سؤال الحداثة أم سؤال المعاصرة في الفن العربي؟

في ندوة عن الفن المعاصر بمدينة أصيلة المغربية، سهرت على تنظيمها في صيف ٢٠١٤م، ظل سؤال الفن العربي المعاصر أشبه بالغائب. تحدث أغلب المشاركين عن كل شيء إلا عن معاصرة الفن أو حداثته، وكادت الندوة أن تكون مسبارًا لفقر الدم الجوهري الذي يعيشه «النقد» الفني والجمالي في بلداننا. وأنا أسوق هذا الحديث أكتشف أن ما كان يُكتَب في نهايات القرن الماضي عن الحركة التشكيلية العربية أهم كمًّا، وأعمق كيفًا. والراجح أن هذه الأهمية لا تتأتى فقط من جدية الحركة التشكيلية في تلك المرحلة، ولكن أيضًا — وأساسًا — من وضوح تجربتها ومنفتحاتها وآفاق تطورها.

ما الذي حدث ويحدث إذن؟ ما العدوى التي أصابتنا في وعينا البصري؟

في بداية تسعينيات القرن الماضي في فرنسا، وتحديدًا على صفحات مجلة Esprit الشهيرة، بدأ صراع نقدي عن هوية وطبيعة الفن المعاصر، ومواضيعه وممارساته. وكال النقاد المعروفون — آنذاك — كل أنواع التعنيف لما يُعرَف اليوم بالفن المعاصر، المعتمد على ممارسات تداولية وإنجازية وتداولية تتجاوز اللوحة. واستمر هذا الصراع إلى يومنا هذا، وأنتج العديد من المؤلفات التي صارت مشهورة من قبيل «سراب الفن المعاصر» والفن في حالته الغازية وغيرها … ومع ذلك لم ينفك هذا الفن يتبلور ويتطور ويدخل المتاحف ويتجدد وتتسع رقعته وتحولاته.

وفي الدخول الثقافي الماضي في الدوحة، اندلع صراع مهول حول منحوتة لفنان جزائري معاصر، كانت وضعت في الكورنيش. ومع أن المنحوتة تمثِّل ضربة زيدان المشهورة في كأس العالم، ومع أن قطر تحتضن دورة كأس العالم لكرة القدم المقبلة، فإن المنحوتة أعيدت إلى صندوقها الذي منه خرجت.

المثالان يبينان عن هموم متعارضة بين ما يمور به الغرب حول الفن المعاصر، وما يحاط به الفن — عمومًا — في العالم العربي. لسنا إذن في العالمين على الإيقاع الزمني والتاريخي نفسه، على الأقل فيما يخص الإنتاج والتلقي. بل إن هموم وقضايا الفن، وتلقيه في العالم العربي، بالرغم من ارتباطها بقضايا الفن المعاصر في جميع ربوع العالم، تجرُّنا إلى مساءلة جوانب وسمات خصوصية، وهي خصوصية لا بالنظر إلى موطنها الجغرافي، وإنما إلى منطق ما تنصاغ فيه كتجربة.

المثالان مدخلان — أيضًا — لنا لمقاربة طبيعة حداثتنا البصرية والفنية وطبيعة معاصرتنا. فالفن المعاصر بالغرب جاء وليد الثورة البصرية، التي بدأتها السينما ثم التليفزيون ثم الرقْميات. وهو تطور جاء تعبيرًا حثيثًا عمَّا سمَّاه مشيل فوكو في السبعينيات بعلاقة الكلمات بالأشياء أي الفكري بالمحسوس. والقطيعة التي يقيمها هي — بشكلٍ ما — قطيعة إبستمولوجية؛ لأن القطائع تولد الثورات والتحولات التاريخية، سواء في المجال السياسي أم الثقافي. من ثَم فإن صراع الحديث والمعاصر في الفن هو — أيضًا — صراع عصر الصورة مع عصر البصري بتداخلاته وتفاعلاته.

وإذا ما نحن انكفأنا لحظة على أنفسنا في هذا العالم الشتات، الذي نسميه عالمًا عربيًّا، وسعينا إلى فهم ما جرى وما يجري؛ فإننا سنجد أنفسنا — بشكلٍ أو بآخر — خارج القطائع التي تحدث، وفي الآن نفسه على هامش التحولات التي يعيشها الغرب في انتقاله من الصورة إلى البصري. هذا الهامش ليس قدرًا سلبيًّا، بقدر ما هو فضاء يعيش تحولاته الخاصة وفقًا لإيقاعات زمنية وتاريخية متخلخلة، ولا تخضع بالضرورة لمفهوم التعاقب.

ولا أدل على ذلك من أن مفهوم الحداثة، كما تبلور في الثقافة العربية في العقود الثلاثة الأخيرة، قد صار ليس فقط شعار مرحلة تاريخية، وإنما أشبه بالمفهوم المفتاح للدخول الفكري للعالمية. إنه مفهوم تجاوز التحقيب الزمني، وصار يشمل مصير الإنسان العربي في علاقته بمفهوم الحضارة، وما تعنيه من ديمقراطية وحقوق أساسية … بل لا أدل على ذلك من أن مفهوم الفن في العالم العربي لم يكن بحاجة لأن يُربط بصفة الحديث؛ لأنه أحد التعبيرات الأكثر قوة في هذه الحداثة في مفهومها الشاسع. إنها الحداثة التي ترعرعت في عصر يتمحور حول الصورة، وفي الآن نفسه لا يزال يتواصل بقوة الكلمة واللغة. بل إن الحداثة البصرية في العالم العربي لم تعد سوى ظل باهت للحداثة المتمحْورة على الفكر واللغة والتواصلات التقليدية، مما يجعلنا — بشكلٍ أو بآخر — مرتهنين بمفهوم حداثي ضيق للحداثة.

ونحن نعرج على هذه التشجيرات، التي تطرحها الحداثة والمعاصرة، لا بد أن نشير إلى أن فترة فورة الحداثة، بشعاراتها الفكرية والجمالية في العالم العربي، هي بالضبط فترة الخروج من الحداثة، وولوج ما سُمي في الغرب ﺑ «ما بعد الحداثة». من ثَم، فإيقاع الزمن التاريخي متداخل لدينا بقدر ما هو تعاقبي لدى الآخر. ومن ثَم كان اختلافنا — كما يقول هايدغر — تاريخيًّا غير تعاقبي historial، لا تاريخيًّا تعاقبيًّا historique. بل من ثَم كان تخلفنا التاريخي مصدر غنانا وعثراتنا الزمنية، بل مصدر تفاعلات غير نمطية وغير كونية من اللازم الانتباه لها.

ربما لهذا السبب لا يجد الناقد العربي في التجربة الفنية المعاصرة موطنًا يمسكها منه. إنه، برومانسيته المعهودة ومثاليته الموروثة، يحكم على الفن البصري الجديد بمنطق اللوحة، وعلى الفن عمومًا بمنطق حكمه على النص الأدبي. بل إن ما لا يستسيغه في الفن هو جانبه التجاري التداولي، فنراه يسعى جاهدًا إلى تخليصه من أدران السوق ومقاصد التملك … والحال أن الفن التشكيلي والبصري، عمومًا، والمعاصر منه على الأخص، بحاجة أكبر من اللوحة، إلى فضاء الحرية والتمويل وتسهيل التداول … بالرغم مما يمنحه له فضاء التواصل الرقمي من إمكانيات الترحال.

ونحن لم نكتب — بعدُ — تاريخ فننا الحديث، ولم نمسك — بعدُ — بمفاصله، ولم نستوعب — بعدُ — مسارات تطوره، وجدنا أنفسنا ندخل مجالات متسارعة من التطور صارت فيها المنشأة الفنية installation بتفاعلاتها الفضائية ومسرحتها للأشياء والمكان، والمنجزة الفنية performance بما تحمله من تحويل للجسد الشخصي وللآخر، تفرض تعاملات جديدة مع الفنون البصرية الأخرى ومع اللغة، بل تدعونا لإعادة النظر في تصورنا للفن. من ثَم، فإن المتابع للحركة التشكيلية العربية مدعو، لا إلى استيعاب هذه التحولات فقط وإنما بالأساس إلى معرفة نوعية اندراجها في فضائنا التاريخي. المنشأة والمنجزة أقرب إلينا — بصريًّا ووجوديًّا — من اللوحة. وفوضاها الإبداعية أقرب إلى فوضى الترتيب الشعبي للفضاء في مدننا العتيقة وقُرانا، كما إلى حركاتنا الإيمائية اليومية في التواصل. وهي — من ثَم — أقرب — سبيلًا — إلى معاصرتنا الممكنة، وأبعدها عن حداثتنا المعطوبة.

باختصارٍ، إن تحولات الفن المعاصر تدعونا أكثر إلى تثمين عتاقتنا ونقد حداثتنا، وإلى إعادة كتابة تاريخنا الفني، باعتباره تاريخًا ذا إيقاعات متداخلة ومتخالفة … أي تاريخًا اختلافيًّا بامتيازٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤