الفن الأفريقي يعانق رحابة العالمية

تحتضن مؤسسة كارتيي للفن المعاصر الشهيرة بباريس هذه الأيام معرضًا من نوعٍ خاص: «جمال الكونغو». ولأن هذا المعرض، الذي يشكِّل استعادة لتاريخ الفن الحديث من أواسط العشرينيات إلى يومنا الحالي، قد حقق نجاحًا غير منتظرٍ، فإن المؤسسة مدَّدته إلى مطلع العام الجديد القادم. ليس همُّنا هنا التعرض لهذا المعرض النموذجي، الذي يقرب النظرة الغربية من مستعمراتها السابقة، فما كُتِب عنها هنا وهناك، بالكثير من المديح والاستغراب، والتأمل والتساؤل أيضًا يغنينا عن ذلك. ما يعنينا هنا هو هذه الطفرة الدءوب التي يعيشها الفن الأفريقي عمومًا، بشقِّه الشمال أفريقي كما بجنوب صحرائه، والتي تستدعينا للتفكُّر والتأمل.

في بدايات القرن الماضي، كان الاهتمام المتْحفي كبيرًا بالفنون الأفريقية، باعتبارها فنونًا فطرية أو فنونًا أولى، تستدعي الدهشة، وتثير الغرابة باستعمالاتها المقدسة المعبِّرة عن العقلية الأنيمية التي تحرك الإنسان «الطبيعي» الأفريقي. كانت هذه الفنون، وهي تدخل المتحف تتخلى عن كامل وظائفها، كي تغدو فرجة منتزَعة من سياقها، أشبه بتلك الأدوات «البازارية» التي كان يستعملها الرسامون المستشرقون كي يستعيدوا باستيهاماتهم القوية شبق الشرق المفترض.

حين استلهم الفن الغربي الفن الأفريقي، بدءًا من بيكاسو، ومرورًا بالسرياليين والوحشيين والكوبرا، كان مبدأ الغرابة والعودة لطفولة الفن، ومن ثَم للطبقة الفوقية للاوعي الجمالي، هو ما يتحكم في هذا الاستلهام. فقد كان الفن الحديث قد استنفد تشخيصيته الدقيقة والفوتوغرافية ومفهومه التقديسي للمرجع والواقع، كي يجد في الفن الأفريقي ومنحوتاته وطواطمه من الإبداع ما يتجاوز — بكثيرٍ — مفهوم المنظور المتحكم في الفن الغربي منذ عصر النهضة.

بيد أن هذا الاهتمام التوظيفي إن كان اعترافًا ضمنيًّا بالقيمة التي تحظى بها الفنون الأفريقية، فإنه، من ناحية أخرى، يفصح عن ضربٍ من التفاعلية من جانب واحد. ما كان يحتاج إليه الفن الأفريقي هو أن يحظى بالاهتمام المؤسسي، الذي يتفادى التعامل معه باعتباره فنًّا قاصرًا ليمنحه القيمة (أو القِيَم) التي تجعل منه — بشكلٍ أو بآخر — الوجه الآخر للفن العالمي، إن لم يكن بشكلٍ ما المستقبل المرتقَب للفن العالمي.

الفن الغربي (أو بالأحرى في الغرب) صار يعجز عن إيجاد الماء لطاحونته التي تحظى بكامل الحظوظ التنظيمية والمؤسسية. والفن الأفريقي بتنوعه يعيش على إيقاعٍ ذاتي لا يحظى فيه إلا بما يمنحه له إيقاع الزمن والأحداث والفرص والممكنات … والمؤسسات، كما المهرجانات القليلة التي تحتضنه، لا تكفي كي تبرز غِناه وعمقه، خاصة في زمن تتوطَّد فيه «المركزية» الغربية الجمالية، وتجعل من الغرب المكان الأوحد والمرجع الأسمى للفن.

هل هي دورة الزمن؟ أم أن الطابع «الغازي» للفن المعاصر — حاليًّا — يتيح الفرصة أكثر لما يمكن أن يشكِّل له مادة للحياة والتجدُّد؟

لنتذكَّر كيف تشكلت هذه الصحوة، المتأخرة طبعًا، لكن التي فرضت نفسها حثيثًا، مع توالي الحلقات المفرغة في الفن المعاصر الغربي، واستحواذ التخومية الانطوائية على فنانيه. صحيح أن الفكر الغربي مع موريس بلانشو وجاك دريدا يحلل الفراغ باعتباره أفقًا معناه، بيد أن الفراغ إشكال بصري أيضًا. لنتذكر ما كتبه رولان بارث كمقدمة لكتاب عبد الكبير الخطيبي «الاسم العربي الجريح»، حين قال إن الغرب قد فقد ثقافته الشعبية (فأدخلها المتاحف) في الوقت الذي لا يزال فيه شمال أفريقيا يعيش ثقافته الشعبية بشكلٍ حي. هذا الفقدان دليل كبير على أن التطور الثقافي يحوِّل الذاكرة الحية إلى ذاكرة متحفية. أما المتحف في البلدان الأفريقية فهو الواقع الحي والحياة اليومية التي ما زالت، بالرغم من التطورات المتسارعة، تحافظ على التراث في قلب اليومي.

يحق لنا أن نقول إن معرض «سحرة الأرض» الذي نظمه جان هوبير مارتان في مركز جورج بومبيدو بباريس كان إحدى المحطات المؤسسة البارزة في الاهتمام الخصوصي بمصائر الفن الأفريقي، وإخراج الفن المعاصر من حدوده التقليدية. فقبيْل انطلاق العولمة بجميع مظاهرها، جاء ذلك المعرض ليرسم جغرافيا جديدة للفن المعاصر، من جهة، وليكسر التابوهات التي ترتبط بمركزية أوروبا وريادتها. وهكذا، إلى جانب فنانين أفارقة ومن القارات الأخرى، كان حظ تمثيل العالم العربي من نصيب فنان مغربي مغمور هو بوجمعة لخضر الذي فضَّله القيِّم على المعرض على فريد بلكاهية، الذي كان مرشحًا للمشاركة في هذا المعرض المؤسس. عقدًا من الزمن بعد ذلك، سوف تُعرَض منحوتات الفنان السنغالي عصمان صاو (الذي كان لي شرف مشاركته بعض لجان التحكيم) في جسر الفنون بباريس في سنة ١٩٩٩م، ليزورها أكثر من ثلاثة ملايين مشاهد، وتحقق له، وللفن الأفريقي — عمومًا — اعترافًا لم يكن ليحظى به من قبل.

وفي ٢٠٠٥م، انطلق المعرض المتنقل «أفريقيا روميكس Africa Remix» (الذي نظمه سيمون نجمي) من دوسلدورف حتى طوكيو، مرورًا بستوكهولم لينتهي في يوهانزبورغ، جامعًا ما يقارب التسعين فنانًا أفريقيًّا من بينهم أسماء كبرى كشيري سامبا وصامويل فوسو. ومن ثَم، صارت الأروقة تعرِض — هناك وهناك — العديد من الأسماء، كاشفة عن الصخب التعبيري، وعن القدرات الإبداعية للفنانين الأفارقة، الرواد منهم والشباب. وكان لبينال «داكارت» كما للعديد من اللقاءات الفنية في البنين، كما في غيرها، دور واضح في تعميق عيانية الفن الأفريقي، وحضوره في الساحة الفنية الدولية. بل إن الفوتوغرافيا الأفريقية نفسها صارت تحظى بأهمية متزايدة، وتخرج من الأروقة الأفريقية الصغيرة لتعانق رحابة الفن العالمي.

تعبِّر هذه الحركية العامة عن تنامي الاهتمام في العواصم الغربية بالأسماء الكبرى المبدعة للفن الأفريقي عمومًا، وللفن الأفريقي جنوب الصحراء. فقد بدأت الكثير من الأروقة بباريس ولندن ونيويورك وبرلين وغيرها تنفتح على الفن الأفريقي. ويمكن القول إن لندن الآن صارت الوجهة الكبرى للفن الأفريقي بعد باريس. والحقيقة أن تنامي سوق الفن هذا صار يتم من خلال المزادات التي بيعت فيها بعض أعمال بعض الفنانين المغاربة والأفارقة بمبالغ غير منتظرة.

هو إذن انتعاش جاء محصلةً لحركتين متقاطعتين: الدينامية التي تطبع الفن الأفريقي عمومًا، والتي فرضت نفسها في المحافل الفنية الدولية؛ والركود الذي صار يطبع الإبداع الفني في الغرب، بحيث لم يعدْ يقدِّم جديدًا يذكر. وفي خضمِّ هذه الصيرورة التاريخية، يأتي الفن الأفريقي لينعم بعيانية يستحقها، ولينفخ في الجسم الواهن للفن المعاصر الغربي بعضًا من الطراوة والشباب والحيوية، التي يبدو أنه في أمسِّ الحاجة لها كي يجدد دماءه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤