الصورة والموت المعلن

كان يكفي لصورة واحدة أن تحرك المشاعر، أن تجوب آفاق العين في شبكات التواصل الاجتماعي بالأخص؛ حيث الحساسية لصيقة بالمسام، وببشرة اليومي. لقطة ملتقطة من لُقى البحر، تلتهمها عدسة امرأة مصورة؛ لتصبح أشبه بالأيقونة. جثة صبي تكاد تبدو وكأنها تشرب البحر لينضب ماؤه فتعبرها أرجال الهاربين من إسلام يدمر حاضرهم، بعد أن بنى مجد ماضيهم.

الصورة هنا شهادة عن شهادة (استشهاد)، تمكين للموت أن يتجمَّد، كما لكي يقول: الموت عصيٌّ على التصوير والتشخيص والتمثيل. ولم يكن لغير الصورة الفوتوغرافية أن تقتطع الحدث، وتجعل منه كينونة للحاضر، وشعارًا لانهيار حضارة بكاملها: حضارة القاتل وحضارة الشاهدين على القتل.

كان يكفي لآلة صغيرة محمولة على هوى الضوء أن تضيء ما يدلُّهم في ليل الحاضر. كما لكي تبوح لنا مرة أخرى؛ لا شيء يمكن أن يعبِّر — في اللحظة — عن الطابع البارد للموت غير صورة تحترق بلون الأحمر، الذي يرتديه الصبي. والصبي في غيابه يمتطي الأرض والرمل واليابسة، التي لم يجف — بعدُ — جسده فيها. الصبي يدير ظهره لنظرنا وحضورنا، وكأنه بعد أن امتطى اليمَّ يمتطي صهوة التراب.

اسمه أليان (عليان) الكردي.

هنا يحضرني هذا الاسم من ذاكرة أخرى ليست ببعيدة، «آيلان وليل الحكي» عنوان نص حكائي لرجل جاوز الستين، لم ينشر قطُّ قبل هذه السن. مناضل في حركة اليسار المغربي، اسمه عمران المليح، يهودي من أواخر من ندَّدوا بالصهيونية، وقرروا أن يعيشوا الإسلام بيهوديتهم. كان كل من يقاربه عن غير معرفة يسميه «الحاج»، مجازًا لبياض شعره، فيرد على الأمر بابتسامة لا تفرِّق بين العربية والعبرية (وهما سيان) إلا في ترتيب الحروف.

هذه الرواية، المكتوبة بطريقة غريبة وشخصية ومتداخلة، تحكي عن فورة المغاربة في أحداث ١٩٦٥م، ثم في انتفاضات أواخر السبعينيات، وأخيرًا في ثورة الخبز سنة ١٩٨١م … هل ثمة فارق بين ما يحدث اليوم وما حدث آنفًا؟ طبعًا، وأي فارق. بيد أن آيلان اسم لأقلية قد تكون بالمشرق أو بالمغرب، غير أنها تتحدث عن ليل الحكاية.

وحكاية أليان الكردي مكتوبة بطريقة أغرب. ثمة حكايتان: تلك التي تكتبها الصورة، وتلك التي كتبتها الصحافة بعْديًّا، وهي تحاور الأب وخالة الصبي المقيمة بأمريكا … وهناك — أيضًا — الحكاية الرمزية، التي صارت تُكتَب هنا وهناك. مثلًا حين يحاكي ثلاثون فنانًا وضعية الصبي، ويلبسون ما يشبه لباسه، ويتواترون على شاطئ من شواطئ بلاد المغرب (المعروفة بأنها أيضًا أرض عبور وهجرة) ليجسِّدوا ملحمة، لا بطولة فيه إلا لانهيار الإنسان.

من حكاية لأخرى تكون الصورة هي المبتدأ والمنتهى، صورة لا تحتمل، لا تتحمل، ولا يُغتفَر موضوعها، صورة تدفع بالشرط الإنساني إلى حدوده القصوى. هذه الصورة اللاتُحتمل ليست أول صورة ولا آخرها. عالم الإنترنت اليوم يسهِّل تداول هذا الطابع التراجيدي للصورة في مفارقاتها؛ لنتذكر تلك الصورة لصبي فلسطيني — بحجم حبة حمص — يواجه دبابة بحجم عمارة، ولنسترجع صورة مقتل الصبي محمد الدرة (في الشهر نفسه، هذا الأيلول الأسود) من عام ٢٠٠٠م، التي أوقفتنا أمام حدود إنسانيتنا.

وقبلها صورة كيفن كارتر Kevin Karter المصور الجنوب أفريقي المناهض للأبرتايد سنة ١٩٩٤م، التي قدمت صبية، تكسو بشرتها عظامها، ووراءها نسر جارح ينتظر وفاتها … هذه الصورة أثارت زوبعة من النقاش، تبيَّن من خلالها أن الصبية لم تكن بعيدة عن عائلتها، وأنها كانت — فقط مثل عائلتها في السودان — تنتظر حصتها من الأكل … ولكثرة الاتهامات، انتهى المصور إلى الغوص في الكآبة، ثم الانتحار.

لكن، لماذا يحتاج الفن إلى الفاصل الزمني والمسافة، كي يمارس التأمل، وترجمة المباشر في حدِّيته إلى متخيل؟ لماذا يكون الموت حدًّا لا تلتقطه — في عنفه المباشر والفوري — غير الصورة والكاميرا؟

هذه الأسئلة من الأهمية بحيث تجعلنا أمام شيئين، يكون الزمن والحاضر والإحساس لحمتهما: العيني المنقول بوساطة الحكاية أو بوساطة الصورة، ثم تناقل وتواتر الحكاية البصرية أو اللغوية؟

التواتر والتناقل — مهما كان طابعه المتعاطف — يشبه صورة النسر الرابض في انتظار موت الصبية السودانية في دارفور، ومن ثَم فإننا، أمام الصورة، لا يمكن إلا أن نعيش مفارقة وجودنا، وعجزنا الإنساني عن أن نكون في مستوى ما نبتغيه، أخلاقًا وبشكلٍ كوني. أما الزمن فإنه يجعل الصورة القادرة على أن تكون فورية واستعادية رمزية وإيحائية، صورة توقف الزمن … غير أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في سياقها.

أما الفن حين يستعيد الحدث نفسه، إن هو استعاده، فإنه يمنحه طابعًا مغايرًا، قد يستغل الجانب الاستطلاعي الفوري للصورة، غير أنه يحوِّلها إلى شهادة تاريخية. الفرق بين الصورة الصحفية والفن هو أنهما وجهان لعملة واحدة. الصورة الاستطلاعية الصحفية واجهتها الراهن واللحظة والفعل والتأثير، أما الصورة الفنية فواجهتها المدى البعيد، غير أنها قد تبتغي التأثير أيضًا. تتبع الصورة الاستطلاعية الحدث؛ فتظهره للسطح، وتركز عليه، في غمرة المتشابك والمتوافر في الصور والأحداث. صورة كيفن كارتر وجَّهت الأنظار لدارفور، رغم كل شيء، وكذلك كان حال صورة محمد الدرة وصورة أليان الكردي … الصورة الاستطلاعية سياسية المبتدأ والخبر … أما الصورة الفنية فإنسانية المقصد والموئل … مهما كانت سياسية.

ثمة صبي تلتقطه الصورة في موته، وتحوِّله — في مجهوليته ومعلوميته — إلى رمز لمأساة شعب ولوضاعة الإنسانية في انهيار قِيَمها وبشاعة مآلها. وثمة صبي سوري آخر يُولَد من جديد في الصورة. بعد وفاة أمه في تركيا وبقائه وحيدًا، يسجل فيديو، ويبعثه إلى ملك البلاد التي يعيش بها أبوه مع زوجته الثانية. يحوِّل الصورة إلى رسالة، يطلب فيها تأشيرة الحق في الالتحاق بالأب. صورتان إذن، والرسالة واحدة: الموت والحياة كوجهين لعملة واحدة.

ما تحققه الصورة الفوتوغرافية، كما صورة الفيديو حاليًّا، يدخل في باب التواصل الراهن، في زمنيته وتواتر أحداثه. غدًا ستأتي صور أخرى كي تنطبع مؤقتًا في ذاكرتنا، لتمحو ما سبقها، أو تتراكب على صور أخرى. ليس للصورة الصحفية من ذاكرة قوية، مهما كانت قدرتها على الإقناع. إنها تكتسب ذاكرتها من أمرين: أن تتحوَّل من حكاية إلى تاريخ، أو أن تصبح موضوعًا لعملٍ فني، سواء كان تشكيلًا أو مسرحًا أو سينما … أي أن تتحوَّل من صورة غير محتملة، إلى صورة محمولة في المتخيل الجماعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤