الفن ومجهول الوجود

ونحن نرتاد هذا المعرض أو ذاك، ونشاهد هذه اللوحة أو تلك، كثيرًا ما تلتقط مسامعنا ردود فعل متقززة من انعدام الجمال والتناسق في العمل الفني … وكأن الفن مطالب بتوليد الجميل، وكأن الجميل هو ما نعتقده كذلك، بناء على مجموعة من الأقانيم التي تتداولها ثقافتنا أو «تربَّينا» عليها منذ صغرنا، من المدرسة حتى الجامعة.

ما الذي يجعلنا نتصوَّر ما يصوِّره العمل الفني جميلًا؟ وما هي قواعد الجمال الفني؟

لقد أرست ثقافتنا البصرية الكلاسيكية في مجال الخط والزخرفة والمعمار الكثير من المحددات والقواعد الهندسية واللونية، التي ما زالت تشتغل في وعينا ولاوعينا البصري. والكثير الجم من الإبداعات الحديثة، خاصة التجريدية منها، لا تزال تتخذها مرجعية كاملة، فيما انزاحت عنها — بشكلٍ واضح — الإبداعات التشخيصية والتعبيرية، بجميع أشكالها. ولهذا صرنا نلفي الكثيرين من الفنانين يبنون تصوراتهم الفنية والتشكيلية على هذه القواعد، من غير الانفلات منها، بل من غير تأويلها وتحويرها بما يخدم نظرتنا الفنية المعاصرة، معتبرين أن هويتنا الجمالية تكمن في تراثنا البصري الكلاسيكي، ومن ثَم، في هذه الاستمرارية التي لا تشوبها قطيعة.

من ناحية أخرى، لا نزال مرتهنين بمقولات كانط في الذوق والجميل، وهو الذي بنى جمالياته الفلسفية على كل شيء إلا الفن. فجاءت أمثلته مستقاة من العصافير والطبيعة، ولم يُعرَف عنه ولعه بالفنون التشكيلية التي كانت مزدهرة في عصره. إن الجميل هنا يتصل بكل المبادئ الأخلاقية التي بنى عليها فلسفته. أليس هو القائل: «شيئان ما يفتآن يثيران البهجة في نفسي: السماء المرصعة بالنجوم فوقي، ونداء الواجب في داخلي!»؟

لا يزال تاريخ الفن كما يدرَّس، والصورة التي يتم تناقلها عنه، تجتر مفهوم الجمال، باعتباره مفهومًا واضحًا، لا تشوبه شائبة القبح. إنها ثنائية تجعل من الجميل قيمة مُعطاة سلفًا، وطابعها محدد مسبقًا، وميزاتها وخصائصها مقنَّنة قبلًا. ولهذا لا نزال نعيش على ما ورثناه من ثقافتنا الكلاسيكية التي بنت مفهومها للجمال على تهميش تطوراته.

لنذكِّر فقط أن مفهوم الحسن والجمال، الذي كانت تتداوله الثقافة العربية، بخصوص الجسد الأنثوي، على سبيل المثال لا الحصر، قد بدأ ببهْكنة طرفة بن العبد في الجاهلية، وهي المرأة السمينة؛ وأن هذا النموذج ظل ساريًا حتى العصر العباسي؛ إذ كانت الفتاة النحيفة تخضع للتسمين حتى يكتنز جسدها (وهي ممارسة لا تزال متداوَلة لحد الآن في بعض المناطق ذات الأصول البدوية). وبعدها صارت العرب تفضِّل من النساء إما المجدولة (أي ذات الخصر النحيف)، وتلك التي يحاكي قدُّها الأسل (عود الخيزران) … بيد أن الجاحظ، وهو أكثر مفكرينا انفتاحًا، قد صنَّف كتابًا سمَّاه «رسالة البرصان والعرجان والعميان والحولان»، وهي رسالة في مديح ما كان يُعتبَر قبحًا وعاهة.

وهكذا، بلور المتخيل الشعبي، من جانبه، تصورًا للبشاعة والقبح، يتمثَّل في مفهوم الغول (the monster). والغول هو نموذج الهجانة التي تجمع بين البشري والحيواني. ولهذا الغرض، ظل الجمال مرتبطًا بالنقاوة في التكوين. ولذلك نجد في كتاب الحيوان للجاحظ تفسيرًا للسبب الذي جعل العرب تكره الكلب؛ إذ يقول إن نصفه دابة ونصفه سبع، أي لا هو بالبهيمة، ولا هو بالحيوان المفترس.

وبالرغم من أن تاريخ الفن الغربي، مأهول بتصوير البشاعة والبشع، فإن مفهوم الفن لدينا ما زال يربط بين التصوير الفني والجمال ربطًا يرمي بالبشاعة خارج الفن، سواء في استعمال المواد والخامات، أو في تصوير كيانات وعوالم موسومة ببشاعة قد تصل حدَّ التقزز. وحين أصدر أمبرتو إيكو موسوعته عن الجمال في تاريخ الفن، حيث تابع تشكُّل الجمال من بدايته إلى وقتنا الحالي، لم يكن ذلك الجمال يتصل إلا بالكائن الإنساني، وبالأخص منه بالجمال الأنثوي. وفي «تاريخ البشاعة»، نلفيه يؤسس خلخلة لثنائية تليدة، تجعلنا، ونحن نقرأ التاريخ المدهش للبشع واللاعادي، نصرخ: «ما أجمل البشاعة».

حين يحاول الفن تجميل وجه العالم، ويقدمه لنا على طبق فاخر؛ يعتبر الاكتمال الجمالي ميزة أخلاقية ووجودية، فإنه يمارس علينا خدعة كبيرة، يدغدغ حواسنا، ويرسم لنا صورة مثالية، بل مستحيلة، عن كياننا البشري والاجتماعي. والرومانسية — بشكلها المبتذل — هي نتاج لهذه الرغبة في وضع المساحيق على هشاشة وجودنا. ووحدها الرومانسية الألمانية وضعت الإصبع على مفارقات وجودنا، وعلى طابعها المأساوي.

من ثَم، فالبشع ليس فقط هو لاوعينا المتوحش، أو لاوعي الطبيعة، إنه أيضًا أضمومة تلك المفارقات التي تتخلل وجودنا البشري، إن لم تخترقه كلية. ليست البشاعة قفًا للجمال ولا ظهرًا له، إنها الجمال نفسه حين يكشف عن طبقاته الباطنة، التي عليها تقوم الحياة في العالم. فنحن نسكن هذا العالم بجمالنا المركَّب، والشيطان الذي يُصوَّر بأبشع التصاوير، كان ملكًا جميلًا، إنه وُلد من صلب صورته الأولى.

لهذا صار القبح والبشاعة قيمة جمالية يترصدها الفن المعاصر، منذ مارسيل دوشان مرورًا بسلفادور دالي وأوتو ديكس Otto Dix وفرانسيس بيكون ولوسيان فرويد وجون روستين Jean Rustin وتريسي أرمين Tracey Armin وجويل بيتر ويتكين Joël Peter Witkin وداميان هورست Damien Hirst وغيرهم.

إن مقاربة بواطن الوجود ومظاهره الاجتماعية المأساوية تتطلب ابتكارًا لصور جديدة، صار الفن العربي المعاصر يسعى إلى استكناه مكنوناتها البصرية والتعبيرية، من مروان إلى سبهان آدم ومحمد الإدريسي وسيروان باران وأمينة رزقي وغيرهم. وبما أن الفنانين الشباب يركزون في مقاربتهم على قضايا اجتماعية أو سياسية تبعدهم عن مقاربات وجودية، فإن الترسبات، التي تراكمت في الوعي البصري العربي، تجعل من تجارب من قبيل هذه تجارب هامشية. بيد أننا صرنا نلاحظ لدى بعض الشباب من التشكيليين على طول الوطن العربي، نزوعًا نحو مغامرات تسير في اتجاه الكشف عن أحشاء الوجود العربي. وليس من قبيل المصادفة أن تتمحور أغلب هذه التجارب، إما على استعمال المواد المنبوذة لصياغة جمالية جديدة للتشكيل البصري للعمل الفني، أو على استغْوار الجسد لتعرية تشوهاته، واللعب على مكنوناته الصادمة.

إنها مغامرة تسير بالفن العربي المعاصر نحو مجهول المرئي لخلخلة مفهومنا الجمالي، وتأسيس جماليات جديدة في وعينا البصري تتسلل إلى أعماق وجودنا، لتجعله مشهدًا قابلًا للتناول الفني المبدع، بل هي غرابة الفن التي تسلط الضوء الكاشف على مجهول وجودنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤