بوجمعة لخضر: عوالم تستكْنه المجهول

لم يكن يعرفه أحد. أو لنقل، لم يكن يعرفه البعض إلا باعتباره أحد الإثنوغرافيين المهووسين بدراسة الفنون الشعبية، وباعتباره أيضًا المدير المميَّز للمتحف الإثنوغرافي بمدينة الصويرة. بوجمعة لَخْضر صار اسمه لصيقًا بهذه المدينة. مدينة الصويرة، ذات المعمار البرتغالي، والتي عُرِفت في أواخر الستينيات والسبعينيات كمحطة للحركة الهيبية. فقد زارها نجوم الروك كجيمي هندريكس وكات ستيفنس، كما أن «الليفن ثياتر» (الذي كان بإشراف جوليان بيك Julian Beck وجوديث مالينا Judith Malina) كان قد استقر في إحدى الدور هناك لفترة من الوقت. فيما بعد ستصبح المدينة معروفة بكونها مدينة الموسيقى الكناوية ذات الأصول الأفريقية الجنوبية، وبموسمها السنوي الذي تتمازج فيه موسيقى الجاز والبلوز وغيرها بالإيقاعات الكناوية المادحة للأولياء والأنبياء والمحاورة للجن والعفاريت.

في هذا السياق اشتغل بوجمعة لخضر على المتخيَّل الشعبي والممارسات العقدية والسحرية والتمثلات المتصلة بالجن والكائنات الخيالية. وفي هذا السياق أيضًا كان يمارس التشكيل بصمتٍ، لا يعرف ذلك إلا بعض المقربين منه؛ بحيث يمكن القول إن هذا الفنان كان مجهول الفن المغربي، الذي كان حينها يحتفي بأناس ينتحلون من هنا وهناك بعض المعطيات (كالجذبة الصوفية والفن الجسدي على سبيل المثال) التي ينظِّر لها خطأً واستيهامًا (لسوء الحظ) بعض كبار النقاد العالميين كبيير ريستاني وغيره.

لم يُتَح لنا أن نتعرف على هذا الفنان إلا بمناسبتين متواليتيْن: اختياره للمشاركة في معرض عالمي بباريس سنة ١٩٨٩م، ووفاته في السنة نفسها. في تلك السنة الفاصلة في التاريخ العالمي (سقوط حائط برلين) قام «جان هوبير مارتان»، مدير مركز جورج بومبيدو بباريس، والقيِّم المعروف على العديد من التظاهرات الفنية العالمية، بزيارة للمغرب للبحث عن الفنان الذي يمكنه أن يشارك في إحدى التظاهرات العالمية المشهورة: «سحرة الأرض»، التي جاءت لعرض الفنانين الأكثر أصالة وفرادة في أفريقيا وآسيا وأمريكا وأوروبا … ولحسن حظ بوجمعة لخضر أن الاختيار وقع عليه في الوقت الذي كان فيه الكثيرون يتكهنون بأن يحظى الفنان المبدع المعروف فريد بلكاهية بالانتماء لهذا المعرض الذي تم الاحتفاء في السنة الماضية بمضيِّ ربع قرن عليه.

بوجمعة لخضر، كما يحكي عنه أصدقاؤه المقرَّبون شخصية بسيطة، تعايش الناس في يوميِّهم. كان شبيهًا إلى حدٍّ كبير بفنان آخر من مواليد الصويرة مثله، هو الحسين الميلودي، الفرق بينهما هو أن الأول فنان صموت منطوٍ على نفسه، ومن المتخرجين الأوائل من مدرسة الدار البيضاء للفنون الجميلة الشهيرة، التي كان يديرها بلكاهية، فيما أن الثاني فنان عصامي جاء إلى الفن محمولًا على جناحين من ريش النعام.

باحثًا كان وباحثًا ظلَّ وباحثًا عانق الحياة وغادرها مبكرًا. فهذا الفنان المفعم بالحيوية، ونظرًا لطبيعة تكوينه الأكاديمي، وبالعلاقة مع نزوعه الفني الذي يخترق الحدود والآفاق، ظل يمارس الفن التشكيلي ﮐ «بدائي» في السلوك وكمثقفٍ في الرؤية. وهذه المقاربة المزدوجة هي التي تحسَّسها بشكلٍ واضحٍ جان هوبير مارتان، وانتبه إلى خاصيتها الإبداعية المنزاحة عن مفهومية الفن الغربي الجافة والفارغة أحيانًا كثيرة، كما عن الفن النمطي المنمَّق الذي كان يمارسه الكثير من الفنانين العرب حينها. كان لخضر يعيش إيقاعين: إيقاع الذاكرة الشعبية، برموزها وعلاماتها وأسرارها ومساربها الظاهرة والباطنة، وإيقاع العلم المعرفي الذي يتقصى تلك الذاكرة بشكلٍ عميقٍ. من ثَم فهو كباحثٍ كان يعيش تجربة البحث في الثقافة الشعبية باعتبارها تجربة حياة والعكس بالعكس.

إن هذا الازدواج لم يكن أبدًا ضربًا من السكيزوفرينيا المتفشية في المثقف العربي منذ عصر النهضة؛ إنه بالأحرى، وعلى غرار ما يقول الخطيبي، اندماج مزدوج. لم يكن فناننا يهتم بالنقد بقدر ما كان يهتم بالحوار والاستكشاف والغور في قلب ثقافة تقوده نحو مكامن انبثاقها، وهو من ثَم كان أقرب إلى الإثنولوجيا منه إلى الفكر الفلسفي.

بوجمعة لخضر لا يندرج في أي أقنوم من أقانيم التشكيل التي نعرفها، هو لا يهتم بطبيعة اللوحة من حيث هي كذلك، إنها فقط نافذة تقوم التجربة «التشكيلية» بفتحها على مجاهيل الوجود. ما يهتم به هذا الرجل هو تحويل المعارف اليدوية والتصورات الخيالية إلى صور مبنية ومرئية. ومن ثَم كانت أعماله الفنية عبارة عن كراسٍ ومرايا ومدفآت ولوحات أيضًا. وما زال بيته لحد الآن يزخر بالمكونات التي تجعله بيتًا فنيًّا، وحافظة لذاكرة هذا الفنان الذي غادرنا وهو لا يتجاوز الخمسين سنة.

الغريب في الأمر، أنه لم يترك لنا بحوثًا كثيرة مكتوبة ومطبوعة أو مرقونة، ولم يدخل ربرتوار الباحثين الاجتماعيين. كانت نتائج أبحاثه تجد طريقها إلى نفسه، وتتشكَّل في ذاته وتفْعمها بالأسئلة الحارقة. إنها معضلة الكثير من الباحثين الذين يكتوون بعدوى موضوعات أبحاثهم: هنري كوربان والإسلام الشيعي، لوروا غورهان والعرفان … إلخ. الأمر أشبه بما يحدث للطبيب النفسي حين يقع في حب مريضته! والذي يضطر للتخلي إما عن الحبيبة وإما عن الطب!

بيت بوجمعة لخضر أشبه بالمتحف الفني حين تزوره، فالحديقة كما الداخل كما الشكل الخارجي ينبئ عن استراتيجية معمارية تطاول معمارية العمل الفني نفسه. لقد أدرك هذا الفنان أمرًا هامًّا في الجوهر الاجتماعي للفن في العالم العربي: ليس ثمة من فواصل بين الثقافة الشعبية والفكر العالم المثقف، كما ليس ثمة فوارق وهوَّات بين الأشكال التقليدية التليدية للفن والسحر والعلامات والرموز وبين الفن المعاصر: فالفن المعاصر «الما بعد حداثي» أقرب إلى تلك الثقافة من العقلانية المعتدة بعقلها ونظرتها الاستمرارية «الأطوروتية» للتاريخ. التاريخ كما الفن، أشبه بتلك المسالك الغابوية التي لا يعرف أحدٌ إلى أين تفضي، والتي جعلها هايدغر شعار فكره.

هكذا كانت أعمال بوجمعة لخضر عبارة عن مزيج من النسيج والنحاس المزخرف والأدوات الاستعمالية والمواد الطبيعية، لا يفرق فيها بين الطبيعي والثقافي، ولا بين الحرفي المهني الشعبي والتدخل العالِم المثقَّفي للفنان … عالمه غريب عجيب، تعيش فيه نسور وطيور خرافية، وتركيبات هجينة قريبة من العلامات السحرية، ورءوس وأجسام تتآلف رغم تنافرها.

إن عوالم بوجمعة لخضر يحملها اسمه بشكلٍ قَدَري: إنه الجامع المرتِّب للتآلف بين المختلف المتنافر، والخضِر المفسِّر المؤوِّل للممتنع من الكلام والرموز، أليس هذا هو — بشكلٍ ما — جوهر «المعاصرة» في الفن؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤