فيما وراء الاستشراق: المرأة والفن والشرق

لماذا لا يزال الاستشراق يمارس فتنة كبرى على أذهان الكُتَّاب والفنانين وتصوراتهم بالرغم من العاصفة النقدية التي أطلقها إدوارد سعيد ومعه عبد الكبير الخطيبي ومالك علولة؟ هل نحن نعيش مرحلة استشراق داخلي؟ وهل الاستشراق هو آخر الشرق المنبوذ؟

لقد اعترف إدوارد سعيد في التذييل الذي كتبه لطبعة ١٩٩٥م العربية لكتابه بأمرين: أن كتابه صار عبارة عن عدة كتب، أي إنه انفلت من مقاصده الأولى، وإنه ليس كتابًا معاديًا للغرب ومدافعًا عن الشرق والإسلام، لأن صاحبه لا يؤمن بالجوهرانية. والخطيبي الذي انتقد بصرامة — لا تُضاهى — جاك بيرك، لم يلبث أن أصدر كتابه «الجسد الشرقي» في ٢٠٠٢م، الذي لا يقطع نهائيًّا، لا في شكله، ولا في مضامينه، مع «الفكرة» الشرقية. وفاطمة المرنيسي التي طالما انتقدت النظرة الاستشراقية للمرأة العربية والمشرقية عمومًا، ما إن تدخل لمجال التخييل حتى تلعب دور المرأة الشرقية المثقفة في فضاء تقليدي.

المرأة وفتنة الشرق

ليس من قبيل الصدفة أن تكون مسألة نقد الاستشراق مسألة أيديولوجية لدى الكُتَّاب والمفكرين من الرجال ومسألة إستطيقية لدى الكُتَّاب والمفكرين والفنانين من النساء. إننا نعني هنا بالجمالية المعنى الأصل للكلمة: (أيسطيزيس: عاطفة حسي). من ثَم، ومن غير أن نسقط في التمييز الثنائي بين الذكوري والأنوثي المبني على النوع (الجندر)، نقول إن الثلاثي «الذكوري» النقَّاد للاستشراق انتقده من الخارج، وأن النساء، الفنانات منهن بالأخص، مارسن نقدهن له من الخارج والداخل معًا، أي من خلال تفكيك مزدوج لم ينتبه له حتى الخطيبي في حملته الجامحة على أحد أكبر مصادر المعرفة عن العرب والمغرب العربي.

ففي سنة ١٩٩٧م، أصدرت مجلة AB عددها الأربعين مخصصة إياه لفاطمة المرنيسي، بعنوان: «اندثار الشرق، الحريم الأبوي يغدو المجتمع المدني الأمومي». لا يهمنا هنا أن ندخل في تحليل أو نقد التصور العام لعالمة الاجتماع هذه التي تميزت أعمالها منذ صدور كتاب «الجنس في الإسلام» بنوعٍ من النزعة النسوية التي كثيرًا ما تعيد إنتاج ما تنقده. ما يهمنا هو كونها قدمت — بشكلٍ غير مباشر — للفن العربي المعاصر مدخله إلى إعادة تملك الاستشراق من خلال ما يمكن أن نسميه: «منجزات performances فاطمة المرنيسي.» في سعيها الدءوب إلى الاشتغال بكل الوسائل على موضوعاته الأنوثية، وبعد أن أدخلها صديقها السينمائي محمد عبد الرحمن التازي إلى مجال التمثيل السينمائي (في فيلم كوميدي بعنوان: البحث عن زوج امرأتي، ١٩٩٣م)، اكتشفت المثقفة في نفسها القدرة على ما يُسمَّى، في المسعى الإثنوميتودولوجي، بالاندماج الذاتي في الموضوع. وهو الشعار الذي يتوافق مع شعار المجلة الألمانية النسوانية التي خصصت لها ذلك العدد: «الشئون الشخصية سياسية، والسياسة مسألة شخصية». وهكذا نشرت المجلة مجموعة من الصور التي تبدو فيها فاطمة المرنيسي في جوٍّ مخملي شبيه بجو ألف ليلة وليلة، وهي مديرة الظهر، أو في حديث مع نساء أخريات بالتهامس والضحك، أو وهي تتحدث في هاتف المنزل. والوضعية التي تبدو فيها فاطمة من الظهر يبدو فيها، في عمق الصورة، تليفزيون مفتوح على القناة الإخبارية البريطانية «بي بي سي». وفي صورة أخرى، تبدو الكاتبة في وضعية الغانية (الأودليسكا)، متزيية بلباسٍ تقليدي ثقيل، وهي تمسك — باهتمامٍ — بمجلة أمريكية.

يبدو أن عالمة الاجتماع، وهي تنزاح تدريجيًّا عن الطابع السوسيولوجي الصارم للبحث، وتدخل منذ كتاب «الجنس والأيديولوجيا والإسلام» سنة ١٩٧٤م، في منزع نسوي سيجرُّها للحديث عن النبي والسياسة والنساء، ثم عن السلطانات المنسيات، وبعدها عن شهرزاد الإسلام وأحلام النساء … إلخ، سوف تغدو روائية وفنانة على طريقتها، خاصة أن اشتغالها على النساء المهمَّشات في جبال الأطلس المغربية جعلها تندرج في ضربٍ من «التدخل الاجتماعي والجمالي» في الآن نفسه.

في هذه التجربة التي تنتقد الاستشراق بشكلٍ مزدوجٍ (من جانب نسوي ومن جانب سوسيولوجي) تكاد فاطمة المرنيسي أن تبيح لنفسها ما تحرمه على الآخر: أعني محاكاة الاستشراق، وخلق بنية استشراقية داخلية محكومة بنسقٍ مغاير من القِيَم، وإن بالإطار نفسه. إنها تخلق المفارقة في بنية المرأة الاستيهامية موضوع الحريم الاستشراقي: فهي تجعل منها تقليدية المظهر، لكن دينامية الفكر بين المرأة القروية التي ترصدها، والمرأة التي تبتكرها من ذاتها في الصورة، ثمة مسافة هي مسافة السعي إلى تفكيك مفهوم الحريم، لكن عبر الرغبة في الاستحواذ المباشر على مكونات عالمه. إن تحرير الحريم من الاستيهام الاستشراقي لا يتم لدى المرنيسي إلا عبر عالم الفكر والثقافة.

نساء ضد الاستشراق

ولم تلبث العدوى أن بلغت الفنانين وبالأخص الفنانات، الأكثر منهم ومنهن وعيًا وانفتاحًا على القضايا الشائكة. بيد أن لا أحد من الفنانات، ثم من الفنانين، أحال إلى لعبة فاطمة المرنيسي مع الاستشراق التي بدأتها مبكرًا. هل يتعلق الأمر بأرخبيلية الثقافة العربية، أم بكوْن نقد الاستشراق في رحلته الثانية صار عملية سباق ضد الزمن؟

في كل الأحوال، جاءت تلك العدوى إلى مجال الفنون البصرية من خلال استكشاف النظرة الاستشراقية، لا عبر وسيطها «الطبيعي» أي اللوحة، ولكن من خلال الصورة الفوتوغرافية. فكان أن نظمت الفنانة المعاصرة التونسية مريم بودربالة سنة ٢٠٠٦م، معرضًا هامًّا، كان المنطلق لحملة جديدة لاستكشاف الاستشراق، من وجهة نظر مخالفة للرباعي النقَّاد (سعيد، الخطيبي، علولة، المرنيسي) وقريبة منهم في الآن نفسه. وأنا أعتبر هذا المعرض المنطلق الفني المعاصر لمواجهة الاستشراق بصريًّا من غير عداء أيديولوجي: فبودربالة من خلال أعمالها المنطلقة من مرايا جسدها الشخصي، ومعها طاقمها، تنطلق من مواجهة بصرية غير خصامية بين الصور الفوتوغرافية للمصور السويسري رودلف لينهرت، الذي ترك إرثًا هامًّا عن تونس ورجالها ونسائها ومناظرها وآثارها. وهذه المواجهة تتخذ فيما يخصها شكل مَشْهَدة لجسدها مدثرًا في أثواب شفافة بحيث يتم تضعيفه في جميع الاتجاهات خالقة ضربًا من الضبابية الحسية البصرية.

في السياق نفسه، تقوم المغربية للا الصعيدي بترجمة تجربتها الشخصية في شكل كيانات أشبه بالغانيات والوصيفات، متموضعة في شكل استلقاء وخمول الأودالسكا أو في أشكال تمنحنا صورة الحريم. وما تقوم به الفنانة هو تدثير الجسد بما يشبه الكالغرافيا، بحيث نجد أنفسنا أمام وضعيات تحاكي المشهد الاستشراقي واستيهاماته وتناوشه في الآن نفسه. فيما تعمد الفنانة المغربية المقيمة بفرنسا ماجدة الخطاري، بالاشتغال، بشكلٍ أكثر معاصرة، على الحريم، وعلى الغانية، مانحة إيانا مشاهد فوتوغرافية يتجاور فيها النقد بالتملك.

وسواء تعلق الأمر بهؤلاء الفنانات أم بآخرين (هيلا عمار من تونس، والمصري محمد أبو النجا)، فإن الرغبة في إعادة النظر في الاستشراق، وتملُّكه من الداخل، يجعل اليوم من الفن بوابة نقدية كبرى تشكِّل طليعة تجدُّد الفكر العربي، وإعادة ابتكاره لتاريخه ولتاريخ أسئلته الحارقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤