لؤي كيالي فنان عاش مرتين ومات مرتين

ثمة طبائع تجعل الفنان، ومعه الفيلسوف، رجلًا خارج المألوف، لا بهيئته وسمْته فقط، ولكن أيضًا وخصوصًا بطويَّته النافرة القلِقة، كما بصمته أو هذره، وبأرقه ومصاحبته لليل، وبموته المأساوي أو المبكر. تحضرنا هنا في الحديث عن هذه المصائر المتكسرة الحياة المرتجة للؤي كيالي، والمسير المليء بالجنون والتشرد للجيلالي الغرباوي، والمصير الأكثر مأساوية لمحمد الدريسي كما المصير المتوحد لعزيز أبو علي … لؤي كيالي وُجِد ميتًا في غرفته حرقًا؛ والغرباوي وُجِد ميتًا في مقعدٍ عمومي بالشان دو مارس بباريس؛ ومحمد الدريسي سقط صريعًا في محطة مترو بباريس وهو يتوجه لمكان إقامته بمدينة الفنون، فيما عُثِر على جثة عزيز أبو علي (وهو بالمناسبة من أهم الحفريين العرب، اشتغل مع تابييس وميرو وغيرهما من المشاهير) متعفنة بشقته بالبويرتا ديل صول بمدريد … كلهم لم ينعموا بخمسينيات أو ستينيات عمرهم، وكلهم تركوا لنا أعمالًا نابعة من عروقهم وناضحة بدمهم.

في تلك الليلة من سبتمبر (أيلول) ١٩٧٨م، أخذ النوم لؤي كيالي في وحدته المعتادة، لم تكن بين أحضانه رفيقة حياة كي تنزع السيجارة الملتهبة من بيد أصابعه، ولا لكي تهدئ من روع بواطنه الفوارة. انتشرت النار في جسده الملتهب سلفًا بحرقة الأسئلة الوجودية وبالكآبة القاتلة. في المستشفى لم يمهله الموت أكثر من ثلاثة أشهر. ولأن عائلته كانت دومًا وراء اتهامه بالجنون، ومن ثَم وراء إدخاله مستشفيات الأمراض العقلية والعصبية، فقد سرت الإشاعة أن الفنان المتقلب المزاج «والغريب الأطوار» قد انتحر، والحال أنه أكد لأصدقائه القلة المقربين أنه لم يقدم أبدًا على الانتحار.

ربما كانت في لاوعيه تلك الرغبة، التي عششت في بواطنه من غير أن يكون قادرًا على اقتلاعها. بيد أن هذا الفنان الاستثنائي ظلَّ يحمل في جوارحه طعم الطهارة، مثله في ذلك مثل محمد شكري. فالمفارقة هو أن الفنانين والكُتَّاب الأكثر انغماسًا في عوالم الليل هم الأكثر توقًا لنقاء الجسد. أتذكر يومًا أني سألت صديقي الراحل محمد شكري (بعد دراسة مطولة لقصصه وروايته): لماذا يعتقد أغلب الدارسين أنك ماجن، والحال أنك أكثر الكُتَّاب طهرانية؟ فأجابني باقتضابٍ وببسمته المعهودة: لأنهم لا ينتبهون لمفارقات الكتابة لديَّ.

يحكي المقربون من الحياة العصيبة للؤي كيالي أنه عاش تلك المفارقة على طريقته. كان الرجل لا يؤمن بالحياة الزوجية ولا بمعاشرة المرأة، وكأنه يحمل في داخله كيانًا أندروجينيًّا، أو كأنه يعيش الأسطورة الآدمية قبل ظهور حواء للوجود. غير أنه كان يعشق مغنية شعبية غير معروفة. يحمل حبها في صمتٍ، حتى إنه لم يرسمها أبدًا، هو المهووس برسم المرأة في كامل أوضاعها الاجتماعية، من غير أن يعريها أو يوحي بفتنتها، المرأة لم تكن تهمه إلا باعتبارها كيانًا يعيِّن المأساة الاجتماعية.

لؤي كيالي من مواليد حلب سنة ١٩٣٤م. بعد دراسة الحقوق والتوظيف في المعتمدية العسكرية أوفدته وزارة المعارف السورية إلى إيطاليا سنة ١٩٥٦م لدراسة الفن في أكاديمية الفنون الجميلة بروما. كانت هذه الأكاديمية ومدرسة الفنون الجميلة بباريس قِبلة الفنانين العرب في تلك المرحلة. وأعتقد — جازمًا — أن الفنان التقى هناك، في منتهى مقامه بروما، شبيهه المغربي في المصير والمزاج الجيلالي الغرباوي، الذي عاد بدوره للمغرب إثر إصاباته المتكررة بأزمات نفسية سوف تدفعه مرتين إلى محاولة الانتحار.

لم تكن الجوائز التي حاز عليها الفنان لتهدئ — إلا مؤقتًا — من نوبات اكتئابه. فنفسيته الحسَّاسة والهشة كانت تقوده دومًا إلى الانزواء في مغارته الداخلية. تلك الحساسية هي التي جعلته يكرس لوحاته للبسطاء، وكأنه يرى في هشاشتهم مصيره الداخلي. لوحاته تنضح بالحزن والمأساوية وملامح شخصياته متشبعة بالكآبة. في إحدى لوحاته، نرى جمعًا من النساء المتحلقات بجلابيبهن الكامدة الألوان، وعيونهن المحدقة إلى الأعلى أو يمينًا ويسارًا. وفي الجانب ثمة امرأة واحدة تمسك بصبي يحدقان فينا وكأنهما يستثيران حضورنا. إنها لوحة الرعب والموت. الموت حاضر في أغلب لوحات الفنان، تكاد رائحته تزكم منا الأنوف.

كثيرة هي اللوحات التي تحمل فيها المرأة رضيعًا أو جثمان صبي. والحقيقة أن لؤي كيالي يبدو وكأنه يحكي لنا عن نفسه حتى وهو يوارب ذلك. صورة الأم وصورة الصبيان تحيلنا إلى تلك الرغبة الدفينة لديه في العودة إلى الرحم الأمومي. إنها تعبِّر عن ذلك الطفل الذي يرفض أن يكبر، وأن يصير رجلًا، ويعاود لعبة الحياة التي جاءت به إلى الوجود.

من أين أتت كل هذه القوة التي تحملها أعمال الفنان؟ لا مراء في أن لؤي كيالي كان يستمد طاقته الجبارة من جسده وعقله الواهن، ولا شك في أنه كان يمارس الرسم والتشكيل بجسده وعروقه، حدَّ الإنهاك، بقلقٍ، وبهيجان أحيانًا. فلقد كان الرجل فنان قضية أيضًا. ألم يمزق كامل لوحاته ورسومه التي عرضها قبل حرب ١٩٦٧م؟ كان وقع الهزيمة كبيرًا عليه، فقد سقطت تماثيل الرمال والأوهام القومية مع مهب الريح. وهو ما جعل الحالة النفسية للفنان تضطرب أكثر فأكثر. مرة أخرى تحضر المقارنة مع الجيلالي الغرباوي الذي قام في الفترة نفسها بتمزيق العديد من لوحاته الزيتية لأسبابٍ أخرى تتعلق بالهجوم الذي شنَّه عليه النقاد والصحفيون.

ما يقرب من أربعين سنة مرَّت على رحيل هذا الفنان المغترب في ذاته وفي وطنه. وتظل بصمة هذا الفنان واضحة في أعمال الفنانين الذي جاءوا بعده، سواء في أسلبة الجسد، أو في التفجير التعبيري للملامح والهيئة. وهو يبدو لي اليوم، مع هذا الفارق الزمني، فنانًا مليئًا بالحكايات الخفية، ومنبعًا لا ينضب لدراسة حيوات الفنانين. ثمة من الفنانين العرب الحديثين من لا تجد في حياته حكاية، ولا أسرارًا ولا ألغازًا.

لقد ترك لنا لؤي كيالي حياة غنية بالمفارقات وبالحس المأساوي. وترك لنا بالموازاة رصيدًا فنيًّا يبيِّن عن ذاتٍ تتجاوز أحلامها صغر العالم. إنه فنان عاش مرتين، ومات مرتين: عاش مرة في ذاكرة محبِّيه وفي ذاكرة الفن العربي، ومات مرتين في حياته، وفي حياة من يتجاهلون ثراء وجوده وفنِّه. ولو لم يكن أغلب سينمائيينا يصوغون الحكايات المرتقبة النهاية لوجَّهوا بعضًا من خيالهم نحو هذه الحيوات التي تترك بصماتها واضحة في التاريخ الخفي للفن التشكيلي العربي. كم من شريط سينمائي وتسجيلي خُصِّص لفان غوخ وفرانسيس بيكون وغيرهما من ذوي الحيوات الاستثنائية؟ فيما تظل حيوات فنانينا الأكثر أصالة مجهولة البيان.

إن الذاكرة القصيرة وفقر دم الخيال الفني العربي يجعل من الغرباوي ولؤي كيالي شخصيات لا تزال تشتغل مساراتها ومصائرها في صلب التاريخ الفعلي للفن العربي الحديث والمعاصر، وما علينا إلا أن ننبش قليلًا كي نستعيدها في طراوتها الآسرة، وفي مأساويتها النبوئية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤