مُناهضو الطاقة النووية خلال تظاهراتهم إلى تمثيل العواقب الوخيمة المُترتِّبة على الانفجارات الذرية، كما أدرجت الحركات النسائية والقومية العرقية والشبابية العروض ذات الطابع المسرحي ضمن ذخيرتها الخاصة بالفعل الجمعي، إلى جانب التظاهُرات السياسية (انظر أيضًا الفصل السابع من هذا الكتاب). تتعرَّض القوانين الرمزية التقليدية، من خلال هذه الطقوس، للانهيار، وتلقى القواعد التي عادةً ما تُحدِّد السلوك الاجتماعي اللائق؛ الرفض. مثال ذلك ما حققته كثير من النساء الأمريكيات عن طريق روايتهن العلنية لما تعرَّضنَ له من تجارب الاعتداء الجنسي؛ إذ استطعن بذلك أن يُحوِّلن حوادث لم تكن لتُثير إلا مشاعر الخزي والعزلة الشخصية إلى مصدرٍ للفخر (تايلور وويتير ١٩٩٥).

غالبًا ما تتشكَّل الهويات ويُعاد إنتاجها في إطار مواقعَ محددةٍ، اجتماعية أو جماعاتية أو كليهما. وقد ظل ميلوتشي (١٩٨٤أ) على مدى عشرين عامًا يتحدث عن «مناطق الحركات» في مسعاه لتعيين الفاعلين المنخرطين في شتَّى أنماط سياسات الهوية داخل ميلان والصلات التي تربطهم، ليس فقط عبر المشاركة في جمعيات، بل والأهم عن طريق انخراطهم في أنشطة ثقافية، والمداومة على ارتياد مقاهٍ ومكتبات ومراكز تأمُّل معينة … إلخ. أشار ميلوتشي، في إطار هذا المسعى، إلى نمط من التنظيم الاجتماعي كان أقل صرامةً وإقصاءً من المجتمعات أو الفرق البديلة الرافضة للعالم، لكنه قدَّم في الوقت نفسه سياقًا اجتماعيًّا لتجربة أنماط حياة جديدة. وكثيرًا ما استُعملت مفاهيم الثقافة الفرعية والثقافة المضادة طوال العقود الماضية لتمييز قطاعات من السكان يتقاسمون توجُّهاتٍ ثقافيةً متشابهة (انظر أيضًا الفصل الثالث من هذا الكتاب)، لكنهم يُكِنُّون درجاتٍ متفاوتة من العداء والتحدِّي الصريح للسلطة الثقافية وأنماط الحياة السائدة (كبيئة المثليين والمثليات جنسيًّا: دايفينداك ١٩٩٥؛ روب وتايلور ٢٠٠٣). نزع البعض إلى الحديث عن «بيئات الحركات الاجتماعية» للتأكيد على ارتباط تلك الثقافات الفرعية والمضادة بحيزٍ مكانيٍّ محدد، عادةً ما يكون أحياء المدينة (هونس وليتش ٢٠٠٤)، بينما استعمل آخرون (كابلان ولوو ٢٠٠٢) مفهوم «الوسط الطائفي» لوصف مجموع الجماعات العُمالية والبيئية المنظمة، والأناركيين والمسيحيين التقدُّميين، وتنظيمات المثليين والمثليات جنسيًّا، وأتباع المذهب الكاثوليكي المنخرطين في حملات العدالة العالمية الأخيرة، وللتشديد على التشابهات القائمة بين هذا المفهوم ومفهوم الخلايا الثقافية السرِّية الذي شاع خلال عقد الستينيات.

ينبغي ألا نغفل عن الطقوس المرتبطة بالحياة الداخلية لمجموعةٍ ما دون ممارستها علنًا؛ فكثيرًا ما تَتَّخذ الإجراءاتُ الدالة على قبول أعضاءٍ جدد في تنظيمات الحركات صورةَ «طقوس انتقال» حقيقية (فان جينيب ١٩٨٣؛ ساسون ١٩٨٤أ، ١٩٨٤ب). إن العضوية في تلك التنظيمات تنطوي — بدرجةٍ ما على الأقل — على وفاة شخصية الفرد وولادتها من جديد، وتلك حقيقةٌ ذات أهمية خاصة في حالة الحركات الدينية الجديدة (برجر ولوكمان ١٩٦٦). فضلًا عن ذلك، يمكننا أن نلحظ في جميع أنماط التنظيمات تقريبًا وجود إجراءاتٍ دالة على تحوُّلٍ ما في مكانة ناشطي الحركة، وهو ما يتزامن أحيانًا مع ما يبدو تناميًا في انخراطهم التنظيمي. أما في المجموعات الراديكالية التي تمارس معارضتها خارج الإطار البرلماني، فإن الانضمام إلى المجموعات المقاتلة عادةً ما كانت تَسبقه أشكالٌ أخرى من النضال التنظيمي أخف مشقةً وأقل خطورةً، كتوزيع المنشورات مثلًا، وهي مهامُّ أسهمت أيضًا في تحديد جدارة الناشط الجديد بالثِّقة ومدى صلابة شغفه السياسي (ديلا بورتا ١٩٩٠). أما في المجموعات النسوية، فإن الطقوس السلوكية في كثيرٍ منها من شأنها أن تدعم عملية رفع مستويات الوعي والتحول الشخصي (تايلور وويتير ١٩٩٥)، وهو الأمر الذي قد نجد نظيره في التنظيمات المدافعة عن تفوق العرق الأبيض على بقية الأعراق (بلي ٢٠٠٢).

(٤-٣) الهوية والعملية السياسية

إنَّ عملية بناء الهوية، بالنسبة إلى الحركات السياسية، غالبًا ما تُشكِّلها متغيراتٌ ذات طبيعةٍ سياسيةٍ محضة. فالمعايير التي تَستند إليها المجموعات الاجتماعية لتعريف ذاتها وتلك التي يعتمد عليها الآخرون لتعريفها إنما تعكس سمات النظام السياسي لبلدٍ ما وثقافته السياسية. يبدو لنا أنه من المُمكن تفسير نشأة الهوية الجمعية في ضوء صيغةٍ منقَّحة للحجَّة الشهيرة القائلة إن أنماط وضع السياسات تُحدِّد أنماط الفعل السياسي وليس العكس (لوي ١٩٧١). فالفاعلون الاجتماعيون يميلون، في واقع الأمر، إلى تشكيل فعلهم وبناء تحالفاتهم بطرقٍ مختلفة عند التعامل مع مسائلَ سياسيةٍ مختلفة، مع هيمنة مجموعات المصالح الكبرى على السياسات التوزيعية والشبكات الأكثر تعدُّديةً المُميِّزة للسياسات التنظيمية.

علاوةً على ذلك، برزت خصائصُ أخرى مميِّزة لمجالات السياسات؛ نظرًا لتأثيرها على بِنية السياسات محل الخلاف في تلك المجالات (بارتولوميو وماير ١٩٩٢؛ جينسين ١٩٩٥). على سبيل المثال، عزا الباحثون ظهور هوية مُحدَّدة في الولايات المتحدة الأمريكية تربط الأمريكيين من أصلٍ آسيوي ونشأة «فعلٍ جمعيٍّ عرقي» (أوكاموتو ٢٠٠٣) على هذا المستوى؛ إلى حقيقة مفادها أن الهيئات العامة اتجهت إلى التعامل مع المجموعات العرقية باعتبارها مجموعاتٍ متجانسة، وذلك فيما يتعلَّق بالمجالات الحيوية، كسياسات الهجرة وحقوق الأقليات، بالرغم من أن كلًّا من تلك المجموعات، كالفيتناميين والكوريين، كانت ترى الأخرى مختلفة عنها اختلافًا عميقًا. يُمكننا أن نلحظ في تلك الحالة أن تبنِّي معيارٍ سياسي/إداري مُعيَّن أنتج مصالح وهُوياتٍ تمكِّن المجموعات المختلفة من التحرُّك بصورةٍ جمعية بشأن عدد من القضايا (أومي ووينانت ١٩٩٤).

على صعيدٍ آخرَ، تتحدَّد هُويات الفاعلين أيضًا في سياق التقسيمات/الانقسامات السياسية السائدة في مجتمع ما، وتنشأ الحركات في الأنظمة السياسية التي لها بنية بالفعل؛ إذ تسعى تلك الحركات إلى تعديل تلك البنية وتفعيل عمليات إعادة التقارب السياسي (تيلي ١٩٧٨؛ دالتون وآخرون ١٩٨٤؛ بارتوليني ومير١٩٩٠). حين تكون الهويات السياسية الراسخة بارزة الأهمية، أي لم تزَل قادرةً على تشكيل السلوك السياسي وعلاقات التضامُن (كريسي وآخرون ١٩٩٥: الفصل الأول)، يتعيَّن على الحركات الاجتماعية الناشئة إفراز هويات على قدرٍ كافٍ من الخصوصية بحيث تُرسي الدعائم اللازمة لتنوُّع الحركة بالنسبة إلى خصومها، لكنها في الوقت ذاته يَنبغي أن تكون على قدرٍ كافٍ من التقارب مع الهويات الجمعية التقليدية بحيث يتسنَّى للفاعلين داخل الحركة التواصل مع من لا يزالون يَعتبرون أنفسهم أصحاب هوياتٍ راسخة. في ظل هذَين الشرطَين، سوف تكون الفرص المُواتية لصعود حركات «جديدة» بحق، أيْ حركات تتخطَّى الانقسامات الراسخة، محدودةً نسبيًّا (دياني ٢٠٠٠أ).

كثيرًا ما تُمثِّل التفاعلات مع السلطات مصدرًا مهمًّا من مصادر الهوية؛ فلطالما لوحظ كيف أن «المواجهات مع سلطة ظالمة» (جامسون وفايرمان وريتينا ١٩٨٢) ربما يُيسِّر دمج كلٍّ من الدوافع نحو الإقدام على الفعل ومناصَبة العداء لأصحاب السلطة وممثليهم (انظر أيضًا الفصل الثامن من هذا الكتاب). من الأمثلة الدالة على ذلك روايات الإرهابيين الإيطاليين الذي عاصروا حقبة السبعينيات؛ إذ كثيرًا ما أشاروا إلى ما تعرضوا له من سوء معاملة من قِبل الشرطة أو القضاة باعتباره إحدى القوى المحرِّكة التي دفعَتْهم نحو التطرف (ديلا بورتا ١٩٩٠؛ كاتانزارو ومانكوني ١٩٩٥). لو نظرنا إلى المسألة من زاويةٍ أوسع نطاقًا وأخفَّ وطأة، يُمكننا أن نرى التفاعُلات مع موظَّفي الدولة ممن لا يتصرَّفون وفقًا للتوقعات أو المُمثلين السياسيين الذين يُخفِقون في إدراك احتياجات الشعب الحقيقية كعواملَ ميسرةٍ لنشأة الهوية السياسية. على سبيل المثال، أجرى دروري وآخرون (٢٠٠٣) دراسة لتحليل كيفية تطور هويات السكان المحليِّين الذين شاركوا في احتِجاجٍ مُناهضٍ لمشروع شق طريق في إنجلترا بين عامَي ١٩٩٣ و١٩٩٤ وذلك إبان تأجُّج الصراع. اكتشف هؤلاء الباحِثون أن الدور الذي لعبته الشرطة في دعم مأموري التنفيذ القَضائي خلال إخلاء المنطقة من المُحتجِّين قد أسهم في توسيع نطاق مشاعر التماهي لدى المشاركين بحيث تخطَّت حدود المجتمعات المحلية لتمتدَّ نحو حركةٍ اجتماعيةٍ عالمية. في دراسته للعلاقة بين الحياة اليومية والاحتجاج في الأرجنتين خلال عقد التسعينيات، كشف أوييرو (٢٠٠٤) أن تحوُّل امرأةٍ مطلَّقةٍ عاطلةٍ عن العمل لم يَسبِق لها إبداء أدنى اهتمام بالميدان السياسي إلى منظِّمة بارزة للأنشطة المجتمعية إنما اعتمد بقدرٍ لا يُستهان به على مشاعر السخط والغضب التي تملكتها أثناء تفاعلاتها مع نوعَين من «السلطات الظالمة»: «السلطة السياسية» مُمثلةً في المحافظ الذي صوَّر المحتجين الجياع كعصابةٍ من الغوغاء، و«السلطة الاجتماعية» ممثلةً في أحد أقرانها من المحتجِّين الذكور، والذي أعاد إنتاج القوالب النمطية الجنسانية من خلال إنكاره لدور النساء في النضال.

(٥) خلاصة القول

يُشكِّل بناء الهوية مكوِّنًا جوهريًّا من مكوِّنات الفعل الجمعي؛ فهو يُمكِّن الفاعلين المنخرطين في الصراع من رؤية أنفسهم كمجموعة من الأشخاص تربطهم مصالحُ وقيمٌ وماضٍ مشترك، أو تُفرِّق بينهم العناصر ذاتها. كثيرًا ما تُبلوَر مشاعر الهوية في ضوء سماتٍ اجتماعيةٍ محدَّدة كالطبقة، أو النوع الاجتماعي، أو الإقليم، أو العرقية. غير أن عملية تشكُّل الهوية الجمعية لا تعني بالضرورة تجانس الفاعلين المشتركين في ذات الهوية أو تماهيهم مع مجموعةٍ اجتماعيةٍ مُتمايزة، ولا تعني كذلك أن مشاعر الانتماء دائمًا ما ينفي بعضها بعضًا. العكس هو الصحيح؛ فكثيرًا ما يتماهى الفاعلون مع كياناتٍ جمعيةٍ متباينة غيرِ متوافقة دائمًا فيما بينها بشأن قضايا أساسية. يرى بعض الباحثون أن واحدة من الإشكاليات المحورية التي يُواجهها تحليل الفعل الجمعي هي إعادة تشكيل التوتُّرات عن طريق الصيغ المختلفة لهويات الحركة، وكيفية التعامل مع تلك الصيغ.

تلعب الهوية دورًا مهمًّا في تفسير الفعل الجمعي حتى في نظر مَن يرون في الفعل الجمعي شكلًا فريدًا من أشكال السلوك العقلاني؛ فكُثرٌ هم مَن يرون في الهوية الجمعية معايير معينة لتقييم تكاليف الفعل وفوائده في الأجلين المتوسِّط والطويل. لكن من يَعتقدون أنه من غير الممكن طرح مثل هذا الاستخدام لمفهوم الهوية كُثر أيضًا؛ ذلك لأنه من غير اليسير ربط الهوية بسلوكٍ ذي طابع استراتيجي؛ نظرًا لعناصرها ذات الصبغة الانفعالية والوجدانية القوية، فضلًا عن طبيعة الهوية الخلافية والمركَّبة. تنشأ الهوية وتخضع لتعديلات عبر عملياتٍ شتَّى، من بينها الصراعات بين التعريفات الذاتية للواقع وتعريفات الآخرين، والأنماط المتنوِّعة من الإنتاج الرمزي، والممارسات الجمعية، والطقوس. إلى جانب كل ما سبق، من المهم أن نضع في اعتبارنا خصائص العملية السياسية والتي يُمكن أن يكون لها تأثير على تعريفات الهوية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤