اللوحة: الحدث، التاريخ

ثمة أحداث تصنع التاريخ، أو هي — على الأقل — تفتح له مسارب ومسارات جديدة. وفي مجال الفن تكون هذه الأحداث من المفاجأة، بحيث إنها تتركنا عرايا أمام أنفسنا، وأمام تاريخنا الفني. ففي إبريل ٢٠١٠م بيعت لوحة «الدراويش» للفنان المصري محمود سعيد (١٨٩٧-١٩٦٤م) عن طريق قاعة المزاد كريستيز العالمية بمبلغ ٢.٤٣٤ مليون دولار. وفي لحظة بيعها سُجِّلت كأغلى لوحة رسمها فنان من الشرق الأوسط في العصر الحديث، ورسمت هذه اللوحة في ١٩٣٥م.

في وقت صار فيه السوق يصنع تاريخ الفن ويعيد ابتكاره، سنعتبر أن هذا الحدث قد منح للفن العربي عيانية visibility عالمية كان بحاجة إليها، شبيهة — إلى حدٍّ كبير — بحيازة نجيب محفوظ جائزة نوبل سنة ١٩٨٨م، وحيازة الطاهر بن جلون جائزة الغونكور سنة ١٩٨٧م. لكن، لنأخذ الحدث من جانبه الآخر، ولننظر في طبيعة هذا التتويج باعتباره يخص فنانًا عربيًّا تشخيصيًّا، ينتمي لبلادٍ منكِرة للتشخيص والتجسيم والتشبيه، إن لم تكن محرِّمةً له، استطاع أن يدخل تاريخ الفن العالمي من بوابته الواسعة. ولمن لا يعلم ذلك، فلوحات الجسد المجرَّد (العاري) لمحمود سعيد، والتي توجد لحدِّ اليوم بمتحفه في الإسكندرية، تُعتبَر أحد كنوز الفن العربي الحديث، التي يمكن أن تضاهي — بشكلٍ أو بآخر — مثيلاتها في تاريخ الفن الغربي.

التجربة التشكيلية لمحمود سعيد تجرُّ معها أسماء أخرى بحاجة إلى هذه العيانية، كعبد الهادي الجزار والنحات محمود مختار (١٨٩١-١٩٣٤م)، ومعهم بالتأكيد ثلَّة من الفنانين الثوريين، صانعي الحداثة الفعلية، التي خرجت بالفن العربي من التشخيص إلى طلائع التجريد والتحولات التشكيلية، وخاصة مجموعة الفن والحرية مع رمسيس يونان، وكامل التلمساني وغيرهما.

وها إن الحدث الذي أشرنا إليه يشكِّل — بصورة ما — دافعًا إلى إعادة قراءة تاريخنا الفني الحديث وفقًا لمنظورٍ ينطلق من الآن إلى الجذور، لا تبعًا لتعاقبية تاريخية معينة ظلت مطبوعة — إلى حدٍّ كبير — بتحولات الفكر العربي واختياراته الأيديولوجية، وتفضيلاته الجمالية (غادامير). إن أهمية محمود سعيد لا تقاس هنا بالقيمة التي حصلت عليها تلك اللوحة في سلم القيمة التداولية العالمية، بل بما تسلطه على الفن العربي من أضواء مشعة، ستدفعنا — لا محالة — إلى إعادة النظر في أسئلتنا الجمالية والتاريخية. أي إلى إعادة ترتيب مواطن القوة، بالنظر، لا إلى سياق التجربة التاريخي، بل بالنظر إلى تلقِّينا الحالي. ألم تتنبأ مدرسة كونسطانس في ألمانيا، في نهاية القرن الماضي (ياوس وإيزر) بالتحولات الجديدة التي سوف يكون وراءها التلقي؟ ألم تقل — لأول مرة — بأن قيمة عمل فني ما يكمن في مجموع تلقياته التاريخية، ومن ثَم في أفقه التاريخي؟

لنذكِّر بحكاية أخرى، سابقة بكثيرٍ على بيع لوحة محمود سعيد، ومرَّت من غير أن ننتبه لما تقترحه علينا من آفاق جديدة لقراءة وتأويل تاريخ الفن العربي. ففي ١٩٨٩م، نظم جان هوبرت مارتان، القيِّم المعروف على المعارض، ومدير مركز جورج بومبيدو الشهير بباريس، معرضًا عالميًّا، كان له صيت كبير، بعنوان: «سحرة الأرض»، وكان مبدأ المعرض يرتكز على إبراز التجارب الأكثر أصالة وانزياحًا عن التجارب الغربية حينها. ومع أن الفنان المغربي المرشَّح — آنذاك — ليكون ممثلًا للعرب في هذا المضمار كان هو فريد بلكاهية، باعتبار عمله المميز على الجلد وبالمواد الصباغية الطبيعية، إلا أن القيِّم على المعرض اختار أعمال فنان مغمور، لم يكن يعرفه حينها غير بعض المقربين منه اسمه بوجمعة لخضر. كان الرجل يمتح عوالمه من الخرافات والسحر، وكان يمزج بين التقنيات، ويؤثِّث الفضاء، ويتجاوز من البداية عالم اللوحة بتقاليده، ليزج بتجربته في قلب المتخيَّل الشعبي للممارسة الفنية في الفضاء. كانت أعماله مزيجًا من الاستعمالي والديزاين والاشتغال على المواد الصلبة كالمعادن.

وتُوفي بوجمعة لخضر في نهاية السنة نفسها، في عزِّ عطائه الفني، ليترك لنا تجربة يمكن اعتبارها — في تلك المرحلة — إضافة غنية، لما يمكن أن نسميه بالمؤشرات الخصبة للفن العربي المعاصر.

إنها مؤشرات صيرورة الفن العربي معاصرًا وعالميًّا، بذاته وبغيره، لا بغيره فقط. أعني تفاعله المتعدد مع مفهوم اللوحة، التي لا تحيل إلا على اللوح وطابعه الغيبي اللاتصويري، ومحاولة مجاوزتها باتجاه ما يشكِّل غنى الذات: المواد المتاحة في اليومي، وفي الحرف، كما في الطبيعة والفضاء … إنها استعادة لمعاصرة موجودة في التاريخ، وسعي نحوها بوعي متجدد، كان محمد القاسمي، وشاكر حسن آل سعيد، ومنى حاطوم وفريد بلكاهية، وغيرهم، قد انتبهوا إليها منذ عقود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤