مصطفى النحاس وتوافر صفات الزعامة فيه

من هذه الصورة الصادقة التي صورناها للناس في هذا الكتاب بسبيل ماضي مصطفى النحاس، ومعالم شخصيته، ونقاء سيرته، والحوادث الجسام التي وقعت له في حياته وخلال زعامته، تتجلى طائفة كبيرة من الصفات التي تتوافر في الزعامة، وجملة من أسرارها ومعانيها، ولولا هذه الصفات والمعاني لما وجد مصطفى في الناس هذا الحب الذي يحيط به، والولاء المستمر الذي يحفه؛ بل لولاها لما جَلَدَ على حمل اللواء، ولَمَا ثبت على شأنه في كبار الحوادث، وصنوف التجربة والبلاء، فقد كان كل هم إنجلترا وصنائعها في مصر أن يحاربوه ليسقطوه، فحاربهم هو قائمًا مستويًا على ساقيه، فصبر وسقطوا، ونجح وفشلوا، فكم من فريات اصطُنِعت عليه، وكم من وسائل استُعِين بها على أمل النيل منه، وكم من هجمات عنيفة وُجِّهت إليه، ورسالات جرأة وكذب وإفك لا تزال تُنشَر في الصحف الساقطة عنه، بأقلام باعة الضمائر وخَرِبَي الذمم والحاقدين والموتورين!

ولكن كل ذلك فَشَلَ وعاد بيأس، فقد حطمته هذه الزعامةُ الفاضلة الرفيعة المختارة من السماء؛ إذ عرفت الأمة من هو مصطفى النحاس، ومن هم أعداؤه وخصومه، وأدركت أن هؤلاء كان ينبغي أن يروحوا آخر من يمارونه في فضله، أو يُدْفَعُون للوقوف حياله، وآمنَتْ أن أمثالهم لا يصح أن يقَارَنُوا بمثاله، حتى يمكن أن يختلف الناس لمن يجب الولاء، أو حتى يجوز أن تتشكك الجماهير فيمن ينبغي لهم الحب والطاعة والوفاء.

ولقد أُوتِيَ مصطفى النحاس من النشأة والتكوين روح النشاط وقوة الأعصاب، فظهر في قوة جلده وشدة احتماله وتصميمه وإصراره، وشجاعته في مواجهة الخطوب وثباته، وهدوئه في الحادثات وسكينته واستقراره، وجرأته الرفيعة على الاضطلاع بالمسئوليات وتحمل التبعات، وسخريته من الشدائد يلقاها أبدًا بابتسام، وينظر إليها غير جازع ولا متراجع.

ونحسب حبه للرياضة قد نَمَّى في نفسه روحًا رياضيًّا يغذي هذه الصفات البارزة فيه، ويتعهد هذه الملكات الغزيرة لديه؛ لأنه من الصِّبا مال إلى الرياضة، وألفَ حتى وهو في سلك القضاء، قضاء إجازته السنوية على ساحل البحر، في الإسكندرية أو رأس البر، وهو يومئذٍ شاب مكتمل القوة، خفيف الحركة، نشيط المَرَاح والمَغْدَى، يحب المرح والضحك واللهو البريء، ويرسل ضحكاته مجلجلة في الفضاء مستطيلة الرنين، ولا يزال إلى اليوم يحب الرياضة، فينزع إلى السباحة، و«التنس» — على ما سمعت — ويدع سيارته على الطريق وينطلق ماشيًا في كل يوم فترة، ثم يعود فيستقلها إلى وجهه.

وقد حدثنا من شَهِدَه وهو قاضٍ يرتع في رأس البر في إحدى السنين قبل اتصاله بالوفد، فوصف لنا كيف جعل بعض الوقت يلعب «الطاولة» مع صديقه المرحوم المكباتي بك. وكان المرحوم حسين رشدي باشا رئيس الوزارة يصطاف بذلك الموضع كذلك، ولو رُفع حجاب الغيب يومئذٍ عن الأبصار لقال قائل وهو يشير إلى تلك الحلقة من رجالات مصر: سوف يلي هذا الفتى القاضي رياسة الوزارة في الأسبوع ذاته الذي يقضي فيه هذا الشيخ الوزير نحبه! بل من كان يومئذٍ يدري أن نبوءةً لرشدي باشا في شأن ذلك الشاب سوف تتحقق على الأيام، وسوف تصح على صورة عجيبة، حتى ليكون الفتى المُتَنَبأ له هو الذي يخلف على كرسي الحكم ومقعد السلطان ذلك الشيخ المتنبِّئ صاحب الفِراسة الصادقة فيه؟! فقد اتفق لمصطفى أن جاء دوره في امتحان المرافعات بمدرسة الحقوق في إحدى السنين أمام المغفور له حسين رشدي باشا، وكان رئيس اللجنة الممتحنة، فسأله عن الكفالة؛ فأجاب مصطفى إجابة طيبة مسهبة تدل على فهم وسعة اطلاع، فأعجب رشدي باشا به، ولم يكد مصطفى يفرغ من الجواب حتى دار رشدي باشا بعينه إلى أعضاء اللجنة قائلًا لهم بالفرنسية، وهو يشير إلى الطالب الواقف في حضرتهم: «إنه لجبار» (C’est un gaillard, celui-ci) فاغتبط مصطفى يومئذٍ بهذا التقدير من رجل القانون الكبير، وسُرَّ بهذه الشهادة أبلغ السرور.

وقد أكسبه الروح الرياضي بجانب النشاط وصلابة الأعصاب وقوة الجَلَد وما ينفرع عنها من المزايا النفسية الأخرى التي ظهرت فيما حدثناك به من سيرته ومراحل ماضيه، النزعةَ إلى المرح، ولطف النكتة، والتفتح للحياة ورقة الحاشية، وإن له لكلامًا حُلْوًا يرسله على سجيته، في وسط أحاديثه أو خلال خطبه، فيملأ النَدِيَّ سرورًا، ويقع من القلوب موقع الماء العذب من ذي الغُلَّة الصادي، ويجيء فجأة فتكون له لذة المباغتة البديعة.

وامتزجت الروح المرحة من النشأة فيه بالنزعة الدينية، التي تمكنت منه على الحداثة، بفضل الوسط الأول الذي احتواه، والوراثة التي انتقلت إليه، فجعلت منه على الرجولة زعيمًا متدينًا، أكبر اعتماده على إيمانه بالله ويقينه، وما أعظم أن يكون الزعيم الوطني مؤمنًا! وما أجَلَّ أن يكون الرئيس السياسي عابدًا تقيًّا! فإن النهضات الوطنية لا تعدو كونها إحساسًا قويًّا من القلوب؛ فإذا اتصل أكبر قلب فيها بالسماء، استمد قوة أخرى غير قوته في الأرض، واكتسب من الإيمان الديني سندًا عظيمًا لعقيدته الوطنية في الناس، فإذا هو رمز الوطنية والفضيلة معًا؛ لأن الدين هو مجموعة الفضائل، وصفوة الأدب العالي، وجملة الخلق الكريم.

ما أجمل الزعامةَ الوطنية وهي في ثوب الإيمان! وما أقوى أثرها وهي البادية في أنصع أبراد العبادة والتقوى! إن للعبادة الدينية صلة وثيقة بقوة الشعور ومتانة الإحساس، وقد كانت أزهى العصور في التاريخ هي أيضًا عصور العبادة والإيمان … كذلك كانت الحركات الوطنية، وهكذا ازدهرت الحاسة الدينية، يوم ظهرت المواهب العالية، ونبت النبوغ الجليل وبدا الشجعان والعظماء والأبطال؛ إذ كانت النفوس جادة، والأرواح حاصرة كل خواطرها ومشاعرها في التماس الحقائق، ومواجهة الواقع، قابضة عليها في مثل قبضة الكف على السيف، أو إمساكة اليد بالقلم، وأقْوَى العظمة ما التمس مورده من أعلى هضبات الفضيلة، ولكل نصيب من فضل وحصَّةٍ من قوة وبأس، ومقدار من طهر حس، مكانُهُ من التأثير، ومبلغه من النفوذ والسلطان.

ويوم يعتقد الناس في رجل هذا السموَّ في الشعور، وهذا التفوق عليهم في صلته بالسماء، لا يعودون يعرفون حدودًا لما يرتقبون من فضله، ويتوقعون من هداه، وينتظرون من مثله الأعلى ومُنَاه … هو أقرب منهم إلى سر الله، وأوثق سببًا منهم بقدرته وحكمته … هو يرى ما لا يرون، ويبصر غير الذي يبصرون، وهو ممتلئ وهم في فراغ، وهو الطاهر النقيُّ وهم في الدنس أبدًا والرجس، وهو السميع إلى حكمة الكون وهم الصُّمُ عنها لا يسمعون.

إن للإيمان الديني قوات خفية، وللزعامات الوطنية قوات ظاهرة، فمن تجتمع له هذه بتلك كان القاهر الذي لا يُقْهَرُ، والمنتصر الذي لا ينهزم، والفائز الذي هيهات أن يندحر … هو الزعيم الذي لا يعرف «ربما» ولا يغامر لتقف كرته على الأحمر أو الأسود، ولكنه الواثق بنفسه، الراكن إلى فاطرها، وهما قوتان لا تفشلان؛ لأن لهما جنودًا تتبعهما في ثياب مستعارة، وأشكال متنكرة، كالشرطة المتخفين والأرصاد في غير مألوف ثيابهم، يحفون من حوله حارسين.

إن جميع الفضائل التي تصاحب الإيمان الراسخ، وتمشي في حاشية التقوى الرفيعة، وتجري في مواكب العبادة القوية الطاهرة، هي مظاهر الكل في جزئياته … ومعاني العنصر الأول، وهو الخالق في دقائقه وذراته، وهم مخلوقاته. ومن يؤمن بأنه على الحق، ومن يجاهد دائبًا له، ومن يسأل رضى الله عنه ومعونة السماء له، يُسْبِغْ على مَنْ حوله أثرًا من نفسه، ويلهم الحافِّين من حوله معنى من بعض معانيه؛ مثله كمثل الزهر إذا أينع انبعث شذاه الفيَّاحُ فعطَّر أنفاس محيطه، وزكى الفضاء بأرجه، وأفعم الهواء بعبقه يملأ به صدور المتنفسين.

لقد أتاح الله لنا في مصطفى النحاس زعيمًا به مؤمنًا، ورئيسًا وطنيًّا به دائنًا، وفي ذلك قوة أخرى بجانب قوات جهادنا، ومناعة من اليأس والوَهَن تجتمع إلى مناعتنا كأمة شابة مستبسلة وحصانتنا. وبفضل إيمان زعيمنا نجونا من تجربة أعدائنا، وظللنا نكافح إلى الآن بثباتنا وثقتنا بالله وقوة صبرنا ومراسنا. وما دمنا مع مصطفى النحاس، وما دام هو المستلهم السماء من أجله وأجلنا، فلن يقهرنا خصومنا، ولن نغلب على أمرنا، مهما تألبت علينا جموع الأعداء والمحاربين.

ولقد تقدم بنا في الجهاد على لحن إيمانه، وساق بنا إلى النصر على حُداءِ وجدانه، ففاز في كل خطوة خطاها بمعنى جديد من معانيه؛ كلما اشتدت الحلكة على طريقه لتغريه بالعدول عن مسيره والرجوع عن وجهه، انبثق الضياء فبدد الظلام ودياجيه، وكشف عن جديد من فضائح خصمه ومخازيه؛ وكلما وسوس الأمل في صدر أعدائه أنهم قد تمكنوا منه، أو كادوا يتغلبون عليه، دَهَمَتْهُم داهمةٌ من القَدَر، وفاجأتهم مفاجأة جديدة من السماء، فانقلبوا من بعد الأمل يائسين.

كل قوى الشر والطمع والحقد والبغضاء والأثَرَة والكيد تحارب هذا الرجل الفاضل حتى الساعة بشرِّ ما تكون الأسلحة، وأشنع ما يستخدم من الأساليب، وهو الصابر المطمئن القويُّ بإيمان الأمة به وإيمانه هو بربه؛ قوتان لا تغلبان ومعنيان لا يقهران، وسلاحان يَفُلَّان سائر أسلحة الباطل وأهله الضعفاء به، وإن ظنوا أنهم قد أمسوا على حربه ودحره قادرين.

حكومة النحاس في حِمَى الله، وزعامة النحاس في حمى الأمة، وكفى بهذَيْنِ واقيًا، وحسبه هذين اعتماد المعتمدين.

وقد يختلف مصطفى عن سعد في قوة الخطابة، فقد جاء سعد مفوهًا ساحر الكلم متدفع المنطق، ولكن خليفته اكتسب البراعة الخطابية اكتسابًا من صناعته الأولى، وهي المحاماة؛ ومن نزعته البارزة فيه، وهي الميل إلى الأدب، وتذوق اللغة، والتجافي عن اللحن، والحرص على سلامة الأسلوب وإقامة اللفظ على صحته. وقد يكتب أحيانًا فيكسو ما يخرج من قلمه غلالة من سلاسة المنحى وسهولة الأسلوب. ولعل أبرز ما كتبه في أحكامه ومذكراته حين اشتغل بصناعة القانون، فقد جمعت هذه الأحكام والمذكرات إلى الفقه القانوني وعمق البحث، روح الأدب وحسن الأداء.

ولصوته إذا خطب رنة موسيقية تُحَسُّ عند المقاطع أو الكلام الهادئ؛ فإذا تحمس وحَمِيَتْ مشاعره، استفاض وتدفع وجلجل صوته فتملك الأسماع وهز القلوب.

وقد أوتي زعيمنا حنانًا على أهله، وعطفًا على صحبه، واشتراكًا بالعاطفة مع أنصاره وأعوانه والمنتمين إلى الوفد، من صغير أو كبير؛ حتى ليتفقد شئونهم في الضراء، ويعودهم في المرض، ويعزيهم في الحداد، ويفرح لفرحهم، ولا يتردد في مشاطرتهم ما بهم، وغَمْرِهم بالرفق والتعهد والحنان.

ومن يتأمل معارف وجهه يحكم من ذلك الرأس الكبير والجبين العريض بقوة ذهنه ومتانة عارضته، بل إن كل خُلُق الزعيم بادٍ ثَمَّ على أروعه؛ ذلكم رجل مطمئن إلى نفسه، ساكن إلى إرادته، راضٍ عن إبائه، يتأمل ما فعل، ويراجع ما وقع فيستريح خاطره إليه وضميره، ويقره عليه مبدؤه وفكره. وإن في شكل الشفتين لمعنى الحزم، ودليلًا على قوة الإقدام وشدة الإصرار والاعتزام، كما أن في مجموع الوجه ذاته مظهر الصلاح، وسمات النزاهة وقوة الروحانية، وطابع الفضيلة، وظل الاستقامة. ومن لم يعرف مصطفى على الحقيقة، فقد يعرفه من صورته على الخيال وبالإحساس والاستقراء.

هذا رجل قد جرد نفسه من رغبات الذات ومشتهياتها، فأصبح لا يطمع في شيء خاص، ولا يتوخى مأربًا لشخصه؛ لأنه وصل إلى آخر حد يتطلع أحد إليه، وأكسبته الزعامة مناعة من المآرب الذاتية ودنيا الغايات، فليس عجيبًا إذن منه إذا هو أنكر ذاته؛ لأنها استكملت استقلالها، وراح يهبها بجملتها لبلاده حتى تستتم بعد المعاهدة أقصى مطالب الاستقلال.

•••

وبعدُ فهذه رسالة ألهمها الحب؛ لأني لزعيمي محب، وأوحى إليَّ بها الإيمان؛ لأنني بقائدي الوطني مؤمن. ولو تركتُني على سجيتي لاستفضت أكثر مما استفضت، ولكني أقف الآن عند هذا الحد معتقدًا أنني — بإذن الله — عائد إلى المواصلة من حيث وقفت في رسالة أخرى، يوم يتم مصطفى النحاس رسالته الثانية، وهي تدعيم الاستقلال والبناء للغد، وإنه لواجد في ذلك العَوْنَ من الله والتوفيق.

القاهرة في ٢٥ من مارس سنة ١٩٣٧
عباس حافظ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤