أعمال فنية تنتهي في القمامة

من بضع سنوات خَلَتْ أهداني فنان تشكيلي صديق معروف قنينة، ألصق على يافطتها ورقة بيضاء كتب فيها باللغة الإفرنجية: «فلان صباغ مبانٍ». كان ذلك العمل الفني طبعًا لعبًا على الالتباس بين الصباغ والفنان من جهة، وتعميقًا لتجاوز العديد من الفنانين لمفهوم اللوحة كأفقٍ للفن. كما كان من ناحية أخرى يحيل في ذهني وذاكرتي على قنينة كان محمد القاسمي قد وضع على يافطتها رسمًا رائعًا من إنتاجه، توجد في المجموعة الفنية لأحد أصدقائه.

أن يعلن الفنان التشكيلي (artiste peintre = فنان صباغ) أنه يتخلى عن كلمة فنان كي يكتفي بكلمة صباغ، التي تجعله مفهوميًّا متشاركًا مع العمل الصباغي في الحرفة، هذا ما يجعل الفنان صديقي هذا يتخلى حتى عن اسمه وتوقيعه، ويرفض المجاز بشكلٍ ساخرٍ، ليجعل من المعنى الحرفي الذي يربطه بالحرَفي الصباغ موْطن اللعبة الدلالة والفنية. إنه بذلك يختار أن يعلن عن هذا التخلي المجازي بدوره على مساحة إعلانية لصيقة بقنينة خمر فارغة، يتم «إعادة تدويرها» واستغلال مساحتها.

كل عمل فني غريب يحمل مصيره ذاك في صلب وجوده. كنت قد وضعت القنينة الفنيَّة قرب مدفأة الصالون، أتملى فيها مرة مرة. وفي أحد الأيام، وبعد عودتي من سفر طويل، بحثت عن القنينة فلم أعثر لها على أثرٍ. أدركت أن عاملة النظافة الجديدة قد اعتبرتها مجرد قنينة خمر فارغة فرمتها في القمامة مع الفضلات والقنينات الأخرى الفارغة … ولحد اليوم لم أستطع أن أبوح لفناننا بهذا المصير المؤسف لهديته الفنية.

استحضرت هذه النازلة وأنا أقرأ في الصحافة خبرًا مماثلًا وقع في الأيام الأخيرة. فقد تعرَّض عملان فنيَّان معاصران لفنانتيْن إيطاليتين هما Goldschmied وChiari لعملية شطب و«تنظيف» قلَّ نظيرها في تاريخ الفن. كان العمل الفني المعروض في متحف باري بإيطاليا عبارة عن منشأة فنية بعنوان «أين سنروح للرقص هذه الأمسية؟» وفي اليوم الموالي للافتتاح، حين دخلت مستخدمات النظافة للمتحف وجدت إحداهن نفسها أمام قاعة مليئة بمخلفات سهرة ساخنة: قنينات فارغة، بقايا أكلات، كئوس فارغة، علب مبقورة … كل ما ينبئ بأن شبابًا قضوا ليلة ساهرة هنا ورحلوا من غير تنظيف المكان. فما كان عليها إلا أن تجمع كل شيء في أكياس وترمي به في القمامة … وحين تم استجوابها فيما بعد أعلنت العاملة أنها لم تشك أبدًا أن ما رمته كان عبارة عن رميم عمل فني موجه للجمهور.

من حسن حظ الفنانتيْن أن منشأتهما الفنية قد تركت أثرًا، أي أنها قد صُورت، وليس عليهما إلا أن تعيدا تصور الحال، والقيام بمنشأة مماثلة تكون مبنية على حدثٍ قد يزيد من قيمة الأولى البائدة، والثانية التي ستبيد بعد انتهاء المعرض. أما حظي التعيس أنا، فهو أني لا أملك لحد اليوم صورة عن العمل الفني الذي رمته الخادمة إلا في ذهني.

يثير هذا الحادث كل الأسئلة الدلالية المتصلة بهوية الفن المعاصر، الذي صار يشكِّل جزءًا لا يتجزأ من اليومي والعادي والمبتذل … قصْديًّا وعنوة، ونكايةً في الجميل والسامي. حين تحدَّث أحد النقاد المشهورين عن الطابع الغازي للفن المعاصر (هلاميته وضبابيته وتبخره وزواله) لم يدر بخَلده أن أهم سمة في هذا الطابع المتبخِّر والبخاري هو أنه يتسلل إلى الهواء الذي يتنفسه المتفرج، بحيث يعيش هذا الأخير الفن باعتباره كيانًا عاديًّا من ضمن الكيانات المحيطة … الفن المعاصر فن ملتبس، لا يقطع مع ما ليس فنًّا، بل يستلهم الأشياء اليومية، ويمنحها وضعية جديدة ومعنًى جديدًا أيضًا.

قد يقول قائل، ولكن قواعد العمل الفني كانت فيما مضى انزياحه عن اليومي، فلماذا هذا الانقلاب؟

هذا الانقلاب له جذور تاريخية تعود — أصلًا — إلى أعمال مارسيل دوشان الذي دشن في مطلع القرن الماضي السيرورة الجديدة للفن باعتباره شيئًا من ضمن أشياء المرئي واليومي، والمبتذل. وقد كان تاريخ الفن بحاجة إلى عقودٍ طويلة كي يستطيع في الأخير أن يدرك الطابع الاستباقي لهذا الفنان الذي ثقب أفق التاريخ قبل الأوان. والحقيقة أن أعمال دوشان نفسها تعرضت للإتلاف وكأنها بذلك تدشن تلك العلاقة الحميمة والوجودية باليومي والعرضي والزائل لما يتجاوز القرن من الزمن. لقد بنى دوشان مفهومًا جديدًا للفن في مطالع القرن الماضي، غير أن غرابته لم تتلطَّف إلا مع بداية الستينيات، ولم تتركز إلا مع بداية التسعينيات.

إنها سابقة من ضمن سوابق أخرى، من الطريف هنا استعراضها. ففي معرض البندقية لسنة ١٩٧٨م، قام صباغ بنايات بصبغ باب اعتبره بابًا عاديًّا، والحال أنه كان أحد الأعمال المشهورة لمارسيل دوشان، وهكذا كان دوشان أول ضحية لمفهومه للفن … وفي سنة ٢٠١١م، في دورتموند بألمانيا، قامت عاملة نظافة بتدمير عمل للفنان الألماني مارتان كيبينبرغر Martin Kippenberger، حين اعتقدت أن مغطس الحمام مغطس عادي فنظفته ونزعت منه ما كان يُعتبر تدخلًا فنيًّا فيه.
الالتباس الذي تحدثت عنه في البداية بصدد العمل الفني الضائع المتعلق باللعب على المعنيين اللذين تحملهما كلمة painter/peintre، يكمل دورة المعنى هنا حين يقوم الصباغ بصبغ عمل فني قام به فنان تشكيلي … أليس هذا الانقلاب (انقلاب الصباغ على الفنان الصباغ) بالضبط هو ما يقوله العمل الفني الذي ضاع مني؟ هذا الالتباس المقصود من قِبل الفنان، والذي يدخل في لعبة الفن المعاصر، ينتِج — لسوء الحظ — تلبيسًا (بلغة ابن القيِّم) إبليسيًّا يُجهز على العمل الفني، لأن الفن المعاصر يسعى إلى لبْس لَبوس العادي واليومي والمبتذل، ولأنه يسعى إلى إعادة خلق الحياة وفق منطق مغشوش تتماهى فيه صورة العمل الفني مع صورة الحياة واليومي.

هل هذا يعني أن على كل العاملين في متاحف الفن المعاصر عبر العالم أن يخضعوا لتدريبٍ على التعرف على المنشآت والمنجزات الفنية المبنية على مكونات متنافرة جسدية وشيئية … حتى يدركوا أن اللوحة ليست هي السند الوحيد للفن؟

أم أن الأمر حين يقع هكذا، فهو درس لنا، ينبِّهنا إلى أن مسير الفن المعاصر سائر إلى مشارف قد لا نتعرف فيها على الفن؛ إذ هو يفقد هوياته الواحدة تلو الأخرى، وقد لا نتعرَّف فيها على هويتنا، نحن العاشقين له؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤