بعيدًا عن المنظور، قريبًا من المحْجوب

ليس الأمر من جانبنا لعبًا بالكلمات، حتى وهو قد يبدو للوهلة الأولى كذلك … فالكلمات لا تتحمَّل أن نتلاعب بها. إنها تمنحنا نفسها ونفَسها كي نتلاعب بالمعاني … من وقت وأنا تجتاحني فكرة أنحيها كل مرة من ذهني، تقول لي، مثل هاتف يهمس في أذني: الشرق شرق والغرب غرب. وبما أني أنتمي لبلدٍ، لا هو بالمشرقي، ولا هو بالغربي؛ إذ هو غرب المشرق، فإني أحيانًا أتشبث بالمفارقات التي تمنحني إياها وضعيتي الملتبسة.

مرة وأنا أحاضر بإحدى المدارس العربية العليا للفنون الجميلة طرحت، بشكلٍ مشاكسٍ السؤال التالي: «هل يمكننا اعتبار المنظور مكسبًا عالميًّا؟» لم يكن، حينها، في نيتي أن أنظِّر لجماليات خلافية أو اختلافية أو مشرقية أو عربية. كان همي الأساس أن أضع ابن خلدون مقابل ليوناردو دافنشي.

يا لها من مقابلة … إنها تجعلني في موقع قوة تاريخية لا يمكن لأحد أن يحسدني عليها. وفي الآن نفسه في موقع ضعف، لا يمكن إلا أن أتمنى الخروج منه سالمًا.

إذا نحن قارنَّا المنحوتات الفرعونية والمنحوتات الآشورية — مثلًا — مع نظيراتها الإغريقية، فإننا سوف نتوصل مباشرة إلى الطابع المؤسلب للأولى (أي إلى طابعها الرمزي) مقارنة مع الطابع المحاكاتي المرجعي للثانية. هنا بالضبط مكمَن الخلاف والاختلاف. الشرق يؤسلب العلاقة بالواقع، ويخضعها للزخرفي ومن ثَم للرمزي، فيما يسعى الغرب إلى أن يجعل من الأداة الراسمة استكناهًا للمرئي ومرآة لوجوده.

حين تمَّ ابتكار المنظور في بدايات القرن اﻟ١٥، كان ذلك متوائمًا مع الطفرة العلمية والرياضية التي تؤمن بأن العلم قادر على الإمساك بالعالم واستكناه بنيته. لم يكن المنظور مكونًا من مكونات الواقع، وليس علينا أن نأخذه على أنه كذلك. إنه بالأحرى محاولة ضبطٍ لتصوير الواقع أو ما يسمى — بلغة فلسفية — تمثيله representation. لن نطيل ولن نستفيض في القول بأن مشكل الفن الغربي بكامله هو مشكل التمثيل. وأن ثورة نيتشه وهايدغر ثم سارتر وجيل دولوز وجاك دريدا وغيرهم، كانت متصلة بمسألة تفكيك التمثيل، أي الأصل والمرجع في طابعهما الميتافيزيقي، سواء كانا هما الواقع النموذجي للمحاكاة، أو كانا النموذج المثال الذي تفرضه الأساطير والديانات.

الأصل مفهوم ميتافيزيقي بامتيازٍ؛ لأنه يتحكم في تصورنا للمرئي واللامرئي. وسواء كان هذا الأصل مرئيًّا (الجسد الإنساني باعتباره مرجع البورتريه مثلًا)، أو كان غير مرئي (الحس الديني)، فإن التعبير الفني عنه، إن هو خضع لمعيار الأصل والمرجع، فسيخضع له بطريقتين: إما التماهي مع الرؤية الدينية التي تعتبر أن آدم سابق على عصر الديناصورات؛ أو التوافق مع المعطيات الهندسية والرياضية التي تجعل ما يكون قريبًا منا بالضرورة أكبر حجمًا (في تمثيله وتصويره) مما يوجد أبعد منه.

إنها قضية المنظور أو ما يمكن أن نسميه بوهم المسافة في التصوير عمومًا. وربما هنا يكمن سحر التصوير — تحديدًا — لأنه يجعلنا نتوهم أننا نرى الواقع المرئي. وما هو في الحقيقة بواقع مرئي، وإنما هو فقط بناء هندسي لمكوناته البصرية والطوبولوجية.

هكذا بنى «الغرب» وَهْم امتلاكه للمرجع والأصل، وحل مشكلة التصوير والتمثيل المماثل والمحاكي لواقع مفترض؛ محققًا بذلك سبقًا كبيرًا، بل قطيعة حاسمة مع التجربة الشرقية، التي لم يهمها — أبدًا — المطابقة والتماهي ومبدأ الهوية المتحكم بين الصورة والمرجع بقدر ما تهمها الإشارة والإحالة والترميز … لكن هل هو حقًّا تقدم تاريخي أم فقط اختلاف تاريخي؟

لماذا اعتبر هيجل أن مجد الفن الإنساني وعظمته لا يتجسدان في الفن الإغريقي ولا في فن النهضة بطابعهما المحاكاتي والمنظوري، بل في الفن المصري الفرعوني بطابعه المسطح الذي لا يبتغي الدقة المنظورية (رغم وجودها الأولي) بقدر ما يبتغي الإحالة؟ هل كان هيجل ضحية خداع تاريخانيته؟ ولنطرح السؤال بشكلٍ آخر: لماذا نجد في التماثيل والمنحوتات والتصاوير المصرية والآشورية واليابانية والهندية الكثيرَ من السحر والفرادة اللذيْن قَلَّ أن نجدهما في التصاوير النهضوية الخاضعة — بشكلٍ أو بآخر — للمنظور المقنن والهندسي؟

المنظور ابتكار لا يهمنا تاريخيًّا إلا بقدر ما يشكِّل محطة من تطور الفن العالمي. قد ندرِّسه لطلبتنا، وقد ندين له بجعلنا نمسك ببنية منظر أو معمار ما، غير أن طابعه لن يتجاوز هذا الجانب التقني. والدليل على ذلك أن التحطيم الذي قام به بيكاسو لهذا المبدأ الدكتاتوري العقلاني في الفن كان بفضل اكتشافه للفن الأفريقي.

لقد كان لبيكاسو، وللسورياليين، كما لحركة كوبرا، الفضل في اكتشاف فن مغاير للفن القائم على المنظور، هو الفن الخام أو الفطري. بالمقابل فإن ذلك أمر يلائمنا تمامًا، لا لأننا ندين لهؤلاء بوجودنا الفني والجمالي، وإنما لأننا حضارة لا علاقة لها بالمنظور … كيف ذلك؟

نظرة بسيطة إلى ما يشكِّل هويتنا البصرية التقليدية، أو الكلاسيكية (بلغة فقهاء الفن) تكفي لتجعلنا نقتنع أن نظرتنا الفنية مسطحة، وأن تشخيصيتها تعبيرية، تعطي المثَل ولا تبتغي التمثيلية، وأن الغرض منها مسايرة الحكي، لا الحكي بحدِّ ذاته. نحن أمة (أمم) لا تحكي بالصورة بقدر ما تجعل الصورة ذريعة للحكي أو فاكهة اشتهاء له. الصورة لدينا، مهما كانت درجة شهوانيتها وإباحيتها، لا تقول الحدث بقدر ما توحي به … وواقعيتها لا تستجدي المرئي بقدر ما تداوره، كي تستدرج ما لم يُر بعد، وما لا يخضع للمنظور، أي ما لا يدخل في النظام الممكن للمرئي وسلطته. لكن ما الذي لا يدخل في المنظور؟

إنه المحجوب.

تنبني حضارة الإسلام، كما، بشكلٍ ما، حضارات الشرق الأقصى، على الحجْب والمحجوب الذي يتطلب قراءةً وتأويلًا، تطوَّرَ في التصوف وجعل مآل الفكر والنظر يكمن في البحث عن مجهول الوجود ومحْجوبه. لذا كانت الزخرفة الإسلامية بتشابكاتها، كما الخط بتجريديته، استدعاء لهذا المحجوب ومساءلة له. كما أن التصوير بغير المنظور (حتى في أبسط أشكاله) في المنمْنمة يجعلنا أبعد ما نكون عن مسألة «الحداثة» والعقلانية التصويرية.

إنه بُعد يلزمنا استثماره جماليًّا إذا نحن أردنا أن نبني «جماليات محلية»، كي نحرر أنفسنا من إمبريالية المفاهيم ومن طابعها الكوني المزعوم. فإذا كان المنظور يحيل إلى المرئي، فإن المحجوب يحيل إلى اللامرئي … وثمةَ سبيلٌ قد يكون علينا المغامرة فيه لبناء تصور جديد لمرآتنا الجمالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤