الفصل الخامس

الإمبراطوريات العظمى

كانت هناك إمبراطوريات إلى الشرق من أوروبا؛ فقد فتح الأتراك العثمانيون القسطنطينية في عام ١٤٥٣، وامتد ملكهم من البلقان إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبسط القيصر الروسي سلطانه من بولندا إلى فلاديفوستوك، كما دامت الإمبراطورية الفارسية — تحت حكم أُسَرٍ ملكية مختلفة — لآلاف السنين. وقد حكم الأباطرة المغول معظم بلاد الهند في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولم تزل اليابان يحكمها الإمبراطور منذ القرن الثالث الميلادي، كما أُقيمت دول في مناطق من جنوب آسيا مثل كمبوديا وتايلاند في عصور مبكرة، وكانت الصين هي الإمبراطورية العظمى على الإطلاق ودامت لآلاف السنين.

كان الأوروبيون على دراية بثروات آسيا لآلاف السنين، وكان ذلك سببًا في محاولتهم الإبحار إليها. وكانت رواية ماركو بولو عن رحلته إلى الصين في القرن الثالث عشر شهيرة، وقد أضاف كولومبس ملاحظاته على نسخته الخاصة من الرواية. كما رسم كتاب جان باتيست دوهالد «وصف الصين» (١٧٣٦) — الذي كتبه بناءً على بعض روايات بعثة تبشيرية لمنظمة اليسوعيين — صورة برَّاقة للحضارة الصينية، وكان كتابًا مقروءًا على نطاق واسع، وخضع لمناقشات واسعة.

لكن لم يتقبل الجميع فكرة ازدهار الشرق، وكان على رأس المتشككين الاقتصاديون الكلاسيكيون؛ آدم سميث وروبرت مالتوس وكارل ماركس، فقد اتفقوا جميعًا على أن أوروبا أكثر ثراءً وتتمتع بإمكانات أفضل للنمو. وقد فسَّر كلٌّ منهم تخلُّف الصين المفترض وَفْق نظريته الخاصة المفضلة؛ فبالنسبة لسميث، كانت مشكلة الصين تكمن في حظر الدولة التجارة الخارجية، وعدم حماية الملكية الخاصة بصورة كافية. بالنسبة لمالتوس، كان انتشار الزواج هو السبب في الخصوبة العالية، وبالتالي انخفاض الدخل. أما بالنسبة لماركس، كان سبب تخلُّف الصين يرجع إلى هيكلها الاجتماعي السابق على الرأسمالية الذي فشل في دعم المبادرة الفردية.

لاقت هذه الآراء قبولًا على نطاق واسع، لكنها خضعت للنقد في السنوات الأخيرة من قِبَل مدرسة كاليفورنيا للتاريخ الاقتصادي، وهو الاسم الذي يرجع إلى أن مناصريها هم أساتذة اقتصاد في عدد من جامعات ولاية كاليفورنيا. ووفقًا لمنظور مدرسة كاليفورنيا، كان نظام الصين القانوني مشابِهًا للنظام الأوروبي وكانت الملكية آمنة، وأبقى نظام العائلة الصيني على معدلات الخصوبة منخفضة، بحيث زاد تعداد السكان في الصين بمعدل لا يزيد عن المعدل في أوروبا، وكانت أسواق السلع والأراضي ورءوس الأموال متطورة مثل نظيراتها في أوروبا، ومن ثَمَّ فقد كانت مستويات الإنتاجية والمعيشة متشابهة على طرفَيْ أوراسيا. ومن ثم، لا يكمن السبب في اندلاع الثورة الصناعية في أوروبا في الاختلافات المؤسساتية أو الثقافية، بل في توفُّر مصادر الفحم في القارة الأوروبية والمكاسب التي حققتها دول القارة من العولمة.

حظيت عملية إعادة التفسير هذه بنقاشات واسعة فيما يتعلق بالإمبراطورية الصينية والإمبراطوريات الأخرى، وكانت أكثر الجوانب إثارةً للريبة هي الإشارة إلى أن الدخول في الأجزاء المتطورة من الصين، مثل منطقة دلتا نهر يانجتسي، كانت مرتفعة مثلما كان الحال في إنجلترا وهولندا (الشكل ١-٣). على الجانب الآخَر، يكتسب التقييم الإيجابي للأسواق والمؤسسات الصينية مصداقية؛ نظرًا لأن عمليات إعادة تقييم الإمبراطوريات الأخرى (مثل تقييم الإمبراطورية الرومانية) توصَّلت إلى نتائج مشابهة، ومن ثَمَّ تصبح مدرسة كاليفورنيا على حق في أن الثورة الصناعية حدثت في بريطانيا بسبب الفحم والتجارة، ولعل ما يثير الانتباه في التاريخ الآسيوي هو غياب عوامل التحفيز هذه.

العولمة وتراجع التصنيع

لم يكن القرن التاسع عشر قرنًا جيدًا بالنسبة لمعظم الإمبراطوريات الكبرى؛ فقد أصبحت الهند مستعمَرة بريطانية رسميًّا بعد ثورة عام ١٨٥٧، وبحلول عشرينيات القرن العشرين، كان الأباطرة؛ الصيني والعثماني والروسي، قد أُطِيح بهم.

لقد استهلَّت الإمبراطوريات العظمى القرن التاسع عشر وهي تمتلك أكبر الصناعات في العالم، واختتمت القرن بتدمير هذه الصناعات دون وجود صناعات حديثة لتحل محلها، وكان الاستثناء الوحيد — والجزئي — هو روسيا واليابان.

كانت العوامل الثلاثة التي أدت إلى النجاح والفشل في الفترة ما بين معركة ووترلو والحرب العالمية الثانية هي: التكنولوجيا، والعولمة، وسياسة الدولة.

أدت الثورة الصناعية في الغرب إلى خروج الصناعات الآسيوية من المنافسة لسببين؛ أولًا: صار التصنيع أكثر إنتاجية في أوروبا حيث كان أقل تكلفة فيها، وفي المقابل كانت التكنولوجيا الصناعية غير موفرة في مناطق أخرى من العالم حيث كانت الأجور أقل. على سبيل المثال، لم يكن ثمة سبب منطقي في أن يحاول الهنود التنافس مع الإنجليز في إنتاج المنسوجات من خلال استخدام ماكينات الغزل؛ نظرًا لأن ماكينات الغزل كانت تزيد من تكاليف رأس المال لعملية الغزل «في الهند» أكثر من تخفيض تكاليف الأيدي العاملة. كان على المصنِّعين في آسيا أن يأملوا في أن يطوِّر البريطانيون ماكينات الغزل بدرجة كافية تسمح لهم باستخدامها بصورة اقتصادية في آسيا (وهو ما حدث في نهاية المطاف)، أو أن يعيدوا تصميم الماكينات بحيث تتلاءم مع ظروفهم الخاصة (وهو ما قامت به اليابان).

ثانيًا: جعلت السفن البخارية وخطوط السكك الحديدية المنافسة الدولية أكثر حدة. مع انخفاض تكاليف النقل، صار اقتصاد العالم أكثر تكاملًا، وصارت الشركات الغربية — التي كانت تستخدم ماكينات آلية — قادرة على التفوق على المصنِّعين الذين كانوا لا يزالون يستخدمون الأساليب اليدوية من الدار البيضاء إلى كانتون، على الرغم من التفاوت الكبير في الأجور. ومع اختفاء التصنيع في آسيا والشرق الأوسط، أُعِيد توزيع الأيدي العاملة في المجال الزراعي، فأصبحت هذه المناطق مصدِّرة للقمح والقطن والأرز وغيره من المنتجات الأولية. بعبارة أخرى، صارت هذه الدول دولًا حديثة غير متطورة.

لم ترجع هذه التطورات إلى وجود مؤامرة بين الأغنياء ولا إلى الاستعمار (رغم أنه لعب دورًا)، بل كانت نتيجة أحد المبادئ الأساسية في الاقتصاد؛ أَلَا وهو الأفضلية المقارنة؛ وفقًا لهذه النظرية، تتخصص الدول التي تمارس النشاط التجاري فيما بينها في إنتاج السلع التي يمكنها إنتاجها بفعالية نسبية، فتقوم بتصدير هذه البضائع واستيراد البضائع التي لا تستطيع إنتاجها بفعالية. هَبْ على سبيل المثال أن الهند عُزِلت عن بقية العالم، ستكون الطريقة الوحيدة لزيادة استهلاكها من الأقمشة القطنية هي تخفيض العمالة في مجال الزراعة، وتوظيف مزيد من العمالة في مجال الغزل والنسج. ستحدد كفاءة الأيدي العاملة في هذه الأنشطة كمية القمح التي يجب التخلي عنها لإنتاج متر آخَر من القماش. إذا أصبح من الممكن ممارسة النشاط التجاري على المستوى الدولي، وإذا كان سعر الأقمشة مقارَنَةً بسعر القمح في الأسواق العالمية أقل من النسبة التي تتحقق من خلال استخدام أساليب الإنتاج المحلية؛ سيجد الهنود ميزة أكبر في تصدير القمح واستيراد الأقمشة بدلًا من إنتاج الأقمشة بأنفسهم. بعبارة أخرى، سيرغب الهنود في أن يكونوا مزارعين بدلًا من أن يكونوا مصنِّعين. أدت عملية إعادة توزيع النشاط الاقتصادي هذه إلى تحقيق ازدهار قصير المدى على حساب تحقيق تنمية طويلة المدى.

قبل أن يصل فاسكو دا جاما إلى كلكتا، كانت الصلات بين الأسواق في أوروبا وآسيا واهية، فكانت كل قارة «معزولة عن بقية العالم»، ولكن زالت هذه العزلة مع تطور السفن ذات الأشرعة المربعة، والملاحة العالمية، والسفن البخارية، وحفر قناة السويس، ومد خطوط السكك الحديدية، وظهور التلغراف، وشق قناة بنما، واختراع السيارات والطائرات، وظهور الحاويات، واختراع الهاتف، وتطوُّر الطرق السريعة، وظهور الإنترنت. قلَّصت هذه التطورات التكنولوجية من تكاليف المعاملات الدولية، وأدت إلى تكامل الأسواق، كما أدت إلى زيادة المنافسة بين الدول، وظهر دور مبدأ الأفضلية المقارنة بقوة، وصارت الاختلافات بين الدول في الكفاءة النسبية في الإنتاج أكثر أهمية في تحديد ثروة الأمم، وكانت النتيجة هي «عدم تطوُّر» العالم الثالث.

وكانت السياسة الحكومية هي العامل الثالث الذي أثَّر على الأداء الاقتصادي بعد معركة ووترلو. واجهت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية تحدِّيَ الواردات البريطانية الرخيصة باستراتيجية تنمية قياسية قائمة على عمليات التطوير الداخلية، وفرض التعريفات الخارجية، وتأسيس البنوك الاستثمارية، وتوفير التعليم العام. لم تكن المستعمرات مستعدة لتبني هذه الاستراتيجية؛ نظرًا لأن سياساتها الاقتصادية كانت تتبع مصالح القوى الاستعمارية، وكان لدى الدول المستقلة خيار تحقيق التنمية القومية، رغم أن بعضها لم يبذل الجهد اللازم أو يحقق النجاح في ذلك.

المنسوجات القطنية

نشهد تأثير هذه العوامل في تاريخ إنتاج المنسوجات القطنية في الهند وبريطانيا. ارتفعت إنتاجية القطن في بريطانيا خلال الثورة الصناعية مع تطور ماكينات إنتاج القطن. كانت الزيادة في الإنتاجية الصناعية البريطانية — التي لم تُضاهِهَا زيادة مساوية في الهند — من شأنها أن تؤدي إلى زيادة في تنافسية منتجي القطن الإنجليز، مع تقليص تنافسية المصنِّعين الهنود، وذلك وفقًا لمبدأ الأفضلية المقارنة. وبالعكس، كانت الأفضلية المقارنة للهند ستزداد في إنتاج السلع الزراعية، بينما تنخفض الأفضلية المقارنة لإنجلترا. يشير مفهوم الأفضلية المقارنة ضمنًا إلى أن نمو الإنتاجية غير المتوازن للثورة الصناعية كان سيؤدي بالضرورة إلى زيادة التطور الصناعي في إنجلترا، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى عملية تراجع للتصنيع في الهند — وهو ما حدث بالفعل.

حدث التحول في الأفضلية المقارنة في عصرٍ انخفضت فيه تكاليف النقل، وهو ما أدى إلى تزايد التداعيات، فانخفضت تكاليف النقل مع تطور كفاءة السفن، وبسبب ازدياد المنافسة على الطرق البحرية من أوروبا إلى الهند. في القرن الثامن عشر، هيْمَنت شركتا الهند الشرقية الإنجليزية والهولندية على هذه التجارة. وبينما أفضى ظهور هاتين الشركتين في أوائل القرن السابع عشر إلى إنهاء سيطرة البرتغاليين على تجارة الفلفل، وأدى إلى انخفاض سعره في أوروبا؛ أدت قوانين الملاحة البريطانية إلى خروج الهولنديين من السوق الإنجليزية، وكبحت جماح المزيد من المنافسة. كانت الحرب الإنجليزية الهولندية الرابعة (١٧٨٠–١٧٨٤) هي الضربة الموجعة الأخيرة؛ إذ ضعُف كيان الشركة الهولندية حتى تُرِك ميثاق تأسيسها ينتهي دون تجديد في عام ١٨٠٠. وأخيرًا، فقدت الشركة الإنجليزية احتكارها التجاري في عام ١٨١٣. وقد أدت زيادة المنافسة الناتجة عن ذلك إلى انخفاض تكاليف النقل بين الهند وأوروبا.

يظهر تأثير نمو الإنتاجية غير المتوازن وانخفاض تكاليف الشحن في تواريخ أسعار القطن في إنجلترا والهند. في عام ١٨١٢، التقت مجموعة من مصنِّعي القطن الإنجليز لمعارضة مد الاحتكار التجاري لشركة الهند الشرقية، فأعَدَّ هؤلاء المصنِّعون مذكرةً أشارت إلى أن تكلفة غزل ٤٠ وحدة غزل من القطن في الهند تصل إلى ٤٣ بنسًا لكل رطل، في مقابل ٣٠ بنسًا فقط في إنجلترا. وكانت خلاصة المذكرة هي أن السوق الهندية تمثِّل سوقًا واعدة للمنتجات البريطانية إذا ما أتيحت المنافسة فيها، وقد كان هؤلاء المصنِّعون على حق. وعلى أية حال، من الجدير بالملاحظة أنهم لم يكن بإمكانهم طرح هذه الرؤية قبل عشر سنوات؛ حيث كانت تكلفة غزل ٤٠ وحدة غزل بريطانية تساوي ٦٠ بنسًا لكل رطل، فلم تكن التكنولوجيا في عام ١٨٠٢ منتجة بصورة فعَّالة بحيث تعرض المنتجات البريطانية بسعر أقل من مثيلتها الهندية، أما الماكينات التي توفرت في عام ١٨١٢ فكان بإمكانها تحقيق ذلك. استمر تطوير الماكينات، وبحلول عام ١٨٢٦، انخفضت تكلفة إنتاج ٤٠ وحدة غزل إلى ١٦ بنسًا، وفي ظل هذا السعر، لم تجد حتى أكثر النساء فقرًا في الهند جدوى من إنتاج الغزل، واختفى إنتاج الهند من غزل القطن مع الوقت، حتى أقيمت المصانع التي احتوت على ماكينات الإنتاج في سبعينيات القرن التاسع عشر.

fig12
شكل ٥-١: السعر الحقيقي للقطن.
تكررت القصة نفسها مع النسيج، غير أن النتائج لم تكن كارثية بالقدر نفسه بالنسبة للهند؛ أدى التقدم التكنولوجي إلى انخفاض سعر نسيج الكاليكو الإنجليزي، كما ذكرنا في الفصل الرابع. وابتداءً من منتصف عقد الثمانينيات في القرن الثامن عشر، كان القماش الإنجليزي أرخص دومًا في إنجلترا من القماش الهندي، لكن لم تتسع الفجوة كثيرًا بين سعريهما؛ حيث كان يمثِّل كلٌّ منهما بالنسبة للمشترين بديلًا للآخَر. من هنا، أدى انخفاض سعر القماش الإنجليزي بعد عام ١٧٩٠ إلى انخفاض سعر القماش الهندي تباعًا (الشكل ٥-١).

كانت هناك فجوة في سعر المنتج الهندي بين عامَيْ ١٨٠٥ و١٨١٨، لكن خلال هذه الفترة حدث تطوران على قدر بالغ من الأهمية؛ أولًا: صار الفرق بين الأسعار في الهند وإنجلترا ضئيلًا؛ إذ كانت الأسواق متكاملة بحيث كانت التطورات في إحدى السوقين تؤثر على الأخرى. ثانيًا: انخفضت أسعار المنتجات الإنجليزية إلى مستوى أقل من مستوى أسعار المنتجات الهندية، وقد انقطعت صادرات القماش من الهند إلى إنجلترا؛ نظرًا لعدم إمكانية تحقيق أرباح في هذا الاتجاه، بل وبدلًا من ذلك، كانت إنجلترا تصدِّر منتجاتها إلى الهند.

كان تأثير ذلك على الهند هائلًا؛ فتحولت من دولة كبرى في التصدير إلى دولة كبرى في الاستيراد، وانهارت صناعة الغزل تمامًا، وصارت الهند تستورد جميع غزلها من القطن، وانخفض الإنتاج من المنسوجات كذلك، رغم استمرار استخدام الأنوال اليدوية على نطاق أصغر وأقل ربحية. في ولاية بيهار، انخفضت نسبة القوى العاملة في التصنيع من ٢٢٪ عام ١٨١٠ تقريبًا، إلى ٩٪ في عام ١٩٠١. لقد كانت فترة ذروة تراجع التصنيع!

تمتلك كل دولة ميزة الأفضلية المقارنة في مجال ما؛ وعندما فقدت الهند ميزتها التنافسية في التصنيع، اكتسبت ميزة في الزراعة، لا سيما زراعة القطن. يبيِّن الشكل ٥-٢ السعر الحقيقي للقطن الخام في ولاية جوجارات وفي ليفربول من عام ١٧٨١ إلى ١٩١٣. في القرن الثامن عشر، كان القطن أرخص كثيرًا في الهند، وانخفضت أسعار القطن في بريطانيا مع التوسع في زراعة القطن في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية. وبحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حدث تكامل بين السوقين الإنجليزية والهندية، بينما تمخض تحقيق التكامل بين أسواق الغزل والقماش عن انخفاض الأسعار الذي أخرج المصنِّعِين الهنود من المنافسة، كان العكس صحيحًا في مجال الزراعة. ارتفع سعر القطن الخام تدريجيًّا، وهو ما أدى إلى التوسع في الزراعة، ونمو صادرات القطن الخام لتغذية صناعة المنسوجات البريطانية.
fig13
شكل ٥-٢: السعر الحقيقي للقطن الخام.
في حوار محتدم أمام لجنة التحقيق الخاصة بشئون شركة إنتاج الهند الشرقية التي عيَّنها البرلمان البريطاني في عام ١٨٤٠، بيَّن السيد جون بروكلهرست — عضو البرلمان عن ماكلسفيلد — للشاهد روبرت مونتجمري أن «تدمير صناعة النسيج في الهند قد وقع بالفعل»، بحيث «أصبحت الهند دولة زراعية بدلًا من دولة صناعية، وصار العاملون الذين كانوا يعملون في مجال التصنيع من قبلُ، يعملون الآن في الزراعة.» أجاب مارتن — الذي كان من منتقدي الإمبراطورية البريطانية — قائلًا:

لا أتفق معك في أن الهند دولة زراعية؛ إذ تعتبر الهند دولة صناعية بقدر ما هي دولة زراعية. ومَن يُرِد التقليل من شأن الهند إلى مرتبة دولة زراعية، إنما يسعى إلى الحط من قدرها على سلم الحضارة … فقد كانت الصناعات الهندية المختلفة موجودة على مدار عصور طويلة، ولم تستطع أي أمة منافستها متى توافرت قواعد المنافسة العادلة.

لكن مهما كانت مشاعر مارتن جديرة بالثناء، كانت قوى السوق إلى جانب بروكلهرست، وتفوقت الصناعة البريطانية على نظيرتها الهندية بالفعل.

كانت قصة المنسوجات الهندية هي قصة معظم بلدان العالم الثالث في القرن التاسع عشر؛ فقد أدى التحول الفني غير المتوازن، بالإضافة إلى العولمة، إلى دعم عملية التحول الصناعي في الدول الغربية، في الوقت الذي أدى فيه إلى هجر التصنيع في الاقتصادات الصناعية القديمة في آسيا، حتى في حالة الدول المستقلة — الإمبراطورية العثمانية على سبيل المثال — حوَّلت التغيرات الفنية وانخفاض تكاليف النقل هذه الدول إلى دول حديثة غير متطورة. في منتصف القرن العشرين، كان يُنظَر إلى مشكلة التنمية الاقتصادية الآسيوية كمشكلة تحديث «مجتمعات تقليدية». في واقع الأمر، كانت ظروف هذه الدول أبعد ما تكون عن التقليدية؛ فلقد كانت حالة عدم التطور هي إرث العولمة والتنمية الصناعية في الدول الغربية في القرن التاسع عشر.

الصناعة الحديثة في الهند

هل كان مقدَّرًا للهند أن تظل دولة أقل تطورًا تكتفي بتصدير المنتجات الأولية واستيراد المواد المصنَّعة، أم هل كان سيتبع القضاء على الصناعات اليدوية تنمية صناعية؛ حيث يتم بناء المصانع الحديثة للاستفادة من انخفاض أجور العمالة في الهند؟ يعتبر التاريخ الهندي تجربة ذات أهمية هائلة للإجابة على هذه الأسئلة؛ إذ توفرت لدى الهند ميزات الحكم البريطاني والقانون البريطاني والتجارة الحرة البريطانية. فهل ساعد ذلك الهند أم أضر بها؟

مرت الهند ببعض التنمية الصناعية؛ تمثَّلت النجاحات الكبرى في صناعتَي الخيش والقطن، وقد استفادت الصناعتان من العمالة الهندية زهيدة التكلفة، وقد موَّل المستثمرون البريطانيون تنمية مصانع الخيش في بنغال، وبحلول الحرب العالمية الأولى، صارت هذه الصناعة هي الكبرى في العالم، كما قضت صادراتها على المنافسين البريطانيين في معظم الأسواق. وازدهرت صناعة القطن في بومباي، وبحلول عام ١٩١٣، كانت الهند تنتج ٣٦٠ ألف طن من القطن الخام سنويًّا؛ أيْ أكثر مما كانت تنتجه فرنسا وأقل مما كانت تنتجه ألمانيا، ولكن كان تأثير هذه النجاحات ضئيلًا على الاقتصاد القومي. وصل عدد العاملين في مصانع القطن والخيش إلى نصف مليون شخص في عام ١٩١١؛ أي أقل بكثير من ١٪ من إجمالي العمالة. لقد ظل اقتصاد الهند زراعيًّا بالدرجة الأولى.

تطلبت التنمية الصناعية الابتعاد بالاقتصاد عن النمط الذي يُمْلِيه مبدأ الأفضلية المقارنة. تمثَّلت النظرة القومية في أن الهند بحاجة إلى سياسات التنمية القياسية التي ساعدت دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية على اللحاق بالركب البريطاني؛ أيْ فرض التعريفات الجمركية، وتأسيس البنوك الاستثمارية، وتحقيق تنمية داخلية، ونشر التعليم.

ما يثير الدهشة بشدة بشأن الحكم الاستعماري هو مدى ضآلة نسبة تطبيق هذا البرنامج. في القرن التاسع عشر، لم يذهب إلى المدارس من إجمالي عدد السكان في الهند إلا نسبة ١٪ فقط، ولم تتخطَّ نسبة معرفة القراءة والكتابة بين الراشدين نسبة ٦٪. وكانت التعريفات الجمركية منخفضة، ولم تُفرَض إلا لتحقيق عائدات للدولة، كما غابت أي سياسة مصرفية لتمويل الصناعة.

تُلقِي المبادرات التي اتخذتها الحكومة الهندية الضوء على مدى قصور سياساتها. كانت أقاليم مثل البنجاب تُروَى لزيادة الصادرات الزراعية، وكان يتم تشجيع إنشاء خطوط السكك الحديدية بعد ثورة عام ١٨٥٧ لنشر القوات في أنحاء البلاد، وللوصل بين المقاطعات الزراعية في الداخل بالساحل لتسهيل تصدير المنتجات الأولية. في غضون ذلك، مُدَّ ٦١ ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية قبل الحرب العالمية الأولى، وهو ما منح الهند إحدى أضخم شبكات السكك الحديدية في العالم. أدَّت خطوط السكك الحديدية إلى خلق سوق قومية؛ حيث كان يمكن نقل البضائع عبر الهند بتكلفة منخفضة.

يجب النظر إلى إنشاء خطوط السكك الحديدية الهندية باعتبارها فرصة لم يُستفَد منها؛ فقد كانت خطوط السكك الحديدية مشروعات ضخمة تتطلب مُدخلات حديثة مثل قضبان من الصلب وقاطرات، وقد حرصت معظم الدول على أن يؤدي إنشاء طرق السكك الحديدية إلى توسيع أو خلق هذه الصناعات، عن طريق فرض التعريفات الجمركية ومستلزمات التوريد لنقل البضائع إلى الشركات المحلية. بدلًا من ذلك، حرصت الحكومة الاستعمارية على نقل طلبات الشراء إلى الشركات البريطانية، فارتفعت الصادرات البريطانية من المنتجات الهندسية إلى الهند، ولم تستَفِد الهند شيئًا من ذلك، وتأخر تأسيس صناعة هندسية وصناعة الحديد في البلاد حتى القرن العشرين.

وحتى في أيامنا هذه، تغلب العمالة الزراعية على الهند وباكستان وبنجلاديش، وهو حال غيرها من الدول الفقيرة، ولكن بعض الدول التي كانت فقيرة في القرن التاسع عشر أبلت بلاءً حسنًا في القرن العشرين، من خلال اتباع الاستراتيجية القياسية للتنمية، وأيضًا من خلال الذهاب لما هو أبعد من ذلك وتطبيق نموذج الدفعة القوية، كما سنرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤