الفصل الخامس

الأفراد والشبكات والمشاركة

فيالِ ساركا هو طريقٌ طويلٌ مجهول إلى حدٍّ ما يمتد على حدود ميلان، تصطفُّ على جانبَيه مبانٍ سكنية غالبًا ما كانت تُستخدم لاستضافة عمال مصنع بيريللي المجاور. شهدت حقبة أواخر التسعينيات عملية تجديدٍ حضري جلبت معها إلى المنطقة رونقًا فكريًّا جديدًا عقب تدشين الحرم الجامعي الخاص لجامعة ميلان الحكومية الثانية فوق أرض مصنع بيرللي. غير أن المُطوِّرين لم يكن لهم وجود في الصورة عام ١٩٨٥ حين سافر ماريو دياني إلى تلك المنطقة للقاء أنطونيو، وهو ناشطٌ محلي في القضايا البيئية والسياسية. كان ماريو يجري بحثًا يَتناول فيه الحركة البيئية في ميلان، وقد حصل على اسم أنطونيو كجهة اتصال لمجموعةٍ شعبية عاملة في المنطقة معنية بالبيئة السياسية. انحدر أنطونيو من أسرة من المزارعين القادمين من جنوب إيطاليا قبل تحوُّلهم إلى عمال صناعيين وهجرتهم إلى ميلان في الخمسينيات، وقد أهَّله ذلك ليسلك مسارًا عاديًّا إلى حدٍّ ما في التنشئة السياسية؛ فبعد تعرفه على تجارب النقابات العمالية وسياسة الأحزاب الشيوعية خلال سنوات مراهقته، انتهى به الحال إلى الانخراط في مجموعةٍ يسارية راديكالية تُسمَّى لوتا كونتينوا (أي الكفاح المستمر) خلال عقد السبعينيات، ثم أبدى لاحقًا اهتمامًا بالصلة الرابطة بين الحرمان الاجتماعي والتدهور البيئي، كما انضم كعضوٍ فاعل إلى «القائمة الخضراء» المحلية التي كانت تَتشكَّل حينها. كان أنطونيو حريصًا على الترويج لإقامة حملات توعية بالقضايا البيئية على منطقة شمال ميلان الحدودية التي كانت تعاني من مستوياتٍ مرتفعةٍ من التلوث، وفي سبيل تحقيق هذا المسعى، استغل أنطونيو جهات الاتصال التي جمعها طوال فترة نضاله السابق. كان الناشطون الأساسيون الذين ضمَّتهم مجموعته البيئية الجديدة يجمعهم ماضٍ من النشاط في نفس الفرع المحلي للوتا كونتينوا، كما أثبتت مجموعة معارفه وجهات اتصاله التي تكوَّنت عبر السنين جَدواها في الترويج لإجراءات محدَّدة؛ فقد تعاون أنطونيو مع طائفة من التنظيمات المحلية المنتمية إلى شتَّى ألون الطيف اليساري الرحب، جديده وقديمه، بما في ذلك الفروع المحلية للأحزاب، والاتحادات، والجمعيات الثقافية والتعاونية.

تُثير قضية أنطونيو الاهتمام لأسبابٍ شتَّى، يأتي في مقدمتها أنه رغم أن أحداث هذه القصة جرت خلال ثمانينيات القرن الماضي قبل نشأة الحركات المناهضة للعولمة بزمنٍ طويل، فإن ثمة تشابهاتٍ بين أحداثها وما جرى ولا يزال يجري منذ نهاية التسعينيات، وهي ليست مجرَّد تشابهاتٍ عابرة. لقد كان أنطونيو في الواقع من النماذج الأولى لما نُطلق عليه الآن «ناشط في مجال العدالة البيئية» (تشابك ٢٠٠٣)؛ إذ نجَح في مزج اهتمامه بانعدام المساواة الاجتماعية باهتمامه بالأوضاع البيئية في المناطق الحضرية. فضلًا عن ذلك، تعدُّ قصته تمثيلًا رائعًا لأهم الموضوعات التي يتناولها هذا الفصل، ألا وهي الطبيعة الديناميكية للعلاقة بين الشبكات والمشاركة، وازدواجية الصلة بين الأنشطة الفردية والتنظيمية. أولًا: تُؤثِّر الشبكات الاجتماعية في المشاركة في الفعل الجمعي، بينما تُشكِّل المشاركة بدورها الشبكات، فتُعزِّز الشبكات القائمة بالفعل أو تُوجِد شبكاتٍ جديدة. قد تزيد الشبكات الاجتماعية من فُرص الأفراد في الانخراط في الفعل، كما تُقوِّي مساعي الناشطين لنشر الدعوة إلى قضاياهم على نحوٍ أكبر؛ فحين عقد أنطونيو العزم على تأسيس مجموعة عمل محليةٍ مدافعة عن القضايا البيئية، حاول أن يُقنع رفقاءه السابقين في لوتا كونتينوا بالانضمام إلى مشروعه الجديد ونجح في إقناعهم بالفعل. لم يَكتفِ هؤلاء الرفقاء بالاستجابة السريعة والانخراط في القضايا البيئية، بل قبلوا أيضًا تقديم الدعم للأجندة الخاصة التي كان يَطرحها أنطونيو، وهي الاستجابة التي استَندَت بقدرٍ لا يُستهان به على الثقة المتبادلة، وإحساس الصحبة والتضامن والتفاهمات والرُّؤى الكونية المشتركة التي تكوَّنت ونمَت على مدار علاقتهم الطويلة في لوتا كونتينوا؛ لذا ومن هذا المنظور، سهَّلت الشبكات الاجتماعية السابقة تكوُّن أنماطٍ جديدة من الفعل الجمعي في مراحلَ لاحقةٍ.

لا تُعدُّ الشبكات الاجتماعية، في الوقت ذاته، مجرد عنصرٍ مُيسِّر للفعل الجمعي، بل هي إحدى النتائج المترتِّبة عليه أيضًا؛ ففي حين ينخرط الأفراد غالبًا في حركة أو حملةٍ محدَّدة من خلال علاقاتهم السابقة، فإن مشاركتهم ذاتها تخلق علاقاتٍ جديدةً أيضًا تؤثِّر بدورها في التطورات اللاحقة التي تشهدها مسيرتهم النضالية (بل والتي ستَشهدها حياتهم عامة). دعونا نُلقِ نظرةً على انخراط أنطونيو في مجموعة لوتا كونتينوا من هذه الزاوية: لقد استُقطِب أعضاء فرع المجموعة المحلي إلى راديكالية اليسار الجديد من خلال طائفة من الروابط التي نشأت في المدرسة، ومجموعات الأقران، والتنظيمات السياسية (كالأجنحة الشبابية للأحزاب اليسارية التقليدية)، بالإضافة إلى الجمعيات الأخرى (كتلك المرتبطة بالكنائس). بناءً على ما سبق، يتضح أن مشاركة الأفراد في لوتا كونتينوا كانت نتاجًا لشبكاتٍ سابقة (من ضمنها أنماط مشاركةٍ سابقة) بقدر ما كانت مصدرًا لشبكات استطاع أن يعتمد عليها أشخاصٌ مثل أنطونيو في استقطاب أعضاء في مراحلَ لاحقةٍ.

غير أن ثمة ديناميكيةً أخرى مهمَّة تلفت قصة أنطونيو أنظارنا إليها، ألا وهي ثنائية الأفراد والتنظيمات؛ إنَّ تفرُّدنا كأفراد يتحدَّد بمجموع عضوياتنا في مجموعاتٍ شتى، كما أننا بالتحاقنا بمجموعاتٍ مختلفة نخلق، في الوقت نفسه، روابط بين هذه المجموعات (سيميل ١٩٥٥؛ بريجر ١٩٧٤). يُمكننا أن نَستخلِص معلوماتٍ مهمةً عن انخراط الأفراد في الفعل الجمعي إذا ألقينا نظرةً فاحصة على عضوياتهم في الجمعيات والتنظيمات، ومشاركتهم في الأنشطة الاجتماعية والثقافية القريبة من بيئات الحركات الاجتماعية. ويُعدُّ نموذج أنطونيو خير دليل على تلك المسألة. لقد تحدَّدت هويته «كرجلٍ سياسي» بمجموع نضاله في مجموعةٍ بيئيةٍ شعبية ونضاله في القائمة الخضراء المحلية ذات التوجُّه اليساري؛ وعلى هذا الأساس، كان أنطونيو مختلفًا اختلافًا جليًّا عن غيره من الناشطين البيئيِّين ممَّن مزجوا الانخراط في الحركة البيئية بالعضوية في جمعياتٍ ترفيهية أو ثقافيةٍ سائدةٍ معتدلة في توجُّهاتها. لكن أنطونيو استطاع في الوقت ذاته، من خلال نشاطه في مجموعةٍ محليةٍ معنية بالبيئة السياسية وحزب منتمٍ إلى اليسار الجديد، ومن خلال مشاركته العابرة في مجموعاتٍ محليةٍ أخرى، أن يربط بين كل هذه المجموعات على نحوٍ ما؛ فقد وفَّر قناة اتصال أثبتت جدواها في الترويج لمبادراتٍ مشتركة، كما يسَّرت تنامي الثقة المتبادلة والتضامن بين مختلف المجموعات. ربما لا يتسع المجال في تلك الحالة للحديث عن «هويةٍ جمعية»، غير أنه من المؤكَّد أن رابطةً اجتماعية قد تولَّدت؛ فالأفراد لا ينضمون عادةً إلى تنظيمات يَعتبر كلٌّ منها الآخر متعارضًا معه ومناوئًا له. من الجدير بالذكر أيضًا أن الأفراد يربطون التنظيمات عبر الزمن؛ فانخراط أنطونيو ورفقائه، على سبيل المثال، في جماعة لوتا كونتينوا سابقًا قد ربط كذلك — من خلال سِيَرهم الذاتية الفردية — الحياة السياسية الشعبية في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته.

إجمالًا، تبرز العلاقة بين الأفراد والشبكات التي تتضمَّنهم كعنصرٍ حيوي، ليس فقط لانخراط الأفراد في الفعل الجمعي، بل أيضًا لاستدامة الفعل عبر الزمن وللشكل المحدَّد الذي قد يتَّخذه التنسيق بين عددٍ كبير من المجموعات والتنظيمات. نطرح في القسم التالي سؤالًا عما إذا كان الارتباط بمن يَشتركون بالفعل في الفعل الجمعي قد يُسهِّل قرارات الأفراد بتكريس وقت وجهد لهذا الفعل. سوف نسبر أصول هذا السؤال والانتقادات التي وُجِّهت للجواب القائم على دور الشبكات. خلف تلك التساؤلات يكمن جدلٌ أوسع كثيرًا بشأن العلاقة بين البِنية والفعل، وهي مناقشة جذبت على مدار العقد الماضي إسهاماتٍ كثيرةً من جانب باحثين لديهم اهتمامٌ خاص بالفعل الجمعي (سيويل ١٩٩٢؛ إميربير وجودوين ١٩٩٤؛ إميربير ١٩٩٧؛ إميربير وميشه ١٩٩٨؛ ليفساي ٢٠٠٢). لن يتسنَّى لنا في كتابنا هذا تناول هذا الجدل، لكن علينا أن نعيَ السياق النظري الأوسع الذي يضمُّ اهتماماتنا البحثية الخاصة.

نَنتقل في موضعٍ لاحق من هذا الفصل إلى الجانب الآخر من العلاقة بين الأفراد والشبكات، ألا وهو ما يُسهم به الأفراد في إنتاج الحركات الاجتماعية من رحم عددٍ كبير من المجموعات والجمعيات والأفراد المعنيين المُنخرطين في الفعل الجمعي الموجَّه إلى قضايا واسعةٍ معينة. ورغم أن بعض التنظيمات تتطلَّب التزاماتٍ حصرية، فإن أغلبها لا يوجب ذلك؛ ولهذا سوف نستطلع عمليات بناء الشبكات والتفاهُم المشترك التي تُتيحها عضويات الأفراد المتعدِّدة في مختلف أنواع المجموعات غير الرسمية والجمعيات التي تتَّسم بمزيد من الطابع الرسمي. وسنُحاول في معرض مسعانا هذا ربط نقاشنا — ضمنيًّا في أغلبه أيضًا — بالجدل الأوسع حول دور الشبكات الاجتماعية كمصدر للفرص الفردية والجَمعية (كولمان ١٩٩٠؛ بوتنام ١٩٩٣؛ بوتنام ٢٠٠٠؛ إدواردز وفولي ودياني ٢٠٠١؛ براكاش وسيل ٢٠٠٤). ربما بالإمكان أن نَنظر إلى الشبكات الميسِّرة للانخراط في أنشطة الحركات الاجتماعية باعتبارها، من تلك الزاوية تحديدًا، صورةً معينة من صور «رأس المال الاجتماعي» (دياني ١٩٩٧).

بيد أن الأفراد لا يخلقون الصلات من خلال عضوياتهم التنظيمية فحسب، بل يخلقونها أيضًا عبر مشاركتهم في شتَّى أنواع الأنشطة الاجتماعية والثقافية (كالمهرجانات الموسيقية، والمجموعات ذات الذوق المشترك، ومجموعات المطالعة، والمقاهي البديلة، ودور السينما والمسارح … إلخ) وهُم، بتلك الطريقة، يُعيدون إنتاج بيئات لثقافاتٍ فرعية أو ثقافاتٍ مضادةٍ معينة تتيح فرصًا لعقد أنشطةٍ احتجاجية وللمُحافظة على التوجهات النقدية وتغييرها حتى حينما يفتقد الاحتجاج إلى الحيوية والزخم (ميلوتشي ١٩٩٦). ويتناول الجزء الأخير من هذا الكتاب تلك المسألة، كما يستعرض في هذا السياق تساؤلًا بشأن ما إذا كان انتشار التواصل عبر الكمبيوتر قد يُغيِّر من الظروف التي يُعاد في ظلها إنتاج المجتمعات النقدية والأوضاع الثقافية البديلة. وسوف نستقي السياق الأوسع لتلك المناقشة من الأدبيات المعنية بدور الشبكات والمجتمعات الافتراضية والحقيقية في قيام «المجتمع الشبكي» (كاستيلز ١٩٩٦؛ كالهون ١٩٩٨؛ ويلمان وهايثورنويت ٢٠٠٢؛ راينجولد ٢٠٠٢؛ فان دي دونك ولودر ونيكسون وروشت ٢٠٠٤).

(١) لماذا ينخرط الأفراد في الفعل الجمعي؟ دور الشبكات

ما هي وتيرة الاستقطاب عبر الشبكات الاجتماعية مقارنةً بغيرها من قنوات التعبئة، كالتعرُّض للرسائل الإعلامية، أو قرارات المشاركة التلقائية دون دعوة؟ في واحدة من أولى الدراسات التي تُوثِّق أهمية الشبكات الشخصية في عمليات الاستقطاب، أوضح كلٌّ من سنو وزرتشر وإكلاند-أولسن (١٩٨٠) أن الشبكات الاجتماعية هي العنصر المسئول عن التزام قطاعٍ كبير (من ٦٠ إلى ٩٠ بالمائة) من أعضاء تنظيماتٍ دينية وسياسيةٍ شتَّى وولائهم، باستثناءٍ وحيدٍ وهو مجموعة هاري كريشنا. أشار هؤلاء الباحثون إلى أن الفرق التي تبدي عداءً صريحًا تجاه بيئتها الاجتماعية هي فقط من تجذب نسبةً كبيرة من الأشخاص الذي يعانون مشكلاتٍ شخصية ويَفتقرون إلى ذخيرةٍ واسعة من العلاقات (انظر أيضًا ستارك وبينبريدج ١٩٨٠). في دراستهما التي تناولت التنظيمات غير الدينية، وجد دياني ولودي (١٩٨٨) دورًا بالقوة ذاتها تَلعبه الشبكات، كاشفيْن عن أن ٧٨ بالمائة من ناشطي الحركة البيئية في ميلان خلال ثمانينيات القرن الماضي قد جرى استقطابهم من خلال جهات اتصال شخصية تكوَّنت إما في سياق الحياة الخاصة (الأسرة أو دوائر الصداقات الشخصية أو الزملاء)، أو في سياق أنشطةٍ تعاونيةٍ أخرى.

بينما قد لا يتطلَّب الانضمام إلى فرقٍ دينية تحمل عداءً عميقًا للعالم الدنيوي شبكاتٍ قوية، غير أن العكس يبدو صحيحًا بالنسبة إلى الانضمام إلى التنظيمات السياسية الراديكالية؛ حيث تشير الأدلة المتاحة إلى أنه كلما ارتفعت تكلفة الفعل الجمعي واشتدت خطورته، احتاج الأفراد إلى صلاتٍ أقوى وأكثر عددًا لكي يشاركوا في هذا الفعل. بادر ماكادم (١٩٨٦) بدراسة عملية استقطاب الأفراد للمشاركة في مشروع «فريدم سمر» للحقوق المدنية، الذي استهدف زيادة مشاركة السود في الحياة السياسية في الولايات الأمريكية الجنوبية خلال الستينيات، وذهب ماكادم في دراسته إلى أن الانضمام إلى هذا المشروع لم يرتبط بالمواقف الفردية، بل بثلاثة عوامل؛ عدد التنظيمات التي ينتمي إليها الأفراد، لا سيما التنظيمات السياسية، وكمِّ تجاربهم السابقة مع الفعل الجمعي، والعلاقات بآخرين كانوا منخرطين في الحملة. كما وجدت ديلا بورتا (١٩٨٨) في دراستها لنمط من النشاط لا يقلُّ خطورةً عن سابقه، وإن كان مختلفًا تمامًا، أن انخراط الأفراد في جماعاتٍ إرهابيةٍ يسارية في إيطاليا سهَّله وجود روابط شخصيةٍ قوية، كانت في كثير منها بأصدقاءَ مقرَّبين أو أقارب. بُعدٌ آخر تضيفه إلى هذا الطرح دراسةٌ حديثة أُجريتْ حول الدور الذي لعبه الأعضاء الفرديون في نشأة الحزب النازي الألماني في عشرينيات القرن الماضي (أي الأعضاء غير المرتبطين بأي تنظيمٍ محلي: أنهاير ٢٠٠٣). كان رواد الأعمال النازيون ذوو النشاط السياسي، على صعيدٍ ما، أبعد ما يكونون عن العزلة، بل كان لهم، على النقيض، وجودٌ راسخ بقوة في الشبكات الأوسع التي كانت تربط التنظيمات اليمينية والقومية شبة المسلحة إبان سنوات الاضطراب التي أعقبت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. كانت تلك الشبكات، في الوقت ذاته، «متراكزة» بشدة (سيميل ١٩٥٥)، ما يعني أنها كانت شبكاتٍ ذات كثافةٍ عالية داخليًّا، لكنها كانت بمعزلٍ عن الأنماط الأخرى من التنظيمات الاجتماعية أو السياسية.

لا تبرز أهمية الانخراط في الشبكات الاجتماعية في عملية الاستقطاب فقط، بل يُشكِّل أيضًا عاملًا مقاوِمًا لنوايا الرحيل وداعمًا للمشاركة المستمرة. ومن الأمثلة الدالة على ذلك أن أعضاء الجمعيات التطوُّعية الأمريكية ممن تُشكِّل علاقاتهم بغيرهم من أعضاء التنظيم أغلب روابطهم الاجتماعية؛ يكونون أشد ميلًا إلى مواصلة التزامهم بعضوية تلك التنظيمات مقارنةً بنظرائهم ممن يقيمون أغلب علاقاتهم الاجتماعية مع أفراد ليسوا أعضاءً بها (ماكفيرسون وبوبيلارز ودروبنيتش ١٩٩٢). في دراسته على المنسحبين من التنظيمات السويدية المناهضة لتناول الكحوليات، اكتشف سانديل (١٩٩٩) أيضًا مظاهر ملموسة، إيجابية وسلبية على السواء، لتأثير المحاكاة؛ إذ نزع الأفراد إلى الانضمام إلى التنظيمات والرحيل عنها في مجموعات، كما كان تأثرهم بأقرب صلاتهم أشد وأعمق (انظر أيضًا سانديل وستيرن ١٩٩٨؛ تيندال ٢٠٠٤).

لا تَنحصر أهمية تلك النتائج في مسألة الاستقطاب إلى الحركات الاجتماعية أو التنظيمات الدينية؛ إذ يبدو أن ثمة آلياتٍ مشابهة تؤدي دورًا داخل التنظيمات، كالمنظمات الخيرية ومجموعات المتطوِّعين، ليست لها أهدافٌ سياسيةٌ صريحة، أو تنظيمات تُحجم عن إدراج الاحتجاج والفعل المباشر ضمن خياراتها التكتيكية، أو كليهما (ويلسون ٢٠٠٠)، كما يبدو أن الأمر ذاته يَنطبق على المجموعات الراسخة المعنية بتَمثيل المصالح كالنقابات العمالية (ديكسون وروشينيو ٢٠٠٣)؛ ولذلك، يُحبَّذ أن نتناول القضية من خلال دراسة الآليات الشبكية المتعلِّقة بالتنظيمات الشعبية الراديكالية وغيرها من أشكال الروابط (نوك ١٩٩٠ج؛ نوك ووايزلي ١٩٩٠؛ كيتس ٢٠٠٠؛ أوليفر ومارويل ٢٠٠١؛ باسي ٢٠٠١، ٢٠٠٣؛ دياني ٢٠٠٤ب).

كيف تُؤثر الشبكات الاجتماعية في قرارات المشاركة في الفعل الجمعي؟ وأي آليات تحكم عملها؟ ميزت فلورنس باسي (٢٠٠٣) بين مهام التنشئة الاجتماعية والربط البِنيوي وتشكيل القرارات، وهي المهام التي تضطلع بها الشبكات في عملية التعبئة. تنشط الشبكات، أولًا، لخلق ميولٍ نحو الفعل؛ فالاتصال بأشخاص ملتزمين بالفعل بقضيةٍ معينة يُمكِّن الأفراد من الشعور بأنهم جزء من «ذاتٍ جمعيةٍ»، ويتيح لهم تشكيل منظوماتٍ من الدلالات تجعل من الفعل الجمعي مسعًى هادفًا وممكنًا في ذات الوقت، من أجل النظر إلى قضايا معينة باعتبارها قضايا ذات أهميةٍ اجتماعية تستحق الجهود الجمعية. كثيرًا ما تخلق الشبكات الاجتماعية، في الوقت ذاته، فرصًا لتحويل الميول إلى فعل (وهو ما أسمَتْه باسي مهمة الربط البنيوي)؛ فمن يَحملون ميولًا معينة سوف تزيد احتمالية اتصالهم بتنظيمات ومصادفتهم لفرص المشاركة إذا كانوا على اتصال بأشخاصٍ مُنخرِطين حقًّا في الفعل. وأخيرًا فإن اعتناق رؤًى معينةٍ وتوافر فرص للفعل لا يكفل تحقق التعبئة؛ ذلك لأن قرارات الإقدام على الفعل سوف تتأثَّر أيضًا بعلاقات المرء الشبكية. فالأفراد لا يتخذون قراراتهم بمعزل عما يفعله الآخرون، وإنما في سياقه، ومن هنا تبرز أهمية العلاقات الشبكية (باسي ٢٠٠٣: ٢٣–٢٧). وأوضحت باسي أيضًا كيف أن تلك المهام تتَّخذ أشكالًا مختلفة حسب سمات التنظيم الساعي إلى الاستقطاب، ومدى حضوره وظهوره في الفضاء العام؛ فعلى سبيل المثال، تَلعب مهمة الربط الاجتماعي دورًا أكثر أهمية في الانضمام إلى تنظيمات ليس لها حضورٌ طاغٍ في الفضاء العام، مثل منظمة «إعلان بيرن» التي أجرَت باسي دراسة عليها، وهي مجموعة تضامن مع العالم الثالث، مقارنةً بدورها في الانضمام إلى تنظيماتٍ ذات حضورٍ عامٍّ قوي، كالفرع السويسري للصندوق العالمي للحياة البرية.١

كان لإدراك دور الشبكات في تيسير الاستقطاب واستدامة المشاركة في الفعل الجمعي دورٌ حيويٌّ في بروز تفسيراتٍ أصحَّ وأدقَّ للسلوك الاحتجاجي؛ إذ مكَّن الباحثين من التصدي للرُّؤى القائلة إنَّ الاحتجاج والسلوك الثقافي المضاد إنما هي نزعاتٌ منفلتة ومنحرفة؛ فحتى أوائل السبعينيات، كانت الأوساط الأكاديمية الموثوق بها لم تزل تَعتبر انخراط الفرد في الحركات الاجتماعية نتاج «مزيج من الاعتلال الشخصي والتفكُّك الاجتماعي» (ماكادم ٢٠٠٣: ٢٨١). على الصعيد الجزئي، كان الفعل الجمعي يُفسَّر في ضوء تهميش مكانة الأفراد المنخرطين في النشاط الاحتجاجي وعدم اندماجهم في وسطهم الاجتماعي، وعلى الصعيد الكلي كان يُعزى إلى اختلال النظم والترتيبات الاجتماعية الروتينية الناتجة عن عمليات التغيير والتجديد الراديكالية. ومن الملاحظ أن كلا التفسيرَين قد افترضا تعارضًا أصيلًا بين النشاط السياسي الاحتجاجي والممارسة السياسية الديمقراطية (كورنهاوزر ١٩٥٩؛ ليبسيت ١٩٦٠؛ بيوتشلر ٢٠٠٤).

بيد أن هذا الفصل بين الاحتجاج والحياة السياسية الروتينية قوبل بمعارضة من جانب باحثين ذهبوا إلى أن الفعل الجمعي الشَّعبي المشاكس إنما هو في الأساس «نشاطٌ سياسي في ثوبٍ مختلف». وانطلاقًا من هذا المنظور، لم تكن الحركات الاجتماعية إلا واحدًا من الخيارات التي قد يستغلُّها المعارضون لحصد نتائج ما يَنتهجونه من سياسات ولتحقيق سعيهم في الانخراط في نظام الحكم (تيلي ١٩٧٨). وخلافًا لما كان سائدًا من وصم للمشاركة في الحركات الاجتماعية كسلوكٍ مختل، اتجه هؤلاء الدارسون إلى تصوير ناشطي الحركات الاجتماعية والمتعاطفين معها كأفراد يتمتَّعون بسعة في الموارد المعرفية وثراء في المهارات الريادية والسياسية (أوبرشال ١٩٧٣؛ مكارثي وزالد ١٩٧٧). والأهم بالنسبة إلينا أنهم وُصِفوا بغزارة علاقاتهم، وهو ما يَعني حسن اندماجهم في مجتمعاتهم، وقوة انخراطهم في طائفةٍ واسعة من التنظيمات، بدءًا من التنظيمات السياسية، مرورًا بالجمعيات التطوعية والمجموعات المجتمعية (سنو وآخرون ١٩٨٠؛ ماكادم ١٩٨٦؛ دياني ولودي ١٩٨٨). وقد أُجريَت دراساتٌ استقصائية شملت عددًا من القوميات لتحليل المشاركة الفردية، ودعمَت إلى حدٍّ كبير هذه الحجة فيما يتعلَّق بالسياسة المؤسسية وسياسة الاحتجاج؛ إذ ترتبط المشاركة في كلا النشاطين ارتباطًا وثيقًا (بارنز وكاسِ وآخرون ١٩٧٨؛ جاننجز وآخرون ١٩٩٠؛ نوريس ٢٠٠٢).

افترض مُنظِّرو المجتمع الجماهيري أن الجمعيات ستُحبط الفعل الجمعي الراديكالي؛ نظرًا لقدرتها على دمج النُّخَب والمواطنين العاديين وتمكين أعضائها من التكيُّف مع قواعد اللعبة، مانحةً إياهم شعورًا بالفاعلية السياسية وروابط أساسية وحياةً أكثر إرضاءً لاحتياجاتهم. من المعلوم لنا الآن أن المشاركة التنظيمية قد تؤدِّي دورها في الاتجاه المعاكس أيضًا؛ فيُمكِن، مثلًا، لعضوية الأفراد في الجمعيات أن تُساعدهم على التكيُّف مع توجهاتٍ ناقدة للوضع الراهن لا داعمة له، وقد تصل المتعاطفين مع قضية بعينها بمواطنيهم ممن يملكون المهارات السياسية اللازمة للتعبئة، كما قد تدفع تلك العضوية الأفراد إلى الشعور بضغطٍ أخلاقي إن هم أحجموا عن المشاركة في حين يَنشط معارفهم المُقرَّبون في الدفاع عن قضيةٍ معيَّنة (بينار ١٩٦٨: ٦٨٣؛ كيتس ٢٠٠٠؛ باسي ٢٠٠٣).

كثيرًا ما تجري التعبئة في الحركات الاجتماعية من خلال آليات «استقطاب الكتل» (أوبرشال ١٩٧٣): أي استقطاب خلايا، أو فروع، أو مجرد مجموعاتٍ كبيرة من أعضاء تنظيمات قائمة وضمهم جملةً واحدة إلى حركةٍ جديدة، أو إشراكهم في تدشين حملاتٍ جديدة (كما هو الحال في مثال أنطونيو؛ إذ كان للفرع المحلي لمجموعة لوتا كونتينوا دورٌ فعال في تأسيس قائمة خضراء في المنطقة). ليس بالضرورة مُطلقًا أن تَحُول البِنى الوسيطة دون وقوع الصراعات الاجتماعية، كما أن لها آثارًا تعبوية ويُمكنها أن تحفز كلًّا من المشاركة الفردية والجمعية وتضفي عليهما الشرعية. ثمة حجةٌ أخرى طرحتها بقوة نظرية المجتمع الجماهيري، مفادها أن التنظيمات الرسمية تصير حتمًا أهم مجموعةٍ مرجعية بالنسبة إلى أعضائها في المجتمع المعاصر، بيد أن مثل هذا الطرح قد ثبَت خطؤه؛ أيضًا؛ فعلى النقيض، غالبًا ما تؤدِّي المجموعات الأولية والشبكات الاجتماعية داخل المجتمعات الصغيرة مثل هذا الدور بالنسبة إلى الأفراد (بينار ١٩٦٨: ٦٨٤؛ انظر أيضًا بولتن ١٩٧٢؛ بيكفانس ١٩٧٥؛ فانتيجا ١٩٨٨؛ ليكترمان ١٩٩٥أ).

إلى جانب ذلك، فإن لإدراك تأثير الشبكات الاجتماعية على كلٍّ من المشاركة الفردية والمستويات الإجمالية للفعل الجَمعي وسط مجموعةٍ سكانيةٍ معينة دورًا في إرساء دعائم النقد للنظريات البِنيوية المتناولة للفعل الجمعي (بما فيها الصيغ الحتمية من الماركسية). تَعمد مثل هذه النظريات إلى تفسير الفعل الجمعي باعتباره نتيجةً لسماتٍ مشتركة بين أفراد مجموعةٍ سكانية ما (سواءٌ كانت طبقة، أو أمة، أو مجموعةً محددةً أخرى). وعلى هذا الأساس ينبغي ربط القُدرة التعبوية العامة لمجموعةٍ اجتماعيةٍ معينة، وكذا تغيراتها عبر الزمن، بأبعادها؛ فتدنِّي مستويات التعبئة لدى الطبقة العاملة في الديمقراطيات الغربية، مثلًا، تُعزى أسبابه إلى انكماشها وتقلُّص مركزيتها بوجهٍ عام في إطار العملية الاقتصادية.٢في المقابل، يتَّجه كثير من دارسي الحركات الاجتماعية حاليًّا نحو ربط الفعل الجمعي بالوجود المشترك للسمات الفئوية والشبكات في مجموعةٍ سكانيةٍ معينة؛ فمن المؤكد أن تقاسم خصائص معيَّنة، مثل المواقع الطبقية، أو النوع الاجتماعي، أو الجنسية أو الاعتقادات الدينية، من شأنه أن يُنتج العناصر التي قد يستند إليها الإقرار وتَعتمِد عليها عملية بناء الهوية. غير أن تعبئة الموارد وبروز الفاعلين الجمعيِّين لا يصبح ممكنًا إلا عبر قنوات الاتصال والتبادل التي تُشكِّلها الشبكات الاجتماعية (تيلي ١٩٧٨).

(٢) هل للشبكات أهمية دائمًا؟

حلَّ دور الشبكات في عمليات الاستقطاب محل تشكُّك من زوايا مختلفة. فأطروحة الشبكات، استنادًا إلى الأُسس المنطقية، لن تكون متسقة مع حقيقة أن الأشدَّ ميلًا إلى الإقدام على الفعل هم الشباب، نظرًا لظروف حياتهم المواتية؛ إذ لم يَعودوا مرتبطين بأسرهم الأصلية كما كانوا من قبلُ، ولم تتبلور لديهم بعدُ روابطُ أسريةٌ ومهنيةٌ جديدة (بيفن وكلاورد ١٩٩٢: ٣٠٨-٣٠٩). فضلًا عن ذلك، بل والأهم، أن أطروحة الشبكات ستكون، إلى حدٍّ كبير، من قبيل الحشو المعيب بالنظر إلى انتشار الروابط عبر المجموعات والأفراد؛ «فالاندماج الأفقي، على هشاشته، واسع الانتشار، ومن ثم يجعل فرص الاحتجاج واسعة الانتشار كذلك» (بيفن وكلاورد ١٩٩٢: ٣١١). بدلًا من الاكتفاء بتسليط الضوء بالكامل على تلك الحالات التي تُعدُّ فيها الروابط عناصر منبئةً بالانخراط في الفعل، يجدر بالمحللين إيلاء عناية أيضًا إلى تلك النماذج التي تشهد وجودًا للشبكات لكن دون أن يُسفِر وجودها عن مشاركة من قبل الأفراد.

ذهب البعض أيضًا إلى أن التركيز على الشبكات يصرف الأنظار عن العملية الضرورية بالفعل لإتمام التعبئة؛ ألا وهي بثُّ الرسائل الثقافية المعرفية (جاسبر وبولسن ١٩٩٥). ورغم أن مثل هذه الرسائل قد تَنتقِل عبر الشبكات، فإن ثمة قنواتٍ أخرى قد تبثُّها مثل الإعلام. وقد يلجأ القائمون على حملات الحركات إلى «الصدمات الأخلاقية» ذات التأثير العاطفي القوي في سبيل استقطاب الغرباء الذين لا يستطيعون الوصول إليهم عبر الشبكات الشخصية. وقد يَنطبِق هذا بوجهٍ خاص على الحركات الساعية إلى ضمِّ قضايا جديدة إلى الأجندة السياسية، أو تلك التي تَفتقِر قياداتها إلى خلفيةٍ سياسيةٍ معتبرة أو كليهما:

ربما يعني استعمال حركةٍ ما لرموز تكثيفية دون شبكات اجتماعية أنها أكثر ميلًا إلى توظيف دعواتٍ ذات نزعةٍ أخلاقيةٍ صارمة تُشوِّه صورة خصومها وتُشيْطنهم. قد تزيد احتمالية اعتمادها في إنجاز أغلب المهمة على فِرَق من المهنيين أو أفراد يتَّسمون بالحماس الشديد، مثل ناشطي حقوق الحيوان الذين يقتحمون المختبرات. على النقيض، فإن منظمي الحركات [الذين يستطيعون] الوصول إلى ثقافةٍ فرعيةٍ فاعلة لدى المواطنين المنخرطين سياسيًّا والاستفادة منها … يمكنهم الاعتماد على نشاطٍ تأطيري سابق … ومِن ثمَّ فحاجتهم أقل إلى توجيه صدماتٍ أخلاقية إلى الجمهور.

(جاسبر وبولسن ١٩٩٣: ٥٠٨)

ربما يتيسَّر الانخراط المستدام في الفعل الجمعي أيضًا بفضل المشاركة في فعالياتٍ يتبين في نهاية المطاف قدرتها على إحداث تأثيرٍ عاطفي فعَّال على مجموعاتٍ كاملة أحيانًا أو على أفرادٍ محدَّدين في أحيانٍ أخرى، وليس بالضرورة أن تكون تلك المشاركة مزمعة أو مُرتقبة (ترنر وكيليان ١٩٨٧؛ جودوين وآخرون ٢٠٠١). لقد سبق وعرَّجنا على تحليل خافير أوييرو للآليات التي تحوَّلت من خلالها سيدة لا اهتمام لها بالسياسة ولا صلات تربطها بالناشطين السياسيين إلى زعيمةٍ مجتمعيةٍ في بلدةٍ أرجنتينيةٍ صغيرة خلال أقل من أسبوع، وذلك عقب مشاركتها العابرة في حصار روَّج له السكان المحليون احتجاجًا على ما تشهده منطقتهم من بطالة وضيق العيش. بالنظر إلى خلفية تلك السيدة، فإن تفسير تجربتها في ضوء أطروحة الشبكات يبدو صعب التصديق. إن ما حدث كان إلى حدٍّ بعيد جراء تفاعل مشاعر سخط عديدة: حيال المنظومة القضائية التي خذلتها في كفاحها لتأمين مساعدة زوجها — الذي انفصلت عنه — في تنشئة أطفالها، وحيال رجال السياسة المحليِّين الذين حاولوا استغلال احتجاجات المحليِّين في تحقيق مآربهم السياسية؛ وحيال مساعي المحافظ في حصر الفعل الجمعي الذي اضطلع به الجياع داخل إطار السلوك الإجرامي، هذا إلى جانب مشاعر السخط حيال ما أبداه رفقاء الاحتجاج الذكور من تجاهلٍ لها واستخفافٍ بدورها (أوييرو ٢٠٠٤).

يُمكننا، من واقع التجربة العملية، أن نُعيِّن عدة أمثلة تحقَّقت فيها التعبئة، إلى حدٍّ كبير، خارج نطاق الشبكات الاجتماعية، أو لم تتحقَّق فيها التعبئة رغم وجود الشبكات الاجتماعية. على سبيل المثال، من بين جميع المشاركين في الحملات التعبوية التي شهدتها كاليفورنيا مناهضة لظاهرة الإجهاض، لم ينضمَّ عن طريق الشبكات إلا الخُمس (لوكر ١٩٨٤)، كما سبق أن رأينا أن أعضاء الفِرَق الدينية ربما قد انضمُّوا إليها بمعزل عن صِلاتهم وروابطهم السابقة (سنو وآخرون ١٩٨٠). أوضح مولينز (١٩٨٧)، في المقابل، أن غزارة العلاقات الشخصية في أحد مجتمعات بريزبين المحلية لم تُسفر عن انطلاق حملاتٍ تعبويةٍ مناهضة لخطط شقِّ طريقٍ سريع من المُقرَّر أن يقطع الحي. حتى في حال اكتشاف تأثيرات للشبكات الاجتماعية، تتَّسم النتائج، في بعض الأحيان، بالغموض والالتباس؛ فقد اكتشفت أوليفر (١٩٨٤) مثلًا أن مَن لهم علاقات بجيرانهم يكونون أكثر ميلًا إلى الانخراط في رابطات الأحياء، بيد أن تأثيرات الشبكات في تحليلها كانت، في مُجملها، مختلطة. مؤخرًا كرَّر كل من نيبستاد وسميث (١٩٩٩) دراسة ماكادم بشأن مشروع فريدم سمر متناولَيْن المشاركين في منظمة نيكاراجوا للبعثات التبادلية والمنسحبين منها خلال عقد الثمانينيات. كانت روابط الأفراد بالمنخرطين مباشرةً في الفعل، في تلك الحالة، هي العنصر الأشد فاعلية في التنبؤ بالمشاركة، غير أن عدد روابط هؤلاء الأفراد بتنظيماتٍ أخرى لم يكن عاملًا ذا بال، لكن العلاقة انقلبت بالنسبة إلى الأفراد الذين انضموا إلى المنظمة بعد عامها الثالث؛ إذ اكتسب عدد الصلات التنظيمية أهمية بينما لم تعُد الروابط بالمشاركين الفعليين ذات جدوى.

حملت تلك الانتقادات مُحلِّلي الشبكات الاجتماعية على تحديد أفكارهم وحُججهم بصورةٍ ملموسة؛ فمن المسلَّم به الآن على نطاقٍ واسع أنه عند تناول العلاقة بين الشبكات والمشاركة، يجدر بالباحث تحديد عناصرها. فتساؤلاتٌ من نوعية «ما أنواع الشبكات وما الذي يفسره كلٌّ منها؟» و«ما الظروف التي تكتسب في ظلها شبكاتٌ محددةٌ أهميتها؟» تعدُّ حيوية في هذا السياق، غير أننا، في وقتنا الراهن، لم نتوصَّل بعدُ إلى إجاباتٍ حاسمة لتلك التساؤلات. في بعض الأحيان، يكون موقع الفرد داخل الشبكة هو المعوَّل عليه وليس مجرد انخراطه في طرازٍ معيَّن من الشبكات. وقد تناول فيرناندز وماكادم (١٩٨٩)، في إحدى دراساتهما المعنية بالمشاركة في مشروع فريدم سمر، مركزية الفرد في الشبكة المكونة من جميع الناشطين الذين تقدَّموا للمساهمة في الحملة في مدينة ماديسون عاصمة ولاية ويسكونسن. مثَّلت العضويات المشتركة في شتَّى أنواع المنظمات الاجتماعية الصلات الرابطة بين الأفراد. والأفراد الذين كانوا يَحتلُّون موقعًا أكثر مركزية في تلك الشبكة (ونعني بهم المرتبطين بعددٍ أكبر من المشاركين المحتمَلين أو المرتبطين بأفرادٍ ذوي موقعٍ مركزي أيضًا في تلك الشبكة، أو كليهما) كانوا على الأرجح يَجتازون عملية التدريب دون تردد، وينضمُّون إلى الحملة في نهاية المطاف؛ إذن لم يكن الانخراط في الشبكات يحظى، في تلك الحالة، بذات الأهمية التي حظي بها موقع الفرد داخلها.

إنَّ للسياق الذي تَجري في إطاره محاولات التعبئة أهميةً كبيرة أيضًا؛ إذ تؤثر الأوضاع المحلية على أداء الشبكات الاجتماعية. درس كريسي (١٩٨٨ب) عملية استقطاب المشاركين إلى حملة «العريضة الشعبية» عام ١٩٨٥، التي استهدفت جمع توقيعات على عريضةٍ مناهضة لنشر القذائف الموجَّهة من طراز SS20 في هولندا. في المناطق التي شهدت ضعفًا في بيئات الثقافة المضادة، كان لزامًا أن يكون الأفراد أعضاءً بالفعل في تنظيماتٍ سياسيةٍ محلية كي يحتشدوا في الحملة، أما في المناطق التي قويت فيها بيئات الثقافة المضادة وكانت المواقف العامة حيال الفعل الجمعي أكثر إيجابية في مُجملها، كانت الحاجة أقل إلى وجود صلات بأعضاء في تنظيماتٍ سياسيةٍ محدَّدة من أجل تحفيز الأفراد على الانضمام؛ فقد استُقطِب مزيد من الأشخاص عبر شبكات الصداقة الشخصية، أو حتى من خلال أنماطٍ أخرى غير مستندة إلى صلات شبكية على الإطلاق (كطلبات التقدم التلقائية مثلًا: كريسي ١٩٨٨ب: ٥٨). بدا إذن أن بيئات الثقافة المضادة تتمتَّع بقدرةٍ ذاتية على تحفيز الأشخاص، وهو ما يُضعِف بدوره من أهمية الصلات التنظيمية. وقد اكتشف ماكادم وفيرناندز (١٩٩٠)، على نحوٍ مماثل، أن عملية استقطاب الأفراد إلى حملة فريدم سمر في المعاقل التي تضعف فيها تقاليد النشاط النضالي، مثل مدينة ماديسون بولاية ويسكونسن، قد اعتمدت على عضوية الأفراد في الشبكات التنظيمية اعتمادًا أقوى مقارنةً بالمعاقل التي تقوى فيها تقاليد الممارسات السياسية البديلة كمدينة بيركلي مثلًا.

سبق أن رأينا (القسم ١) أن النشاط الراديكالي غالبًا ما يحتاج إلى شبكاتٍ داعمة كثيفة، لكن على النقيض، قد لا تَستدعي المشاركة في الأنشطة التنظيمية التي لا تتطلَّب جهودًا مُضنية؛ بالضرورة دعمًا من شبكاتٍ اجتماعيةٍ متينة؛ فالولاء، مثلًا، لجمعياتٍ ثقافية أو حتى مجموعاتٍ دينية تُروِّج لممارساتٍ قريبة نوعًا ما من أنشطة السوق (كالتأمل الفردي، أو الممارسات الصحية البديلة مثل اليوجا … إلخ) قد ينشأ بسهولة حتى بالرغم من أن قرارات الأفراد بالانخراط فيها لا تدعمها شبكاتٌ اجتماعيةٌ محددة (ستارك وبينبريدج ١٩٨٠). وحتى مجموعات المصالح العامة، كتلك الناشطة في الحركة البيئية، ربما تعتمد على الشبكات بدرجاتٍ متفاوتة حسب مستويات اعتدالهم وسيطرة الصبغة المؤسسية عليهم. من الأمثلة الدالة على ذلك ما توصل إليه دياني ولودي (١٩٨٨) من اعتماد الاستقطاب إلى التنظيمات الناشطة في قطاع المحافظة على البيئة الأكثر استقرارًا ورسوخًا على الشبكات الخاصة مقارنةً بالمجموعات الأكثر ميلًا إلى النقد والتي اعتمدت إلى حدٍّ كبير في استقطابها للأفراد على الروابط الناشئة في تجارب الفعل الجمعي السابقة. وقد فسَّر الباحثان هذا الاختلاف بالقول إن الروابط الخاصة على سبيل الحصر (أي تلك الناشئة في سياقات منفصلة عن دوائر الفعل الجمعي) قد تكفي لتيسير الانضمام إلى التنظيمات ذات الأهداف السياساتية الواسعة القبول (كدعم مجموعةٍ محلية ما تُروِّج لتدشين مناطق خضراء جديدة في الحي). أما الانضمام إلى تنظيمات لها بعض المواقف الراديكالية، كتنظيمات البيئة السياسية، فربما يقتضي من الأفراد التغلُّب على عوائقَ أشقَّ؛ ولذلك فقد يسهل هذا لو أن الأفراد مُرتبِطون بمعارفَ التقوا بهم خلال تجاربَ محددةٍ للفعل الجمعي، لا لقاءات في سياقاتٍ أعم كالحي الذي يَقطنه الفرد. غير أن الولاء لأنماط من الفعل الجمعي متطلبة للغاية ربما ينشأ أيضًا دون وجود شبكاتٍ تلعب دورًا رئيسيًّا؛ ففي نموذج الفِرَق الدينية الرافضة للعالم، والتي تتطلب من أعضائها انسلاخًا تامًّا عن أنماط حياتهم وعاداتهم السابقة، ربما يسهل الانخراط على الأفراد المنعزلين مقارنةً بمن يتمتعون باندماجٍ جيد في شبكاتهم الاجتماعية، والأغلب أن الروابط الشبكية ستمارس نوعًا من الضغوط المتعارضة؛ مما سيثبط من عزم أصحاب الكفاءات المحتمَلين على الانضمام (سنو وآخرون ١٩٨٠).

تزايد إدراك الباحثين لانخراط الأفراد في روابطَ متعددةٍ وإدراكهم أن بعضها قد ييسر المشاركة في حين قد يعوقها البعض الآخر (كيتس ٢٠٠٠). وقد سعى كلٌّ من ماكادم وبولسين (١٩٩٣)، واضعَيْن تلك الاحتمالية في اعتبارهما، إلى تحديد الأبعاد الأعظم أهمية في الروابط الاجتماعية والتعرُّف على كيفية مساهمة مختلف أنواع الروابط في تشكيل قرارات المشاركة. وكان للاستنتاجات التي توصَّل إليها الباحثان دورٌ ملموس في إضفاء المصداقية على المجادلات السابقة (بما فيها مجادلاتهما الخاصة: ماكادم ١٩٨٦) حول الصلة بين المشاركة والعضوية التنظيمية السابقة. وعليه، فإنَّ الانخراط في الروابط التنظيمية لم يكن مُنبئًا بالمشاركة في النشاط، والأمر نفسه يَصدُق على الروابط الوثيقة بمن تطوعوا بالفعل في النشاط، بل كان الأهم هو الالتزام العميق بهويةٍ معينة تُعزِّزها صلات بالمشاركين، سواءٌ أكانت تلك الهوية ذات طابعٍ تنظيمي أو خاص. فكونك عضوًا في مجموعات يسارية، مثلًا، فيما سبق لم يشكل مؤشرًا لمشاركتك في فريدم سمر إلا إذا صاحب ذلك تماهٍ قويٌّ وذاتي مع ذلك الوسط.

بناءً على ما سبق، ربما لا يشكل الارتباط المباشر — عبر الصلات التنظيمية في الغالب — بشخصيات مشاركة بالفعل؛ أحد الشروط المسبقة اللازمة للاستقطاب. فانعدام مثل هذه الصلات المباشرة يمكن التغلب عليه حال اندماج المشاركين المحتملين في شبكاتٍ تنظيمية متوافقة مع الحملة/التنظيم الذين يَدرسون المشاركة فيه (كريسي ١٩٨٨ب؛ ماكادم وفيرناندز ١٩٩٠؛ ماكادم وبولسين ١٩٩٣). لكن يُمكننا أيضًا أن نُلقي نظرةً على الموقف معكوسًا، حيث يحتشد الأفراد من خلال علاقات نشأت في سياقات لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالمشاركة لكنها تخلق، رغم ذلك، فُرصًا لمن يتشابهون في افتراضاتهم المسبقة ليلتقوا ويُنتجوا في نهاية المطاف فعلًا مشتركًا. فقد أظهرت أبحاث بشأن الارتباط بلجنتَي عمل معنيتَين بتنظيم حملات ضد الطائرات العسكرية النفاثة المحلِّقة على ارتفاعٍ منخفض في القرى الألمانية (أولماخر ١٩٩٦) أن محاولات الاستقطاب أحرزت قدرًا أكبر من النجاح في اللجنة التي كان أغلب أعضائها جزءًا من تنظيماتٍ محايدة في قريتهم، لا تنظيماتٍ ذات توجهٍ سياسيٍّ صريح؛ لأن عضوية الأفراد في تنظيمات تبدو غير راديكالية، مثل روابط الآباء والمعلمين أو النوادي الرياضية، قد مكنت أعضاء اللجنة من الوصول إلى طائفةٍ أوسع من الأشخاص ونيل ثِقتَهم مقارنةً بما لو كانوا أعضاءً في تنظيماتٍ ذات هويةٍ سياسية أشدَّ وضوحًا وتحديدًا. قد تسهم آليات مشابهة أيضًا في التأثير على الانخراط في الأفعال غير الاحتجاجية؛ فقد أوضح كلٌّ من بيكر ودينجرا (٢٠٠١)، على سبيل المثال، كيف مكَّنت عضوية الأفراد في التجمُّعات الدينية، وما نتج عنها من روابط مع زملائهم الأعضاء، من الانخراط في مجموعةٍ متنوعة من الأنشطة المجتمعية، لكن دون أن يكون لها أدنى تأثير على مستويات الانخراط في أنشطة التجمُّعات. لقد أتاحت هذه التجمعات للأفراد فرصة تكوين صلاتٍ وثيقة من الصداقة والدعم، غير أنه بدا أن لرأس المال الاجتماعي الناتج آثارٌ تجاوزت في الأغلب الأعم حدود التجمع.

مجمل القول إن الدراسات المعنية بالعلاقة بين الشبكات والمشاركة قد قطعت شوطًا طويلًا في تحديد عناصرها. فتساؤلات مثل «أي الشبكات تفسر أي نوع من المشاركة؟» قد تناولتها هذه الدراسات من زوايا شتى. وبالرغم من أن النتائج ليست متَّسقة دائمًا، ولا متشابهة بالضرورة، فإنه بالإمكان تعيين بعض الأفكار المتكررة. بادئ ذي بدء، يبدو أن دور الشبكات خاضع للتغير والتفاوت حسب التكاليف المرتبطة بالفعل الذي يُفترض بها أن تيسره. وسواءٌ جاءت تلك التكاليف عبارة في سياق المجازفات الشخصية أو في سياق الطاقة والالتزام المطلوبَين للانضمام إلى فعل أو تنظيمٍ محدَّد، فغالبًا (وليس دائمًا: سنو وآخرون ١٩٨٠) ما كانت الأنماط الأشد تطلبًا من الفعل مدعومة من شبكاتٍ أقوى وأكثر تحديدًا. فقد تبيَّن أن عدد الصلات التي تربط الأفراد بغيرهم من المشاركين وقوة تلك الصلات يلعبان دورًا في استقطاب هؤلاء الأفراد إلى الأفعال الخطرة ذات الطبيعة العنيفة (ديلا بورتا ١٩٨٨) والمسالمة (ماكادم ١٩٨٦، ١٩٨٨أ) على حدٍّ سواء. فضلًا عن ذلك، أشارت تلك الدراسات إلى احتلال الأفراد موقعًا مركزيًّا في الشبكات التي تربط المشاركين المحتمَلين باعتباره مؤشرًا مهمًّا لمشاركتهم الفعلية (فيرناندز وماكادم ١٩٨٩).

يبدو أن مدى اختلاف الرسائل التعبوية التي ترسلها حركةٌ ما واختلاف توجُّهها الثقافي عن التوجُّهات السائدة في المجتمع، وتعارضهما مع تلك التوجُّهات، من شأنه أيضًا أن يجعل شبكاتٍ معينة أكثر فاعلية من غيرها. فقد وُجِد أن الشبكات الخاصة، المكوَّنة مثلًا من صلات بأصدقاء أو معارف دون انخراط في تنظيماتٍ محدَّدة أو أوساطٍ ثقافةٍ فرعيةٍ معينة، كانت هي الأهم في الحالات التي حظيَت فيها رسالة الحركة بقبولٍ واسع في الأوساط الاجتماعية التي كان يحيا بها المشاركون المُحتمَلون ويُمارسون نشاطهم، سواءٌ كانت أنماط المحافظة على البيئة التي روَّجت لها حركة النشاط البيئي في ميلان خلال حقبة الثمانينيات (دياني ولودي ١٩٨٨)، أو الحراك الراديكالي المعني بالحقوق المدنية الذي دعت إليه الثقافات الفرعية في بيركلي في ستينيات القرن الماضي (ماكادم وفيرناندز ١٩٩٠)، أو الحملات الداعية إلى تحقيق السلام، والتي شهدتها المدن الهولندية إبان ثمانينيات القرن العشرين (كريسي ١٩٨٨ب). أما الشبكات الراسخة على نحوٍ أوضح في التنظيمات السياسية، والتنظيمات الراديكالية والثقافات الفرعية في بعض الأحيان، فقد اتَّضح أن لها أهميةً أكبر نسبيًّا فيما يتعلق باستقطاب الأفراد إلى التنظيمات ذات الرسائل الأقل انتشارًا في سياقها المحدد، وإن لم تكن بالضرورة رسائلَ عدائية (كناشطي البيئة السياسية في ميلان، أو الحقوق المدنية في ماديسون، أو العمل من أجل السلام في المدن الهولندية ذات الحضور الضعيف للثقافات الفرعية البديلة).

وأخيرًا، فإنَّ الشبكات المختلفة لا تُشكِّل أهمية في السياقات المختلفة فحسب، بل تؤدي أيضًا مهامَّ مختلفة، تتراوح بين التنشئة الاجتماعية وخلق فرصٍ ملموسة للانخراط والتأثير على قرارات المشاركين المحتمَلين في مراحلَ زمنيةٍ حاسمة (كيتس ٢٠٠٠؛ ماكادم ٢٠٠٣؛ باسي ٢٠٠١، ٢٠٠٣؛ تيندال ٢٠٠٤). ربما يطرأ تغيير على أهمية تلك المهام، وهذا يتوقف على ما إذا كان محل اهتمامنا هو عملية الاستقطاب لا تقوية الالتزام وإطالة النضال على مدى فتراتٍ زمنية طويلة، كما أن المظاهر المُختلفة للحضور العام الذي تُبديه مختلف التنظيمات قد يؤثِّر كذلك على الثقل النسبي لأنماطٍ محددة من الشبكات مقارنة بغيرها (باسي ٢٠٠٣).

(٣) الأفراد والتنظيمات

إنَّ أهمية الشبكات الاجتماعية لإنجاز الفعل الجمعي في الحركات تفوق مجرد دعم تلك الشبكات للنشاط الفردي، وهو ما أوضحتْه أيما إيضاح قصة أنطونيو التي استهللنا بها هذا الفصل. على النقيض من ذلك، يخلق الناشطون، بمشاركتهم في أنشطة حركةٍ ما ولا سيما أنشطة تنظيماتها المختلفة، قنواتِ اتصال جديدة بينهم ويوسعون نطاق الترويج لحملاتٍ مشتركة. وللروابط القائمة على ولاءاتٍ متعدِّدة أهمية أيضًا؛ إذ تَخلق تلك الروابط قنوات اتصال بين الحركات وبيئتها. ولا شك أن ثمة ولاءاتٍ إقصائيةً يَحتكر في إطارها تنظيمٌ واحد التزام فرادى أعضائه واستثمارهم الوجداني، بيد أن النموذج الشامل أكثر شيوعًا.

(٣-١) انتماءات إقصائية

تقتضي المشاركة في بعض الحركات الارتباط بتنظيماتٍ محددة. تتطلب التنظيمات الإقصائية تفرغًا طويلًا وانضباطًا صارمًا ودرجةً عالية من الالتزام تُلقي بظلالها على حياة أعضائها في كل جوانبها (زالد وآش ١٩٦٦؛ كيرتس وزرتشر ١٩٧٤). بوجهٍ عام، كلما عظمت درجة اعتماد التنظيم في تأسيسه على الحوافز الرمزية — أيديولوجيةً كانت أو تضامنيةً — ازداد طابعه الإقصائي.

من أدل الأمثلة على هذا النمط المجتمعات أو الفِرَق ذات المرجعية الذاتية، التي يأتي على رأس سماتها المُميزة رفض العالم الخارجي، والبِنية الشمولية، وانعدام التوافُق مع أنماط الانخراط الجمعي الأخرى، والنظر — فيما بينها — إلى الأتباع باعتبارهم مُستودَع الحقيقة (واليس ١٩٧٧). وبالرغم من أن مثل هذه المجتمعات أو الفِرَق ليست بالضرورة سكنية، فإن نمط حياتها يتَّسم بالاستقلالية بدرجةٍ ملحوظة؛ فعادةً ما يكون تفاعلها مع غيرها من المجموعات في نطاقٍ محدود، بينما تتميَّز بنزوع قوي للغاية نحو التركيز على الأنشطة الداخلية الخاصة بالمجموعة. وغالبًا ما تندرج التنظيمات الناشطة في مجال الحركات الدينية الجديدة أو الجماعاتية الجديدة تحت هذه الفئة، أما التنظيمات الأصولية السياسية والتنظيمات الراديكالية فليست مختلفة بعضها عن بعض (بلي ٢٠٠٢؛ أنهاير ٢٠٠٣).

يَسكن التابع/الناشط الفردي، في تلك الأمثلة، عالمًا تتميَّز فيه العلاقات والمعايير بدرجةٍ عالية من التنظيم البِنيوي، وهو ما يؤدِّي إلى تحوُّلٍ جذري في شخصيته (انظر الفصل الرابع من هذا الكتاب). يُسفر شيوع التنظيمات الطائفية داخل أحد قطاعات حركةٍ ما عن إنتاج شبكات على قدرٍ كبير، إن لم يكن كاملًا، من التفكُّك، ويصير المستوى الوحيد الملحوظ للتفاعل هو ذلك التي يجري بين أتباع تنظيمٍ محدَّد. يمكن أن تنشأ هذه العلاقات وتَتنامى على امتداد منطقةٍ جغرافيةٍ واسعة في بعض الحالات (كتلك الفِرَق المُعتمدة على عدة مجموعاتٍ محلية كجَماعة شهود يهوه، وكذلك التنظيمات السياسية ذات الوجود الإقليمي القوي)، غير أنه نادرًا ما تمتدُّ تلك العلاقات خارج حدود التنظيم الواحد. نَستخلِص مما سبق أن «شبكة الحركة» تتألَّف من سلسلة من الزُّمَر؛٣ وهو ما نَعني به مجموعات من الفاعلين — الأعضاء في تنظيمٍ مُعيَّن — ممن يرتبط بعضهم ببعض ارتباطًا وثيقًا، في حين يندر ارتباطهم بأتباع مجموعاتٍ أخرى أو ينعدم على الإطلاق.

(٣-٢) انتماءاتٌ متعددة

غير أن المشاركة تحدث في أغلب الحالات في التنظيمات الاستيعابية التي تسمح لأعضائها بالانضمام إلى عدة تنظيمات، ولا تتطلَّع إلى احتكار التزام أعضائها. وقد سبق أن اعتبر كلٌّ من كيرتس وزرتشر (١٩٧٣)، مطلع السبعينيات، فُرادى الناشطين روابط مشتركةً بين التنظيمات، ومن ثم ملامح بنيوية أساسية «للميادين التنظيمية» للحركات (انظر أيضًا دي ماجيو وباول ١٩٨٣؛ دي ماجيو ١٩٨٦). على صعيدٍ مُشابه، تحدث بولتن (١٩٧٢) عن «سلاسل الانتماءات الجماعية» في معرض مناقشته لبِنية العضويات المتداخلة في التنظيمات التطوعية، ثم أعقب ذلك دراساتٌ تجريبيةٌ عديدة أضافت تفاصيل إلى الصورة العامة. وثَّق دياني ولودي (١٩٨٨) وجودًا للالتزامات المتعددة في الحركة البيئية الإيطالية؛ إذ توصَّلا إلى أن ٢٨ بالمائة من ناشطي الحركة كانوا منخرطين في عدة تنظيماتٍ بيئيةٍ أخرى، بينما كانت النسبة ذاتها من الناشطين منخرطين في مجموعاتٍ بيئية وأخرى سياسية أو اجتماعية على حدٍّ سواء. بالالتفات إلى الحركة البيئية في هولندا، نجد أن كريسي (١٩٩٣: ١٨٦) قد وجد أن ٤٣ بالمائة من الناشطين الرئيسيين يَحتفظون بعلاقاتٍ شخصية بناشطين في حركاتٍ أخرى (٢٥ بالمائة منهم في إيطاليا حسب إحصائيات دياني ولودي)، و٦٧ بالمائة مُرتبطون بمشاركين آخرين في الحركة الاجتماعية الجديدة. يبدو أن أنماط المشاركات المتعدِّدة تتأثَّر بالملامح التنظيمية؛ ففي سياق دراسته لأعضاء الجمعيات التطوعية الأمريكية، توصل ماكفيرسون (١٩٨٣) إلى أن التنظيمات الأكبر حجمًا لم تكن قادرةً على تأمين التزام أعضائها لمدةٍ زمنية أطول فقط، بل نجحت أيضًا في الاعتماد على ما أفرزته انتماءات أعضائها المتداخلة من صلاتٍ أكثر بالمجموعات الأخرى. غير أن مجموعةً أخرى من البيانات (مثل دياني ١٩٩٥أ: ١١٣) تشير إلى علاقة أكثر غموضًا والتباسًا بين حجم التنظيم ونزوع أعضائه إلى الانخراط في أنشطةٍ متعدِّدة.

تلعب الانتماءات المتعدِّدة دورًا مهمًّا في دمج مختلف أقسام حركةٍ ما؛ فالانتماء إلى تنظيماتٍ منضوية تحت نفس الحركة (كتنظيماتٍ من نوعٍ آخر بعبارةٍ أعمَّ) ييسر التواصُل الشخصي ونشأة شبكاتٍ غير رسمية تُحفِّز بدورها المشاركة الفردية وتعبئة الموارد. إضافةً إلى ذلك، فإن للعلاقات الشخصية دورًا في الربط بين التنظيمات؛ فكما هو الحال في التنظيمات الاقتصادية (ستوكمان وآخرون ١٩٨٥؛ ميزروتشي وشوارتز ١٩٨٧)، كثيرًا ما ترتبط التنظيمات السياسية بعضها ببعض انطلاقًا من كونها تتقاسَم ناشطين معينين، أو نظرًا إلى العلاقات الشخصية والصداقات التي تَجمع أعضاءها وقياداتها.

تُجسِّد دراسة كارول وراتنر (١٩٩٦) بشأن النشاط في إطار الحركات الاجتماعية في منطقة فانكوفر الكبرى تلك العمليات بوضوح؛ فبالنظر إلى الانتماءات المشتركة لما يَزيد على ٢٠٠ ناشط في سبع حركاتٍ اجتماعية (عمالية وحضرية/مناهضة للفقر ومعنية بحقوق المثليِّين/مثلية ونسوية وبيئية وداعية إلى السلام ومدافعة عن حقوق السكان الأصليين)، تَمكَّن الباحثان من توثيق حجم العضويات المتداخِلة، بل وما تنتهجه كذلك من أنماط. أوضحت تلك الدراسة أنه، من بين جميع ناشطي فانكوفر، لم تتجاوَز نسبة الناشطين في تنظيمٍ واحد ٢٧ بالمائة، بينما تعاون ٢٨ بالمائة من الناشطين مع تنظيماتٍ متعدِّدة داخل الحركة ذاتها، و٤٥ بالمائة مع تنظيماتٍ متعدِّدة مُنتمية إلى عدة حركات (كارول وراتنر ١٩٩٦: ٦٠٥)، كما تبين أن الناشطين في الحركة الداعية إلى السلام والحركة الحضرية/المناهضة للفقر كانوا الأكثر ميلًا إلى العضويات المتعدِّدة (٦٧ بالمائة و٧١ بالمائة من ناشطي الحركتَين كانوا مُنخرطين في تنظيماتٍ متعدِّدةٍ منتمية إلى حركاتٍ متعددة)، بينما بدا ناشطو الحركة المعنية بحقوق المثليين/المثليات والحركة النسوية والبيئية والمدافعة عن حقوق السكان الأصليين الأقل ميلًا إلى ذلك (٣٤ و٣٢ و٣٩ و٤٢ بالمائة منهم على التوالي كانوا مُنخرطين فعليًّا في تنظيمٍ واحدٍ فقط). لقد شكَّلت العضويات المتداخِلة كتلةً مركزية في التنظيمات العمالية والداعية إلى السلام والحضرية/المناهضة للفقر، وقد ارتبطت التنظيمات النِّسوية والبيئية بتلك الكتلة من خلال صلاتهم بالحركة العمالية والحركة الداعية إلى السلام (١٩٩٦: ٦٠٥-٦٠٦). وعلى الرغم من أنه ليس بالضرورة أن نَنظر إلى النمط الخاص من الروابط الذي اكتشفه كلٌّ من كارول وراتنر باعتباره القاعدة العامة؛ نظرًا لأنه غالبًا ما يَتفاوت تفاوتًا ملموسًا باختلاف المكان والزمان، فإن دراسة فانكوفر لم تزل تكشف إمكانية الاستعانة بمنهج الشبكات في دراسة قطاعات الحركات.

بالمثل تُشير البيانات المتوافرة حديثًا حول من تظاهَروا ضد حرب العراق في الخامس عشر من فبراير عام ٢٠٠٣ في ثماني دولٍ غربية٤ إلى حجم العضويات المُتعدِّدة. فمن بين المُتظاهرين الأعضاء في التنظيمات الداعية إلى السلام قبل الخامس عشر من فبراير، نشط ٥٣ بالمائة منهم أيضًا في تنظيماتٍ أخرى تقوم بالتعبئة من أجل القضايا المتجاوزة للحدود والقوميات، كتنمية العالم الثالث أو حقوق المهاجرين، و٤٥ بالمائة في تنظيماتٍ اجتماعية أو ثقافية أو دينية، و٣٥ بالمائة في تنظيمات التمثيل التقليدي للمَصالح كالأحزاب والنقابات، و٣٢ بالمائة في تنظيماتٍ بيئية أو نسائية. وشهدت معدلات الانخراط بين المحتجِّين لأول مرة مِن أجل السلام تراجعًا حادًّا، وإن ظلَّت أبعد من أن يُستهان بها (١١ و٢٩ و١٥ و١٣ بالمائة على التوالي في الفئات الأربع التي ذكرناها للتو: دياني ٢٠٠٥ب).

تُسهم العضويات المتداخلة في نشاط الحركات الاجتماعية بطرقٍ شتى. بإمكاننا القول، بطرقٍ عدة، إن ما تُقدِّمه العضويات المتداخلة لتنظيمات الحركات يضاهي ما تُقدِّمه الشبكات بين الأشخاص لفرادى الناشطين. بادئ ذي بدء، تُيسِّر تلك العضويات تداول المعلومات ومن ثم سرعة إتمام عملية صنع القرار، وهي وظيفة حيوية؛ نظرًا لأن سرعة التعبئة من شأنها أن تعوض، على الأقل جزئيًّا، نقص الموارد التنظيمية التي تبسط عليها الحركات سيطرتها. وفي غياب التنسيق الرسمي بين التنظيمات، تتحقَّق التعبئة من خلال الصلات غير الرسمية بين الناشطين (كيليان ١٩٨٤؛ نوك ووايزلي ١٩٩٠). كذلك يلعب الأشخاص الذين يؤدُّون مهامَّ بين التنظيمات دورًا في تسهيل نشأة تمثلات مشتركة للصراعات. فقد برَزَت بين ناشطي فانكوفر أساليبُ مختلفة لتأطير الصراعات، أحدها يستند إلى منظورٍ سياسي-اقتصادي، وآخر يَعتمِد على منظور الهوية، وثالث يقوم على منظورٍ ليبرالي. وقد تنوَّع توزيع تلك الأُطر حسب التزام الناشطين بالعضويات المتداخلة؛ فمن أدوا دور همزات الوصل بين مختلف الحركات والتنظيمات أبدوا تقاربًا غير متكافئ من الإطار السياسي-الاقتصادي، بينما كان مُعتَنِقو إطار الهوية أكثر ميلًا إلى التركيز على التنظيمات الفردية (كارول وراتنر ١٩٩٦: ٦١١).

من المهام الهامة الأخرى التي تضطلع بها العضويات المتعدِّدة إسهامها في تنامي الثقة المتبادلة؛ فسواءٌ كانت مسألة أنشطةٍ اقتصادية أو تعبئة سياسية، فإن توجيه موارد لإنجاز مبادرةٍ مشتركة تضم أطرافًا فاعلةً أخرى دائمًا ما ينطوي، إلى حدٍّ ما، على مخاطرة. في كل مثال من أمثلة التعبئة، دائمًا ما يقتضي الطريق إلى تحقيق التعبئة من الفاعلين بعض الجهد الاستطلاعي، أو إجراء «عمليةٍ استقصائية» لبيئتهم بحثًا عن حلفاء لهم جديرين بالثقة، وما يُسهِّل تلك العملية كثيرًا وجود صلاتٍ مستمرة بين الناشطين الرئيسيين في شتى التنظيمات المعنية. لا يعني ذلك أن قيام تحالفاتٍ أخرى غير مُمكن، أو أنها الأكثر وجودًا، غير أن التكلفة النسبية لتشكيل تلك التحالفات الأخرى عادةً ما تكون أعلى نتيجةً لافتقار العلاقات بين مختلف المجموعات إلى الصبغة «روتينية» عبر الصلات الشخصية.

ثمة فرضية تنصُّ على أن التعاون بين التنظيمات يكون أرجح حدوثًا عند وجود علاقاتٍ شخصية بين قياداتها، وقد لاقت هذه الفرضية دعمًا من بضع دراسات كرَّسها أصحابها لكلٍّ من الحركات والتنظيمات السياسية بمعناها الأوسع. اتضح في كلتا الحالتَين أن قيادات التنظيمات الذين يَتعاونون أو يُدشِّنون حملاتٍ مشتركة عادةً ما تجمعهم خبرات وتجارب مشتركة تسبق نشأة الائتلاف نفسه (جالاسكويسكي ١٩٨٥: ٢٩٣؛ تورك ١٩٧٧؛ دياني ١٩٩٠ و٢٠٠٣ج)، وكلما ازدادت كثافة تلك العلاقات القائمة بين قيادات مختلف تنظيمات الحركات وناشطيها، ازدادت فُرَص تحقيق التعاون بينهم (زالد ومكارثي ١٩٨٠). ما من سبب يدعونا إلى الاعتقاد بأن تأثير الشبكات السابقة على نشأة حركةٍ معينة يقتصر على قرارات المشاركة الفردية؛ بل إن تلك الشبكات تؤثر أيضًا على فرص التعاون بين التنظيمات.

وأخيرًا، يمكن أن تُمثِّل دراسة انتماءات الناشطين المتعدِّدة وسيلةً ناجعة للمقارنة بين بِنَى حركاتٍ معينة في فتراتٍ زمنيةٍ مختلفة، ولتتبُّع التعديلات التي طرأت على تلك البِنى عبر الزمن. ففي دراستهم الرائدة للانتماءات التنظيمية لعدد ٢٠٢ من الشخصيات البارزة في الحركات النسائية الناشطة في ولاية نيويورك بين عامي ١٨٤٠ و١٩١٤، أعادت ناعومي روزينتال وزملاؤها تشكيل بنية الشبكات القائمة بين التنظيمات في ثلاث مراحلَ تاريخيةٍ مختلفة مع تعيين التنظيمات الرئيسية في كل مرحلة (روزينتال وآخرون ١٩٨٥؛ روزينتال وآخرون ١٩٩٧). شهدت الفترة بين عام ١٨٤٠ ونهاية ستينيات القرن التاسع عشر مرحلة من النشاط الفعال تميزت بعدة تداخلات بين المشاركة في التنظيمات النسائية والمشاركة في التنظيمات المناهضة للرق أو الكحوليات، بينما شهدت المرحلة اللاحقة، حتى نهاية ١٨٨٠، تقلُّصًا في الصراع، وعلى النقيض من المرحلة السابقة، اتسمت بزوال كثير من التنظيمات وصعوبة إعادة إحياء بعض التنظيمات ذات الأهمية الوطنية. وفي الفترة بين ١٨٨٠ و١٩١٤ حدثت صحوة للنشاط وتعزيز للانتماءات المتعددة من جديد تمثَّلت في انطلاق حملاتٍ داعية إلى حق التصويت العمومي.

يبدو أن تشكيل الشبكات اعتمد اعتمادًا ملحوظًا على سمات البيئة التي كانت الحركات تعمل في إطارها وعلى توافُر الموارد اللازمة للتعبئة. ففي الشبكات المحلية، والتي عادةً ما تعاني محدودية الموارد، كان اندماج العلاقات وكثافتها أكبر. ومع ضرورة استغلال الموارد المتاحة بأقصى فاعليةٍ ممكنة، لم يكن المجال واسعًا للتحزُّب والانحياز، وعمد الناشِطون الرئيسيون إلى توزيع عضوياتهم المتعدِّدة بالتساوي تقريبًا على كل التنظيمات النسائية المحلية. أما التنظيمات ذات البِنى القومية وهو ما مكَّنها من الاعتماد على مواردَ تنظيميةٍ أكبر، فربما كانت — خلافًا للشبكات المحلية — أكثر ميلًا إلى إبراز خصومها وما يُميزها عنهم من فروقٍ أيديولوجية؛ ونتيجة لذلك كانت الشبكات التي أفرزتها العضويات المتعدِّدة أشد تفكُّكًا، قوامها مجموعاتٌ فرعية (أو زُمَر) مختلفة لا يكاد يربطها رابط.

في فحصٍ آخر للبيانات ذاتها، ألقت روزينتال وآخرون (١٩٩٧) الضوء على العضويات المتعددة في التنظيمات النسائية الناشطة في أربع بيئاتٍ مختلفة (ثلاثة مجتمعاتٍ محلية إضافة إلى شبكةٍ نسائيةٍ واحدةٍ ناشطة على مستوى ولاية نيويورك) في الفترة بين عامَي ١٨٤٠ و١٩٢٠. أبرز الباحثون في تلك الدارسة ما لعبته التنظيمات النسائية الوطنية والمحلية من أدوارٍ مختلفة (من حيث علاقتها المختلفة بالتنظيمات الراديكالية الأخرى مثلًا)، وتقسيم العمل بين بضعة تنظيمات متعددة القضايا وعددٍ كبير من المجموعات العاملة على نطاقٍ أضيق وفيما يشبه العزلة؛ ومحدودية العلاقات بين التنظيمات المنادية بحق التصويت والمنظمات الخيرية.

في حين تركِّز أغلب الدراسات المتناولة لثنائية الأفراد والمجموعات على عموم الناشطين العاديين، بالإمكان أيضًا تطبيق هذا المنظور على العلاقات بين قيادات الحركات، بما يفضي في النهاية إلى توسيع نطاق التحليل ليشمل العلاقات التي تضم أعضاء قطاعاتٍ أخرى من النخب. فقد تعرض شميت-بيك (١٩٨٩)، على سبيل المثال، بالدراسة والاستقصاء للصلات بين أبرز شخصيات حركة السلام الألمانية في ثمانينيات القرن الماضي. وثقت البيانات المتوافرة بشأن العضويات المتداخلة التي تربط النشطاء الرئيسيين في تنظيمات حركة السلام بأعضاء المجموعات السياسية الأخرى لمتانة التكامل بين قيادة الحركة وبين الكنائس، والنقابات العمالية، والجامعات، والإعلام، وغيرها من التنظيمات الاجتماعية والسياسية الراسخة (انظر أيضًا سكو ١٩٩٧). في المقابل، قد يسهم أيضًا ناشطو الحركات ممن تربطهم صلاتٌ متينة بالفاعلين الخارجيين في زيادة أهمية تنظيماتهم في شبكات الحركات المحدَّدة التي تعمل في إطارها. ففي دراستها لتنظيمات الحركة البيئية المتجاوزة للحدود والقوميات، اكتشفت كانيجليا (٢٠٠١) أن أهمية تلك التنظيمات وتأثيرها على شبكة الحركة البيئية قد توقَّف بقدرٍ لا يُستهان به على حجم الصلات غير الرسمية التي تربط أعضاءها بأبرز مسئولي هيئات الأمم المتحدة أو غيرها من المنظمات الحكومية الدولية.

(٤) المشاركة الفردية والثقافات الفرعية للحركات والشبكات الافتراضية

لا تَقتصِر المشاركة الفردية في نشاط حركةٍ ما مُطلقًا على العضوية في تنظيماتٍ محددة (سياسية بالأساس)؛ فالأفراد قادرون على خلق شبكاتٍ كثيفة من التعاملات غير الرسمية وإعادة إنتاجها، وذلك من خلال ارتياد أماكنَ معينةٍ، والاتصال بعدة مجموعات أو جمعيات، والتردد على ملتقيات أو مقاهٍ أو مكتباتٍ محددة؛ ومن ثَم تُشكِّل هذه الشبكات الاجتماعية غير الرسمية ديناميكياتٍ معارضةً مرتبطة بالثقافة الفرعية. تساعد تلك الشبكات في إبقاء الهويات الجمعية على قيد الحياة حتى في تلك الأطوار التي قد لا تشهد معارضةً صريحة للسلطة (حين تمر الحركات بأطوارٍ من «الكمون» بحسب تعبير ميلوتشي [١٩٨٩، ١٩٩٦]). تمنح الشبكات — انطلاقًا من هذا المفهوم — بنيةَ الحركة الاجتماعية «مساحاتٍ حرَّة» (بوليتا ١٩٩٩)، والمقصود بها مساحاتٌ من التفاعل الاجتماعي يُعزِّز من خلالها معتنقو رؤًى كونيةٍ معينة من عُرَى التضامن المشترك ويختبرون أنماطَ حياةٍ بديلة (انظر أيضًا هونس وليتش ٢٠٠٤).

بانخراطهم في أنشطة تنظيماتٍ عدة واتصالهم بناشطيها وأنصارها، ينشئ الأفراد سلسلةً من العلاقات الاجتماعية الفريدة والمميَّزة، يتقاطع فيها البُعد السياسي للفعل ويتداخل مع البُعد الخاص ليُنتجا معًا دعائمَ شكلٍ معين من الثقافة الفرعية. ينشد الأفراد المنخرطون في شبكةِ حركةٍ ما أهدافًا لا تتعلق فقط بالغايات السياسية، بل ترتبط أيضًا، وهو الأهم في الغالب، بالتحقيق الشخصي للذات، وحتى الأفرادُ غير المُنْضوِين تحت عضويةِ أيِّ تنظيم محدَّد قد يتجمَّعون بين الحين والآخر لتنفيذ مبادراتٍ وأنشطةٍ محدَّدة تُنظِّمها مؤسساتٌ ثقافية وبنًى خدمية وما شابَه. بناءً على ذلك، يمكننا أن نَعُدَّ الانتماءَ إلى حركةٍ معينة خيارًا شخصيًّا بحتًا يجلب معه قدرًا ضئيلًا من التماهي مع تنظيمات الحركة. كما أن تبنِّي نشطاء الحركة لقوانين رمزية بديلة ليس من شأنه خلقُ هويةٍ متجانسة تلقائيًّا، ولا إضفاءُ شرعيةٍ على البنى التنظيمية الجامدة. لا شك أن أي حركةٍ تتسم، في مجملها، بقدرٍ ما من الهوية المشتركة، غير أن هذه الهوية تخضع لاحقًا لصياغاتٍ غاية في التنوُّع والمرونة من جانبِ مختلفِ الفاعلين (ميلوتشي ١٩٨٤أ).

من الممكن أن نجد صِيَغًا مختلفة لهذه النماذج في الحركات التي نشأت منذ ستينيات القرن الماضي. وقد وثَّقَ ميلوتشي وزملاؤه خلال حقبة الثمانينيات كيف مهَّد زوالُ النموذج اللينيني السياسي في ميلان، والقائم على تنظيمات جماهيرية «ثورية» ذات بنيةٍ جامدة، الطريقَ لبروزِ نمطٍ من المشاركة في الحركات يغلب عليه الطابع الفردي إلى حدٍّ كبير، وشهد انخراط الجمهور في عديدٍ من أشكال الأنشطة الثقافية والسياسية، تراوَحَت بين المجموعات التوعوية والحملات ذات القضية الواحدة. كما نجد حضورًا لهذا النموذج في بعض قطاعات حركة العدالة العالمية المعاصرة وقطاع الحراك المباشر (وول ١٩٩٩؛ ماكدونالد ٢٠٠٢؛ جيه جوردان ٢٠٠٢؛ تي جوردان ٢٠٠٢). يصدر عن تلك القطاعات تعبير عن لا مبالاةٍ جذرية، إن لم يكن عداءً، حيال دور التنظيمات كمُروِّجين للفعل الجمعي أو مُنسِّقين له أو كليهما. ويُمثِّل النشاط السياسي في المقام الأول، بالنسبة إلى المنخرطين في تلك الشبكات، مسألة نمط حياة وتعبيرًا عن توجُّهاتٍ ثقافية وسياسيةٍ عميقة وليس مجرد اعتناقٍ لأي مشروعٍ سياسي محدَّد وانضمام إلى التنظيمات التي يُمكن أن تُؤيِّده.

في تلك الحالات، تتألَّف المشاركة في نشاط حركةٍ ما في أغلب الأحيان من انخراط في أنشطةٍ ثقافية أو اجتماعية أو كلتَيهما — حفلاتٍ موسيقية، أو عروضٍ مسرحية، أو فعاليات دائمًا ما تتسم بميزة نقدية، وتنطوي على أحد عناصر التحدي الرمزي أو السياسي أو كليهما، الموجَّه إلى شكلٍ معين من أشكال السلطة — بدلًا من الانضمام إلى تظاهراتٍ عامة. لا يعني ذلك غيابًا كليًّا للتظاهرات، بل لعل بعضها يبدو حاشدًا وذا تأثيرٍ عامٍّ هائل — تأمَّل على سبيل المثال التظاهُرات التي تزامنت مع اجتماعات مجموعة الثماني أو منظمة التجارة العالمية (سميث ٢٠٠١؛ ديلا بورتا وآخرون ٢٠٠٥؛ بيانتا ٢٠٠١أ، ٢٠٠٢)، وأيضًا أعمال الشغب المناهضة للرأسمالية، والتي عصفَت بمدينة لندن يوم الثامن عشر من يونيو عام ١٩٩٩ — بيد أن التظاهُرات لا تُعَدُّ النشاط الأشد أهميةً، كما أنها ليست مرتبطة بفكرة التنظيم الرسمي. حين تبرز الحاجة إلى تجميع الموارد، عادةً ما تتخذ هذه المهمة شكل «مجموعات متجانسة» (ماكدونالد ٢٠٠٢؛ بينيت ٢٠٠٤ب) تتشكَّل في سبيل بلوغ هدفٍ محدَّد (وقف شق طريقٍ جديد، أو إنقاذ شجرة، أو تنظيم مقاطعة لفرعٍ محليٍّ تابع لإحدى العلامات التجارية العالمية) ثم تتفكَّك في غضون فترةٍ زمنيةٍ قصيرة. من الأمثلة الدالة على تلك الظاهرة حفلاتُ الشوارع التي روَّجت لها شبكة «استعيدوا الشوارع» في أواخر التسعينيات في المملكة المتحدة، والتي أتاحت المجال أمام التحديات الراديكالية للأفكار السائدة عن الحيز الحضري، وهي أفكار كانت شائعة لكنها لم تكن مستندة إلى أيِّ بِنيةٍ تنظيمية، وإنما كانت تقوم على شبكات الثقافة الفرعية الكثيفة من المشاركين (جيه جوردان ٢٠٠٢). وعلى الرغم من أنه سيكون مِن قبيل التبسيط المفرط أن نَخلص من هذه الأمثلة إلى أن تحولًا جذريًّا في الفعل الجمعي قد تحقَّق بالفعل (ماكدونالد ٢٠٠٢)، فمن الأهمية بمكان بلا شك أن ندرك وجود مثل هذه الأنماط جنبًا إلى جنب مع الأنماط الأخرى — التي تُشكِّل الأغلبية العظمى — التي لم تزل تؤدِّي فيها التنظيمات والهويات التنظيمية دورًا رئيسيًّا (دياني ٢٠٠٥أ؛ دياني وبايسون ٢٠٠٤؛ روتس ٢٠٠٣).

منذ مطلع التسعينيات، ومع انتشار التواصُل بواسطة الكمبيوتر، ازداد الجدل بشأن دور أنشطة الثقافة الفرعية والمضادة داخل الحركات الاجتماعية المعاصرة حيوية، كما أن تساؤلات مثل هل لا يزال للتنظيمات دورٌ في التعبئة الشعبية، وهل لا تزال الشبكات المجتمعية الكثيفة التي تَكفل التواصُل المباشر ضرورية لدعم الفعل الجمعي، وهل لا تزال روابطُ الهُوية في حاجةٍ إلى نمطٍ من التجربة المشتركة المباشرة أو التفاعل «الواقعي» أو كليهما لتنشأ وتتنامى؛ كلها ازدادت حدَّةً وإلحاحًا بفضلِ ما أحرزته البشرية من تطورات تكنولوجية.

خضع مدى هذا التأثير لمزيد من الجدل والنقاش؛ فقد تعالت أصوات البعض قائلين إن التكنولوجيات الحديثة سوف تُحدِث — أو بالأحرى أحدثت بالفعل — تضاعُفًا في الهويات الشخصية وتمايزًا للذات وتصنيفًا لها (راينجولد ١٩٩٣؛ توركل ١٩٩٥؛ كاستيلز ١٩٩٧). وخلص الكثيرون من تلك الرؤية إلى أن أنماط الفعل السياسي من شأنها أن تتأثَّر تأثُّرًا عميقًا أيضًا (على سبيل المثال كاستيلز ١٩٩٦، ١٩٩٧؛ انظر أيضًا واشبورن ٢٠٠١؛ بينيت ٢٠٠٤أ، ٢٠٠٤ب). بالحديث عن المشاركة السياسية والاجتماعية، لعل بمَقدورنا أن نتوقَّع بثقة اضطلاع الاتصالات عبر الكمبيوتر بدور الميسِّر الفعال وذلك من خلال «المحافظة على شبكات التواصُل المباشر المتفرقة»، وتنمية «الجيوب الاجتماعية-المكانية» والثقافية، وتقديم الدعم الفني لنشاط مجموعات المصالح (كالهون ١٩٩٨: ٣٨٣–٣٨٥)، ولا شكَّ أنَّ من المنطقي توقُّعَ أنْ يُؤدِّي الإنترنت دورًا حاسمًا في ربط جميع أنواع المجتمعات المتباعِدة جغرافيًّا (راينجولد ١٩٩٣؛ بيني وبراون وبريفايت ٢٠٠٤)، أو تلك المُضطرَّة إلى ممارسة أنشطتها خفيةً بحكم طبيعة تلك الأنشطة (كمجموعات الكراهية مثلًا).

غير أن إسهام التواصُل بواسطة الكمبيوتر في خلق أنماطٍ جديدة من الهويات، ولا سيما الهويات الجمعية، لَهو أمرٌ غير واضح مطلقًا؛ أولًا، تفتقر أغلب نماذج التفاعل الشخصي في مجموعات النقاش الإلكترونية في الواقع إلى بعض المتطلِّبات التي عادةً ما ترتبط بمفهوم العلاقات الاجتماعية (سيرولو ١٩٩٧؛ سيرولو وروين ١٩٩٨)؛ فالمشاركون في تلك القوائم غالبًا ما يُخفون هوياتهم الشخصية ولا يشاركون إلا بين الحين والآخر، ولا يربطهم أي شكلٍ من أشكال العلاقات الجادَّة الملزِمة، كما ينخرطون في الأغلب في تفاعلاتٍ ثنائية أو ثلاثية على الأكثر. ويبدو، بالنسبة إلى المتشكِّكين، أنه من غير المرجَّح أن يفرز كل هذا مستوياتٍ من الثقة والالتزام المتبادَل المطلوبة من المشاركين في الفعل الجمعي المكلَّف، الذي ربما يتمخَّض عن اضطرابات وإخلال بالنظام، وذلك حسبما تُشير الأبحاث السابقة (كالهون ١٩٩٨: ٣٨٠؛ دياني ٢٠٠٠ب؛ تيلي ٢٠٠٤أ: الفصل الخامس). لكن بالنسبة إلى آخرين، يخلق الإنترنت طائفةً محددة من التفاعلات وليس مجرَّد واجهة لحياةٍ اجتماعيةٍ «واقعية»، وربما يُمثِّل اللجوء إلى الهويات الخفية وعدم ذكر الأسماء … إلخ، في ذاته وسيلةً محددة، في ذلك السياق، لتحدِّي السلطة وزعزعتها (رايت ٢٠٠٤: ٨٤؛ بينيت ٢٠٠٤أ).

لم تزل الأدلة التجريبية بشأن نوع الروابط التي يُنشئها التواصل بواسطة الكمبيوتر مُختلطة حتى الآن، صحيح بلا شك أننا نشهد حاليًّا أمثلةً عدة لصلاتٍ اجتماعية تنطوي على قدرٍ ما من التضامن والثقة المتبادلة نشأت بين أفرادٍ يتواصَلون عبر الإنترنت (على سبيل المثال فريسكي ٢٠٠٠، ٢٠٠٣؛ نيب ٢٠٠٤)، لكن أمثلة الشبكات المجتمعية تشي، في المقابل، بأن الشبكات الافتراضية تؤدِّي دورها على أفضل وجه حين تدعمها روابطُ اجتماعيةٌ واقعية في المجتمعات المصطبغة بالطابع المحلي على وجه التحديد، أما قدرتها على خلق روابطَ جديدةٍ تمامًا فليسَت أكيدة (فيرنوش وماركس ١٩٩٧؛ بيكِريل ٢٠٠٠؛ هامبتون وويلمان ٢٠٠١؛ ترانفيك ٢٠٠٤). أما بالنسبة إلى الشبكات العابرة للحدود والقوميات، فثمة أدلةٌ قوية كذلك على إسهامها في تحقيق الكفاءة في التنسيق بين الحملات العالمية (بينيت ٢٠٠٤أ؛ فان ألست ووالجريف ٢٠٠٤)، لكنها غالبًا ما تربط، فيما يبدو، بين أشخاص (نخبة دولية من الناشطين) يعرف بعضهم بعضًا أيضًا ويَلتقون وجهًا لوجه في اجتماعات وفعالياتٍ أخرى، وليسوا مجرد «مواطنين افتراضيين» عاديين (كيك وسيكينك ١٩٩٨؛ لاهوزين ٢٠٠٤). خلاصة القول إن المجال لا يزال مفتوحًا للنقاش بشأن ما إذا كان التواصُل بواسطة الكمبيوتر قد سهَّل في أغلبه حَراك الناشطين والتنظيمات من خلال تعزيزه للصلات القائمة بالفعل، أم أنه خلق أنماطًا جديدة تمامًا من المجتمعات البديلة.

(٥) خلاصة القول

سلَّطنا الضوء في هذا الفصل على بعض جوانب التأثير الذي تحقِّقه الشبكات المكتنفة لناشطي الحركات الاجتماعية على عمليتي الاستقطاب والمشاركة، وعلى البِنية الكلية للحركات الاجتماعية. أوضحنا أولًا أن الأفراد غالبًا ما يَنخرِطون في الفعل الجمعي من خلال صلاتهم الشخصية بأشخاصٍ مُنخرِطين فيه بالفعل، وتلك الصلات من شأنها أن تساعدهم على اجتياز العقبات العديدة والمعضلات الجمَّة التي عادةً ما يواجهها مَن يراودهم التفكيرُ في الانخراط في قضيةٍ معينة من عدمه. لا يقتصر الأمر على ذلك؛ فكمُّ الشبكات الفردية ونوعها من شأنهما أن يؤثِّرَا أيضًا في احتمالاتِ استمرارِ الأفراد في الانخراط في الفعل لمدةٍ طويلة، أو أن يُضعفا من التزامهم أو يُنهياه بالكلية بعد فتراتٍ وجيزة. في ردِّ فعل للانتقادات المتعلقة بدور الشبكات في التعبئة الفردية، عمد الباحثون إلى إكساب نقاشاتهم مصداقيةً باستطلاعهم أي أنواع الشبكات التي مِن المرجَّح أن تترك تأثيرها على أيٍّ من أنماط الفعل الجمعي، وبدراستهم لكيفية تغير العلاقة بين الشبكات والفعل الجمعي في ظل مختلف الظروف الاجتماعية والسياسية.

من الأمور التي أعرناها اهتمامًا مسألةُ عدم اقتصار الأفراد على الانخراط في حركةٍ ما عبر روابطهم السابقة، بل إقدامهم أيضًا على خلق روابطَ جديدةٍ بحكم انخراطِهم ذاته في أنماطٍ متعددة من النشاط والجمعيات. ومن هذا المنظور، يلعب فرادى الناشطين دورهم كجسورٍ بين شتى الدوائر التنظيمية، رابطين، مثلًا، تنظيماتِ الحركات الاجتماعية بأطرافٍ فاعلة أو مؤسساتٍ سياسيةٍ راسخة، أو بين تنظيماتٍ محتشدة في سبيل قضايا مختلفة؛ وبهذا يؤثر هؤلاء الناشطون في البنية الكلية «لقطاعات» الحركات الاجتماعية (مكارثي وزالد ١٩٨٧أ) أو «مجموعاتها» (ديلا بورتا وروشت ١٩٩٥). لكن في الوقت ذاته، لا تقتصر دائمًا الروابط الناتجة عن العضويات المتداخلة على التنظيمات؛ فكثيرًا ما ينخرط أيضًا فرادى ناشطي الحركات في ممارساتٍ خاصة بثقافةٍ مُضادَّة أو ثقافةٍ فرعية. ربما يتجسَّد ذلك في هيئة تجارب من «الحياة الواقعية»، وذلك من خلال المشاركة الشخصية في أنشطةٍ محدَّدة، لكنه قد ينشأ أيضًا عن طريق الانخراط في مجتمعاتٍ افتراضية، كتلكَ التي صارت ممكنة بفضل انتشار التواصُل بواسطة الكمبيوتر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤