مقدمة

شعور بالذات

تخيَّل حياةً لا بد فيها من ضبط وجود المرء بأكمله وتصميمه بما يتلاءم مع البيئة المتغيرة والقاسية في بعض الأحيان. حياة لا سبيل فيها للهرب. تلك هي حياة النبات. من الصعب علينا نحن البشر أن ندرك كُنْه هذا النوع من الوجود. فبالرغم من أننا عادةً ما نصمد أمام محنةٍ قصيرة الأمد لأننا نمتلك الآليات الفسيولوجية للتعامل مع مصادر الإزعاج الثانوية مثل شدة الحرارة (التعرُّق) أو شدة البرودة (الارتجاف)، فإننا نستطيع، إذا استمرَّت مثل هذه الظروف أو صارت أكثر قسوةً، أن نختار اقتلاع جذورنا والانتقال إلى مكانٍ مختلفٍ علَّه يكون أفضل.

أما النباتات فلا تمتلك ذلك الخيار.

figure
تبدأ حياة النبات الحامل للبذور حين تنبت البذرة استعدادًا للتحوُّل إلى شتلة. ينضج النبات ليصل إلى مرحلة البلوغ ويمر بتحوُّل ثانٍ؛ إذ يصل إلى مرحلة الإزهار. يتطوَّر النبات بعد ذلك من مرحلة الإزهار إلى مرحلة تكوين البذور. وبعد إطلاق البذور الناضجة، يدخل النبات العجوز في مرحلة الشيخوخة التي قد تسقط خلالها البَتَلات والأوراق.
ونظرًا لأنَّ النباتات لا تستطيع التحرُّك عمومًا خلال دورة حياتها، فعليها إذا كان لها أن تنموَ وتزدهر في بيئات ديناميكية، أن تمتلك حسًّا مرهفًا بما يجري حولها، مع القدرة على الاستجابة بطريقة ملائمة. فالإحساس بالبيئة ضروري للغاية من بداية الحياة. فالأرض التي تستقر فيها البذرة وتنبت تحدِّد البيئة المحيطة التي سيقضي فيها النبات الناشئ حياته بأكملها. إنَّ إنبات البذور هو البداية لدورة حياة النباتات الحاملة البذور. تنبثق الشتلة من البذرة، ثم ينضج النبات ويصل إلى مرحلة البلوغ. وبعد فترةٍ من النمو الخضري، يدخل النبات مرحلة التكاثر التي ينتج فيها الزهور. تشهد المرحلة التالية تطورًا من الإزهار إلى تكوين البذور. وبعد إطلاق البذور الناضجة، يدخل النبات العجوز مرحلة الشيخوخة التي قد يفقد خلالها البَتَلات والأوراق. في بعض الأنواع، تموت أفراد النباتات بعد التكاثر، بينما تمر في بعضها الآخر بدورات تكاثر متتالية.1
وبالرغم من أنَّ النباتات موجودة حولنا في كل مكان، فإنَّ معظمنا لا يعرف سوى أقل القليل عن قدراتها المذهلة على التنبؤ بالظروف المتغيرة باستمرار، والاحتماء منها، والتأقلم عليها. في بعض الأحيان، يُشار إلى انعدام القدرة على ملاحظة النباتات وإدراك أدوارها في الأنظمة البيئية التي نسكنها بما يكفي بمصطلح «عمى النباتات».2 صار هذا المصطلح محل خلاف على نحوٍ متزايد؛ لأنه يستند إلى استعارة تتعلَّق بإعاقة؛ أي إنه يعكس نمطًا من التفكير الذي يَعتبر العمى عجزًا.3 وبدلًا من ذلك، يمكن التعبير عن هذه النزعة إلى إغفال النباتات بمصطلح «التحيز ضد النباتات». فقد أوضحت الأبحاث التجريبية والاستبيانات بالفعل أنَّ البشر يفضِّلون الحيوانات على النباتات، وأكثر ميلًا إلى ملاحظتها أو تذكُّرها.4 نحتاج أيضًا إلى مصطلح مصاحب يشجِّع على تعميق الوعي بالنباتات المحيطة بنا وتقدير أهميتها؛ وفي ذلك يستخدم البعض مصطلح «تقدير النباتات»، لكني أفضِّل مصطلح «الوعي بالنباتات».5 ولا تقتصر أهمية الحد من التحيز ضد النباتات وزيادة الوعي بها على النباتات فحسب، فهما أمران مهمان للبشر أيضًا، مهمان لصحتنا الجسمانية والذهنية والفكرية.

إنَّ الهدف من هذا الكتاب هو زيادة الوعي بالنباتات، والحد من التحيزات المحتملة ضد النباتات، إضافةً إلى التعريف بحكمة النباتات وما يمكن أن نتعلمه منها.

•••

من الموضوعات التي سنستكشفها كيفية شعور النباتات ببيئتها واستجابتها لها. إذا أوليت انتباهًا أكبر إلى النباتات المحيطة بك، فسترى العديد من الأمثلة على ذلك. لعلك قد رأيتَ أحد النباتات المنزلية يمتد باتجاه الضوء القادم من نافذة. إن هذا النبات يُظهِر أحد سلوكيات التكيُّف النشطة ألا وهو: الشعور بالضوء والسعي نحوه. فنظرًا لأنَّ النباتات تستخدم الضوء لإنتاج غذائها (في هيئة سكريات) من خلال عملية البناء الضوئي، تنحني للحصول عليه.6
ومن الأمثلة الأخرى على ذلك، سقوط أوراق شجر القيقب في فصل الخريف. فهذا سلوك موسمي لحفظ الطاقة؛ فسيكون من المكلف للشجرة أن تحتفظ بأوراقها خلال الشتاء. أما سقوط الأوراق، فيتيح للشجرة الصمود والاستمرار في حالة أيضٍ أهدأ. وذلك اللون الزاهي الرائع الذي يظهر قبل سقوط الأوراق (نتيجة تكسُّر صبغة الكلوروفيل الخضراء) هو مثال على نوع السلوكيات المعقدة التي تقوم بها النباتات استجابةً للإشارات البيئية.7
إنَّ سقوط أوراق شجرة القيقب في الخريف يختلف من ناحية مهمة عن انحناء نبات منزلي باتجاه الضوء. فجميع أنواع النباتات تتسم بأساليب تكيفية موروثة — مثل شكل مميز للورقة أو دورة حياة فصلية في مقابل دورة حياة دائمة الخضرة — تطورت بمرور الزمن وصارت ثابتة وراثيًّا تُمرَّر من جيل إلى جيل. غير أنَّ النباتات تُظهِر أيضًا أساليبَ تكيفية بيئية ليست ثابتة وراثيًّا، بل تظهر في جيل واحد أو حياة واحدة، ولا تُورَّث عادة. تُوجَّه هذه التغييرات التي تحدِّدها البيئة من خلال الجينات التي يتم التعبير عنها، أو المستخدمة بالفعل. وتتضمن تغيرات في النمط الظاهري للنبات (سماته الملحوظة)، مثل حجم الورقة أو سُمكها أو لونها أو اتجاهها، أو طول الساق أو سُمكها، وذلك بناءً على إشارات بيئية متغيرة. ويُعرف هذا النوع من التغير في الهيئة أو الوظيفة استجابةً للظروف البيئية الديناميكية باسم: مرونة النمط الظاهري.8

لا يقتصر شعور النباتات واستجابتها على الظروف البيئية؛ بل يمتد شعورها ليشمل النباتات والكائنات الأخرى المحيطة بها. يمكن أن نسمي النباتات ﺑ «الجيران المتطفلين». فالنباتات تعرف «أين» توجد من خلال الاستشعار البيئي، وتعرف «مَن» يوجد حولها أيضًا. وتساعدها هذه المعرفة على اتخاذ قرارات بشأن اختيار التعاون أو التنافس. فلن تتنافس النباتات مع نبات مجاور على مصدر ضوء الشمس إلا إذا كان ذلك منطقيًّا؛ أما إذا كان هذا الجار أطول كثيرًا بالفعل، ومن غير المحتمل أن تنجح المنافسة، فسوف تتجنَّبها. وفي بعض الحالات، كما سنرى، قد تتعاون بالفعل للحصول على ضوء الشمس. يمكن للنباتات أيضًا أن تكتشف الاستجابات البيئية التي تصدر عن جيرانها، مما يُمكِّنها من توسيع نطاق وعيها بالإشارات والتغيرات البيئية. بل في بعض الأحيان تُغيِّر سلوكها بناءً على ما إذا كانت تجمعها بجيرانها صلة قرابة أم لا.

إنَّ النباتات تستقبل الإشارات الداخلية والخارجية على حد سواء وتستجيب لها، ويبدو أنها تدرك تنوُّع الأنظمة البيئية، أي إنها تستطيع إدراك نطاق أفراد النباتات الموجودة حولها، وما تصدره هذه النباتات المجاورة من استجابات للإشارات البيئية. تراقب النباتات التغيرات الخارجية، ثم تبدأ في إنشاء مسارات الاتصال الداخلية الخاصة بها لتنسيق استجابتها لهذه الظروف الديناميكية.9 قد تكون هذه الإشارات التي تستجيب لها لا أحيائية، أو إشارات غير حية، مثل المعلومات عن درجة الحرارة أو توافر الضوء أو المياه أو المغذيات. تعمل الإشارات الأحيائية، وهي تلك الإشارات الصادرة عن كائنات حية أخرى، أيضًا كإشارات قوية؛ فهي تمكِّن النبات، على سبيل المثال، من تجهيز دفاع ضد الافتراس، أو آكلات النباتات أو العدوى البكتيرية أو الفيروسية. فحين تتعرَّض بعض النباتات لهجوم من الحشرات، تنتج مركَّبات تثبط هضم الحشرات المهاجمة؛ فتحد بذلك من وقوع ضرر أكبر.10
ثمة احتمال أيضًا بأن يكون لدى النباتات شكل من أشكال الذاكرة. في بعض الحالات، تظهر هذه الذاكرة بفعل التغيرات ما فوق الجينية. تُعدِّل التغيرات ما فوق الجينية الجينات التي يتم تنشيطها أو التعبير عنها، لكنها لا تغيِّر الشفرة الوراثية نفسها. ويمكن لمثير بيئي أن يتسبَّب في ظهور «فلاج» جزيئي من نوعٍ ما، للتحكم فيما إذا كان أحد الجينات سيُستخدم لإنتاج بروتين أم لا. وهذا التغيير في تنظيم البروتين يعدِّل بعد ذلك في النمط الظاهري للنبات. تنتقل هذه التغيرات فوق الجينية في بعض الأحيان إلى الأجيال التالية. غير أنَّ ما تتخذه البيئة من آليات دقيقة وأدوار محدَّدة في التحكم ما فوق الجيني العابر للأجيال في النباتات لا يزال قيد الدراسة.11
يُعد التنشيط بالبرودة من أشهر الأمثلة على ذاكرة النباتات؛ ويتمثل في أنَّ بعض النباتات لا تزهر إلا إذا تعرضت لفترة طويلة من البرودة. فالنبات «يتذكَّر» برد الشتاء كإشارة إلى أنَّه ينبغي له أن يزهر في الربيع. تتجلى الذاكرة أيضًا في بعض النباتات المتتبِّعة للشمس، مثل عباد الشمس والخبازة اللينية؛ إذ تستدير باتجاه الشروق قبل الفجر.12

تستخدم النباتات الإشارات الداخلية والخارجية إضافةً إلى السلوكيات التكيُّفية ووضع ميزانية للطاقة لتحقيق الاستفادة القصوى من البيئة التي تنمو فيها. فعملية البناء الضوئي تستلزم وجود الضوء والكربون غير العضوي (في صورة ثاني أكسيد الكربون)، والمياه، كما تحتاج النباتات أيضًا إلى المغذيات مثل الفوسفور والنيتروجين. فلا غرابة إذن في كونها شديدة الحساسية لتوافر هذه الموارد، ووضعها ميزانيتها بحرص. فلكي تتمكَّن النباتات من صنع غذائها، تُخصِّص الطاقة لنمو الأوراق اللازمة لحصد ضوء الشمس. بعد ذلك، تقوم بتحويل طاقة الضوء المحصود إلى طاقة كيميائية (سكريات)، وذلك باستخدام الماء وثاني أكسيد الكربون. في الوقت نفسه، تحدُّ من الاستخدامات غير المنتجة من الطاقة. ففي حالة توافر كمية ملائمة من الضوء، على سبيل المثال، تخصِّص النباتات الطاقة لبناء الأوراق بينما تصرفها عن إطالة السيقان.

تُظهِر النباتات أيضًا استجابات تكيفية مضبوطة على نحوٍ دقيق في حالة نقص المغذيات. قد يستطيع البستانيون تمييز الأوراق الصفراء كعلامة على نقص المغذيات والحاجة إلى السماد. ولكن إذا لم يكن للنبات راعٍ يمده بالمعادن المكمِّلة، فيمكنه نشر أو إطالة جذوره وتكوين شعيرات جذرية ليتمكن من البحث في بقاعٍ أبعد من التربة. يمكن للنباتات أيضًا أن تستخدم ذاكرتها في الاستجابة لأحداث ماضية من التنوُّع المكاني أو الزماني في توافر المغذيات أو الموارد.13 وقد أوضحت الأبحاث في هذا المجال أنَّ النباتات تكون مدركةً على الدوام لموقعها في البيئة، من حيث الزمان والمكان على حد سواء. فالنباتات التي اختبرت توافر العديد من المغذيات المختلفة في الماضي، عادةً ما تتسم بسلوكيات المخاطرة، مثل تخصيص الطاقة لإطالة الجذور بدلًا من إنتاج الأوراق. في المقابل، تعزُف النباتات التي لا تتمتع بتاريخٍ من وفرة المغذيات عن المخاطرة وتنزع إلى حفظ الطاقة. إنَّ النباتات في جميع مراحلها التطورية تستجيب للتقلُّبات أو التباينات البيئية؛ لكي تتمكَّن من استخدام طاقتها للنمو والبقاء على قيد الحياة والتكاثر، مع تقليل الضرر والاستخدامات غير المنتجة لطاقتها الثمينة.14
إنَّ هذه الأنواع من الاستجابات معًا، تشير إلى قدرة النباتات على التعلُّم والتذكُّر؛ هذا إذا نظرنا إلى التعلُّم باعتباره تغييرًا في السلوك بناءً على التذكُّر النشط، ونظرنا إلى الذاكرة باعتبارها تواصلًا خلويًّا بشأن التجارب السابقة.15

•••

ولمَّا كانت النباتات تُظهِر نوعًا من الوعي والذاكرة، فيمكن أن نعتبر أنها تعرف «مَن» تكون و«ماذا» تكون. وتنتقل من هذه المعرفة بالذات حتى تصل إلى مرحلة «الوجود». ومرحلة الوجود تلك هي التي تتعرَّف فيها النباتات على أنماط بيئتها وتستجيب لها وتؤثِّر فيها. بعبارة أخرى، تبذل النباتات غاية وسعها للبقاء على قيد الحياة، مع إجراء تقييم كامل لاحتمالية النجاح، بناءً على البيئة المحددة التي توجد فيها.

ولهذا، فبالرغم مما قد يبدو للعَيْن غير المطلعة من أنَّ النباتات «تقبع في مكانها» فحسب، فإنها تبدي سلوكياتٍ تتسم بالوعي والذكاء بدايةً من أولى مراحل نموها وحتى الشيخوخة أو الموت. لقد طوَّرت النباتاتُ قدراتٍ استثنائية لتشعر بما يجري حولها وتضبط نموها وتطورها وفقًا للإشارات البيئية لتحقيق الإنتاجية القصوى والبقاء على قيد الحياة. وبسببِ ما تقوم به النباتات من الاستكشاف والمراقبة المستمرَّين، يذهب الفيلسوف مايكل ماردر إلى أنه ينبغي ألَّا ننظر إليها أبدًا باعتبارها جامدةً وسلبية؛ فالمكان الذي يشغله النبات «ينبثق على نحوٍ ديناميكي من التأويل الحي الذي يجريه النبات لبيئته وتفاعله معها.»16

وسواء كنا ننظر إلى النباتات باعتبارها كائناتٍ واعية أو ذكية، فإنَّ كل مفهوم منهما يكمن وراءه تقديرٌ عام لسلوك النبات. وقد صارت فكرة أنَّ النباتات «تتصرف»، ولا توجَد أو تنمو على نحوٍ سلبي فحسب، تحظى مؤخرًا بالقبول على نطاق أوسع بين علماء الأحياء. غالبًا ما يتبدى سلوك النباتات في الطريقة التي تنمو بها، مثل نموها بمعدل مختلف أو في اتجاه معيَّن. ولأنَّ النباتات تنمو ببطء، فإنَّ نشاطها يحدث على نطاق زمني يختلف عن نوع الحركة الذي نسميه «السلوك» في الحيوانات.

من العوائق الأخرى التي تحول دون قبول فكرة السلوك النباتي، الاعتقاد الراسخ بأنَّ السلوك لا يمكن أن يصدُر إلا من كائنات تمتلك جهازًا عصبيًّا مركزيًّا، وهو ما تفتقر إليه النباتات. غير أنَّ العلماء بدءوا يفهمون السلوك على نطاق أوسع باعتباره وصفًا للقدرة على جمْع المعلومات عن الظروف الداخلية والخارجية للبيئة، ودمج هذه المعلومات ثم استخدامها لتغيير الإشارات الداخلية أو مسارات التواصل (الشبكات العصبية لدى الحيوانات ومسارات نقل الإشارات في كائنات على غرار النباتات)، مما يؤدي إلى تغيرات في النمو أو في تخصيص المغذيات وغيرها من الموارد. وفي ظل هذا الفهم، صارت فكرة أنَّ النباتات لها «سلوك» أكثر قبولًا.

والآن، بعد أن نُقرَّ بأنَّ النباتات تُصدِر سلوكيات معينة، هل يعني هذا أنها قادرة أيضًا على «الاختيار» و«اتخاذ قرارات» وأن يكون لها «نوايا»؟ يتفق معظم علماء النبات على أنَّ القدرة على التمييز بين إشارات متعددة، وتغيير السلوك بصورة انتقائية وفقًا لإشارةٍ ما دون أخرى، هو دليل على اتخاذ القرارات. ويرى مايكل ماردر أنَّ النباتات أيضًا تمتلك نوايا، وإن كانت تختلف عن النوايا لدى الحيوانات: «حين تنوي الحيوانات شيئًا، فهي تنفِّذ نيتها من خلال تحريك عضلاتها، أما حين تنوي النباتات شيئًا، فإنها تعبِّر عن نيتها من خلال النمو الجزيئي ومرونة النمط الظاهري. فسلوكيات الحيوانات والنباتات هي تحقيق للأهداف المحدَّدة في تصرفاتها القصدية ذات الصلة.»17
أما السؤال التالي، الذي يتعلق بما إذا كانت هذه القدرات تدل على امتلاك النباتات للذكاء أو الوعي، فهو موضوع يجمع بين المؤيدين المتحمسين، ومجموعة أخرى، ربما تكون أكبر، من الرافضين. ثمة مجموعة أخرى تبقى على الحياد من هذا وذاك؛ إذ ترى أنَّه لا يلزم أن تتمتَّع النباتات بالوعي أو الذكاء لكي تُرى جديرة بالدراسة والإعجاب.18 وسواء أكانت النباتات تمتلك إدراكًا — وهو القدرة على الإحساس بما يدور حولها والاستجابة بناءً على ذلك — أم وعيًا — وهو القدرة على الإدراك النشط لقرارٍ ما بشأن استجابة محدَّدة، وتأمله، وتعيين معنًى له — فإنَّ التعقيد الذي تتسم به النباتات وقدراتها على استشعار المثيرات البيئية ودمجها والاستجابة لها، صارت تحظى بقبول متزايد. إضافةً إلى ذلك، فبالرغم من أنَّ الخلاف لا يزال موجودًا، وربما معارضة في بعض الحالات، بشأن اعتبار النباتات كائنات ذكية، هي وغيرها من الكائنات التي لا تتمتع بدماغ معقَّد، مثل النمل والنحل، فثمة اتفاق متزايد على أنَّها يمكن أن تبدي سلوكيات ذكية تمكِّنها من الاستجابة للبيئات الديناميكية، سواء أكانت هذه الاستجابة فردية أم جماعية.

•••

إنَّ الدليل على أنَّ النباتات تقوم بخيارات تكيفية، وهي سلوكيات تزيد من نجاحها وقوَّتها، لهو جدير بالتأمُّل العميق، ويمكن أن يقدِّم للبشر دروسًا ثمينة. فعلى غرار جميع الكائنات الحية، عادةً ما تتخذ النباتات قراراتٍ تبدو نافعة على نحوٍ واضح، لكنها قد تقوم أيضًا بسلوكيات قد نعتبرها سيئة؛ إما لأنها غير تكيفية للنبات نفسه، وإما لأنها تضر بالآخرين. يعتقد علماء الأحياء أنَّه، مع بعض الاستثناءات، عادةً ما تكون الخيارات التي يتخذها النبات نافعة لبقائه وتكاثره؛ إذ إنه على مدار الزمن التطوري، سيكون للنباتات التي اتخذت خيارات أفضل، نسلٌ أكبر من نسل النباتات التي اتخذت خيارات أسوأ. ولكن أحيانًا ما يكون الخيار الجيد لأحد الأنواع، سيئًا لنوع آخر. فبعض النباتات، على سبيل المثال، تستطيع إلحاق الضرر بجيرانها من خلال إطلاق مركَّبات كيميائية أو باحتلال النظام البيئي بأكمله. وغالبًا ما يؤدي تبنِّي الاستراتيجية الثانية إلى تصنيف النباتات كنباتات اجتياحية، مثل نبات الكودزو، الذي يمثِّل مشكلة أساسية في النظام البيئي في جنوب شرق الولايات المتحدة؛ إذ حل محل النباتات الأصلية وأضرَّ بالحشرات المحلية وغيرها من الحيوانات.19

وبالرغم من الضرر الذي يمكن أن تتسبَّب فيه النباتات في بعض الأحيان، فإنَّ سلوكياتها غالبًا ما تفيد في ازدهارها، وكذلك ازدهار المجتمعات التي تعيش فيها. وفي الصفحات القادمة، سوف نستكشف العديد من هذه السلوكيات. والحق أنَّ ملاحظة الطريقة التي تحيا بها النباتات في بيئتها يمكن أن تعلِّمنا الكثير جدًّا. ومن الجدير بالملاحظة أنَّ المعرفة بالنباتات والدروس التي نستخلصها من هذه الكائنات عن «الوجود»، تخبرنا بأنك تزدهر أو تعاني وفقًا لقدرتك على معرفة مَن تكون، والمكان الذي توجد فيه، وما يُفترض بك أن تفعله. بعد ذلك، يكون عليك أن تجد طريقة لتنتقل من هذا «الشعور بالذات» إلى الشعور بمحيطك ثم السعي نحو غايتك، وهي مهمة قد تكون عسيرة إذا كنت مجهدًا أو في خطر أو تحوَّلت عن غايتك المتأصلة أو المغروسة فيك، أو غايتك التي تكيَّفت عليها. وحين تكون النباتات في حالة إجهاد، فإنها تستخدم بعض الطرق لتحسين فرصتها في التعافي من الإجهاد ومواصلة النمو. وإذا كان للنبات راعٍ لديه القدرة على تمييز علامات الإجهاد، فيمكن لهذا الراعي أن يمدَّه بالمساعدة اللازمة.

إنَّ جميع الأنشطة التي تنخرط فيها النباتات — مثل تشغيل أنظمة معقَّدة لالتقاط الضوء، والبحث عن المغذيات، وإرسال تحذيرات الخطر إلى بقية أفراد مجتمعها — هي الكيفية التي تستشعر النباتات البيئةَ من خلالها وتتكيَّف عليها. تلك هي الطريقة التي تتمكَّن بها من البقاء على قيد الحياة والازدهار. وكل ذلك يحدث طوال الوقت أمام أعيننا تمامًا.

ينبغي علينا — نحن البشرَ — أن ننتبه أولًا. لا بد أن ننظر إلى ما هو أبعد مما تسهل ملاحظته سريعًا لكي نكون واعين تمامًا بالكيفية التي تتمكَّن بها النباتات من دعم أنفسها وغيرها من الكائنات التي تعيش معها، والكيفية التي تغيِّر بها البيئة التي تعيش فيها. وبعد الملاحظة الدقيقة القريبة، علينا أن نطرح الأسئلة الصحيحة لكي نتعلم منها كيف نعيش وفقًا لغايةٍ ما، ونتمتع بالفاعلية والقصدية. وربما نستطيع أن نتبنَّى بعضًا من هذه السلوكيات. فالدروس التي تقدِّمها النباتات هي الدروس التي ينبغي علينا أن نتعلَّمها.

«لا شك أنَّ النباتات تتمتَّع بجميع أنواع الحساسية. فهي تُصدِر الكثير من الاستجابات للبيئة. إنَّ النباتات تستطيع أن تفعل كلَّ ما يمكن أن تتخيَّله تقريبًا.»

باربرا مَكلينتوك
في كتاب «التعاطف مع الكائنات الحية»
تأليف إيفلين فوكس كيلر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤