تقديم

تنبع هذه الكتابات من همٍّ واقتضاء وممارسة. إنها عبارة عن تجاوب مكثَّف مع وضعية ضبابية يعيشها الفن العربي الحديث والمعاصر، مقارنة مع الكتابة عن الأدب، من رواية وشعر وغيرهما. فلا يخفى على المتتبِّع للمصائر المتداخلة للتشكيل العربي، كما للفنون الجديدة ذات الحساسية البصرية التفاعلية، أن هذا الفن يعيش ضربًا من الطفرة التي تذكِّرنا بالسبعينيات. إنها طفرة نابعة — بالأساس — من كون الممارسات الفنية البصرية العربية قد أخذت بُعدًا عالميًّا، لم تعشه من قبل قطُّ، لا في مستوى الإنتاج والإبداع والوفرة والتراكم فقط، وإنما أيضًا في مستوى الوسائط التواصلية والتجارية المحيطة بها.

لقد أصبح للفن العربي أروقته الفنية المحترِفة، هنا وهناك، من المحيط إلى الخليج، تروِّج له — هنا وهناك — في البينالات والصالونات، من البندقية إلى بكين، مرورًا بالشارقة ولندن وغيرها. وصار لما يُعرَف بالفن المعاصر المبني على التأليف البصري في الفضاء منذ بداية الألفية الجديدة حركية نابضة بالإبداع والاختلاف والتجريب، الأمر الذي أرسى هذه الممارسة كمكونٍ ثابتٍ من مكونات التجربة الفنية العربية.

بيد أن المفارقة، التي تنخر جسم فنوننا البصرية، تكمن بالأساس فيما يلي: في الوقت الذي تعيش فيه الفنون البصرية تنوعًا مذهلًا، ودينامية نشيطة، وعطاءً يدعو للتفكير والتأمل، تعيش فيه المتابعة النقدية والفعل التأريخي نوعًا من الانحسار. وهو الأمر الذي ينعكس على نوعية تقويم التجربة في كليتها، وموقع التجارب الفردية داخلها من جهة، كما على بناء تاريخ ممكن للفن العربي الحديث والمعاصر يسمح بخلق مرجعية للطلبة والباحثين في هذا المضمار.

لا يخفى أن كتابة تاريخ الفنون العربية المعاصرة أمر أصعب بكثيرٍ من كتابة تاريخ الأدب العربي، نظرًا للصعاب التي تعترض تداول اللوحة والعمل الفني عمومًا بين الدول العربية، ونظرًا — أيضًا — لما يكتنف الكتابة عن الفن من هشاشة، تعود بالأساس إلى طغيان الكتابة الصحفية على الكتابة النقدية والتحليلية. علاوة على ذلك فإن الكاتالوغات والكتب الفنية تعرف المصير نفسه، خاصة أنها لا توزَّع على مستوى مكتبات العالم العربي.

إن كتابة هذا التاريخ تفترض معاينة ومعايشة للأعمال الفنية، لأن التداول الصوري لها لا يمنحنا إياها في حضورها العيني المباشر، بما أن الفن مادة وتنظيم وألوان وأشكال، كثيرًا ما لا تمنحنا حقيقته الصور الفوتوغرافية أو التسجيل الفيلمي إلا بشكلٍ جزئي ومبتسر. من هنا يمكن القول إن وجود متخصص في الفن العربي، وتاريخه، أمر أقرب إلى الاستحالة منه إلى الإمكان. إنه افتراض يقرِّبه من أسطورة هرقل القادر على تجميع شتات التجارب العربية، وتركيبها في منظومة تاريخية بصرية واحدة.

من ثَم فإن القصور الذي يعتور كتابة التاريخ العربي، يفصح عن هشاشة البحث في مجال التشكيل العربي والفنون البصرية المواكبة له من جهة، وعن غياب تفكير فلسفي جمالي في مصائره ووظائفه. هذا الواقع، إن كان ينبئ عن المعضلات التي تواجهنا في الكتابة، فإنه — من ناحية أخرى — يضعنا أمام التحديات التي يجدها الباحث أو الكاتب الناقد في صياغة كتابة غنية وخصبة قادرة، لا فقط على مضاهاة أهمية العمل الفني، ولكن أيضًا على مضاهاة الكتابة باللغة العربية، عن مجالٍ مركبٍ وخصوصي للكتابات التي تُنسَج عنه باللغات الأخرى. فإذا كان ما يُكتب عن الفن العربي الحديث والمعاصر باللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، على سبيل التمثيل لا الحصر، يحظى ببعض العمق والغور في ملامسة قضايا هذا الفن وإشكالاته، فإن أغلب ما يُكتَب بلغة الضاد يتسم بالسطحية والهشاشة، يصبح معه هذا المكتوب، المتصل بتجربة واحدة، قابلًا لأن ينطبق على مجموعة كبرى من الفنانين.

إن بناء لغة نقدية عربية قابلة لمعانقة تحولات الفعل التشكيلي والبصري، إذا كان قد قطع أشواطًا هامة منذ السبعينيات، نلفيه اليوم أمرًا متلعثمًا، مع وتيرة التطورات المتسارعة التي تعرفها حركية الفنون المعاصرة، بالنظر إلى ثراء المواد والوسائط، وتفاعل التشكيلي مع البصري، وخروج الفن من مجال اللوحة وخاماتها إلى مجال الفضاء العيني المباشر.

من تجريد الفكر والتأمل إلى فورة الحواس إزاء العمل الملموس، تراود هذه الكتابات التجارب والقضايا عن نفسها، تتسلل إلى مسامها وتجاعيدها الظاهرة والباطنة، وتسعى إلى معاشرتها من الداخل فيما يشبه التماهي. إنه تماهٍ مؤقت لأن حركة الفكر النقدي والجمالي تبدأ بالعين. والعين باب الروح الشارع، كما يقول ابن حزم، وهي بصر ونظر، حسٌّ وفكر، وتأمُّل ومعاينة.

تفتح هذه الكتابات الباب مشرعًا للفكر والتفكير وللتحليل والتنظير، تنبش في القضايا الظاهرة والعصية على الطرح، تعيد النظر في الجاهز، وتدفع بالوليد منها إلى الواجهة. إنها تفكير بصوتٍ مرتفعٍ في مصائرنا الفنية، وإيمان عميق بجدوى الفن، وقدرته على مجاوزة يأسنا القدري الذي يلتصق بجلدتنا منذ نكبة ١٩٦٧م.

وهي من ثمَّ قراءات ممكنة، تؤمن باحتماليتها، غير أنها تجد في خلفيتها الفلسفية والجمالية الكثير من مصادر تفكيرها. وهي قراءات ممكنة — أيضًا — لأنها تشتغل على تقاطع المباحث، الضروري في مجال تناول الفنون البصرية والصورة. كما أن إمكانها النظري ينبع أيضًا من فرضيةِ أساس نبني عليها تصورنا وطبيعته «الأنطولوجية»: لا مجال لمقاربة الممارسة التشكيلية والبصرية من غير وضعها في سياق حياة الصورة (وموتها) في محيطنا الثقافي. الصورة هي ما يمنح للفنون التشكيلية والبصرية طابعها الثقافي، وهي بالتالي التي تشكِّل الحصن النظري والفلسفي والفكري الذي يمكننا الانطلاق منه لاختراق التباس الصور، والتباس الممارسات الفنية البصرية عمومًا.

كما أن لا مجال أيضًا لمقاربة تلك الممارسة بدون خلق لغة خصوصية، تتفاعل فيها المعطيات الفكرية لجميع العلوم الإنسانية والاجتماعية. إنها لغة مطالَبة اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، بالمزاوجة بين صرامة اللغة الواصفة وحصافتها، وحساسية اللغة الشعرية ورهافتها، ودقة اللغة الموسيقية وإيقاعيتها، وتنوُّع اللغة التشكيلية وفرادتها … وتلك — لَعمري — رحلة ما زلنا في مشارفها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤