حاجة الفن إلى وسائطه

يصعب أن يطرق الكاتب منا موضوع الكتابة والناقد مسألة النقد، من دون أن يكون ذلك من باب الشهادة. صحيح أن الأمر ضرب من النرجسية، غير أنها نرجسية شاهدة على ذاتها، ساعية للانفصال عن جذورها الغارقة في أغوار الذات واللاوعي. يصعب أن نكتب عن ذاتنا إلا بشكلٍ انعكاسي. وكل انعكاس تأمل في الصورة المقلوبة في المرآة، وكل مرآوية دعوة للانفصال عن النرجسية أيضًا لأنها تمكِّن من ضبط صورة لما نحن عليه.

صراع العلامات والصور

من أيام فقط، وأنا أشارك في ندوة دولية عن سياق الفن المعاصر في حوض المتوسط، صعقت وأنا أنصت لأحد التشكيليين يقول بالحرف الواحد: لسنا بحاجة إلى النقد والنقاد؛ فالعمل الفني يفصح عن تأويلاته لوحده، وهي تأويلات غير محدودة.

إن هذه العدمية التبسيطية (وما أبعدها عن عدمية نيتشه المفكِّرة والبنَّاءة)، وهي تمنح للبصري القدرة على أن يؤوِّل ذاته بذاته، تمنحه سلطة الانفتاح اللامتناهي وغير القابل للضبط. والحال أن العمل الفني، بطابعه الصوري البصري، مهما كانت درجة ذكائه التأويلي، يظل في حاجة إلى تدخُّل اللغة لممارسة التأويل عليه. صحيح أن التأويل ليس خاصية اللغة والكتابة فقط، بل تشترك فيه مجمل أنماط التواصل البشري. بيد أن للغة القدرة على التملك التصوري المفهومي للصورة أكثر من الصورة نفسها.

العمل الفني يمارس التأويل على العالم بترجمته إلى صورٍ وأشكالٍ وألوان وتعبيرات بصرية فضائية. كما أن كل عمل فني هو — بشكلٍ أو بآخر — تأويل أو نقد لما سبقه ولما يواكبه من أعمال فنية. فكلما انزاح عن المألوف والمُتداول، وسلك لنفسه مسارب جديدة؛ كانت عمليته التأويلية أخصب، وكان من الصعب إدراكه من قِبَل المحيط الفني والنقدي.

إن العمل الفني كلما كان جديدًا ومبتكرًا حرَّك العناصر الجامدة والمتكلسة والرجعية الارتدادية في التصور النقدي السائد. كما أن الممارسة النقدية ليست مطالبة فقط بمتابعة العمل الفني، بل بإدراك كنْه توجُّهه ووجهته من جهة، والسعي إلى الإمساك بمجمل دلالاته، بل تجاوز ذلك إلى منحه معاني إضافية (كما يسميها الجرجاني). النقد، كما يدعو إلى ذلك هايدغر، لا يكون كذلك إذا لم يمنح لموضوع قراءته من معناه، أي إن لم يكن مصدرًا للقاح والتلاقح الذي يخصب — بدوره — العمل الفني بالتصورات والتأويلات التي يستمدها من العلاقة معه.

لهذا الأمر كان النقد كتابة ونصًّا قبل أن يكون انتقادًا وبحثًا عن الشوائب وتثمينًا أو تحقيرًا. ومعنى ذلك أن النقد ليس متابعة للعمل الفني ولا ظلًّا له (لأن ذلك من عمل الصحافة والصحفي)، بل وهو يسعى إلى أن يكون إضافة للعمل الفني بلغة غير لغته، يطمح أول الأمر أن يكون ندًّا لهذا العمل، قادرًا على مجاورته ومحاورته، باحثًا فيه عن ممكنات مفتوحة للتفاعل والتواصل. إنه وسيط من ضمن وسائط أخرى، يساهم في منح العمل الفني قيمته الرمزية والتداولية. بل إنه أقدم تلك الوسائط على الإطلاق، من أروقة للعرض وجمَّاعين ومتاحف وملتقيات وبينالات وغيرها.

تصنع الكتابة النقدية قيمة العمل الفني حين تُموْقعه في تاريخ الفن المحلي والعالمي. وهي بذلك تساهم في كتابة تاريخ الفن القطري والقومي، وتمكِّن من ناحية أخرى من استكشاف الفنانين المهمَّشين وإعادة الاعتبار للمغمورين منهم. وفي صمتها عن بعض الفنانين المتطاولين على الشأن الفني أو المنفوخ فيهم، أو إعادتها النظر في الهالة التي تُمنَح لهم، نلفيها تساهم في الموازنة النقدية بين المكونات الثقافية، وتمارس ضربًا من النضال التاريخي ضد العناصر التي تعيق — بشكلٍ أو بآخر — عيانية visibilty التجارب ذات الأفق الواعد.

من التقويم إلى العرض

وفي ذلك تتقاطع مهمة الناقد والقَيِّم على المعارض من حيث قدرتهما معًا على الموازنة بين النظرة الشمولية السياقية التي تؤطر الممارسة الفنية الفردية والنظرة الثقابة المتعقبة لتحولات الممارسة الفنية وعناصرها النافرة والخصبة. وغالبًا ما تجتمع مهمة الكتابة كما مهمة تنظيم المعارض وتصورها في الشخص الواحد، كأن يتحوَّل الناقد إلى قيِّم على المعارض، وهو الأمر الأكثر احتمالًا، ويتحول القيِّم إلى ناقد.

يراقب القيِّم الحركة الفنية بعيون صقر. وهو كالمدرب الكروي يبحث عن دُرره الفنية بين الشباب والمبتدئين، ليقتلعها من مجهوليتها، ويسير بها نحو العيانية. وحين ينظم المعارض الاستعادية أو الموضوعاتية، فإنه يكشف عن موهبته في تشكيل رؤية جديدة انطلاقًا من هلامية المنظر الفني العام. والقيِّم عضد المتاحف وأروقة العرض وجوهر وجودها. في المتحف تراه يجدد الرؤية إلى الفضاء وإلى المجموعة الفنية، بما يغنيها من تجارب آتية لها من الخارج وأحيانًا من أمكنة نائية. وكأنه، بعملية الإخصاب هذه، يفتح هذه المؤسسات الوسائطية على ممكناتها المستقبلة، ويجعلها تدخل في حوار مع الآخر.

من ثَم، فالناقد، كما القيِّم، يصنعان تاريخ الفن: بتنظيم معطياته الماضية والراهنة وإعادة تقويمها، كما بنفض الغبار عن المنسي فيها، وتحجيم ما تم تضخيمه فيها. كما باستشراف التحولات الخصبة التي يمكنها أن تمنح هذا التاريخ عبقَه الخاص وقوته الضرورية.

بالرغم من أن تاريخ الحركة التشكيلية في العالم العربي قد أفرز، منذ أواخر القرن التاسع عشر، العديد من الأسماء الفنية التي يمكن اعتبارها أعلامًا عتيدة في تاريخ الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، فإنه قلَّما كشف لنا عن ناقدٍ أو مؤرخ للفن بالقوة نفسها. لذا فإن أغلب «النقاد» الذين يمكن أن يُعتد بكتابتهم أتوها من الأدب والفكر (جبرا إبراهيم جبرا وعبد الكبير الخطيبي). إنهم كُتَّاب وشعراء يكتبون عن الفن بهذا القدر أو ذاك من الانتظام، يعتبرون أنفسهم مواكبين ورفقاء لبعض الفنانين؛ بحيث غالبًا ما تدخل تلك الإشراقات ضمن تجربة الكتابة لديهم.

أما النقاد المتخصصون فهم قلة قليلة، بعضهم آتٍ من الفلسفة والأدب (عفيف البهنسي، موليم العروسي، فاروق يوسف وشربل داغر …)، وبعضهم من الممارسة التشكيلية وتاريخ الفن (أسعد عرابي، مها سلطان) إنهم قلة قليلة مقابل ذلك العدد الهائل من الفنانين. وما يزيد من قلَّتهم تلك غياب المجلات الفنية المتخصصة والمنابر المنذورة للفنون البصرية، وعدم ترسخ الكتابة النقدية في الحقل الثقافي؛ بحيث نادرًا ما نجد كتابًا في نقد الفنون يصنع الحدث الثقافي الذي قد تصنعه رواية ما أو معرض ما.

مقابل هذه القلة، ثمة نُدرة رهيبة في مجال القيِّمين المتخصصين. ولعلنا نعزو ذلك إلى جِدة هذه الوساطة في حقلنا الثقافي الفني. فقد كان أصحاب المعارض وبعض النقاد يقومون بهذا الدور، حتى غدونا، في السنوات الأخيرة، نرى بعض الأسماء العربية تمارس دور القيِّم في العواصم الأوروبية والعربية، وتنتقل بنشاطها إلى العالم العربي … إنها مهمة وسيطية لا تزال بحاجة إلى التحديد والتكوين والتشجيع كي تمارس دورها إلى جانب الكتابة النقدية في تقويم التجارب الفنية ومنحها العيانية التي تستحقها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤