الفصل الثامن عشر

الثقافة

لكني لم أطلب خبزًا!

يزور الأمريكيان، بوب وكارول، إسبانيا للمرة الأولى. يتناولان غداءهما في مطعم صغير خلاب، يضم نضدًا خشبية مكسوة بمفارش منقوشة بالمربعات، والخبز لذيذ بشكل خاص: ساخن وطازج ورقيق. عندما استلما الفاتورة وجدا بها ٣ يورو زائدة عما توقَّعا، وعلما أن الزيادة المقررة مقابل الخبز، فاشتكى بوب قائلًا: «لكني لم أطلب خبزًا»، فردَّ النادل: «لكنك أكلته.»

عادة ما يتفاجأ الأمريكيون عندما يُطالَبون بدفع كلفة إضافية مقابل الخبز في إسبانيا، أو مقابل المقبِّلات في البرازيل، أو البهارات في سلوفاكيا. كما نُصاب بالقدر نفسه من الدهشة جرَّاء العكس؛ مثلًا، نطلب المزيد من زجاجات الجعة في الصين عما نشرب فعليًّا لكننا نُحاسب على ما استهلكناه فحسب. في كل هذه الحالات نتفاجأ؛ لأن المعيار الاجتماعي القائم بالولايات المتحدة هو الدفع مقابل ما تطلب؛ ومقابل ما تطلب فحسب، وأي شيء يُقدَّم دون طلب يُفترض أنه مجاني، وهذا عادل في الثقافة الأمريكية، لكن العادل في إسبانيا هو أن تُحاسب على ما تأكله!

رغم أن قضية السعر العادل شاغل عام،1 فإن المعايير الاجتماعية التي تُفيد بما يُعتبر عادلًا تختلف من مجتمع لآخر. تتأثر المعايير الاجتماعية بالثقافة لكنها لا تُحدَّد كليًّا بواسطتها. وكما طالعنا في الفصل الرابع، تعكس المعايير في المعتاد قيمًا ثقافية، لكنها يمكن أيضًا أن تنشأ مصادفةً أو يغرسها الباعة. ومن ثَمَّ، فبالرغم من أنه قد يكون هناك مجتمعان متشابهان في ثقافتيهما، إلا أن معاييرهما قد تكون مع ذلك مختلفة تمام الاختلاف. ولأن عدالة السعر تقوم على اتباع المعايير الاجتماعية، فما يُعتبر عادلًا يتباين كذلك لدى مختلف المجتمعات.
لفهم الكيفية التي تتنوع بها وجهات نظر المستهلكين إلى الأسعار العادلة في المجتمعات المختلفة، شكَّلت أنا وزميلي مجموعات تركيز بحثية في البرازيل وألمانيا والهند والولايات المتحدة.2 وقد وقع اختيارنا على تلك البلدان لتمثيل الاختلافات فيما يُطلق عليه عالم النفس الثقافي هاري تريانديس «المتلازمات الثقافية»، يعرِّف تريانديس المتلازمات على أنها أنماط «تتصف باشتراك المعتقدات والاتجاهات والمعايير والأدوار والقيم المتجمعة حول موضوع.»3 والموضوعان اللذان يتمتعان بأبلغ تأثير على معايير التسعير هما ما يُطلق عليهما الباحث الهولندي جيرت هوفستيد4 في شئون ما بين الثقافات: الفردية/الجمعية والمسافة من السلطة.

تشير المسافة من السلطة إلى قبول الاختلافات في السلطة داخل الثقافة الواحدة، ويمكن تقسيمها إلى: مسافة بعيدة عن السلطة في «ثقافة هرمية»، ومسافة قصيرة من السلطة في «ثقافة أفقية». في الثقافات الهرمية مثل الهند والبرازيل تُقبل التفاوتات بين المجموعات باعتبارها المعيار السائد. أما في الثقافات الأكثر أفقية، كألمانيا الغربية سابقًا والولايات المتحدة، بدرجة أقل، فتقل درجة قبول التفاوتات.

تشير الفردية أو الجمعية إلى ما إذا كان الناس عادة ما يرون أنفسهم ككيانات منفصلة أم كأفراد ضمن جماعة. يعرِّف الفردانيون أنفسهم من منطلق الذات، ويُعرِّف الجمعانيون أنفسهم من منطلق الجماعة التي ينتمون إليها. تُعتبر الولايات المتحدة أكثر البلدان فرديةً في العالم. ألمانيا — أو على الأقل ألمانيا الغربية السابقة — تهيمن عليها النزعة الفردية كذلك، لكنها ليست بدرجة الفردية المتوحشة التي تتصف بها الولايات المتحدة. في المقابل، تُعد الهند دولة جمعية، وتزيد عنها البرازيل في تلك النزعة.

تنزع الثقافات الجمعية إلى أن تكون هرمية كذلك، وتميل الثقافات إلى أن تكون أفقية أيضًا. (انظر الشكل ١٨-١ الذي يقارن بين الأنماط الثقافية للبلدان.) تتأثر جوانب كثيرة من مسألةِ ما يُعتبر سعرًا عادلًا بما إذا كانت الثقافة فردية أو جمعية، وبما إذا كانت هرمية أو أفقية.

العدالة الشخصية بين الثقافات

fig2
شكل ١٨-١: مقارنة بين الأنماط الثقافية للبلدان.

لا غرو أن الناس من كل الثقافات يستجيبون انفعاليًّا للسعر الزائد عن المتوقع أو لممارسة التسعير المختلفة عن المنتظر. إنهم يتفاجئون ولا يسرُّهم ما يجدون. لكن لكل ثقافة معاييرها الاجتماعية التي تصوِّر المتوقع، والطبيعي في ذاك المجتمع بعينه. كما شرحنا سابقًا، المعايير التي تصوِّر ما يُعتبر «اعتياديًّا» يُطلق عليها معايير التسعير الوصفية.

أي شخص سافر إلى بلد أجنبي خبر معايير وصفية مختلفة للتسعير:
  • ارتفاع سعر الخدمات في ألمانيا.

  • انخفاض سعر الخدمات في الهند.

  • الدراجات المجانية بشوارع أوسلو.

  • رفض البقشيش في المطاعم الصينية.

  • إدراج الضرائب في الأسعار الأوروبية.

  • غياب الكوبونات من الصحف الهندية.

  • حساب كلفة أكياس البقالة بالمتاجر الكبيرة في ألمانيا.

  • المساومة على الأسعار في المغرب.

  • طلب «البقشيش» في مصر.

  • إدراج الإفطار في الفنادق الإنجليزية.

  • التكلفة الإضافية للخبز في بعض المطاعم الأوروبية.

عندما يظن العملاء أن المعايير الوصفية قد انتُهِكَت — كما حدث عندما طُولبتَ بسداد ثمن خبز لم تطلبه — يفيد نموذج السعر العادل الوارد في الفصل الثالث بأن المرء يشعر بالضيق؛ ومن ثَمَّ بالغضب. يبدو أن هذه استجابة عامة؛ ففي مختلف أنحاء العالم، يؤدي الظلم الملموس إلى استثارة الغضب لأنه مجحف، واكتشف تحليل لدراسات أُجريت على أمريكيين وأوروبيين أنه بعد انتهاء «العلاقات»، كان يذُكَر أن الظلم بمعنى «غياب الإنصاف» هو أشيع أسباب استثارة الغضب.5

في جميع مجموعات التركيز البحثية، عبَّر المشاركون عن غضبهم عندما ظنوا أن معايير التسعير الاجتماعية تعرضت للانتهاك، ثم أرادوا تبريرًا لذاك الانتهاك للمعايير.

النتائج العادلة بين الثقافات

في مجموعات التركيز البحثية التي باشرناها، كان الإنصاف أحد التبريرات المقبولة بوجه عام لسعر غير متوقع، أو إجراء تسعيري غير متوقع. وحسب معيار الإنصاف، ينبغي أن يعكس السعر قيمة المنتج/الخدمة التي يشتريها المشتري، فإن زاد السعر ٢٠ في المائة، اتفقت المجموعات كلها على أن القيمة ينبغي أن تزيد في المقابل كي يظل السعر عادلًا.

رغم أن معيار الإنصاف يبدو عالميًّا، فإن معيار التكافؤ يتنوع بحسب ما إذا كانت الثقافة هرمية أو أفقية. تفضِّل الثقافات الهرمية التفاوت حيث يُعامَل البعض معاملةً مختلفة بسبب سلطتهم أو الطبقة التي ينتمون إليها أو مكانتهم. على سبيل المثال: في بلد هرمي كالهند، يُعتبر تحصيل كلفة أعلى من الأغنياء إجراءً عادلًا، وكما أوضح المشاركون في مجموعات التركيز البحثية الهندية: «سيطالبني صاحب المتجر بأسعار أعلى لأنه يعلم أن بمقدوري الدفع»، «يتوقف السعر على نوع الملابس التي ترتديها، ومحفظة النقود التي تحملها، ونوع السيارة التي نزلت منها.»

في الثقافات الجمعية، تسري معايير مختلفة على مختلف مجموعات البشر. يشكل الجمعانيون ثقافتهم بناءً على جماعتهم الاجتماعية، أو ما يُطلق عليه «الجماعة الداخلية». تتألف هذه الجماعة من الأسرة الممتدة والأصدقاء المقربين، أناس «مثلي تمامًا». في الثقافات الجمعية، المعيار هو أن يكون المرء سخيًّا مع أفراد جماعته الداخلية، فتجدهم يُقرضون بعضهم بعضًا المالَ وأي شيء لازم، بغض النظر عما سيقدِّمه الآخر في المقابل.6

في الثقافات الجمعية، المعيار الكائن هو تقديم أسعار أفضل لأفراد المجموعة الداخلية. «إذا كنت تعرف صاحب محل، فستذهب إليه مباشرة وأنت على بينة من أن بمقدورك الحصول على خصم كبير. يعتمد الكثيرون على الحصول على خصم شخصي.» «قد يعطي صاحب المحل خصمًا، لا لعميل دائم فحسب، وإنما لشخص يشعر بالامتنان إليه لسبب آخر؛ فربما يكون قريبًا أو تجمعه به روابط عملية.»

تنتهك المعاملة غير المتكافئة للعملاء معيارَ التكافؤ الاجتماعي القائم في الثقافات الأفقية الفردية مثل ألمانيا الغربية سابقًا. في ثقافات كهذه، المعيار القائم هو معاملة جميع العملاء على قدم المساواة، ورغم إمكانية حصول أفراد الأسرة أو الأصدقاء على تسعير تفضيلي، فإن الأمر لا يشيع بالدرجة نفسها التي يشيع بها في الثقافات الجمعية والهرمية.

ولأن الفردانيين يؤمنون بالمعاملة المتساوية للجميع، يستجيب شعبا الولايات المتحدة وألمانيا لحاجة العمال بصورة أكبر عما يفعل شعبا البرازيل والهند، اللتان تتسمان بثقافتهما الجمعية. في مجموعات التركيز البحثية، قبِل الألمان زيادة في الأسعار نَتجت عن زيادة في الأجور: «ستكون تسوية الأجور مفهومة تمامًا»؛ «إن تسويات الأجور سياسة ممتازة في ألمانيا.»

إلا أن البرازيليين لم يقتنعوا بسهولة بالزيادات السعرية الناتجة عن الزيادات في الأجور، وكانت تعقيباتهم من قبيل: «أهذا سبب عادل؟»؛ «سأتشكك في مبرر كهذا، إنه لمبرر واهٍ ومبهم.» (ترددهم في منح العمال زيادة في الأجر ربما يرجع في جزء منه فقط إلى قبولهم بالتفاوت، ولا شك أنه ينبع أيضًا من خوف البرازيليين الكبير من التضخم.)

كما طالعنا في الفصل الثامن، تفضي انتهاكات المعايير الاجتماعية إلى إلقاء اللوم على الشخص المسئول، لكن مختلف الثقافات تلقي باللوم في مختلف الاتجاهات، فالجمعانيون يميلون إلى لوم القدَر على النتائج السيئة، واعتباره مسئولًا عن النتائج الطيبة أيضًا. إلا أن الفردانيين ينزعون إلى تلقِّي الثناء مقابل أي شيء طيب يحدث، وإلى إلقاء اللوم على الآخرين — مثل البائع — جرَّاء أي شيء سيئ يحدث مثل ارتفاع الأسعار.

العملية العادلة بين الثقافات

يشير نموذج السعر العادل في الفصل الثالث إلى أنه إن أُلقي بلائمة السعر على البائع، فستُصبِح حينها إجراءات البائع لتحديد السعر شاغلًا، وهذه الإجراءات تقيدها معايير اجتماعية. تمنح هذه المعايير الباعة قدرًا من السيطرة، وهو ما يُعتبر عادلًا، وعندما يشعر المشترون في أي مكان أنهم يفتقرون للسيطرة، فإنهم يرفعون أصواتهم بالاعتراض: «هذا جائر!»

على سبيل المثال: اشتكى أحد البرازيليين قائلًا: «هذا الأمر برمَّته جائر! فلا يوجد أمامك خيار!» وأضاف آخر: «تزداد ثورتي عندما لا يتسنَّى لي إبداء رأيي!» وعلى غرار هذه المشاعر، عبَّر مشارك أمريكي عما يعتمل داخله: «حين لا تملك أي قدر من السيطرة، فإن هذا يصيبك بالجنون!»

مع ذلك، رغم أن الجميع يرغب في قدر من السيطرة، يطالب الناس في الثقافات الفردية بسيطرة أكبر مما يطالب به الناس في الثقافات الجمعية.7 إضافة إلى ذلك، يقبل الناس في الثقافات الهرمية السيطرة من أهل السلطة، لكن من يعيشون في ظل الثقافات الأفقية يستاءون من المتمتعين بسلطة أكبر.

تُعَد ألمانيا مثالًا على ذلك، فهي ذات ثقافة فردية أفقية؛ حيث يرفض الشعب أي تحكم حكومي في الأسعار: «غير مسموح للحكومة عامةً بتحديد الأسعار، فحينها لن نكون في اقتصاد سوق حر!»

على الناحية الأخرى، في البرازيل، وهي ذات ثقافة جمعية هرمية، يوجد قبول أكبر للتدخل الحكومي (رغم أنهم يرتابون في الحكومة، كما سنرى). ذكرت مجموعات التركيز البحثية البرازيلية التي درسناها أن زيادات الأسعار تكون عادلة إذا «قررت الحكومة صرف أجرة إضافية»؛ «الزيادات القائمة على مثل هذه العقود زيادات عادلة. قد لا تبدو عادلة للمستهلك، لكنها متوقعة في إطار العقد المبرم مع الحكومة.»

وفي الهند، حمَّلَت جماعاتُ التركيز البحثية الحكومةَ المسئولية الأساسية عن تحديد الأسعار. «ينبغي أن تثبِّت الحكومة أسعار السلع الأساسية»؛ «ليس بمقدورنا فعل أي شيء حيال ذلك [الربح الفاحش] ما لم تحلَّ الحكومة هذه المشكلات»؛ «إذا كانت سلعة بعينها مكلفة بسبب الطلب العام، فبوسع الجماهير ممارسة ضغط على الحكومة، وبوسع الحكومة توفير أموال الدعم لخفض سعر تلك السلعة.»

كما طالعنا في الفصل التاسع، يُعتبر السعر عادلًا عندما يجعل الباعة إجراءات تحديدهم للسعر شفافة، لكن مطالبات المستهلكين بشفافية التسعير تتباين. وتتوقف الاختلافات بين مطالباتهم لا على الثقافة فحسب، بل على الاقتصاد أيضًا؛ أي إن كان سوقًا للمشتري أم سوقًا للبائع؛ ففي سوق البائع بصورته التقليدية في البلدان النامية، ربما يلقى غياب الشفافية كراهية لكنه لا يزال يلقى قبولًا بوصفه المعيار السائد. في البرازيل، قال أحد المشاركين بالمجموعات آسفًا: «ثمة مقدار ضئيل جدًّا من الشفافية فيما يتعلق بالمستثمرين أو المستهلكين. في الاقتصاديات الأكثر نموًا، ثمة قواعد تحكم المعلومات التي تصل إلى الأشخاص المعتادين على الحصول على هذه النوعية من المعلومات.»

ردود الفعل إزاء التسعير الجائر بين الثقافات

تؤثِّر الثقافة على ما إذا كان المستهلك سيوقِّع عقوبة جرَّاء ممارسات خرق المعايير الاجتماعية، والكيفية التي سيوقع بها تلك العقوبة. تبلغ الرغبة في معاقبة انتهاكات المعايير أعلى معدلاتها في الولايات المتحدة، وأدناها في هونج كونج، وتحتل ألمانيا مركزًا وسيطًا.8 من الواضح أن الغربيين يجدون أن إصرار المرء على حقوقه سلوك مقبول لحل المشاكل، في حين أن الآسيويين لا يجدون ذلك؛ فالجهر بالشكوى قد يكدر التناغم الاجتماعي، الأمر المخالف للمثل العليا الجمعية الآسيوية.
إذا كان السعر جائرًا، ينزع الفرديون إلى الإسرار بالشكوى إلى أصدقائهم والجهر بها للشركة أو على شبكة الإنترنت. لا يشتكي الجمعيون إلا بنوع من الخصوصية؛ وذلك بإطلاع جماعتهم الداخلية، لكن كلمتهم تلقى قدرًا كبيرًا من الاحترام داخل جماعتهم الداخلية، لدرجة أنهم ناجحون جدًّا في إقناع أصدقائهم بتجنب شركة جائرة. أظهرت إحدى الدراسات أن أغلب المستهلكين الكوريين (٨٦ في المائة) أطلعوا أصدقاءهم، وأكثريتهم (٥٦ في المائة) أقنعوهم بعدم التعامل مع شركة جائرة.9 ورغم أن أغلب الأمريكيين (٧٨ في المائة) كذلك أوعزوا لأصدقائهم بعدم التعامل مع شركة جائرة، فلم ينجح سوى ٣٥ في المائة فحسب منهم في إقناع أصدقائهم بعدم التعامل معها.
أشار بعض الباحثين إلى أن سلوك الشكوى العلني مرتبط ببحبوحة العيش لا بالفردية/الجمعية. على سبيل المثال: كتبت إحدى المجموعات أنه «وُجد أن الاتجاهات الإيجابية نحو الشكوى ترتبط بلا ريب بمستوى التنمية الاقتصادية للبلد.»10

قد يكون ارتفاع مستوى معيشة الفرد هو السبب وراء تصاعد الأصوات الصادحة بالشكوى للبرازيليين، رغم أنهم جمعيون: «أصبحنا أقل تسامحًا وأكثر مطالبة بشأن جودة الخدمات»؛ «إن لم تتصرف أو تتحول إلى بائع آخر أو تشكو، فإن شركة الخدمات ستظن دومًا أنك غير مكترث بالسعر.» «بالتأكيد سأشكو.»

مع ذلك، لا يزال السبب وراء إقدام بعض الثقافات على الشكوى وامتناع ثقافات أخرى عنها عصيًّا على الفهم. كلتا النظريتين — أن الشكوى العلنية تزيد إما مع ارتفاع الدخل أو مع زيادة درجة الفردية — توحيان بأن المستهلك في كلٍّ من ألمانيا والولايات المتحدة سيشكو. لكن رغم أن الشكوى هي المعيار السائد في الولايات المتحدة، فإنها ليست المعيار القائم في ألمانيا.11

اتفق كل المشاركين في مجموعات التركيز البحثية التي باشرناها في ألمانيا على أنهم لن يرفعوا شكوى إلى الشركة، ليس شخصيًّا على الأقل، وقال المشاركون: «لا أرى أن بوسعك حثهم على أي استجابة»؛ «لن تجني سوى إثارة غضبهم»؛ «أعرف من آخرين أن بعض العملاء تقدموا بالشكوى، وتسبب ذلك في إزعاج للشركة؛ إذ ما برح الناس يتصلون ويشتكون.» ربما قال الألمان إنهم سيرسلون خطابًا مهذبًا، لكن كان ذلك كل ما في الأمر.

لكن الأمريكيين سرعان ما يجهرون بالشكوى، فإنهم يتقدمون رسميًّا بشكاوى على موقعَي IhateStarbucks.com وFordsucks.com إضافة إلى أقسام شكاوى العملاء بالشركات، والتي تُعنى باختيار موظفيها. ورغم أن المعيار السائد في ألمانيا أنه لا ينبغي للعملاء المستائين إبداء الشكوى علانية، فرفع الشكوى معيار اجتماعي كائن في الولايات المتحدة، وفي سبيله ليصبح كذلك في البرازيل.

الآثار الأخرى للثقافة

تؤثِّر الثقافة على الثقة، كما شرحنا في الفصل الثاني عشر، والثقة يمكن أن تقلل من الغضب الناجم عن سعر جائر أو ممارسة تسعير جائرة. في البلدان ذات الثقافات الجمعية، يميل المرء إلى الثقة بأفراد مجموعته الداخلية، ويرتاب في الدخلاء. إنه يعاني مما يطلق عليه الكاتب البارز فرانسيس فوكوياما في شئون الثقة: «تدنِّي الثقة الاجتماعية المعممة.»12 في البلدان ذات الثقافة الفردية، يميل الناس إلى الثقة فيمن سواهم على قدر المساواة؛ فهناك يتمتع المرء ﺑ «ارتفاع الثقة الاجتماعية المعممة».
على سبيل المثال: تُعتبر ألمانيا التي تسودها النزعة الفردية متمتعةً بارتفاع الثقة المعممة.13 اتضحت هذه الثقة في مجموعات الأبحاث النوعية؛ حيث أبدى المشاركون ثقة كبيرة في الحكومة. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره أحد الألمان قائلًا: «أعتقد أننا يمكن أن نطمئن في أوروبا؛ لأن قوانيننا وتشريعاتنا بالغة الصرامة، إذا قام كيان كتكتلٍ تجاري، فإن السلطات الوطنية وسلطات الاتحاد الأوروبي ستضطلع بالمسألة من فورها وتتحرَّاها … وأنا بالأصالة عن نفسي أعوِّل على تقييمهم.»

لكن يبدو أن البرازيليين الجمعانيين يرتابون في كلٍّ من الحكومة وقطاع الأعمال عامة، وحسبما أطلعنا أعضاء مجموعة التركيز البحثية ﻓ «المشكلة هي أنه عندما تدخل الحكومة كطرف في اللعبة ستشعر أنك تتعرض للاحتيال»، «تنزع إلى التفكير في أن الشركة تستغلك من البداية»، «إنها مؤامرة دائرة، والجميع بها ضدك.» «إنهم يكذبون.»

كما تؤثِّر الثقافة على ما يُعتَبَر تسوية عادلة للتفاوض. عندما يتمتع المشتري في الولايات المتحدة بالسلطة، تُعتبر التسوية التي تحابي المشتري عادلة. لكن في اليابان، وهي مجتمع أكثر هرمية، المعيار السائد هو أن المشتري الذي يتمتع بالسلطة ينبغي أن يأخذ منافسه الأقل سلطة بعين الاعتبار. ومن ثم، تُعتبر التسوية العادلة هي التسوية التي تحابي البائع.14

أما بخصوص الضرائب، فإن الفردانيين، كالأمريكان، يؤمنون بالاكتفاء الذاتي والمعاملة الخاصة لمن يستحقها؛ ومن ثَمَّ يفضلون إنصاف الضريبة التصاعدية، مثل: ضريبة الدخل الفيدرالية الحالية بالولايات المتحدة. أما الجمعانيون، كأبناء أوروبا الشرقية، فإنهم يشددون على العلاقات داخل الجماعة، ويفضلون المساواة في المعاملة لتعزيز التواؤم؛ ومن ثَمَّ يريدون أن يتحمل كل شخص مقدارًا متساويًا من الضرائب، الأمر الذي ربما يفسر نجاح تطبيق الضريبة الثابتة في كثير من البلدان الشيوعية السابقة.

وأخيرًا، تتنوع معايير إعطاء البقشيش حسب الثقافة؛ فالبقشيش يشيع عامة بصورة أكبر في البلدان ذات الثقافة الهرمية؛ مثلًا، في اليونان والبرتغال وتركيا والبرازيل.15 في تلك البلدان يحصل أصحاب ما يربو على ٢٠ مهنة مختلفة على بقشيش. قارن هذا الوضع بثقافة بالغة الأفقية كنيوزيلندا؛ حيث لا يحصل سوى أصحاب ٣ مهن فحسب على بقشيش. ومع ذلك، رغم أن الولايات المتحدة ليست بلدًا هرميًّا، فإنها تضم أكبر عدد من أصحاب المهن الذين يحصلون على بقشيش، وهذا يوضح أن الثقافة قد يكون لها تأثيرها، لكنها لا تحدد المعايير الاجتماعية كليةً.

موجز الفصل

ينطبق نموذج السعر العادل بالفصل الثالث عامة على مختلف الثقافات، لكن ثمة اختلافات بين المعايير الاجتماعية للتسعير التي نشأت، والكيفية التي يعاقِب بها المرء انتهاكات هذه المعايير. يمكن تفسير بعض هذه الاختلافات بالفروق بين الموضوعات الثقافية، كالفردية/الجمعية، والهرمية/الأفقية.

لكن لا توجد ثقافة تُعتبر مثالًا صِرْفًا على هذه الموضوعات؛ فالثقافات كافة تمثل أمزجة متناقضة، ورغم أن أهل الولايات المتحدة يتمتعون بدرجة عالية من الفردية، فإنهم يحسنون تقلد الأدوار في الفريق.

علاوة على ذلك، فمع أن بعض المعايير قد تعكس ثقافة المجتمع، فقد نشأت معايير أخرى بمحض الصدفة أو بموجب مرسوم؛ وعليه، فلا توجد طريقة منظمة لتفسير معايير التسعير المختلفة كافة بمختلف المجتمعات، فلا يسع المرء سوى الإقرار بها وقبولها.

ومن ثَمَّ، ربما لم تطلب خبزًا في ذاك المطعم الأوروبي، لكنك إن قضمت قضمة صغيرة من الرغيف، فستدفع تكلفة إضافية. هذا هو المعيار القائم، وهو يُعتَبَر عادلًا!

تعريفات

الثقافة: قيم ومعتقدات وتوجهات مجتمع من المجتمعات؛ هي ما يُطلَق عليه «برمجة العقل».16
متلازمة ثقافية: المعتقدات والقيم المشتركة لمجتمعٍ ما والتي تشكل نمطًا يميز هذا المجتمع عن غيره.
المسافة من السلطة: مدى قبول ثقافة بعينها لمعاملة بعض المجموعات معاملة تفضيلية بناءً على سلطتهم.
الثقافة الهرمية: ثقافة يُقبَل فيها بالفروق في السلطة والمكانة؛ حيث المعيار السائد هو أن الأفراد المتمتعين بسلطة أكبر ينبغي منحهم ميزات خاصة.
الثقافة الأفقية: ثقافة تُقبل فيها الفروق في السلطة والمكانة بصورة أقل؛ حيث المعيار الكائن هو أن جميع الأشخاص ينبغي معاملتهم بالتساوي.
الثقافة الفردية: ثقافة يستمد فيها الأشخاص هويتهم من إنجازاتهم الفردية.
الثقافة الجمعية: ثقافة يستمد فيها الأشخاص هويتهم من الجماعة التي ينتمون إليها.
الجماعة الداخلية: مجموعة من الأفراد المتشابهين — الأسرة الممتدة والأصدقاء المقربون — في مجتمع جمعيٍّ.

فشل يوتوبيا السعر العادل

في يوم من الأيام كانت هناك يوتوبيا للأسعار العادلة، فيها كانت الأسعار تُحدد وفقًا لنظرية التسعير العادل. كان السعر قائمًا على متوسط تكلفة المنتج لكل الشركات، إضافة إلى نسبة مئوية ربحية مقننة. ورغم تنوُّع تكاليف إنتاج السلعة نفسها، فقد جرى تثبيت السعر للمستهلك، ومع أن الأسعار استجابت استجابات ديناميكية لمتوسط تكاليف الإنتاج المتغيرة، فقد عُولجت هذه الآلية للحفاظ على استقرار الأسعار. لم يكن هناك أي مفاجآت بغيضة. كان يُفترض أن يتمتع المشترون بشفافية وسيطرة تامَّتين، بموجب القانون، وتسنى لهم مراجعة حسابات المُنتِج، والمشاركة في تحديد السعر، وكان سعر الحاجات الأساسية، كالخبز، مُدعمًا لمساعدة المحتاجين.17

هل يبدو لك هذا الوصف مألوفًا؟ هذا لأن هذه اليوتوبيا كانت منظومة التسعير في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. كانت منظومة تسعير مصممة لتكون عادلة. إذن، أين كانت المشكلة؟

ربما كانت عادلة نظريًّا، لكن ليس على أرض الواقع. لم تكن الأسعار تعكس القيمة كما لمسها المستهلك. كان تحديد القيمة يتم على يد مصالح حكومية مترهلة بناءً على حسابات معقدة للتكلفة والربح، إضافة إلى تكاليف التوزيع، مع قيمة ومنفعة الاستهلاك. لم تكن لدى المستهلك أية فكرة عن الكيفية الفعلية لتحديد الأسعار. لم يرتبط العرض بالطلب. كانت السلع الاستهلاكية ناقصة دومًا مهما كانت قوة الطلب.

كانت المنظومة مفروضة من السلطة العليا؛ ومن ثَمَّ لم يكن لدى المستهلك أي رأي؛ وعليه، فلم يشعر بأي قدر من وخز الضمير عند مخالفتها علنًا، وانتعشت السوق السوداء. ورغم أن جميع المستهلكين دفعوا نظريًّا الثمن نفسه، فلم يتحقق ذلك على أرض الواقع.

كانت منظومة التسعير غير منصفة، وغير متكافئة، وغير قابلة للسيطرة، وغير شفافة. كان هناك خطأ في الأسعار؛ وهذا ليس عادلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤