هل جماليات الفن العربي حلم مستحيل؟

أهداني عبد الكبير الخطيبي سنة ٢٠٠١م نسخة من كتابه عن الفن المعاصر العربي ممهورة بإهداء يقول: «إلى فريد، رفيقي في درب الكتابة والفكر، هذه المقدمات المتواضعة عن الفن المعاصر العربي، في انتظار جماليات تصوغ أفقه» ما زالت هذه الدعوة الأخيرة ترن في مسامعي الباطنة فيما يشبه المشروع المرجأ، أنا المتابع بنهمٍ لأغلب ما يُكتَب عن الفن العربي في مشرق العالم العربي ومغربه وبلغاته المختلفة. وحين نحلق في سماء هذا الفن، نجد أن ما كُتِب عن الفنون الإسلامية يحتل مكانة خاصة فيما يمكن أن نسميه جماليات الفن العربي الإسلامي، لا من حيث القيمة التحليلية والجمالية والفكرية، ولكن أيضًا من حيث إن مختلف فنون الإسلام فيه قد حظيت، إلى حدٍّ كبير، بما يليق بها من عمق وحصافة وبُعد نظر. وهو أمر لا يمكن فيه إنكار الدور الذي قام به المستشرقون.

تاريخ الفن العربي الحديث والمعاصر يتجاوز القرن من الزمن، ومع ذلك لا نجد في المكتبات إلا القليل من المراجع الدسمة التي تؤرخ لهذا الفن ولاتجاهاته وتجاربه الفذة. وما يوجد من مراجع تختلط فيها الأسماء بالأمكنة، وتطغى فيها المعرفة ببلدٍ على آخر، وتضج بالمغالطات التاريخية. والحديث عن تاريخ الفن العربي أمر بدهي لأنه الأساس الذي تقوم عليه جماليات ممكنة أو محتملة لهذا الفن. بيد أن «مؤرخي الفن» في العالم العربي، على قلَّتهم، وأعني بهم أيضًا أولئك الذين تكوَّنوا في المدارس الغربية ويحملون شهاداتها، ظلوا أبعد ما يكونون عن الاهتمام بتاريخ فنهم، فتراهم لا يزالون مرتبطين بتكوينهم، مشدودين إلى دقائق الحركات الفنية والتيارات الجمالية في أوروبا، ولا يفقهون شيئًا، أو في أحسن الأحوال، لا يدركون إلا ما صادفوه في «شرنقة» الفن العربي.

الإحساس بهذه الضرورة الحارقة لجماليات عربية هو أحد الهموم البحثية الكبرى التي لا تزال حلمًا كبيرًا. إنه حلم قابل لأن يجمع شتات هذا التاريخ المجهول. إنه أيضًا حلم الانتقال من الفرديات المبدعة، التي نعرفها إلى هذا الحد أو ذاك، إلى بلورة البنية التي تجعل من الفن العربي فنًّا قائم الذات، له وجوده المميز. لكن، قد يتساءل البعض: وما الغرض من بناء جماليات للفن العربي الحديث والمعاصر؟

إذا كانت الجماليات (منذ كانط حتى جاك رانسيير Jacques Rancière) قد انطلقت من بناء الذوق الجمالي ورست — حاليًّا — على مساءلة مكونات التجربة الفنية وطرق تكونها، فهي بكل «بساطة» تمكِّن من الإمساك بالقوانين الظاهرة والخفية التي تمنح للعمل الفني قيمته، وتمكِّننا نحن «المتذوقين» من بلورة الحكم الجمالي.

بيد أن هذه المهمة، التي يمكن بدون مجازفة أن نقول عنها إنها مهمة تاريخية ملحة، ليست مهمة الصحفيين ولا التشكيليين الذي يمارسون النقد في أوقات الفراغ وأيام الآحاد ليعيدوا صياغة أوهامهم. إنها بالأحرى مهمة الباحثين، من مؤرخين وعلماء الجمال القادرين على منحنا الآليات والأدوات التي تمكِّننا من الفرز الجمالي ومن تحليل الظواهر التي تخترق الحركات الفنية والأعمال الفنية عمومًا. لكن أين هم المؤرخون وعلماء الجمال في العالم العربي؟ فعلى قلَّتهم، صار أغلبهم يمارس الصحافة (والأمر ليس من باب القدح) أو النقد الفني … ولا نجدهم، إلا فيما ندر، يمارسون التنظير والتحليل الجمالي لما ينساب من بين أصابعهم كالماء، في حركية تتجاوزهم أو هم لا يتعقبون آثارها.

يقرأ الواحد منا ما يصدر من كتابات عن الفن العربي الحديث والمعاصر، فلا يجد فيها ما يروي ظمأه من التحليل النقدي النظري. ذاتيات منفلتة من عقالها، تحابي أو تحاكم، ترفع من شأن من لا شأن له، أو تحطم إبداع من يبدو غريبًا عن منطقها … يغيب الهم النظري التحليلي والتاريخي في الغالب لصالح هوى الوقت ومصطلحات متنافرة وفقيرة لا تفي بالغرض (تجهيز، تنصيب، منشأة، أداء، منجزة …). والحقيقة أن المعارض والتظاهرات الفنية تشكِّل المناسبة التي تجعل من هذه الكتابات متابعات، قد نعثر فيها على رؤًى عامة أو تحليل ظرفي غير أنها تفتقر إلى الرؤية البعيدة المدى ذات الأفق التركيبي. وإذا كان ما يُكتَب ويصدر هنا وهناك مادة دسمة لبناء جماليات للفن العربي؛ فإنه يحتاج إلى ذوات باحثة لها من التجربة والقدرة التحليلية ما يجعلها بدراساتها تؤسس لهذا المبحث الغائب أو الخائب في ثقافتنا العربية المعاصرة.

مع ذلك تحضرني هنا تجربة رائدة في هذا المضمار لا يمكن التغاضي عنها، وتصلح لتكون نبراسًا لهذه الورش المفتوحة منذ مدة أمام البحث الجمالي. يتعلق الأمر بالجمعية التونسية للإنشائيات والجماليات التي يرأسها أحد الأصوات النظرية والفلسفية والنقدية الأكثر عمقًا في ثقافتنا البصرية منذ ما ينيف على العقدين من الزمن. ومن خلال ما يقرب من ٢٠ مؤتمرًا والكثير من المنشورات في موضوعات متعددة وإشكالية وراهنة، دأبت الجمعية على بناء تصورات لمجمل القضايا التي تتجاوز اللحظي، وتصبُّ في الراهن والنظري. كما أن كتابات رئيستها، رشيدة التريكي، باللغة الفرنسية، وبالرغم من أنه لم يترجم منها الكثير فإنها تبين عن قدرة جمالية ونظرية فائقة على معانقة القضايا المتعلقة بتكون وتبلور العمل الفني وتلك المتعلقة بتشكيلته الداخلية وتلقيه.

والحقيقة أن هذا العمل الدءوب، بالرغم من نسقيته الفائقة، كان سيثمر أكثر لو تم تعميم التجربة على مستوى العالم العربي. بالمقابل، فإن «تجربة» جائزة البحث التشكيلي النقدي الذي تشرف عليه دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، بالرغم من ريادتها في هذا المضمار، فإنها لم تثمر ما كان مرجوًّا منها، بالنظر إلى اضطراب الموضوعات المقترحة، وعدم نشر الإعلان على المستوى العربي، وهزالة المكافأة، وانعدام طابعها التحفيزي وأخيرًا نظرًا لضحالة المستوى التقني للمنشورات الفائزة.

مرة أخرى، قد يقول قائل: وما جدوى بناء هذه الجماليات المفترضة؟

إن ما يعيشه الفن العربي المعاصر من تحولات تبدو متنافرة ليعكس مفارقة كبرى لا تعيشها الرواية أو الشعر على سبيل المقال. فضعف القدرات البصرية لدى المتلقي العربي أعمق بكثيرٍ من قدرته على تمثُّل جمالية الشعر والرواية. ناهيك عن أن الجماليات تشمل الإبداع بكامله، لغويًّا وبصريًّا. من ثَم فمصير جماليات بصرية ممكنة في العالم العربي وللفنون البصرية العربية تتطلب منا الكثير من التكوين المتخصص والتحفيز المثمر، والكثير الأكثر من صفاء البصر وعمق البصيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤