الفصل الثامن

النموذج القياسيوالتحول المتأخر للتصنيع

بحلول عام ١٨٥٠، كانت دول أوروبا وأمريكا الشمالية قد تقدمت على سائر دول العالم، وتمثَّلت المشكلة الجديدة في كيفية لحاق الدول الفقيرة بها. لم يكن في وسع المستعمرات فعل الكثير إزاء هذا الأمر؛ إذ كانت القوى الإمبريالية تقيِّد خياراتها، ولكن كان في إمكان الدول المستقلة تطبيق النموذج القياسي — متمثِّلًا في إنشاء خطوط السكك الحديدية، وفرض التعريفات الجمركية، وإنشاء البنوك والمدارس — الذي نجح في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وبمرور الوقت أصبحت هذه الاستراتيجية أقل فعالية.

روسيا الاستعمارية

ظلت روسيا لفترة طويلة أكثر دول أوروبا تخلُّفًا. حاول بطرس الأكبر (١٦٧٢–١٧٢٥) تحويل روسيا إلى قوة غربية حديثة، فأنشأ الميناء الجديد سانت بطرسبرج، وأقام العديد من المصانع التي كانت تخدم الأغراض العسكرية بصورة أساسية، ولكن لم يفض ذلك إلى اللحاق بركب الغرب. وقد تبيَّن مدى تخلُّف روسيا من خلال هزيمتها أمام إنجلترا وفرنسا في حرب القرم (١٨٥٣–١٨٥٦). كان إيقاع التحديث سريعًا إلى الحد الذي أجبر القيصر ألكسندر الثاني على إلغاء العبودية. وقد عقد الإصلاحيون آمالًا على أن يؤدي هذا إلى تدشين النمو الاقتصادي، من خلال توفير عمالة حرة وضمان الملكية الخاصة، لكن لم تتحقق نتائج سريعة.

تبنَّت حكومة ما بعد تحرير العبيد نموذج التنمية الاقتصادية القياسي مع إدخال بعض التعديلات؛ أولًا: أُنشئت سوق وطنية من خلال وضع برنامج ضخم لإنشاء خطوط السكك الحديدية. وبحلول عام ١٩١٣، كان قد أُنشئ ٧١ ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية ساهمت في ربط روسيا بالاقتصاد العالمي:

عندما كان الفلاحون يسوقون محاصيلهم من الحبوب في نيكولاييف [في عام ١٩٠٣]، كانوا يسألون: «ما سعر الحبوب في أمريكا حسب آخِر تلغراف؟» وما كان أكثر إثارة للدهشة هو قدرة الفلاحين على تحويل السنتات (الأمريكية) لكل بوشل (مقياس للوزن) إلى كوبكات (روسية) لكل بوود (مقياس للوزن في روسيا).

ثانيًا: كانت التعريفات الجمركية تُستخدَم للمساعدة في بناء الصناعة. بحلول عام ١٩١٠، كانت روسيا تصهر ٤ ملايين طن من حديد الغفل سنويًّا. لم ترتقِ روسيا إلى المرتبة الأولى في مصافِّ دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والمملكة المتحدة، لكنها كانت بمثابة دولة صناعية رائدة في المرتبة الثانية، بالإضافة إلى ذلك، كانت الدولة تدعم الصناعة الخفيفة من خلال فَرْض تعريفات جمركية مرتفعة على المنسوجات القطنية، وتعريفات معتدلة على القطن الخام؛ ونتيجةً لذلك، توسعت زراعة القطن فيما صار لاحقًا دولة أوزبكستان. في أوائل القرن العشرين، كانت المصانع الروسية تنتج من القطن ما يقترب مما كانت المصانع الألمانية تنتجه. ثالثًا: يكمن الابتكار الأكبر في مجال السياسة الاقتصادية في التمويل. كانت البنوك الخاصة في روسيا أضعف من أن تلعب الدور الذي قامت به نظيرتها في بلجيكا أو ألمانيا، بدلًا من ذلك، اعتمدت روسيا على رأس المال الخارجي؛ فكانت خطوط السكك الحديدية تُموَّل عن طريق بيع السندات في الخارج، كما صار الاستثمار الخارجي المباشر الوسيلة الأساسية لاستقدام التكنولوجيا المتقدمة إلى البلاد، وكانت المصانع تُقام وفقًا لمواصفات دول أوروبا الغربية دون إدخال أي تعديلات لتجعلها تتناسب مع الظروف الاقتصادية المختلفة في روسيا؛ مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج في روسيا عنها في دول أوروبا الغربية. رابعًا: توسعت روسيا في التعليم منذ ستينيات القرن التاسع عشر وما بعدها. بحلول الحرب العالمية الأولى، كان نصف عدد السكان من البالغين قادرًا على القراءة والكتابة، وحتى بين العمال اليدويين، كانت دخول العمال ممَّن لديهم القدرة على القراءة والكتابة أعلى من نظرائهم الأميين؛ لذا كان التعليم له جاذبية كبيرة للكثيرين.

ساهم نموذج التنمية الاقتصادية القياسي (المعدَّل) في زيادة حصة الصناعات الثقيلة في روسيا من ٢٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام ١٨٨٥، إلى ٨٪ في عام ١٩١٣، بَيْدَ أن الزراعة ظلت تمثِّل القطاع الأكبر (انخفضت حصتها من ٥٩٪ إلى ٥١٪). تضاعف الإنتاج الزراعي خلال هذه الفترة مع ارتفاع أسعار القمح العالمية، وساهمت الزراعة في معظم النمو الذي تحقَّق في إجمالي الناتج المحلي. كان النمو الاقتصادي الذي تحقَّق في العصر القيصري يمثِّل ازدهارًا في القطاع الزراعي بصورة أساسية، ساعد عليه عمليات التصنيع التي دعمها فرض تعريفات جمركية. وكان النمو على الأرجح سيتوقف عندما انهارت أسعار القمح العالمية عقب الحرب العالمية الأولى؛ ومن ثَمَّ كانت هناك حاجة إلى نموذج اقتصادي آخَر للحاق بالغرب.

تمثَّل أحد المؤشرات على التأثير المحدود لنموذج التنمية الاقتصادية القياسي في روسيا في حالة سوق العمل. فعلى الرغم من نمو إجمالي الناتج المحلي، لم يَنْمُ الطلب على العمالة بصورة كافية بحيث يوفِّر الوظائف اللازمة لتشغيل الروسيين؛ لذا ظلت الأجور عند حدود الحد الأدنى من متطلبات الحياة، فيما انتقل فائض الدخل الذي حقَّقه النمو في صورة أرباح إلى أصحاب المصانع وإيجار لصالح ملاك الأراضي. وقد كانت هذه هي بادرة اشتعال الصراع الاجتماعي؛ فقد أدى عدم المساواة في تحقيق التنمية إلى اندلاع ثورة في عام ١٩٠٥، تحولت إلى ثورة عاتية في عام ١٩١٧. وقد أدى فشل نموذج التنمية الاقتصادية القياسي في تحويل روسيا إلى دولة صناعية متقدِّمة إلى القضاء على هذا النموذج.

اليابان

تمثِّل اليابان حالة خاصة مثيرة للاهتمام؛ حيث إنها كانت الدولة الآسيوية الأولى التي تلحق بالغرب. ينقسم التاريخ الياباني إلى أربع فترات: عصر توكوجاوا (١٦٠٣–١٨٦٨) عندما كان يحكم البلاد حكام عسكريون (الشجونيون) من قبيلة توكوجاوا، وعصر الإمبراطور ميجي (١٨٦٨–١٩٠٥) عندما استردَّ الإمبراطور ميجي سلطته وبدأت عملية التحديث الاقتصادي، والفترة الاستعمارية (١٩٠٥–١٩٤٠) عندما أُنشئت الصناعات الثقيلة، وأخيرًا عصر النمو السريع (١٩٥٠–١٩٩٠) عندما لحقت اليابان بركب الدول الغنية الغربية.

ترجع جذور نجاح اليابان إلى عصر توكوجاوا، على الرغم من وجود العديد من المؤسسات التي كانت معادية للنمو الاقتصادي. كان المجتمع في تلك الفترة مقسَّمًا إلى طبقات — الساموراي، والفلاحين، والحرفيين، والتجَّار — وكان النظام الإداري للبلاد مقسَّمًا إلى عدة مئات من المناطق الخاصة التي كان يحكم كلًّا منها حاكم كان يُطلَق عليه دايميو. كانت هذه المناطق الخاصة يمكن مصادرتها؛ وهو ما أدى إلى عدم ضمان الملكية الخاصة في أعلى المستويات الاجتماعية، مثلما كان الحال في إنجلترا تحت حكم الملكة إليزابيث، وكانت القيود الصارمة تُفرَض على التجارة ووسائل الاتصال الدولية. لم يُسمَح بدخول سفن للبلاد إلا السفن القادمة من الصين وكوريا وهولندا، ولم يكن يُسمَح للهولنديين إلا بدخول مستوطنة صغيرة في ناجازاكي.

تطورت التكنولوجيا في عصر توكوجاوا، بَيْدَ أن طبيعة التطورات كانت عكس مثيلتها في بريطانيا. فنظرًا لانخفاض الأجور في شرق آسيا، ابتكر اليابانيون تكنولوجيا تزيد من حجم العمالة بغرض رفع إنتاجية الأراضي، وزيادة رأس المال والمواد. على سبيل المثال، كانت العمالة تستخدم نُظُم ري لزيادة إنتاجية المحاصيل، وزُرِعت أصناف جديدة من الأرز مثل أكاماي، كما سمح التحكم في نُظُم الري بزراعة محصولٍ ثانٍ مثل القمح أو القطن أو قصب السكر أو التوت أو بذور اللفت. عمل المزارعون لساعات أطول لكل هكتار، واستثمروا رأس مال أقل مع حلول المعاول محل المحاريث وحيوانات الجر.

تحسَّنت الإنتاجية في عمليات التصنيع أيضًا. حاولت المناطق الخاصة اجتذاب الصناعات، كما دعمت الأبحاث لزيادة الإنتاجية؛ حيث كانت زيادة الإنتاج تؤدي إلى تحقيق المزيد من العائدات الضريبية. وفي حالة صناعة الحرير، لم تستمر التجارب المبكرة لاستخدام الماكينات على النهج الإنجليزي (من خلال استخدام أنظمة ميكانيكية للتروس والسيور، مثلًا، مستوحاة من تقنية عمل الساعات والماكينات الآلية)؛ حيث لم يكن استخدامها اقتصاديًّا. بدلًا من ذلك، كانت التجارب موجَّهة لتحسين إنتاجية دود القز، فأدت تربية سلالات محدَّدة من دود القز والتحكم في درجات الحرارة إلى تقليص فترة النمو، وزادت من إنتاجية الحرير لكل شرنقة بنسبة الربع. في مجال التعدين، كانت أنظمة الصرف الميكانيكية معروفة لكنها لم تَكُنْ مستخدَمة، بدلًا من ذلك، كانت جيوش من العمال تقوم بهذا العمل. بالمثل، جرى الاستعانة بأعداد هائلة من العمالة لاستخراج أقصى كمية ممكِنَة من المعادن من المادة الخام، وكان الاستثناء الذي يثبت القاعدة هو مشروب الساكي. أُقيمت مصانع كثيفةُ رأسِ المالِ، وتعمل من خلال طاقة المياه فقط؛ لأن الحكومة قيَّدت الإنتاج عن طريق تقليص وقت عمل مصانع الساكي، وهو ما أدى إلى إنشاء مصانع كثيفة الإنتاج.

أدت عملية التنمية خلال عصر توكوجاوا إلى ازدهار لم يعم على الجميع بالتساوي؛ فقد زاد عدد السكان، وكذلك حجم إنتاج محصول الأرز في القرن السابع عشر، ولكن ظلت أجور العمال عند حدود «الحد الأدنى» من متطلبات الحياة. كان الشخص المتوسط يستهلك حوالي ١٨٠٠ سعر حراري يوميًّا في أواخر عصر توكوجاوا وفي أوائل فترة الإمبراطور ميجي، وكانت معظم السعرات الحرارية والبروتين يتوفران من خلال الأرز والبطاطس والبقوليات وليس اللحوم أو السمك. ترتَّب على ذلك قِصَر قامة اليابانيين؛ حيث بلغ متوسط طول الرجل الياباني ١٥٧ سنتيمترًا، فيما بلغ متوسط طول النساء ١٤٦ سنتيمترًا.

ورغم ذلك، تمتع الكثيرون بأسلوب حياة مرفَّه؛ عاش حوالي ١٥٪ من إجمالي عدد السكان في المدن، وكانت مدن إيدو (طوكيو حاليًّا) — التي بلغ عدد سكانها مليون نسمة — وأوساكا وكيوتو (٤٠٠ ألف نسمة في كلٍّ منهما) ضمن أكبر المدن في العالم. وكان متوسط عمر الفرد يزداد، وزادت أوقات الفراغ؛ حيث كان الفلاحون يحصلون على «أيام ترفيهية» ويسافرون عبر البلاد. كان مستوى الحضور في المدارس مرتفعًا بالنسبة لمجتمع زراعي. في عام ١٨٦٨، كان ٤٣٪ من البنين و١٠٪ من البنات يرتادون المدارس؛ حيث كانوا يتعلمون القراءة والحساب، وكان أكثر من نصف الرجال البالغين يستطيعون القراءة والكتابة، وكانت القراءة بغرض التعليم والمتعة منتشرة، وكان سعر الكتب مرتفعًا بالنسبة لمعظم الناس، لكن كان يمكن اقتراضها في مقابل إيجار من متاجر الكتب. في عام ١٨٠٨، كان هناك ٦٥٦ متجرًا في إيدو لإقراض الكتب، وكانت توفِّر الكتب لنحو ١٠٠ ألف عائلة (أيْ ما يقرب من نصف عدد السكان). كان ارتفاع مستوى التعليم يرجع على الأرجح إلى تحوُّل الاقتصاد الياباني إلى التجارة، وهو ما مثَّل أساس النمو فيما بعدُ.

حقَّقت اليابان في عصر توكوجاوا مستوى مبهرًا من الكفاءة الهندسية والإدارية التي تجلَّتْ في إنشاء أول مصنع للحديد في ناجازاكي، وكانت الضرورة العسكرية دافعًا لذلك. في عام ١٨٠٨، دخلت السفينة «إتش إم إس فيتون» ميناء المدينة لمهاجمة السفن الهولندية، وهدَّدت السفينة بقذف الميناء إذا لم تقدِّم لها المؤن. لم يمتلك اليابانيون مدافع حديدية للدفاع عن أنفسهم؛ حيث لم يكن لديهم أفران لصنعها. شكَّل نابيشيما ناوماسا — الذي أصبح حاكم ناجازاكي، وكان مُولَعًا بالعلوم الغربية — فريقًا لإقامة مصنع لإنتاج المدافع، تألَّف الفريق من العلماء والحرفيين المَهَرَة في مجال صناعة الحديد. قام أعضاء الفريق بترجمة كتاب هولندي يتضمن وصفًا لأحد مصانع الحديد في ليدن، وصمَّم أعضاء الفريق مصنعًا مثله. في عام ١٨٥٠، نجح الفريق في بناء فرن عاكس، وبعد ثلاث سنوات نجح الفريق في صناعة أول مدفع من الحديد. في عام ١٨٥٤، استورد الفريق بنادق أرمسترونج متطورة تُحشَى من الخلف من بريطانيا، وصنعوا نماذج مطابقة لها. وبحلول عام ١٨٦٨، كانت اليابان تمتلك أحد عشر فرنًا لصب الحديد.

استعادة حكم الإمبراطور ميجي

في عام ١٨٣٩، هاجمت بريطانيا الصين لإجبارها على السماح باستيراد الأفيون، الذي كان أحد أكثر منتجات شركة الهند الشرقية تحقيقًا للربح، وقد انتصرت الإمبريالية التي تروِّج للمخدرات بهزيمة الصين في عام ١٨٤٢، فهل كان الدور على اليابان؟ بدا أن الإجابة كانت «نعم» عندما وصل القائد البحري الأمريكي بيري ومعه أربع بوارج حربية في عام ١٨٥٣ إلى اليابان، وطلب إنهاء اليابانيين فرض القيود على التجارة الخارجية. وفي ظل غياب سلاح بحرية حديث، لم تجد اليابان بُدًّا من الموافقة وتوقيع معاهدات مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا، ومن ثَمَّ ظهرت الحاجة الملحَّة لوجود جيش قوي. وقد اتَّخَذَ الحكَّام العسكريون التوكوجاويون بعض الخطوات لتحسين وضع اليابان الأمني، وهو ما وجده الكثيرون غير كافٍ ومتأخرًا كثيرًا.

في عام ١٨٦٧، صعد الإمبراطور ميجي على عرش اليابان، بعد أن نفَّذ دعاة التحديث «انقلابًا» حقيقيًّا، واضطر آخِر حكَّام التوكوجاوا التنازل عن السلطة. وكان شعار دعاة الإصلاح هو «دولة غنية وجيش قوي».

أجرى النظام الجديد إصلاحات جذرية. «سُلِّمت» المناطق الإقطاعية الخاصة إلى الإمبراطور، كما جرى تعويض ١٫٩ مليون فرد من الساموراي من خلال السندات الحكومية. أُلغِيت الطبقات الأربع في المجتمع؛ لذا صار من الممكن أن يتولى أي شخص أي وظيفة، وجرى توفير ضمانات أكدت على ملكية الفلاحين لأراضيهم، كما وضعت الأسس الحديثة لحقوق الملكية. حلت الضرائب العقارية التي كانت تُسدَّد إلى الحكومة الوطنية محل الضرائب الإقطاعية، ومثَّلت هذه الضرائب الجانب الأكبر من مصدر الدخل للدولة خلال سبعينيات القرن التاسع عشر. وفي عام ١٨٧٣، أُدخِل نظام التجنيد العام وأُنشِئ جيش حديث على غرار الجيوش الأوروبية؛ أدى هذا إلى تآكُل امتيازات طبقة الساموراي الذين كانوا وحدهم مسموحًا لهم بحمل السلاح في السابق. في عام ١٨٩٠، أرسى دستورٌ مكتوبٌ أُسُسًا لإقامة مَلَكية دستورية على غرار النموذج البروسيِّ.

تظهر الروح التقدمية في اليابان في عصر الإمبراطور ميجي من خلال مشكلة بسيطة؛ أَلَا وهي قياس الوقت. كانت الساعة اليابانية التقليدية تقسِّم الوقت من شروق الشمس إلى غروبها إلى ست ساعات، ومن غروب الشمس إلى شروقها إلى ست ساعات أخرى؛ ومن ثَمَّ اختلفت الساعة النهارية عن الساعة الليلية في مدة كلٍّ منهما، بل واختلف طول كلٍّ منهما على مدار السنة، وقد عمد صنَّاع الساعات إبَّان عصر توكوجاوا إلى التجريب بإدخال التعديلات المبتكَرة للساعات الميكانيكية الغربية لإعادة تشكيل نظام التوقيت هذا. وفي عام ١٨٧٣، اكتمل بناء أول خط سكك حديدية ياباني، وواجهت الحكومة الميجية مشكلة الإعلان عن جدول زمني للقطارات. بدلًا من استخدام جدول زمني معقَّد تختلف أوقات المغادرة والوصول فيه خلال أيام السنة، ألغت الدولة نظام التوقيت الياباني التقليدي واعتمدت نظام التوقيت الغربي القائم على ٢٤ ساعة في اليوم؛ فنظام النقل الحديث استلزم وجود نظام توقيت حديث.

التنمية الاقتصادية في عصر ميجي

ربما رغبت الحكومة في عصر ميجي في تطوير البلاد من خلال اعتماد نموذج التنمية الاقتصادية القياسي، الذي أثبت نجاحه في دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، بَيْدَ أنه لم يكن بوسعها سوى الاعتماد على عنصرين فقط من عناصره الأربعة؛ تمثَّل العنصر الأول في إنشاء سوق وطنية من خلال إلغاء التعريفات الجمركية المفروضة على التجارة بين المناطق، وبناء شبكة خطوط سكك حديدية. أما العنصر الثاني فهو نشر التعليم العام. في عام ١٨٧٢، صارت المرحلة الابتدائية من التعليم إجبارية، وبحلول عام ١٩٠٠، كان ٩٠٪ من الأطفال في سن دخول المدارس مقيَّدين في المدارس. أقيمت المدارس الثانوية والجامعات لكنها كانت محدودة وتنافسية إلى حد كبير. أُرسل الآلاف من اليابانيين إلى الخارج لتلقي تعليمهم؛ ونتيجةً لذلك، أحرز التعليم تقدُّمًا في اليابان قبل غيرها من الدول الفقيرة بوقت طويل. يقارن الجدول ٨-١1 بين اليابان وإندونيسيا، وهي دولة تُعتبَر تجربتها مثالًا لتجربة الكثير من دول آسيا وأفريقيا. في اليابان، كانت نسبة كبيرة من السكان (١٠٫٨٪) مقيَّدة في المدارس في أواخر القرن التاسع عشر، وبلغت نسبة القيد في المدارس مستوياتها الحديثة (١٩٫٧٪) بحلول الحرب العالمية الثانية. في المقابل، تخلَّفت إندونيسيا عدة أجيال عن اليابان، وقد كان التعليم العام سببًا مهمًّا في نجاح اليابان في تبنِّي التكنولوجيا الحديثة.
جدول ٨-١: نسبة السكان المقيَّدين في المدارس.
اليابان إندونيسيا
١٨٧٠ ٢٫٥ ٠٫١
١٨٨٠ ٦٫٧ ٠٫١
١٩٠٠ ١٠٫٨ ٠٫٤
١٩١٣ ١٤٫١ ١٫١
١٩٢٨ ١٧٫٥ ٢٫٨
١٩٤٠ ١٩٫٧ ٣٫٤
١٩٥٠ ٢٢٫٣ ٧٫٠
١٩٧٣ ١٧٫٢ ١٣٫٦
١٩٨٩ ١٨٫٨ ٢٣٫٩

أما عناصر نموذج التنمية الأخرى — البنوك الاستثمارية والتعريفات الحمائية — فكانت أصعب في تنفيذها. لم تعرف اليابان في عصر توكوجاوا أي مؤسسات تشبه البنوك الحديثة، أما في عصر ميجي فقد سمحت الدولة بتأسيس البنوك منذ البداية، بَيْدَ أن نظام البنوك كان فوضويًّا، وتطلب الأمر خمسين عامًا من اليابان حتى تستطيع تطوير نظام مصرفي على غرار النظام الألماني. في بداية عصر ميجي، سدت الدولة الفجوة من خلال أدائها دور شركات رأس المال المُخاطر.

كان من المستحيل بالنسبة لليابان أن تفرض التعريفات الجمركية لدعم التنمية الصناعية؛ نظرًا لأن الحد الأقصى للتعريفات كان عند مستوى ٥٪ بموجب معاهدة فرضتها القوى الغربية على اليابان في عام ١٨٦٦، بدلًا من ذلك تدخَّلت الدولة مباشَرةً في الاقتصاد من خلال «السياسة الصناعية الموجهة»، وكان أهم اللاعبين في تنفيذ هذه السياسة هم وزراء الداخلية والصناعة، والذين عُهِد إليهم باستيراد التكنولوجيا المتطورة. أنشأت وزارة الصناعة نُظُمَ خطوط السكك الحديدية والتلغراف في اليابان في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر. أشرف الخبراء الأجانب على تنفيذ هذه المشروعات في البداية، لكن أُسِّست كليةٌ لتعليم المهندسين اليابانيين في أوساكا، ثم تخلَّت اليابان عن خدمات الأجانب في أسرع وقت ممكن، وكان أحد أسباب إدارة اليابانيين للمشروعات هو ضمان أن سياسة التوريد تدعم الصناعة اليابانية. على سبيل المثال، وقَّع صانعو الأواني الفخارية اليابانيون عقودًا لصناعة عوازل لخطوط التلغراف، وبهذه الطريقة قامت صناعة الخزف.

في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، تولت الوزارتان تنفيذ المشروعات على افتراض أن الشركات اليابانية لن تُدخِل التكنولوجيا الحديثة بالسرعة المطلوبة؛ لذا كان على الدولة أن تقوم بدور المقاول. أُقيمت المناجم والمصانع المملوكة للدولة باستخدام الماكينات المستوردة المتطورة، بَيْدَ أن معظمها فشل فشلًا تجاريًّا ذريعًا. أُقيم مصنع توميوكا لحل الحرير — على سبيل المثال — في عام ١٨٧٢ باستخدام ماكينات فرنسية، وبالاعتماد على طاقة البخار، لكنه كان دائمًا ما يحقِّق خسائر. وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر، باعت الحكومة اليابانية معظم مؤسساتها الصناعية، واعتمدت على الشركات لاتخاذ القرارات الإدارية في الإطار الذي وضعته الدولة، فتوصَّلت الشركات اليابانية إلى حلٍّ لمشكلة استيراد التكنولوجيا من خلال إعادة هندستها لتناسب الظروف اليابانية.

واجهت اليابان مشكلةً تفاقمت بمرور الوقت؛ وهي التكنولوجيا الحديثة التي كانت أساس الماكينات والمصانع المصمَّمة لتناسِب شركات غربية تعمل في ظروف المجتمع الغربي. بنهاية القرن التاسع عشر، كانت الأجور في الغرب أعلى كثيرًا من مثيلاتها في اليابان؛ لذا اعتمدت التصميمات الغربية على رأس مال ومواد خام أكثر، وذلك للاقتصاد في استخدام العمالة. لم تكن هذه البنية مناسِبةً لليابان؛ إذ أدت إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج. وفي حين ظلت بعض الدول تسير متخبطة باستخدام تكنولوجيا غير مناسبة لظروفها، توصَّلت اليابان إلى حل أكثر ابتكارًا؛ إذ أعاد اليابانيون تصميم التكنولوجيا الغربية لجعلها ذات تكلفة مناسبة في ظل اقتصادهم منخفض الأجور.

كانت صناعة حَل الحرير مثالًا مبكِّرًا. في الوقت الذي كان مصنع توميوكا يحقِّق خسائر، أقامت عائلة أونو التجارية في تسوكيجي مصنعًا استخدم ماكينات استلهمت التكنولوجيا الأوروبية. في هذه الحالة، صُنعت الماكينات من الخشب بدلًا من المعدن، وتمثَّلَ مصدر الطاقة في رجال يديرون أذرع دوَّارة بدلًا من الاعتماد على المحرك البخاري. صار إدخال التعديلات على التكنولوجيا الغربية وَفْق هذا النهج معروفًا في اليابان باسم «أسلوب ساوا»، ومن ثَمَّ كانت هذه تكنولوجيا مناسبة لليابان؛ حيث إنها اعتمدت على القليل من رأس المال الباهظ والكثير من العمالة الأقل تكلفة.

ينطبق الأمر نفسه على صناعة القطن. لم تكن المحاولات المبكرة للغزل عن طريق ماكينة الغزل ناجحة، ولكن كانت ماكينة جارابو (عمود الدوران الهزاز)، التي ابتكرها جون توكميون أكثر نجاحًا، وكان النجَّارون المحليون يصنعون ماكينات جارابو بأسعار زهيدة (ومن ثَمَّ فإنها كانت توفر في رأس المال)، وكانت تنتج غزلًا يشبه الغزل الذي كانت تنتجه العجلات اليدوية المنافسة لها. لم تكن ماكينة جارابو مشروعًا رفيع المستوى تدعمه الحكومة، ولكنه كان مدعومًا من قِبَل جمعية تطوير الإنتاج التي كانت تديرها المنطقة المحلية لجوان.

وفي هذا الصدد، تكشف المقارنة مع الهند أمورًا كثيرة. كانت صناعة غزل القطن التي نمت بسرعة في بومباي في سبعينيات القرن التاسع عشر تستخدم ماكينات الغزل الإنجليزية، وكانت المصانع تُدار بالطريقة نفسها التي كانت تُدار بها مثيلاتها في بريطانيا، ولم تُجْرَ أيُّ محاولات منهجية لتخفيض رأس المال في الصناعة الهندية. في المقابل، جرت هذه المحاولات في اليابان، وكانت الخطوة الأولى الأساسية تتمثل في تشغيل المصانع لفترتَيْ دوامٍ تستمر كلٌّ منهما إحدى عشرة ساعة يوميًّا بدلًا من دوام واحد، وهو ما كان معتادًا في بريطانيا والهند، وقد أدى هذا إلى تخفيض رأس المال لكل ساعة بمقدار النصف. منذ تسعينيات القرن التاسع عشر وما بعدها، حلت العواميد الدوَّارة الحلقية عالية السرعة محل ماكينات الغزل الإنجليزية، وقد أفضت هذه التغييرات في الأساليب المتَّبَعة إلى زيادة معدلات التوظيف مقارَنةً برأس المال، وأيضًا إلى انخفاض التكاليف. بحلول القرن العشرين، صارت اليابان أقل دول العالم تكلفة في إنتاج غزل القطن، وتفوَّقَ اليابانيون على الهنود والصينيين والبريطانيين.

امتد تطوير التكنولوجيا الملائمة إلى مجال الزراعة. أجرى اليابانيون التجارب على ماكينات الإنتاج الزراعية الأمريكية في سبعينيات القرن التاسع عشر، لكنها لم تَلْقَ نجاحًا نظرًا لاعتمادها على رأس مال كثيف، أما الجهود التي حقَّقت نجاحًا أكبر فهي جهود زيادة إنتاجية الأراضي، حتى لو تطلَّبَ ذلك استخدام المزيد من العمالة. في عام ١٨٧٧، تطورت زراعة أرز «الشنريكي» قرب أوساكا، وكان هذا النوع من الأرز ينتج محصولًا كبيرًا في حال تسميده، وفي حال حرث حقول الأرز بصورة كاملة. وقد اعتمدت وزارة الزراعة على منظمات المزارعين المخضرمين لنشر هذه الثقافة في جميع أنحاء البلاد. ارتفع الإنتاج الزراعي بصورة مطردة في اليابان في عصر ميجي، وساهم إسهامًا مهمًّا في نمو الاقتصاد ككل، بمجرد تركيز عملية الابتكار على زيادة إنتاجية الأراضي، وهي أحد عوامل الإنتاج النادرة وعالية القيمة.

الفترة الاستعمارية ١٩٠٥–١٩٤٠

بينما جرى إصلاح المجتمع الياباني خلال عصر ميجي، كان التغيير في البنية الاقتصادية بطيئًا، فكانت الصناعات الرائدة صناعات تقليدية، مثل الشاي والحرير والقطن، وكانت صادرات هذه المنتجات تُستخدَم في شراء الماكينات المستوردة والمواد الخام.

تسارَعَ النمو الصناعي بين عامَيْ ١٩٠٥ و١٩٤٠، كما تغيَّرت طبيعته. قفزت حصة التصنيع في الاقتصاد الياباني من ٢٠٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام ١٩١٠، إلى ٣٥٪ في عام ١٩٣٨. وفي تلك الفترة، وُضِعت أُسُس الصناعات التعدينية والهندسية والكيميائية التي قادت النمو الياباني في فترة ما بعد الحرب، مثلما وُضِعت أُسُس الشركات الشهيرة التي تصنع هذه المنتجات.

تزامنت هذه التطورات مع التنفيذ الكامل لنموذج التنمية الاقتصادية القياسي. استعادت اليابان السيطرة على سلطتها في فرض التعريفات في عامي ١٨٩٤ و١٩١١؛ فجرى رفع قيمة التعريفات مباشرَةً لحماية صناعتها. بحلول عشرينيات القرن العشرين، كان النظام المصرفي قد نضج إلى الدرجة التي صار معها يستطيع تمويل التنمية الصناعية. بالإضافة إلى ذلك، أبقت اليابان على نظامها القائم على السياسة الصناعية الموجهة، وقد أثبت استخدام مزيج من الأدوات السياسية فعاليته البالغة في دعم الصناعات الثقيلة.

اتُّخِذت الخطوة الأولى في عام ١٩٠٥ عندما أُسِّس مصنع ياواتا للصلب لأسباب استراتيجية. كان المصنع مملوكًا للدولة وتطلَّب توفير الدعم لسنوات قبل أن يحقِّق أرباحًا، وقد قدَّمت الحرب العالمية الأولى دعمًا للشركات اليابانية نظرًا لانقطاع الواردات الأوروبية، وبعد الحرب، أجرت الهيئات العسكرية اليابانية أبحاثًا مشتركة مع الشركات الخاصة، ودعمت الصناعات الرئيسية مثل صناعة السيارات والشاحنات والطائرات من خلال عقود التوريد. كانت الشركات القابضة تمتلك الشركات الكبرى، فضلًا عن البنوك التي كانت تموِّلها. نسَّق هذا «الزايباتسو» (التحالف الصناعي) عمليات الإنتاج، وتولَّى توفير الاستثمارات للصناعة.

بينما كان الهدف من هذا التحالف الصناعي التعامل مع نقص رأس المال في اليابان من خلال زيادة معدلات الادخار والاستثمار، واجهت إدارة الشركات عامل الأسعار من خلال ابتكار التكنولوجيا المناسبة. ابتكرت الشركات الأمريكية التي تعمل في إطار اقتصاد مرتفع الأجور نُظُمَ إنتاجٍ قائمةً على خطوط التجميع التي تعتمد على الماكينات بصورة أساسية، والتي تقتصد في الأيدي العاملة. في المقابل، كانت الشركات اليابانية تقتصد في المواد الخام ورأس المال. كان أحد أشهر المنتجات اليابانية الطائرة المقاتلة ميتسوبيشي زيرو، ولم تتحقق السرعة القصوى للطائرة التي بلغت ٥٠٠ كيلومتر في الساعة على ارتفاع ٤٠٠٠ متر من خلال زيادة قدرة محركها، بل عن طريق تخفيض وزنها. كان أحد التطورات المتميزة في ثلاثينيات القرن العشرين تبنِّي استراتيجية «الإنتاج الآني»؛ أيْ إنه بدلًا من إنتاج مخزون كبير من المكونات الصناعية، ومن ثم الحاجة إلى رأس مال لتمويلها، لجأت الشركات اليابانية إلى إنتاج المكونات الصناعية فقط عند الحاجة إليها، وقد أثبتت تقنية «الإنتاج الآني» نجاحها وإنتاجيتها العالية، حتى إنها صارت تُطبَّق في السياقات التي يتوفر فيها رأس المال أو تلك التي لا يتوفر فيها.

على عكس روسيا القيصرية أو المكسيك، لم يكن الاستثمار الخارجي قناة ذات أهمية نسبيًّا لاستيراد التكنولوجيا الغربية، بدلًا من ذلك أقامت الشركات اليابانية إدارات أبحاث وتطوير خاصة بها لنسخ التكنولوجيا الغربية وإعادة هندستها لتناسب الظروف اليابانية، وكانت الدولة تدعم الشركات. فعندما ثبت استحالة استيراد التوربينات الكهربائية من ألمانيا في عام ١٩١٤، حازت هيتاشي عقدًا لتطوير توربين بقدرة ١٠ آلاف حصان لاستخدامه في أحد المشروعات الكهرومائية، ونظرًا لأن أكبر توربين صنعته هيتاشي قبل ذلك كان بقوة ١٠٠ حصان، كان أمام الشركة الكثير لتتعلمه، وقد دعمت هذه التجربة القدرات الهندسية للشركة.

لم يكن تطبيق اليابان لنموذج التنمية القياسي ناجحًا بالكامل. من جانب، نشأ مجتمع حضري يمتلك صناعات متقدمة، وزاد إجمالي الناتج المحلي للفرد من ٧٣٧ دولارًا أمريكيًّا في عام ١٨٧٠، إلى ٢٨٧٤ دولارًا أمريكيًّا في عام ١٩٤٠، ونظرًا لحالة الركود التي سادت معظم دول العالم الثالث، كانت هذه الإنجازات مبهرة. على الجانب الآخَر، كان معدل نمو الدخل لكل فرد (٢٫٠٪ سنويًّا) متواضعًا، ولا يزيد كثيرًا عن معدل النمو الأمريكي بمقدرا ١٫٥٪، ولو كانت هذه المعدلات قد استمرت بعد عام ١٩٥٠، كان الأمر سيستغرق من اليابان ٣٢٧ عامًا للحاق بالولايات المتحدة، وهذه ليست بالسرعة الكافية.

انعكس هذا النمو البطيء في نقاط ضعف في سوق العمالة، مثلما كان الحال في روسيا والمكسيك. كانت الشركات الكبرى تدفع أجورًا مرتفعة، فيما ظلت الأجور منخفضة للغاية في الزراعة والصناعات صغيرة الحجم؛ نظرًا لضعف الطلب على العمالة. استمرت هذه القطاعات في الاعتماد على التكنولوجيا اليدوية أو الماكينات البسيطة. كانت هناك علاقة نفعية متبادلة بين القطاعات الحديثة والتقليدية: فإذا أمكن تنفيذ إحدى مراحل عملية الإنتاج الحديثة بأقل تكلفة، من خلال استخدام الأساليب اليدوية محدودة النطاق، كان يجري تعهيد تنفيذ هذه المرحلة إلى شركة صغيرة.

أمريكا اللاتينية

أجرت أمريكا اللاتينية أحدث التجارب في تطبيق النموذج القياسي، وقد بدأ ذلك في الوقت الذي اندمج فيه النصف الجنوبي من القارة في الاقتصاد العالمي.

كانت المكسيك والأنديز والبرازيل والكاريبي جزءًا من الاقتصاد العالمي منذ القرن السادس عشر، بينما كان الجزء الجنوبي من أمريكا اللاتينية بعيدًا للغاية عن أوروبا بما لا يسمح بالتجارة معها بصورة مربحة. بعد عام ١٨٦٠، جعلت السفن البخارية من المربح تصدير القمح من الأرجنتين وأوروجواي، وتصدير السماد والنحاس من ساحل المحيط الهادئ للقارة. انضمت اللحوم إلى قائمة الصادرات في عام ١٨٧٧، عندما حملت أول سفينة تحتوي على ثلَّاجات — سفينة «لو فريجورفيك» — لحمَ ضأن مجمَّد من بيونس آيريس إلى روان. ازدهرت الصادرات، وبدأت المنطقة في اجتذاب المستوطنين ورأس المال من أوروبا. بحلول عام ١٩٠٠، صار المخروط الجنوبي أحد أكثر مناطق العالم ثراءً، وما لبثت أن انضمَّتِ الأرجنتين إلى المكسيك في تطوير التصنيع.

كان كثير من دول أمريكا اللاتينية أصغر حجمًا من أن تصير دولًا صناعية؛ لذا استمرت هذه الدول في تصدير المنتجات الأولية واستيراد المنتجات المصنعة، واستمرت كذلك على فقرها. على الجانب الآخَر، أجرت الاقتصادات الكبرى تجارب على تطبيق نموذج التنمية القياسي في أواخر القرن التاسع عشر، وثابرت في تطبيقه حتى ثمانينيات القرن العشرين عندما أُطلِق عليه «إحلال الواردات بالتصنيع». أولًا: أُنشئ ٩٠ ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية في الأرجنتين والبرازيل والمكسيك وتشيلي بحلول عام ١٩١٣. ثانيًا: وفَّرت التعريفات الجمركية حمايةً لصناعات مثل صناعة المنسوجات والحديد. ثالثًا: سارت دول أمريكا اللاتينية على النموذج الروسي مع توفير الاستثمارات من الخارج. رابعًا: تمثَّلت هفوة أخرى في عدم توفير التعليم العام. كانت الأرجنتين الاستثناء الكبير في هذا الصدد؛ إذ فرضت التعليم الإجباري المجاني في عام ١٨٨٤؛ ونتيجةً لذلك جاءت الأرجنتين في مقدمة دول القارة (تتبعها مباشَرةً تشيلي)؛ حيث كان أكثر من نصف سكانها البالغين يعرفون القراءة والكتابة في عام ١٩٠٠، مقارنةً بربع السكان في المكسيك وفنزويلا والبرازيل.

تسارعت التنمية الصناعية محتمية بجدار التعريفات الجمركية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كما أضفت الأسعار المنخفضة للصادرات الزراعية من القارة ثقلًا للمناقشات حول دعم التنمية الصناعية، وقد تحوَّلت هذه الرغبات إلى عقيدة راسخة من خلال لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية تحت إشراف الاقتصادي الأرجنتيني راؤول بريبيش. أكَّد تقرير «التنمية الاقتصادية في أمريكا اللاتينية ومشكلاتها الأساسية» (١٩٥٠) أن أسعار المنتجات الأولية التي تصدرها دول أمريكا اللاتينية كانت تنخفض مقارنةً بأسعار الواردات المصنَّعة، وأوصى التقرير بدعم الدولة للصناعة لمواجهة هذه المشكلة. كانت «نظرية التبعية» مؤثرة إلى حد كبير على الرغم من جدلية ادِّعَاءاتها. خُذْ مثلًا بالأمثلة المذكورة في هذا الكتاب؛ على سبيل المثال، يتوافق تاريخ زيت النخيل والكاكاو مع النظرية؛ نظرًا لانخفاض أسعارهما مقارَنةً بسعر الأقمشة القطنية منذ منتصف القرن التاسع عشر (الشكلان ٧-١ و٧-٢).
ومع ذلك،»ارتفع«سعر القطن الخام مقارَنةً بسعر الأقمشة في الهند في القرن التاسع عشر، وهو ما أدى إلى هجر الأنشطة التصنيعية (الشكلان ٥-١ و٥-٢).

أدت نظرية التبعية إلى التطبيق الكامل لنموذج التنمية الاقتصادية القياسي، فصار التعليم عامًّا في نهاية المطاف، وأُسِّست بنوك التنمية لتمويل المشروعات التنموية، بينما صار الاستثمار الخارجي وسيلةً لتمويل الصناعة واستقدام التكنولوجيا المتطورة، واستُخْدِمت التعريفات الجمركية وأدوات السيطرة الحكومية لدعم عدد من الصناعات الحديثة، وارتفع الإنتاج الصناعي وعملية التحضُّر، وازداد الدخل لكل فرد بأكثر من الضعف بين عامَيْ ١٩٥٠ و١٩٨٠، ولكن ارتفع الدين الخارجي، ولم يَعُدْ من الممكن سداد قيمة الفائدة بعد ارتفاع معدلات الفائدة في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. عجزت المكسيك عن السداد في عام ١٩٨٢، واقترحت البنوك الغربية تقديم قروض، وانتهى المطاف بدخول أمريكا اللاتينية في ركود، وهكذا بلغ نموذج التنمية الاقتصادية القياسي منتهاه.

وقد عَكَس فشل التصنيع الذي يحفزه فرض التعريفات الجمركية عوامل أكثر عمقًا مثل تطور التكنولوجيا. كان التباين في الأجور بين الدول الغنية والفقيرة قد زاد، بحيث صارت التكنولوجيا الجديدة كثيفة رأس المال التي ظهرت في خمسينيات القرن العشرين أقل ملاءمة لظروف الدول الفقيرة من تكنولوجيا عام ١٨٥٠. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت مشكلة جديدة؛ فلم تقتصر التكنولوجيا الجديدة في منتصف القرن العشرين على ارتفاع نسبة تكلفة رأس المال إلى تكلفة العمالة، بل تضمَّنَتْ أيضًا وجود مصانع ضخمة، والتي كانت في الغالب أكبر من قدرة أسواق الدول الفقيرة على استيعابها.

تُعتبَر صناعة السيارات مثالًا مهمًّا. شجَّعت معظم دول أمريكا اللاتينية إنتاج السيارات، ولكن كانت أسواقها أصغر حجمًا من أن تسمح بتشغيل هذه المصانع بشكل فعَّال. بلغ الحجم الأدنى للإنتاج الفعَّال لمصانع تجميع السيارات في ستينيات القرن العشرين ٢٠٠ ألف سيارة سنويًّا، واقترب الحجم الأدنى للإنتاج الفعَّال للمحركات وناقلات الحركة من مليون وحدة سنويًّا، بينما كانت كابسات الألواح المعدنية تنتج أربعة ملايين وحدة طوال فترة عمرها الافتراضي. لم يكن هناك سوى سبع شركات فقط (جنرال موتورز، وفورد، وكرايسلر، ورينو، وفولكس فاجن، وفيات، وتويوتا) تستطيع إنتاج مليون سيارة على الأقل سنويًّا، كما كانت هذه الشركات تمتلك مصانع لتصنيع المحركات وناقلات الحركة والتجميع يمكنها الإنتاج في حدود الحجم الأدنى للإنتاج الفعَّال. (تحقَّقت الكفاءة في تشكيل المعادن من خلال تغيير تصميم جسم السيارة كل عدة سنوات.) أما الشركات الأصغر حجمًا فكانت تكاليف الإنتاج المرتفعة تمثِّل عِبْئًا عليها.

كانت أسواق السيارات في أمريكا اللاتينية أصغر حجمًا. في خمسينيات القرن العشرين، كانت حوالي ٥٠ ألف سيارة جديدة تباع سنويًّا في الأرجنتين. اشترط مرسوم السيارات لسنة ١٩٥٩ أن يكون ٩٠٪ على الأقل من مكونات السيارات المبيعة في البلاد مصنَّعًا فيها. زاد إنتاج السيارات بنسبة ٢٤٪ سنويًّا حتى عام ١٩٦٥، عندما أنتجت ١٩٥ ألف سيارة، وكانت صناعة السيارات تمثِّل ١٠٪ من حجم الاقتصاد. بدا نموذج إحلال الواردات بالتصنيع ناجحًا للغاية من حيث نمو الإنتاج، ولكن كان حجم الصناعة أصغر بكثير من أن يحقق مستوى الإنتاج الذي تحقِّقه الاقتصادات الكبيرة الحجم. وفاقم من مشكلة صِغَر حجم السوق المحلية تقسيمها بين ١٣ شركة كانت أكبرها تنتج ٥٧ ألف سيارة فقط، فترتَّب على ذلك أن بلغت تكلفة إنتاج سيارة في الأرجنتين ٢٫٥ مرة أكثر من تكلفة إنتاجها في الولايات المتحدة. لم تستَطِعْ الأرجنتين المنافسة دوليًّا في ظل هذه البنية الصناعية، بل وأدى قطاع تصنيع السيارات إلى دفع كفاءة الاقتصاد بأسره إلى أسفل، ونظرًا لأن المشكلة نفسها تكررت مع صناعات الصلب والبتروكيماويات والصناعات الأخرى، لعب نموذج إحلال الواردات بالتصنيع دورًا كبيرًا في خفض إجمالي الناتج المحلي لكل عامل، ومن ثَمَّ خفض المستوى المعيشي.

تُعتبَر المقارنة مع القرن التاسع عشر صارخة، فلم يكن الحجم مسألة ذات أهمية في القرن التاسع عشر. في حوالي عام ١٨٥٠، كان مصنع القطن العادي يشتمل على ٢٠٠٠ ماكينة عمود دوَّار، وكان الإنتاج يصل إلى ٥٠ طن من الغزل سنويًّا، وكانت الولايات المتحدة تستهلك حوالي ١٠٠ ألف طن من الغزل سنويًّا؛ لذا كانت تستطيع استيعاب ٢٠٠٠ مصنع قطن تنتج في حدود الحجم الأدنى من الإنتاج الفعَّال. والأمر نفسه ينطبق على الصناعات الحديثة الأخرى؛ فكان فرن صهر الحديد ينتج ٥ آلاف طن سنويًّا، وكان إجمالي الاستهلاك في الولايات المتحدة يصل إلى ٨٠٠ ألف طن أو ما يكافئ ١٦٠ ضعفًا للحجم الأدنى للإنتاج الفعَّال، وكان مصنع إنتاج قضبان خطوط السكك الحديدية ينتج ١٥ ألف طن من القضبان سنويًّا، بينما كانت الولايات المتحدة تنتج ٤٠٠ ألف طن (أيْ ٢٧ ضعفًا للحجم الأدنى للإنتاج الفعَّال فقط!) رفعت التعريفات الجمركية المرتفعة التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية من الأسعار التي كان المستهلكون يدفعونها في القرن التاسع عشر، لكن هذه الدول لم تحمِّل اقتصادها عبء بنية صناعية غير فعَّالة، وهو ما يُعَدُّ سببًا أساسيًّا في تفسير نجاح نموذج التنمية الاقتصادية القياسي في أمريكا الشمالية وفشله في أمريكا الجنوبية.

نهاية النموذج القياسي

أفضى نموذج التنمية الاقتصادية القياسي في روسيا القيصرية واليابان وأمريكا اللاتينية إلى نمو اقتصادي محدود لم يكن كافيًا لسد الفجوة مع الغرب، وفي ظل نمو إجمالي الناتج المحلي للفرد بمعدل ٢٪ سنويًّا في الدول المتقدمة، كان على الدول الفقيرة تحقيق — على الأقل — هذه النسبة من النمو ليظل نموها منتظمًا، وتحقيق نسبة أعلى بكثير للحاق بالغرب خلال إطار زمني محدود. لم تستطع روسيا القيصرية واليابان وأمريكا اللاتينية تحقيق ذلك من خلال نموذج التنمية القياسي، فكانت النتيجة الطبيعية نموًّا بطيئًا للطلب على العمالة يتخلف كثيرًا عن النمو في عدد السكان، ومن ثَمَّ عانت روسيا القيصرية وأمريكا اللاتينية من مستويات مرتفعة من اللامساواة وعدم الاستقرار السياسي. وبالمثل، فشلت مجموعات كثيرة في يابان ما قبل الحرب العالمية الثانية — العمال في مجال الزراعة والصناعات الصغيرة والنساء — في جني ثمار هذا النمو، وقد تفاقمت هذه المشكلات بمرور الوقت مع زيادة حجم الإنتاج الفعَّال، وارتفاع نسبة تكلفة رأس المال إلى تكلفة العمالة في الدول الغنية. وحتى بافتراض غياب الأزمة المالية التي وقعت في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، بدا أن نموذج التنمية القياسي قد بلغ نهاية عمره الافتراضي المثمر. فماذا يمكن أن يحل محله؟

هوامش

(1) Arthur S. Banks, Cross National Time Series; Brian R. Mitchell, International Historical Statistics: Africa, Asia, and Oceania, 1750–1993, pp. 980–7, 1001–3.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤