سيروان باران: ساحر العوالم الغريبة

هو من بين الفنانين القلائل الذين اختطوا لأنفسهم مسارب عصيَّة على المعنى. فسيروان باران، هذا الفنان الكردي العراقي المقيم في تخوم الفن، ينزاح عن التوجهات الخصوصية التي ارتبطت بالفن العربي ليمنح لمسلكه الفني طابع المغامرة. إنها مغامرة تقيم فيما بين الذاتي الشخصي والوجودي العمومي، وبين السياسي والاجتماعي. لهذا يبدو وكأن هذا الفنان الشاب قد عرف طريقه إلى الفن منذ الوهلة الأولى، غامسًا بنفسه في مدارات قلَّ من الفنانين من يطرق أبوابها. أعني استكشاف العالم من خلال جوانبه البشعة لكن بنظرة طفولية تمنح البشاعة فتنة آسرة.

وهو أيضًا من بين الفنانين العرب الشباب الأكثر بروزًا وتميزًا. لا لأنه كان متفوقًا في الدراسة، ويحصد الجائزة تلو الأخرى، فقط، ولكن أيضًا وأساسًا لأنه سار حثيثًا نحو «أسلوبه» الشخصي، منغرسًا في تربة الفن العراقي والعربي، يتقفى آثار كبار فنانيه، وفي الآن نفسه، منفتحًا على ما يلائم مزاجه من الفن الحديث والمعاصر العالمي، وخاصة ذلك التيار التعبيري الذي يعبِّر عن نظرة موسومة بالمأساوية والباطنية واستغْوار آلام الذات.

حين التقيته خلال معرضه سنة ٢٠١٣م بمراكش، وجدت نفسي أمام طفل كبير مسكون بحسٍّ مأساوي مركَّب؛ بحيث يتساءل للتوِّ كلُّ من يتعرَّف عليه لأول مرة كيف يخرج هذا العالم من مخيلة هذا الشاب الوديع المقبل على الحياة. لكن عنف العوالم الفنية ينبع من البواطن، ولا علاقة جليَّة له بالمظهر الذي نتخذه في حياتنا.

حين وجد سيروان باران نفسه في قلب التقليد التعبيري، من مونش إلى بايكون، صار من الفنانين العرب القلائل (مروان، الإدريسي، سبهان آدم …) الذين جعلوا من جماليات الفن أقرب الطرق إلى الكشف عن البشاعة الظاهرة والخفية للعالم. البشاعة هنا ليست مرمى في ذاتها، بقدر ما هي، أولًا وقبل كل شيء، تقنية تشويه للمظهر لإبراز ممكنات المعنى الباطن. لهذا ليس من الغريب أن يكون الوجه أول فضاء تعبيري عن تعددية معنى الوجود والعالم والحياة؛ فالوجه، كما هو معروف، موطن الحواس ومركز الهوية المرئية للكائن، الوجه سبيل الكائنات للتواصل إلى درجة أنه صار يختزل — بشكلٍ مقدسٍ — طبيعة الإنسان. من ثَم، إذا كانت العديد من إبداعات الفنان تعمل على إعادة تشكيل الوجه والجسد، فهي بذلك تسعى إلى جعله موطن كل الثورات التعبيرية الممكنة، وكأن الوجه هو روح الجسد المعلن.

بين عنف التشكيل المشْهدي للجسم، والتلوينية المرِحة التي يصوغ بها الفنان موضوعاته وكائناته، تنبثق المفارقة الجمالية التي تعبِّر عن مقاصده الدفينة. فكلما كان عنف الصورة رهيبًا، وبشاعتها آسرة وتستعصي على القول أو الوصف، غلفت الصورةَ ألوان وتلاوين مرحة وطبيعية تضفي عليها طابعًا مقبولًا، بل جميلًا. وكأننا هنا بالفنان يدفع المعنى الأحادي إلى التراقص بين الشيء ونقيضه، موحِّدًا بينهما فيما يمكن أن نسميه معالجة ساخرة؛ إنها معالجة سابحة بين النقائض، ناسجة فيما بينها فضاء ممكنًا للإبداع.

السخرية بنت المفارقات، وهي أفضل طريق لقول البشاعة وحدود الممكن، والتعبير عنها لاستقصاء دلالاتها المأساوية. السخرية بنت للتعبير المأساوي المرِح، فهي التي تمكِّن من جعل الغريب مقبولًا والمشوَّه جميلًا … تغدو المقاربة الساخرة فاعلة وحركية حين يتعلق الأمر بالتعبير عن المصائر السياسية للوجود. وهو ما نلاحظه في اللوحات التي خصَّصها سيروان للجنرال ولنقد حالنا السياسي، كما في منحوتته «آخر الجنرالات» التي اشتغل عليها مؤخرًا. بيد أن هذه السخرية نمت في أعمال الفنان تدريجيًّا باعتبارها تعبيرًا عن مرارة المصائر التي يتعرض لها محيطه؛ هذا المحيط الذي عرف التشوهات القصوى والانتكاسات الكبرى.

فمنذ تجربة الهروب (٢٠٠٣م)، التي عبَّر فيها الفنان عن إحباطاته بخيول لا رءوس لها، حتى اليوم نراه يشتغل على موضوعات متواترة، منزاحة ومتراكبة في الآن نفسه. ويمكن اعتبار «قبْلة إلى كلب» أكثر أعماله إغراقًا في الكلبية (cynism) حيث يعود الفنان إلى الاشتغال على الحيواني باعتباره مدخلًا للتعبير عن الوجودي، وباعتبار المقاربة الساخرة مقاربة غوص في المعنى.

أسرَّ لي سيروان أنه يصوغ اللوحة بشكلٍ عفوي، تشتعل في داخله الرغبة في الإبداع، بعد أن يحس بالجوع، ينساق لحدة التصوير، وتتناسل اللوحة ومكوناتها، لتعانق الفكرة الثاوية في الذهن، ولكي تكمل الخريطة الشاسعة التي فيها تمرح الرغبة الفنية للمبدع. الأمر طبعًا ليس ضربًا من العفوية بقدر ما هو تحويل للعفوي إلى تدبير منتظم. بهذا الشكل تتواءم في داخل الفنان الرغبة الإبداعية مع محددات المقاصد وحرية التشكيل.

هذا التفاعل يغدو من الوضوح في المسعى التشكيلي للفنان بحيث يبدو مدهشًا. ما الذي يمنح لهذه (الأجساد) الهلامية جمالها الأخاذ، وهي تكاد تختلط بتراب الأرض واللوحة حتى تكاد تمَّحي، كما لو كانت مجرد كناية للجسد الجمالي وقد أعوزتها الاستعارة؟ لِمَ نُفتَن بهذه الغرابة التي تكاد تكون مخيفة (لأنها ليست من طراز الغرابة المرعبة التي يتحدث عنها فرويد)، والتي تمنحنا الطمأنينة وتصالحنا مع أنفسنا؟

يجعلنا سيروان أصدقاءً للغرابة، ومحبِّين للانزياح، يُدخلنا إلى عالمه مرة واحدة من غير تردُّد. تمنح الألوان والخلفية الموحدة الكثير من الطمأنينة لنظرنا كي يرتاد من غير خوفٍ أو جزع تلافيف اللوحة. ومن النظرة الأولى نقع تحت فتنة مضاعفة، هي فتنة المفارقة التي يبني عليها الفنان مسعاه الجمالي: فتنة التشكيلات اللونية وفتنة الكائنات الغريبة التي تكاد تنسلخ عن غرابتها، كما ينسلخ الوجه عن قناعٍ ليتآلف معنا.

عالمه يضجُّ بالحكايات، يبتكرها ويعيد صياغتها، يراكمها ويفكِّكها، يتلاعب بها ويشذِّرها. إنها حكايات طفولية مليئة بالأساطير الصاخبة، نتقفَّى آثارها في الهمْس أحيانًا، وفي حب الحيواني أحيانًا أخرى، كما في الضحك واللعب بالألوان وعشق تناسلاتها اللامتناهية. وكأنه بذلك يعلن لنا عن المدارات الداخلية التي يبلورها، ويسلكها بحثًا عن الجديد المتجدِّد.

يتابع سيروان باران مسيره هذا بالكثير من خفَّة الروح وثِقل النظرة، هو يعرف أن الفن المعاصر قد سار بعيدًا عن اللوحة، كما يعلم أن المواد صارت متجدِّدة باستمرار. غير أنه يعرف أيضًا أن مساحات التشكيل في اللوحة لا تزال بها بعض الفراغات التي تحتمل قول فظاظة العالم، وأن الفن يمكن أن يكون معاصرًا في الرؤية أيضًا، لا فقط في السند والمقاربة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤