الفصل الثالث

المخاطرة من أجل الفوز

ربما تكون قد أُعجِبت بالبَتَلات الصفراء لنبات الكناري الزاحف، واللون الأرجواني المدهش لزهور نجمة البراري، واللون البرتقالي الزاهي لزهور القطيفة حين رأيتها على جانب الطريق أو في حديقة أو حقل. كل هذه الزهور من أنواع الزهور البرية الحولية؛ أي إنها من النباتات التي تُكمل دورة حياتها في موسم نمو واحد. إذا كنت بستانيًّا، فإنك تعرف كيف تزرع الزهور الحولية (مثل البانسيه والزينيا) كل ربيع، لكنك تعتمد على النباتات المعمِّرة (مثل زنبق النهار والفاونيا) في النمو من جديد عامًا بعد عام. أما في البرية، فعادةً ما تنبثق الحوليات من البذور بعد حدوث اختلالٍ ما، مثل موسم شتاء أو موسم جفاف. تنمو هذه الحوليات وتزهر وتموت خلال فترة قصيرة من الوقت. إنَّ النمو في مثل هذه الظروف غير الأكيدة استراتيجية تنطوي على مجازفة، لكن لها بعض المميزات أيضًا. فهذه النباتات الصغيرة تقلِّل من طاقتها التي تخصصها إلى النمو الخضري، وتختار بدلًا من ذلك أن تنمو سريعًا وتستثمر في الإزهار وتكوين البذور.1 فمن خلال تبني دورة حياة قصيرة، تتجنَّب الاضطرار إلى التصارع مع النباتات الأقوى للحصول على ضوء الشمس وموارد التربة. فلا بد من حساب مخاطرة التعرُّض للمفترسات وآكلات العشب مقابل الحصول على الاحتياجات الكاملة من الشمس والمغذيات.
إنَّ قرار البذرة بالإنبات مخاطرة تقرر خوضها. أينبغي على الزهرة أن تنبت بعد التعرُّض لزخة واحدة من المطر، أو يوم دافئ واحد، أم ينبغي عليها الانتظار حتى تصبح التربة رطبة تمامًا، وتصبح درجات الحرارة معتدلة باستمرار؟ لقد تطورت بعض الأنواع لتصبح مقبِلة على المخاطرة وليس لها سوى حد منخفض من المتطلبات للإنبات، بينما تطورت بعض الأنواع الأخرى لتصبح متجنبة للمخاطرة، وتنتظر إلى أن تغدو الظروف أكثر ملاءمة.2 ربما تكون فكرةُ أنَّ النباتات تقيِّم المخاطرةَ جديدةً عليك، لكنَّ علماء النباتات أصبحوا يعرفون أنَّ النباتات تقيِّم المخاطر بنفس طريقة الحيوانات تقريبًا. ومثل هذا التقييم يقف وراء العديد من الأنشطة التي تقوم بها. قد يكون بعض هذه السلوكيات ثابتًا جينيًّا، لكنَّ بعضها مرن ويتضمن قرارات يتخذها النبات خلال حياته.

يمكن للطريقة التي تدرك بها النباتات المخاطر وتقيِّمها أن تقدِّم لنا رؤًى ثاقبة مدهشة. فحين تكون الظروف المحلية دون المستوى الأمثل، تصدر النباتات استجاباتٍ تتسم بالمخاطرة بدرجة أكبر مما قد نتوقَّعه، لا سيما ونحن معتادون على ملاحظة الحيوانات التي تمتلك القدرة على الانتقال إلى مكان آخر. إنَّ حقيقة أن النباتات تعيش دورة حياتها بأكملها في بيئة واحدة تقدِّم منظورًا فريدًا عن المخاطرة الفعالة. فالنباتات تقيِّم المخاطر وتستجيب للندرة بطرق مذهلة، وذلك كله بينما هي ثابتة في مكانها.

•••

في المملكة الحيوانية، غالبًا ما تكون القرارات المتعلقة بسلوك خوض المخاطرة أو تجنُّبها مدفوعةً بالتنوُّع البيئي في توافر الموارد، وتتأثَّر بالمخاوف المتعلقة باستخدام الطاقة. وقد وضع العلماء مفهومًا يسمَّى نظرية الحساسية للمخاطرة، للتنبؤ بكيفية استجابة حيوانٍ ما للمخاطرة، فيما يتعلق بالأساس بميزانيته من الموارد، والتخصيص الاستراتيجي للطاقة. ووفقًا لهذه النظرية، فإنَّ حيوانًا يواجه أحد المفترسات، على سبيل المثال، سيقرِّر إما الهروب وإما الدفاع عن نفسه بناءً على مقدار الطاقة التي يحتاج إليها للقيام بالعمليات الداخلية مثل النمو والنشاط والتكاثر، وأيضًا الطاقة التي يحتاجها للاستجابة للعوامل الخارجية مثل درجة الحرارة.3
لقد ظللنا على مدار وقت طويل نعتقد أنَّ النباتات لا تنخرط في تقييم للمخاطر، لكنَّ العديد من الدراسات الحديثة يوضح أنها تفعل ذلك. لا شك أنَّ سلوك النباتات يختلف بعض الشيء عن سلوك الحيوانات. فقد تستجيب النباتات لتهديدٍ ما بإعادة تخصيص مواردها، بينما تستخدم الحيوانات الموارد للهروب (أو المواجهة).4 بالرغم من ذلك، وعلى غرار الحيوانات، تنزع النباتات أيضًا إلى خوض المزيد من المخاطرات في البيئات الديناميكية أو غير المتوقعة وفي أوقات الندرة. فإذا كانت جذور النباتات تقع بين بيئتَين تتسم إحداهما بمستوًى منخفض من المغذيات لكنه ثابت، بينما تتسم الأخرى بمستويات متباينة منها، فإنَّ النبات سيختار التشعُّب بجذوره في المنطقة ذات المستويات المتباينة. فالنبات يقامر في هذه الحالة على تعرُّضه لمستويات كافية من المغذيات، حتى وإن كان ذلك على نحوٍ متقطع.5 ينتمي هذا السلوك إلى نوعية سلوك استشعار المخاطرة نفسه الموجود لدى الحيوانات. ففي الظروف التي يوجد فيها إمداد ثابت وكافٍ من الموارد، يخوض الأفراد عددًا أقل من المخاطرات. أما حين يتباين مستوى الموارد، فغالبًا ما يتبنى الأفراد سلوكيات المخاطرة، من أجل زيادة احتمالية النجاح على المدى الطويل.
إنَّ سلوك تقييم المخاطر واتخاذ القرار يوجِّهان النبات في جميع مراحل دورة حياته تقريبًا. فمنذ الوقت الذي تظهر فيه الشتلات، يقيِّم النبات احتياجاته من الضوء والمغذيات، ويقوم بتكيفات بناءً على مدى توافر هذه الموارد. ونظرًا لأنَّ النباتات ترصد الإشارات البيئية باستمرار، فيمكنها أن تلاحظ سريعًا حال تغيُّر الوضع، وتصدر استجابة قصيرة المدى أو طويلة المدى، حسبما يستدعي الموقف. وقد وجد العلماء أنَّ النباتات شديدة الحساسية على نحوٍ مذهل تجاه التغيرات في مستوى الموارد، سواء في المكان أو الزمان. ومن الجدير بالملاحظة أنها لا تستطيع تحديدَ ما إذا كان تركيز مورد محدَّد يتغير أم لا فحسب؛ بل تستطيع أيضًا تحديد مستوى سرعة تغيره (أي شدة الانحدار).6 إنَّ الاستجابة لمثل هذه الظروف البيئية الديناميكية تنطوي على مخاطرة، لكن مثل هذه الاستراتيجية على المدى الطويل ستحسن النمو والبقاء.7
تقيِّم النباتات العائد المحتمل على الاستثمار لإعطاء الأولوية في تخصيص الطاقة للنمو أو التكاثر أو في الدفاع، وذلك وفقًا للظروف البيئية وتوافر الموارد. ويمكن للمركَّبات العضوية المتطايرة أن تعمل بمثابة إشارات فعَّالة بشأن ظروف الحاضر والمستقبل؛ ومن ثمَّ تساعد النباتات على اتخاذ قرارات بشأن كيفية تخصيص الطاقة. فمثلما رأينا في الفصل الثاني، تطلق النباتات التي تتعرَّض لهجوم آكلات العشب مركَّبات عضوية متطايرة تقدِّم إشارة تحذير للنباتات الأخرى. ولكن أينبغي على النبات المتلقي لتلك الإشارة تخصيص المزيد من الموارد لوقاية نفسه من هجومٍ قد لا يحدث حتى؟ أوضحت دراسة مذهلة أُجريَت على عشبة الميرمية أنَّ احتمالية تجهيز دفاعٍ ما استجابةً لإشارات التحذير كانت أكبر لدى النباتات التي زُوِّدت بمياهٍ إضافيةٍ من النباتات التي لم تستقبل سوى مياه الأمطار؛ أي إنَّ النباتات التي حظيَت بموارد إضافية كانت أكثر استعدادًا لتخصيص طاقةٍ للدفاع.8 وفي تجربة مشابهة على نباتات البازلاء، أصدرت النباتات المجهدة من نقص المياه، إشارات أُرسِلت على الأرجح عبر الجذور، إلى النباتات المجاورة غير المجهدة، وكانت هذه الإشارات تحمل تحذيرًا بالخطر. وأصدرت النباتات المجاورة استجابةَ إجهاد يرجَّح أنها كانت ترقبًا لجفاف قادم.9
يشيع سلوك المخاطرة على وجه الخصوص حين تكون الموارد متنوعة أو محدودة. فيمكن للنباتات أن تستجيب بإعادة توزيع الموارد (على المدى القصير أو الطويل)، أو إيجاد طرق للحصول على المزيد من الموارد، أو التوقُّف عن النمو، أو يمكنها أن تقرِّر، في الحالات القصوى، أنَّ البيئة غير مناسبة لاستمرار الوجود. فعلى سبيل المثال، يستطيع النبات المزهر الذي يجد نفسه مفتقرًا إلى ما يكفي من ضوء الشمس والمغذيات من أجل البقاء، أن يوجِّه مخازن طاقته نحو إنتاج البذور. فهذه البذور قد تُنقَل عبر الرياح أو الحيوانات إلى بيئة مختلفة، أو قد تسقط على الأرض وتُخزَّن إلى أن تصبح الظروف مواتيةً لها أكثر.10

•••

تعمل النباتات بمثابة «خبراء استراتيجيين ديناميكيين»؛ إذ تغيِّر سلوكها وفقًا لوعيها بالإجهاد أو عناصر النقص البيئية.11 لنستكشف هذا أولًا في حالة المغذيات. إنَّ النباتات التي تحصل باستمرارٍ على مستوياتٍ مرتفعةٍ من المغذيات لا تحتاج إلى القيام بمخاطرات. فهي تكتفي بتوزيع جذورها في الحيز الغني بالمغذيات.12 وحين يكون مستوى المغذيات منخفضًا أو غير موزَّع بالتساوي، ستكون مجازفةً أن يبدأ النبات عمليةً مستهلكة للطاقة. ومع ذلك، تستخدم بعض النباتات الطاقة في هذه الحالات لتحفيز تشعُّب الجذور واستطالتها؛ لأنَّ فائدة العثور على مغذيات نادرة تفوق تكلفة إنتاج جذور جديدة أو جذور أطول.
من الاستجابات الأخرى لانخفاض مستوى توافر المغذيات، تكسير صبغة الكلوروفيل (إزالة الاخضرار)؛ وذلك لتقليل الأيض الخلوي الذي يعتمد على المغذيات المحدودة، أو زيادة القدرة على امتصاص المغذيات المستهدفة من التربة.13 من الجدير بالملاحظة أيضًا أنَّ النباتات ذات الموارد المحدودة تتسم بكونها أدقَّ كثيرًا في القرارات المتعلقة بتخصيص الطاقة، وربما يكون ذلك لأنَّ مخاطر تقليل امتصاص المغذيات والآثار المزعجة على النمو والتكاثر، ستكون أعظم في حالة اتخاذ قرار خاطئ.14
يُعد الحديد من المغذيات الأساسية للنباتات نظرًا لضرورته للقيام بعملية البناء الضوئي. وهو يوجد في الأنظمة الضوئية التي تمتص الضوء، ويُستخدَم في مرافقات الإنزيمات اللازمة لإجراء التفاعلات الكيميائية المتعلقة بحصاد الضوء.15 بالرغم من ذلك، غالبًا ما يوجد الحديد في التربة في صورة مؤكسدة غير قابلة للذوبان، مكافئة للصدأ، وهي صورة لا تستطيع جذور النباتات امتصاصها أو استخدامها لتكوين المركَّبات التي تدعم الأيض والبناء الضوئي.16 وتنفِّذ النباتات العديد من الاستراتيجيات المختلفة لحل هذه المشكلة، وفقًا لما إذا كان نقص الحديد طفيفًا أم بالغًا.
تستطيع بعض النباتات زيادة ما تمتصه من الحديد من خلال مركَّبات كيميائية تُسمى حاملات الحديد، تعمل على ربط الحديد ونقله. ويشيع استخدام هذه الاستراتيجية أكثر ما يشيع في الحشائش النجيلية.17 تفرز الجذور حاملات الحديد في التربة حيث تشكل مجمعات مع الحديد. وتُمتَص مُجمعات الحديد وحاملات الحديد من خلال بروتينات متخصصة تُسمى بالبروتينات الناقلة.18 بعد ذلك، تقوم خلايا النبات بتحويل الحديد من صورة غير قابلة للذوبان إلى صورة قابلة للذوبان، تُطلَق من أجل الاستخدام الأيضي.
بعض النباتات الأخرى، والتي غالبًا ما تكون نباتات غير نجيلية أحادية الفلقة (أي نباتات عشبية بخلاف النجيلة) ونباتات من ذوات الفلقتين، تستخدم استراتيجيات مختلفة للحصول على الحديد.19 تنطوي إحدى هذه الاستراتيجيات على إفراز بروتونات من الجذور، مما يزيد من حامضية التربة ومن قابلية الحديد للذوبان. وثمة استراتيجية أخرى تعتمد على التعامل مع أنواع محددة من جراثيم التربة تصنِّع حاملات الحديد الخاصة بها.20
إلى جانب الحديد، توجد مغذيات أخرى ضرورية لوظائف أعضاء النبات، وبنيته ووظائفه. فيوجد النيتروجين الذي يؤدي دورًا بالغ الأهمية كواحد من مكوِّنات الأحماض الأمينية (وهي وحدات بناء البروتينات) ومكوِّنات صبغة الكلوروفيل أيضًا.21 وكما في حالة الحديد، يحفِّز نقص النيتروجين على المدى القصير استجاباتٍ تزيد من امتصاص النيتروجين واستخدامه. تنطوي بعض هذه الاستجابات على تغيرات في البنية أو النمو، مثل التغيرات التي تحدث في هيئة الجذور.22 تبدأ النباتات في زيادة تشعُّب نظامها الجذري لزيادة نطاق البحث عن النيتروجين، وذلك ما لم يستمر النقص فترة طويلة. ففي ذلك الوقت، قد يحد النبات من نمو الجذور لحفظ الطاقة من أجل البقاء أو التكاثر.23 وينطوي تكاثر الجذور على استثمار كبير للطاقة قد تكون فيه مخاطرة؛ إذ يراهن النبات بذلك على أنَّ الاستثمار في توسيع النظام الجذري سيزيد من فرص الوصول إلى بقعة غنية بالنيتروجين.
وعلى غرارِ ما رأيناه في أنواع الاستراتيجيات الأخرى التي تهدف إلى الحصول على الموارد، يمكن للنباتات اختيار إما الاستجابات الفردية أو التعاونية. وينطبق الأمر نفسه على توافر النيتروجين أيضًا. فالعديد من النباتات يستجيب لنقص توافر النيتروجين بتكوين علاقات تآزرية مع البكتيريا المثبِّتة للنيتروجين. قد تتواجد هذه البكتيريا داخل الجذور في تراكيبَ تُسمى بالعُقيدات الجذرية أو على سطح الجذر.24 ويتضمن هذا التفاعل التكافلي تبادلًا ثنائيًّا يفيد كلا الطرفين. فالنباتات تنقل الكربون إلى البكتيريا التي، بدورها، تنتج النيتروجين في صورة يمكن للنبات امتصاصها بسهولة.
من المغذيات الأخرى المهمة للنباتات عنصر الفوسفور الذي يوجد طبيعيًّا في التربة بمستويات منخفضة نسبيًّا.25 للفوسفور دور جوهري في نمو النبات وتطوره والحفاظ عليه؛ إذ إنه أحد مكوِّنات الحمضين النوويين: الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (دي إن إيه)، والحمض النووي الريبوزي (آر إن إيه)، إضافةً إلى جزيء تخزين الطاقة (أدينوسين ثلاثي الفوسفات) والشحوم الفوسفورية التي توجد في الأغشية الخلوية.26 تتَّبع النباتات العديد من الاستراتيجيات المختلفة حين تواجه نقصًا في الفوسفور. ويتمثل أحد الخيارات في زيادة قابلية الفوسفور للذوبان من خلال تغيير حامضية التربة عبر إفراز البروتونات، مثلما يحدث في حالات نقص الحديد.27 وفي حالات التكيُّف الطويل المدى، قد يُوجَّه المزيد من الطاقة لتكاثر الجذور. وهذه الاستجابة شبيهة أيضًا بما يُلاحَظ في حالات نقص النيتروجين.28
وكما هي الحال في ظروف نقص النيتروجين، يتمثل أحد حلول التأقلم الطويل المدى على انخفاض مستويات الفوسفور، في العلاقات التعاونية. فمثلما رأينا في الفصل الثاني، طوَّرت بعض النباتات القدرة على التفاعل مع الفطريات من خلال تكوين الفطريات الجذرية. وهذه الشراكة التكافلية تمكِّن النبات من امتصاص الفوسفور من التربة بكفاءة أكبر.29
من المهم أن نراعي أنَّ النباتات حين تنخرط في علاقات تكافلية لزيادةِ ما تحصل عليه من المغذيات، فإنها بذلك لا تزال تخاطر. فحين تخصِّص النباتات جزءًا من طاقتها لتكوين مثل هذه العلاقات، فإنها تثق في التبادل، إضافةً إلى ثقتها في أن حصولها على موارد أفضل سيزيد من لياقتها وتحمُّلها. ومن ثم يتوقَّع النبات أنَّ العائد من العمل معًا لزيادة الحصول على الموارد سيكون أكبر من تكلفة إنتاج السكريات الذي يهديه لشركائه من الفطريات. وهذا لا يحدث دائمًا. ففي بعض الحالات، تكون تكلفة إنتاج الكربون على النبات أكبر من فوائد التغذية التي يحصل عليها في المقابل، مما يحوِّل الارتباط الجذري الفطري من علاقة تكافلية إلى طفيلية.30

ومثلما تغيِّر النباتات سلوكها بناءً على توافر المغذيات وتقييم المخاطر، يجب عليها أيضًا أن تراعي توافر غير ذلك من العوامل البيئية الحيوية المتغيرة، لا سيما الضوء والمياه.

حين لا يحصل النبات على كمية كافية من الضوء، سواء أكان ذلك بسبب الظل أم المنافسة، فلا بد له من التكيُّف. ومن أساليب التكيُّف البنيوية الطويلة المدى التي يتخذها النبات استجابةً لنقص الضوء، تغيير بنية الورقة. فالأوراق التي تنمو في ضوء الشمس الكامل، والتي تُسمى بأوراق الشمس، تكون سميكة وعدد خلايا النسيج العمادي بها أكبر من عدد خلايا النسيج الوسطي الإسفنجية. تحتوي خلايا النسيج العمادي على عدد كبير من البلاستيدات الخضراء، التي تُعَد محرِّكات البناء الضوئي؛ أما خلايا النسيج الوسطي الإسفنجية، التي تشكِّل النسيج الداخلي للورقة، فتحتوي على عدد أقل من البلاستيدات الخضراء، وحيِّز أكبر فيما بين الخلايا. وبالمقارنة بأوراق الشمس، نجد أنَّ أوراق الظل أرق؛ إذ تحتوي على كمية أقل من صبغة الكلوروفيل، ومحتواها من خلايا النسيج الوسطي يفوق محتواها من خلايا النسيج العمادي.31
إنَّ بناء ورقة نبات استثمار مكلِّف؛ ومن ثمَّ ينطوي على مخاطرة. وثمة بنية محدَّدة للأوراق من شأنها تحسين احتجاز الضوء وتحويله إلى طاقة كيميائية في بيئة محدَّدة. وهذه البنية المحددة للورقة نفسها ستكون أقل نجاحًا في بيئة مختلفة. فأوراق الشمس لا تؤدي وظائفها جيدًا في الظل؛ إذ تحتوي من الكلوروفيل على كميةٍ تفوق كثيرًا كمَّ الضوء المتاح. أما أوراق الظل، فتكون عرضة للتسمم الضوئي في ضوء الشمس الكامل؛ إذ تنتج كميات أقل من الصبغات الواقية من الضوء كمقايضة لاستثمار الطاقة في بنية محددة للورقة وغيرها من وظائف الأعضاء المتعلقة بالظل.32 وبهذا، فإنَّ الاستثمارات في بنية الورقة تنطوي على مخاطر؛ إذ ربما تنتهي الحال بالورقة في بيئة ضوئية لا تلائم تكوينها. تزن النباتات هذه المخاطر من خلال تقييم ما إذا كان التعرُّض إلى بيئة محددة أو مستوًى محدد من الموارد (الوفرة أو النقص) أمرًا واردَ الحدوث على المدى القصير أو الطويل. فإذا كان هذا التعرُّض واردًا على المدى الطويل، فقد يكون تغيير بنية الورقة أمرًا مرغوبًا.
توجد أيضًا مخاطر تتعلَّق بتغيير جوانب أخرى من بنية النبات، مثل نمو براعم أو فروع جديدة. يمكن للنبات تنظيم عدد الفروع الحديثة التبرعم وحجمها، والتي يكون استهلالها وتطويرها عملية مكلِّفة على مستوى الطاقة، من أجل إدارة المخاطر البيئية. في بعض الحالات، يكون الاستثمار في أغصان وأوراق إضافية أمرًا يعود بالنفع على النبات، مما يمكن أن يدعم مزيدًا من الإزهار وإنتاج البذور. ولكن قد يكون الأفضل في حالات أخرى أن يحدَّ النبات من النمو وينتقل إلى الإزهار بسرعة قبل تدهور الظروف البيئية. فقد وجد الباحثون الذين يدرسون حوليات إقليم البحر الأبيض المتوسط، أنَّ النباتات تُجري تقييمًا للمخاطر والتكاليف المحتملة للاستثمار في زيادة حجم المجموع الخضري بناءً على مدى موثوقية الإشارات البيئية. فكانت تعدِّل أنماط نموها للاستجابة للإشارات الموثوقة مثل طول فترة النهار، بدرجة أكبر مما كانت تعدل بها هذه الأنماط للاستجابة للإشارات غير الموثوقة مثل توافر الماء.33
ثمَّة سلوك آخر يرتبط بالمخاطر يتعلَّق بحفظ الماء. تحتوي الأوراق على مسامات صغيرة تُعرف بالثغور، تعمل على امتصاص ثاني أكسيد الكربون وطرد بخار الماء. وتعمل النباتات على ضبط فتح الثغور وإغلاقها لتنظيم توازن المياه، وقد طوَّرت استراتيجيات مختلفة بناءً على اعتبارات المخاطر. يقسِّم علماء النبات النباتات إلى فئتين كبيرتين وفقًا لكيفية تنظيم وضعها المائي. تُدعى إحدى هاتَين المجموعتَين النباتات المتسقة الهيدروجينية، وهي تحافظ على مستوًى ثابت نسبيًّا من محتوى الماء في أوراقها. وتقوم بذلك من خلال إغلاق ثغورها أثناء الجفاف لمنع بخار الماء من التطاير. وبالرغم من أنَّ هذه الاستراتيجية تحافظ على الماء، فإنَّها تتسم بعيبٍ يتمثَّل في تقليل كمية ثاني أكسيد الكربون الممتصَّة، مما يقلِّل من معدل البناء الضوئي وإنتاج مركَّبات الكربون المستخدمة للطاقة. أما المجموعة الأخرى، وهي النباتات غير متسقة الهيدروجينية، فلا تحتفظ بمحتوًى ثابتٍ من المياه في أوراقها. وفي ظروف الجفاف، تُبقي هذه النباتاتُ ثغورَها مفتوحةً فترة أطول؛ وبذلك تُحافظ على معدلاتٍ أعلى من البناء الضوئي. يُعَد إبقاء الثغور مفتوحةً سلوكًا خطِرًا؛ لأنَّ النبات قد يتعرَّض حينها للجفاف بدرجةٍ بالغة. غير أن هذا النبات إذا نجا، فالأرجح أنه سيتفوَّق بميزةٍ في اللياقة على غيره من النباتات التي تختار الحفاظ على المياه؛ لأنه استطاع الحفاظ على إنتاجية البناء الضوئي.34

•••

مثلما رأينا، تقوم النباتات بمخاطراتٍ باستمرارٍ عند تقييم الفرص واتخاذ القرارات بشأن الاتجاه الذي ينبغي عليها توجيه طاقتها فيه. والنباتات التي تتخذ قرارات استثمار سيئة، قد لا تنجح في البقاء، بينما ستزدهر النباتات التي تتخذ قراراتٍ جيدة.

وعلى غرار جميع النباتات، ينبغي على زهور نجمة البراري التي تنمو على جانب الطريق، أن تُقيِّم المخاطر عند الاستجابة للظروف البيئية المباشرة، غير أنَّ استراتيجية حياتها بأكملها أشبهُ بمقامرة. لقد طوَّر هذا النبات تاريخ حياةٍ مختلفًا عن تلك النباتات التي تعيش على مدار الأعوام. فالزهور البرية الحولية تضع كامل طاقتها في النمو، بل النمو السريع، خلال تلك «النافذة» المتاحة من ضوء الشمس، وأنا أعني هذا التشبيه بالفعل وليس على سبيل المجاز. فنظرًا لقِصَر حياتها، تتمتَّع هذه النباتات بفرصةٍ أكبر في تجنُّب المفترسات، من تلك التي تتمتَّع بها النباتات التي تعيش لفترة أطول. وإذا نجحت في البقاء والتكاثر، فسوف تترك بذورًا مخزنة في الأرض بأمان وجاهزة للانبثاق في موسم النمو التالي، أو بعد حدوث قلقلةٍ ما. وفي هذه الأثناء، ستبدأ النباتاتُ المعمِّرةُ المنافسة الأكبر حجمًا، لتوها في الانبثاق وفرض هيمنتها في النظام البيئي. فعلى المدى الطويل، تؤتي مخاطرة الحوليات بثمارها.

•••

إنَّ سلوكيات اتخاذ المخاطرة وتجنُّبها، التي تنخرط فيها النباتات، توضِّح طرقًا حكيمة للوجود، يمكن لنا، نحن البشرَ، أن نستفيد كثيرًا من مضاهاتها. تعتمد النباتات على الاستشعار الدقيق للبيئة للحصول على المعلومات التي تُمكِّنها من تحديد المخاطر المحتملة وترشدها في عملية اتخاذ القرار. فتقيِّم الموارد المحدودة، والكائنات المتاحة للتعاون معها للمساعدة في تخفيف حدة نقص موارد محددة، والكيفية التي يمكن استخدامها لإقامة علاقات تعاونية والحفاظ عليها لتحسين الحصول على الموارد. تُقرِّر النباتاتُ الاتجاه الذي ينبغي أن تخصص له طاقتها وفقًا للمخاطر التي تستطيع القيام بها. فلكي تتمكَّن النباتات من البقاء والازدهار، لا بد أن تفحص جميع جوانب البيئة المحيطة بها باستمرارٍ وتُقيِّمها، بما فيها توافُر الضوء والمياه والمغذيات، وكذا النباتات والبكتيريا والفطريات وغيرها من الكائنات المجاورة لها.

نستطيع — نحن البشر — أن نتعلَّم كيفية استشعار محيطنا وتقييم المخاطر ودعم بعضنا بعضًا على نحوٍ أفضل مثلما تفعل النباتات. ينبغي علينا أن ندعمَ الأهدافَ القصيرة المدى والطويلة المدى لبعضنا بعضًا، وأن ندعم أيضًا فرص بعضنا بعضًا وقراراتنا بشأن كيفية تخصيص مواردنا وإعادة توزيعها، وكذلك التوقيت الملائم للتحولات الشخصية أو المهنية بما يتلاءم مع المعايير البيئية، سواء أكان الهدف نموًّا فرديًّا أم مجتمعيًّا. ولإنجاز هذه المهام، علينا أن نكون بارعين في الرصد البيئي. فنظرًا لامتلاكنا قدرًا محدَّدًا من الطاقة يتوفَّر في فترةٍ معينةٍ لجميع أنشطتنا، علينا أن نكون حريصين في اتخاذ القرار بشأن الموضع الذي سنضع فيه طاقتنا، والمخاطر التي تستحق خوضها. وعلى غرار النباتات، يحتاج البشر إلى اتخاذ قرارات استراتيجية بشأن كيفية استخدام موارد طاقتنا المحدودة لتحقيق أقصى ما يمكن من النمو والنجاح في بيئتنا الديناميكية.

«إنَّ الرغبة تجعل النباتاتِ شجاعةً للغاية حتى تستطيع أن تجدَ ما ترغب فيه؛ وتجعلها رقيقةً للغاية حتى تستطيع أن تشعرَ بما تجده.»

إيمي ليتش
«أشياء لها وجود»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤