الفصل الثالث

عملية البناء الضوئي

نتاج تأثير الشمس

تخيَّلْ عالمًا لا تحدث فيه عملية البناء الضوئي. بادئ ذي بدء، لن يكون أخضر اللون. إن كوكبنا الزمردي يعكس روعة النباتات والطحالب وجمالها؛ بما تتميَّز به من أصباغ طبيعية خضراء تمتصُّ الضوء لإجراء عملية البناء الضوئي. وأول تلك الأصباغ هو محول الطاقة الرائع المسمَّى الكلوروفيل، الذي يمتص أشعة الضوء ويُحوِّلها إلى دفقة من الطاقة الكيميائية؛ مما يتيح الحياة لكلٍّ من النبات والحيوان.

من المُرجَّح أن العالم، بغير تلك العملية، لن يكون حتى أزرق اللون؛ إذ إن زرقة السماء والبحار والمحيطات تعتمد على صفاء السماء والمياه، التي تُنقَّى من الغيوم والغبار بفعل القدرة التطهيرية للأكسجين. ودون البناء الضوئي لن يكون لدينا أكسجين حر.

وفي واقع الأمر، قد لا يكون في حالتنا هذه ثمة محيطات كذلك؛ فبدون الأكسجين لا يُوجَد أوزون، وبدون الأوزون لن يكون هناك إلا القليل ليحدَّ من القوة اللافحة للأشعة فوق البنفسجية. هذه الأشعة نفسها تعمل على تحليل الماء إلى شقيه: الأكسجين، والهيدروجين. فأما الأكسجين فإنه يتكوَّن ببطء ولا يتراكم في الهواء، بل إنه يتفاعل مع الحديد في الصخور، مُحوِّلًا إياها إلى لون أحمر ضارب إلى اللون البني. وأما الهيدروجين — أخفُّ الغازات — فإنه يفلت من أَسْر الجاذبية، وينسلُّ إلى الفضاء. قد تكون العملية بطيئة، ولكنها أيضًا تتم باستمرار بلا هوادة وكأن المحيطات تنزف إلى الفضاء. إن الإشعاع فوق البنفسجي حَرَمَ كوكب الزهرة من محيطاته، وربما حَرَمَ كوكب المريخ منها أيضًا.

وهكذا فإننا لا نحتاج للكثير من الخيال لكي نتصوَّر عالمًا خاليًا من البناء الضوئي؛ إذ سيبدو إلى حدٍّ بعيد مثل المريخ: مكان مُتَرَّب أحمر اللون؛ بغير محيطات من المياه، وبدون أي آثار واضحة تنم عن الحياة. تُوجَد بالطبع صور من الحياة في غياب البناء الضوئي، ويبحث العديد من علماء البيولوجيا الفضائية عنها على كوكب المريخ. ولكن حتى إن وجدوا قليلًا من البكتيريا مختفية تحت سطحه، أو مدفونة في كتلة جليدية، فإن الكوكب نفسه يُعتبَر ميتًا. إنه في حالة من شبه التوازن — فلا حياة حقيقية ولا موت تامًّا — وهي علامة مؤكدة على الجمود.

إن الأكسجين هو مفتاح الحياة على الكواكب. ومع أن الأكسجين لا يزيد عن كونه منتجًا ثانويًّا مهملًا لعملية البناء الضوئي، فإنه حقًّا هو الجزيء الذي تكوَّن منه العالم بصورته الحالية. يتكوَّن الأكسجين سريعًا وبكثافة من عملية البناء الضوئي لدرجة أنه يتغلب على قدرة الكوكب على ابتلاعه. وفي نهاية الأمر يتأكسد كل التراب، وكل الحديد في الصخور، وكل الكبريت في البخار والميثان في الهواء، وأي شيء يمكن أَكْسَدَتُه، ويستمر الأكسجين الحر في التدفق في الهواء والمحيطات. علاوة على هذا، فإن الأكسجين يُوقِف ضياع الماء من كوكبنا؛ فحين ينطلق الهيدروجين من الماء، فإنه يُضطر إلى الاتحاد بالمزيد من الأكسجين قبل أن يجد طريقه إلى الفضاء؛ فهو يتفاعل سريعًا ليكوِّن الماء مجددًا، الذي يصبح مطرًا يسقط مرة أخرى من السماء، فيعوِّض ما يُفقَد بالبخر من مياه المحيطات. وحينما يتراكم الأكسجين في الهواء، يتكوَّن درع من غاز الأوزون، وذلك يحدُّ من الشدة اللافحة للأشعة فوق البنفسجية ويجعل العالم أكثر صلاحية للحياة.

لا يقتصر دور الأكسجين على إنقاذ الحياة على كوكبنا وحسب، بل إنه ينشر الحياة على نطاق واسع. صحيحٌ أن البكتيريا تستطيع أن تحيا بشكل جيد تمامًا بغير الأكسجين؛ فلديها مهارة لا تُضاهى في الكيمياء الكهربية، وهي قادرة على أن تجعل جميع الجزيئات تقريبًا تتفاعل معًا لتجني القليل من الطاقة. إلا أن الناتج الإجمالي للطاقة الذي يمكن اشتقاقه من التخمر، أو عن طريق تفعيل جزيئين — مثل الميثان والكبريت — معًا، يُعتبَر كمًّا مهملًا إذا قُورِن بقوة التنفس الهوائي؛ أي بالتحديد: حرق الطعام بالأكسجين. بمعنى أكسدته بالكامل إلى ثاني أكسيد الكربون وبخار ماء. ولا شيء آخر يمكنه تقديم الطاقة المطلوبة كوقود للوفاء باحتياجات حياة الكائنات متعددة الخلايا. تعتمد الحيوانات والنباتات جميعها على الأكسجين لجزء على الأقل من دورة حياتها، والاستثناء الوحيد الذي أعرفه هو دودة خيطية ميكروسكوبية (متعددة الخلايا)، تعيش في الأعماق الراكدة الخالية من الأكسجين في البحر الأسود. ومن ثم أقول إن العالم الخالي من الأكسجين يكون ميكروسكوبيًّا، على الأقل على مستوى الكائنات المفردة.

ويسهم الأكسجين في كِبَر حجم الكائنات بصور أخرى أيضًا. فكِّر في السلسلة الغذائية؛ إذ تستقر المفترسات على قمتها، وهذه تأكل الحيوانات الأصغر حجمًا، التي بدورها قد تأكل الحشرات التي تأكل حشرات أصغر، والتي بدورها تعيش على أكل الفطريات أو أوراق النباتات. ليس من العجيب أن نجد في شبكة غذائية خمسة أو ستة مستويات من الكائنات. وفي كل خطوة يحدث إهدار لقدر من الطاقة، فلا تُوجَد صورة من صور التنفس تبلغ درجة كفاءتها مائة بالمائة. وفي الواقع، تبلغ نسبة كفاءة التنفُّس الهوائي حوالي ٤٠ بالمائة، بينما تقل كفاءة أغلب صور التنفس الأخرى (باستخدام الحديد أو الكبريت، على سبيل المثال، بدلًا من الأكسجين) عن ١٠ بالمائة. هذا يعني أنه عند عدم استخدام الأكسجين، تتضاءل الطاقة المتاحة إلى ١ بالمائة عن مستواها الابتدائي في غضون مستويين فقط، بينما تحتاج ستة مستويات عند استخدام الأكسجين حتى تصل إلى نفس النقطة. وهذا يعني بدوره أن السلاسل الغذائية الطويلة لا تكون ملائمة إلا بالتنفس الهوائي. وتعني اقتصادية السلسلة الغذائية أن المفترسات يمكن أن تقوم بدورها بالقدر المطلوب في عالم مؤكسج، غير أن عملية الافتراس بوصفها نمط حياة لن تؤتي ثمارها بغير الأكسجين.

إن عملية الافتراس تقتضي تصاعدًا في الحجم، بطبيعة الحال، ومن ثم تفرض سباق تسلح بين المفترس والفريسة. فالدروع والأغلفة الصلبة تصد الأنياب، والحيل التمويهية تخدع أبصار الأعداء، وحجم الحيوان يبثُّ الرهبة في قلب كلٍّ من الصياد والفريسة. ففي وجود الأكسجين، إذن، يكون للافتراس فائدة، وفي وجود الافتراس يكون لحجم الحيوان فائدة. ومن ثم فإن الأكسجين لا يجعل الحيوانات أكبر حجمًا فحسب، وإنما يجعل وجودها أكثر ترجيحًا منذ البداية.

الأكسجين يساعد أيضًا على بناء أجساد الحيوانات. يُسمَّى البروتين الذي يكسب الحيوان قُوَّتَه المرنة الكولاجين، وهو البروتين الرئيسي في جميع الأنسجة الضامة، سواء أكانت متكلسة في العظام والأسنان والدروع، أو غير مُغلَّفة بمواد صلبة في الأربطة والأوتار والغضاريف والجلد. ويُعَدُّ الكولاجين أكثر البروتينات وفرة في الثدييات، مُشكِّلًا نسبةً مدهشةً قَدْرُها حوالي ٢٥ بالمائة من البروتين الكلي للحيوان. وخارج نطاق الحيوانات الفقارية، يُعتبَر الكولاجين مُكوِّنًا مهمًّا في الأغلفة الصلبة للأجسام، والبشرة، ودروع الظهر والأنسجة الليفية من جميع الأنواع؛ فكأنه بمنزلة «الشريط الرابط والغراء» بالنسبة لعالم الحيوان بأكمله. ويتكوَّن الكولاجين من وحدات بنائية غير عادية، وهي تحتاج إلى أكسجين حر لتكون روابط متقاطعة بين الألياف البروتينية المتجاورة؛ مما يعطي البنية ككلٍّ قوةً توترية عالية. والاحتياج إلى الأكسجين الحر يعني أن الحيوانات الكبيرة، التي تحميها أغلفة صلبة أو هياكل قوية لم يكن بإمكانها أن تنشأ وتتطور إلا حينما كانت مستويات الأكسجين الهوائي عالية بدرجة تكفي لدعم إنتاج الكولاجين، وهو عامل ربما أدَّى إلى الظهور السريع المباغت للحيوانات الكبيرة في سجل الحفريات في بداية العصر الكمبري، الذي يرجع إلى حوالي ٥٥٠ مليون سنة خلَتْ، بعد ارتفاع نسبة الأكسجين في الغلاف الجوي للأرض بوقت قصير.

قد لا تبدو الحاجة للأكسجين لصنع الكولاجين أكثر من مجرد حادثة عَرَضية، فإن لم يكن الكولاجين فلماذا لم يكن شيء آخر لا يحتاج إلى أكسجين حر؟ فهل الأكسجين ضروري لإكساب القوة أم أنه مجرد مكوِّن عشوائي تصادَفَ دخوله في تلك العملية ثم بقي للأبد جزءًا منها؟ لا نعرف على وجه التحقيق، ولكن من المدهش أن النباتات الراقية أيضًا تحتاج إلى الأكسجين الحر لتتكون مادتها البنائية الداعمة، في شكل مادة بوليمرية شديدة القوة تُسمَّى اللجنين، التي تُكسِب الخشب قوته المرنة القابلة للانثناء. تتكوَّن مادة اللجنين بطريقة تبدو كالمصادفة كيميائيًّا، مستخدمة الأكسجين الحر في تكوين روابط متقاطعة قوية بين سلاسل من تلك المادة؛ مما يجعل من الصعب جدًّا كسرها، ولهذا نجد الخشب قويًّا جدًّا ولا يتعطَّن إلا بعد وقت طويل جدًّا. ولو أزلت اللجنين من الأشجار — وهي فكرة جرَّبَها بعض القائمين على صناعة الورق؛ إذ احتاجوا أن يزيلوه بصعوبة من لب الخشب لصنع الورق — فستسقط الأشجار على الأرض، غير قادرة على الحفاظ على كيانها كأشجار ولا تحتمل حتى أخف الأنسام.

وهكذا، بغير الأكسجين لم تكن تُوجَد حيوانات ولا نباتات كبيرة، ولا افتراس، ولا سماء زرقاء، وربما لم تكن تُوجَد محيطات أيضًا، ومن المرجح ألا يكون على الأرض إلا التراب والبكتيريا. لا ريب أن الأكسجين هو أثمن منتج ثانوي مهمل يمكن تخيُّله في العالم، إلا أنه ليس مجرد منتج ثانوي وحسب، ولكنه أيضًا يُعتبَر غير مرجح النشوء. فمن المتصوَّر أن عملية البناء الضوئي كان من الممكن أن تنشأ هنا على الأرض، أو على كوكب المريخ أو أي مكان آخر في الكون دون إنتاج أي أكسجين حر على الإطلاق. وفي هذه الحالة، كانت الحياة — بصفة مؤكدة تقريبًا — ستنحصر في درجة تعقيدها عند مستوى البكتيريا، ولم يكن الإنسان ليعيش على ظهر الأرض، وكانت الأرض ستظل عالمًا يعج بالبكتيريا.

•••

هناك سبب يمنع الأكسجين من أن يتراكم في الهواء، وهو التنفس. فالبناء الضوئي والتنفس عمليتان متعادلتان ومتضادتان في الاتجاه. ففي النبات تقوم عملية البناء الضوئي بصنع جزيئات عضوية من جزيئين بسيطين هما ثاني أكسيد الكربون والماء، مستخدمة ضوء الشمس للإمداد بالطاقة المطلوبة. أما التنفس فيفعل العكس تمامًا؛ فحينما نحرق جزيئات عضوية (في الطعام) فإننا نُطلِق ثاني أكسيد الكربون والماء اللذين يَعُودان إلى الهواء، وتنطلق في هذه العملية طاقة، وهي التي تبثُّ القوة في حياتنا. فكل طاقتنا تعود إلى حزمة من ضوء الشمس وصلت إلى طعامنا واختُزِنَتْ فيه.

تسير عمليتا البناء الضوئي والتنفس في اتجاهين متضادين، ولا يقتصر هذا على التفاصيل الكيميائية لكلٍّ من العمليتين، بل أيضًا في تأثير كلٍّ منهما عالميًّا. فلو لم يكن ثمة تنفس — أي لم يكن هناك حيوانات وفطريات وبكتيريا تحرق طعامها النباتي — لكان غاز ثاني أكسيد الكربون كله قد تم شفطه من الهواء منذ زمن بعيد، متحولًا إلى كتلة حيوية. وبذلك تتوقف مسيرة الحياة، إلا إذا تسرب قَدْر محدود من ثاني أكسيد الكربون بفعل التحلل البطيء أو من فوهات البراكين. ولكن هذا بعيد تمامًا عما يحدث حقًّا. فما يحدث حقًّا هو أن التنفس يحرق كل الجزيئات العضوية التي تكوِّنها النباتات؛ وفي نطاق زمني جيولوجي، سرعان ما ستختفي النباتات. لهذا الأمر عاقبة واضحة؛ وهي أن كل الأكسجين الذي يتم دفعه إلى الهواء بعملية البناء الضوئي يتم أخذه مجددًا بعملية التنفس. هذا توازن طويل الأمد لا يتغيَّر ولا تبدو له نهاية، وهو بمنزلة قبلة الموت لأي كوكب. والطريقة الوحيدة التي يمكن بمقتضاها أن يمتلك الكوكب غلافًا جويًّا مليئًا بالأكسجين — ومن ثمَّ يتجنَّب مصيرًا كمصير كوكب المريخ — هو أن يتبقَّى قَدْر من المادة النباتية ويتم حفظه سليمًا، منيعًا ضد عناصر البيئة وضد محاولات الحياة البارعة للعثور على طرق لتحليل تلك النباتات للحصول على الطاقة. يجب أن يكون هذا المقدار مدفونًا في باطن الأرض.

وهذا هو ما يحدث بالفعل. فالمادة النباتية المحفوظة يتم دفنها في صورة فحم أو نفط أو غاز طبيعي أو سناج أو فحم نباتي أو تراب، في صخور في عمق باطن الأرض. وحسبما قال عالم الكيمياء الجيولوجية روبرت بيرنر، الذي تقاعد مؤخرًا من جامعة ييل، فإن مقدار الكربون العضوي «الميت» المحتبس في القشرة الأرضية يزيد بحوالي ٢٦ ألف مرة عمَّا يقابله من الكربون العضوي الذي في جميع أجسام الكائنات الأرضية الحية. إن كل ذرة كربون هي المقابل لجزيء من الأكسجين في الهواء. ومقابل كل ذرة من الكربون نحفر الأرض لنستخرجها، ونحرقها كوقود حفري، يتم سحب جزيء من الأكسجين من الهواء، وتحويله إلى ثاني أكسيد الكربون مجددًا، مع حدوث عواقب وخيمة، وإن كانت غير متوقعة، للمناخ. لحسن الحظ، لن نتمكن من استنزاف إمدادات الأكسجين في العالم بمجرد حرق أنواع الوقود الحفري، حتى إذا تعمَّدْنا تدمير المناخ؛ لأن الغالبية العظمى من الكربون العضوي مدفونة كفتات مجهري في صخور مثل الصخر الصلصالي الطبيعي، الذي لا تستطيع الصناعات البشرية استغلاله، على الأقل على نحوٍ اقتصادي. فحتى الآن، وبالرغم من محاولاتنا المستميتة لحرق كل الاحتياطيات المعروفة من أنواع الوقود الحفري، فكل ما تمَّ خفضه من المحتوى الأكسجيني للهواء هو مجرد جزأين أو ثلاثة أجزاء من المليون؛ أي حوالي ٠٫٠٠١ بالمائة.١
ولكن هذا الخزان الشاسع من الكربون العضوي المدفون لا يتكوَّن بصفة مستمرة، بل إنه دُفِن خلال نوبات وتقلبات الحقب الجيولوجية. الوضع الحالي قريب جدًّا من التوازن التام؛ حيث يلغي التنفس تأثير البناء الضوئي (وتلغي عوامل التعرية أي عمليات دفن)؛ ومن ثم لا تحدث عمليات دفن للكربون تقريبًا. ولهذا بقيت مستويات الأكسجين عند حوالي ٢١ بالمائة على مدى عشرات الملايين من السنين. وفي العصور الجيولوجية السحيقة، وإن كان هذا في أحوال نادرة، كانت الأمور مختلفة جدًّا. وربما كان أقوى مثال هو العصر الفحمي أو الكربوني، منذ ٣٠٠ مليون سنة، حينما كانت اليعاسيب الكبيرة في حجم طيور النورس ترفرف في الهواء، والديدان ألفية الأرجل طولها متر وتزحف بين الشجيرات. تلك الكائنات العملاقة دانت بوجودها إلى المعدل الاستثنائي للكربون المدفون في العصر الفحمي، الذي أكسب وجود المخزونات الفحمية الهائلة هذا العصر اسمه. ولأن الكربون كان مدفونًا أسفل المستنقعات الفحمية؛ فقد ارتفعت مستويات الأكسجين لما فوق ٣٠ بالمائة؛ مما أعطى بعض الكائنات الفرصة لتنمو بما يتجاوز حدود أحجامها الطبيعية، وهي بالتحديد، الحيوانات التي تعتمد على الانتشار السلبي للغازات من خلال قنوات في أجسامها أو عبر الجلد، مثل اليعاسيب، وليس من خلال عملية التنفس الإيجابية عن طريق الرئتين.٢

والسؤال الآن: ما الذي كان وراء المعدل غير المسبوق لدفن الكربون في العصر الفحمي؟ هناك تشكيلة من العوامل العرضية؛ وهي: اصطفاف القارات، والمناخ الرطب، ووجود السهول الشاسعة التي تغطيها الفيضانات. ولكن ربما كان أهمها نشوء مادة اللجنين؛ مما أدَّى إلى تكوُّن الأشجار الضخمة والنباتات القوية القادرة على استيطان مساحات شاسعة من الأرض. واللجنين مادة يصعب على البكتيريا والفطريات أن تحللها، ويبدو أنها بدأت تُمثِّل تحدِّيًا لا يُبارى في هذا الشأن بعد نشوئها بقليل، ولا تزال كذلك حتى اليوم. فبدلًا من أن تتحلل لإنتاج الطاقة، فإنها دُفِنَتْ سليمة على نطاق شاسع، وبقي الأكسجين، الذي يُعتبَر مقابلًا لها، بنسب كبيرة في الهواء.

وقعت حوادث جيولوجية في زمنين آخرين جعلت مستويات الأكسجين ترتفع، وربما كانت الحالتان نتاجًا لما حدث من طغيان متكرِّر للجليد على الأرض، وهو ما سُمِّي «الكرة الأرضية الثلجية». حدث الارتفاع الكبير الأول في مستويات الأكسجين منذ حوالي ٢٢٠٠ مليون سنة، وقد تبع فترة صعبة من التقلبات الجيولوجية والتجلد العالمي في أنحاء العالم في ذلك الزمن. وحدثت الفترة الأخرى من التجلد العالمي منذ حوالي ٨٠٠ إلى ٦٠٠ مليون سنة مضت، ويبدو أيضًا أنها أدَّتْ إلى رفع مستويات الأكسجين. ومن المرجح أن تلك الأحداث العالمية الكارثية قد غيَّرَت التوازن بين البناء الضوئي والتنفس، وبين دفن المواد الكربونية وتآكلها. فمع انصهار الكُتَل الجليدية الضخمة وسقوط الأمطار، تسربت المعادن والعناصر الغذائية (كالحديد والنترات والفوسفات)، التي كانت قد انحلَّتْ من الصخور بفعل الثلج، إلى مياه المحيطات، مسببة زيادة كبيرة في نمو البكتيريا والطحالب الناتجة عن البناء الضوئي، وهو أمر يشبه تأثير الأسمدة الكيميائية في الوقت الحاضر، ولكن بقدر أكبر بكثير. ولم يقتصر تأثير الثلج الذائب على إحداث ذلك الازدهار والنمو، ولكن كان هناك ميل أيضًا لدفنه؛ إذ اختلط التراب والثلج المتسخ وفتات الصخور التي انجرفت إلى مياه المحيطات بالبكتيريا النامية، وترسب الخليط تدريجيًّا، دافنًا الكربون بدرجة غير مسبوقة. وحدث مع هذه الوقائع ارتفاع عالمي طويل الأمد في الأكسجين.

وهكذا يُوجَد انطباع بالتصادف العرضي يتعلَّق بأكسجة كوكبنا الأرضي. ويتعزز هذا الانطباع بفعل غياب أي تغيُّر على مدى فترات طويلة فيما عدا الذي ذكرناه. ففي الحقبة الطويلة من ٢٠٠٠ مليون سنة مضت إلى حوالي ١٠٠٠ مليون سنة مضت — وهي حقبة يُسمِّيها علماء الجيولوجيا «المليار الممل» — يبدو على وجه التقريب أنه لم يحدث شيء يستحق الذكر؛ إذ بقيت مستويات الأكسجين ثابتة ومنخفضة طوال تلك الحقبة الموغلة في القدم، كما حدث في أزمان أخرى على مدى مئات الملايين من السنين. إن الركود المطبق هو الأساس، بينما تتسبب نوبات عدم الاستقرار الجيولوجي في تغيرات طويلة الأمد، ربما تقع عوامل جيولوجية مشابهة على كواكب أخرى أيضًا. ولكن يبدو أن حدوث الحركات التكتونية والنشاط البركاني أمر ضروري لإحداث التفاعلات العرضية اللازمة لكي يتراكم الأكسجين. وليس من المستحيلات أن تكون عملية البناء الضوئي قد ظهرت على كوكب المريخ منذ زمن بعيد، ولكن هذا الكوكب الصغير بما فيه من لب بركاني منكمش لم يستطع الحفاظ على مستوى التدفق الجيولوجي المطلوب حتى يتراكم الأكسجين، ثم لاحقًا فَقَدَ هذه القدرة.

•••

ولكن ثمة سبب آخر أكثر أهمية جَعَلَ عملية البناء الضوئي لا تؤدي بالضرورة إلى وجود غلاف جوي من الأكسجين على كوكبٍ ما؛ فعملية البناء الضوئي في حد ذاتها قد لا تعتمد على الماء كمادة خام مطلقًا. كلنا نعرف تلك الصورة من البناء الضوئي التي نراها حولنا؛ فالنخيل والأشجار والأعشاب البحرية كلها تعمل أساسًا بنفس الطريقة لإطلاق الأكسجين — وهي عملية تُعرَف بالبناء الضوئي الأكسجيني — ولكن إذا رجعنا عدة خطوات إلى الوراء وتأمَّلْنا البكتيريا فسنجد أن لديها خيارات أخرى كثيرة؛ فبعض البكتيريا البدائية نسبيًّا تستخدم الحديد المذاب أو كبريتيد الهيدروجين بدلًا من الماء. وإذا كانت تلك المواد تبدو كمواد خام غير معقولة بالنسبة لنا، فهذا فقط لأننا اعتدنا تمامًا على عالمنا المؤكسج — الذي هو نتاج البناء الضوئي «الأكسجيني» — لدرجة تجعل من الصعب علينا أن نتخيَّل حالات كانت تحدث في فترة مبكرة من حياة كوكب الأرض حينما نشأت عملية البناء الضوئي لأول مرة.

يصعب علينا كذلك أن نتفهم آلية البناء الضوئي، التي قد تتعارض مع البديهة ولكنها في الواقع بسيطة. دعني أعطك مثالًا أشك — ربما بشكل غير عادل — في أنه يُوضِّح المفهوم العام للبناء الضوئي. في كتابه الرائع «الجدول الدوري»، الذي نُشِر في عام ١٩٧٥، واختاره جمهور القراء (ومنهم أنا شخصيًّا) كأكثر كتب العلوم شعبية على الإطلاق، وتم ذلك الانتقاء في المعهد الملكي بلندن في عام ٢٠٠٦؛ يقول المؤلف بريمو ليفي:

تدخل ذرة من الكربون ورقة النبات، فتصطدم بجزيئات أخرى لا حصر لها (وإن كانت هنا بلا فائدة) من النيتروجين والأكسجين. وهي تلتصق بجزيء كبير ومعقد ينشطها، وفي نفس الوقت تتلقى الرسالة الحاسمة من السماء، في صورة حزمة وامضة من الضوء الشمسي، وفي لحظة، مثلما يقتنص العنكبوت الحشرة ينفصل الكربون عن الأكسجين الذي ارتبط به، ويتحد مع الهيدروجين (وأظن) مع الفسفور أيضًا. وفي النهاية ينعقد في سلسلة، لا يهم إن كانت طويلة أو قصيرة، ولكنها سلسلة الحياة.

هل لاحظت الخطأ؟ في الحقيقة هناك خطآن، ومن المؤسف أن ليفي تغاضى عنهما؛ إذ إن الكيمياء الحقيقية للبناء الضوئي جرى توضيحها قبل تاريخ هذا الكتاب بأربعين عامًا؛ فليس ما يحدث أن حزمة وامضة من الضوء الشمسي تقوم بتنشيط ثاني أكسيد الكربون، بل إنه يمكن تنشيطه بنفس الدرجة أيضًا في الليل، وهو حقًّا لا يتم تنشيطه بالضوء، أيًّا كان، حتى في أشد أشعة الشمس سطوعًا. كما لا ينفصل الكربون في لحظة عن الأكسجين، بل يبقى الأكسجين مرتبطًا بالكربون بشدة. وأما افتراض ليفي بأن الأكسجين المنطلق من عملية البناء الضوئي يأتي من ثاني أكسيد الكربون — وهو افتراض شائع — فإنه خطأ مؤكد. فهذا لا يحدث، بل يأتي الأكسجين من الماء، وهذا يصنع كل الفارق في عالمنا. وإنها الخطوة الأولى لكي نفهم كيف نشأ البناء الضوئي، كما أنها الخطوة الأولى لحل أزمات الطاقة والبيئة في كوكبنا.

تشق حزم الطاقة الشمسية التي تُستخدَم في عملية البناء الضوئي جزيء الماء إلى عنصريه: الهيدروجين والأكسجين. وهو نفس التفاعل الذي يحدث على مستوى كوكبنا ككلٍّ حينما «تنزف» المحيطات إلى الفضاء، مدفوعة بقوة تأثير الإشعاع فوق البنفسجي. وما تُحقِّقه عملية البناء الضوئي — وما فشلنا نحن في تحقيقه حتى الآن — هو أن يكون لديها عامل محفز يمكنه العمل على فصل الهيدروجين عن الماء بأقل مأخذ من الطاقة، باستخدام ضوء الشمس اللطيف وليست الأشعة اللافحة فوق البنفسجية أو الكونية. وحتى يومنا هذا انتهت كل جهودنا الإبداعية البشرية إلى استهلاك المزيد من الطاقة في تحليل الماء إلى شِقَّيْه بأكثر مما يتم الحصول عليه بهذه العملية. وحينما ننجح في محاكاة البناء الضوئي، باستخدام عامل محفز بسيط يمكنه فصل ذرات الهيدروجين ببساطة عن الماء سنكون قد حللنا أزمة الطاقة العالمية؛ إذ يمكن بحرق ذلك الهيدروجين الوفاء باحتياجات الطاقة العالمية دون عناء، مع استعادة الماء مجددًا كناتج ثانوي وحيد؛ فلا تلوُّث ولا آثار كربونية، ولا احترار عالمي. إلا أنها ليست بالمهمة السهلة؛ إذ يُعتبَر الماء تركيبة من الذرات شديدة الثبات بشكل مذهل، وتشهد المحيطات على هذا؛ فحتى أقسى العواصف وأهوجها، التي تضرب الصخور وتكاد تسحقها، تعجز عن تفكيك الماء إلى مُكوِّنَيْه من الذرات. إن الماء في الحقيقة هو أكثر المواد الخام انتشارًا في كوكبنا وأكثرها صعوبة في التكوين. وكم سيحب البحَّارُ الحديثُ أن يُزوِّد سفينته بالماء كوقود مستعينًا بالقليل من أشعة الشمس. ولعله يسأل الطفاوة الخضراء العائمة على أمواج البحر عن كيفية عمل ذلك.

ولقد واجهت نفس المشكلة الأسلاف البعيدة لتلك الطفاوة، أي أسلاف البكتيريا الزرقاء التي تعيش اليوم، والتي هي الصورة الوحيدة للحياة على كوكبنا التي جرَّبَتْ حيلة تحليل الماء إلى شِقَّيْه. والأمر الغريب أن البكتيريا الزرقاء تُحلِّل الماء لنفس السبب الذي جعل أقرباءها من البكتيريا تُحلِّل كبريتيد الهيدروجين أو تُؤكسِد الحديد؛ فهي تحتاج إلى الإلكترونات. وظاهريًّا، يبدو الماء آخر مكان يمكن العثور فيه على تلك الإلكترونات.

وهكذا إذا تأمَّلْنا عملية البناء الضوئي فسنجدها بسيطة؛ إذ إنها كلها تتعلق بالإلكترونات. أضِفْ قليلًا من الإلكترونات إلى ثاني أكسيد الكربون، وأضِفْ معها قليلًا من البروتونات لموازنة الشحنات الكهربية، وهكذا نحصل على السكر. والسكريات جزيئات عضوية؛ فهي سلسلة الحياة التي تحدَّثَ عنها بريمو ليفي والمصدر الأساسي لطعامنا كله. ولكن من أين تأتي الإلكترونات؟ يمكن بقليل من الطاقة الشمسية أن تأتي الإلكترونات من أي مكان تقريبًا. في حالة الصورة «الأكسجينية» المألوفة من البناء الضوئي تأتي الإلكترونات من الماء، ولكن في واقع الأمر من الأسهل بكثير أن تنزعها من مركبات أخرى أقل ثباتًا من الماء. فخُذِ الإلكترونات من كبريتيد الهيدروجين وبدلًا من أن تُطلِق الأكسجين إلى الهواء، فإنك ترسب عنصر الكبريت، أو خذ الإلكترونات من الحديد الذائب في المحيطات (في صورة حديدوز) فتحصل على حديد أحمر ضارب إلى اللون البني (في صورة حديديك)، والذي يستقر كصخور جديدة، وهي عملية ربما كانت مسئولة منذ القدم عما تُسمَّى «ترسبات الحديد الشريطي» الشاسعة التي تُوجَد في أنحاء العالم، وتشكل في يومنا هذا أكبر الاحتياطيات المتبقية من خام الحديد منخفض الجودة.

يُعتبَر هذان الشكلان من البناء الضوئي هامشيين في عالمنا اليوم الغني بالأكسجين، والسبب ببساطة أن المادتين الخام — كبريتيد الهيدروجين أو الحديد المذاب — نادرًا ما تجد أيًّا منهما في المياه جيدة التهوية. ولكن في العصور السحيقة حينما كانت الأرض في مقتبل عمرها، وقبل ظهور الأكسجين الحر، كانتا إلى أبعد حدٍّ هما أسهل مصدر للإلكترونات، وكانت المحيطات مشبعة بهما. وهذا الأمر يثير تساؤلًا فيه تناقض ظاهري، ويُعتبَر حله أساسيًّا في فهم كيفية نشوء البناء الضوئي لأول مرة: لماذا تحوَّلَت العملية عن مصدر ثري ومريح للإلكترونات إلى مصدر أكثر إثارة للمشاكل وهو الماء؛ الذي يُعَدُّ ناتجه الثانوي أو «نفايته» — وهو الأكسجين — غازًا سامًّا بالنسبة للبكتيريا ويمكن أن يُسبِّب أضرارًا مادية جسيمة لجميع أنواع البكتيريا التي تنتجه؟ إن حقيقة أنه في ضوء توافر قوة الشمس، وعامل محفز ماهر، يكون الماء أكثر وفرة من كلتا المادتين الخام سالفتَيِ الذِّكْر ليست لها أهمية؛ إذ لا يتمتَّع التطور بنظرة مستقبلية. الأمر عينه ينطبق على حقيقة أن البناء الضوئي الأكسجيني قد غيَّر وجه العالم؛ إذ إن هذا لا يُشكِّل أي فارق من منظور العالم. فما نوع الضغوط أو الطفرات البيئية التي يمكن أن تكون قد دفعَتْ إلى حدوث هذا التحوُّل نحو الماء؟

الإجابة السهلة التي ستجدها في كثير من الكتب الدراسية هي أن المادتين الخام السابقتين كانتا قد بدأتا في النضوب؛ فتحوَّلَت الحياة نحو الماء؛ نظرًا لعدم وجود بدائل سهلة متاحة، تمامًا كما يُتوقَّع لنا أن نتحوَّل إلى استخدام الماء كوقود بعد أن تنضب أنواع الوقود الحفري. ولكن هذه الإجابة لا يمكن أن تكون صحيحة؛ فالسِّجل الجيولوجي يوضِّح أن البناء الضوئي «الأكسجيني» كان قد نشأ قبل أن تنضب جميع تلك المواد الخام السابقة، بأكثر من مليار سنة. فالحياة لم تكن مجبرة على هذا التحوُّل قسرًا.

ثمة إجابة أخرى، بدأت تنبثق الآن، وتكمن مختفية في آلية البناء الضوئي ذاتها، وهي إجابة أجمل حقًّا. إنها إجابة تجمع بين المصادفة والحتمية؛ إجابة تلقي الضوء وتضفي البساطة على واحدة من أكثر عمليات الاستخراج تعقيدًا والتفافًا في العالم.

•••

في النباتات، تجري عملية استخراج الإلكترونات فيما تُسمَّى حبيبات (أو بلاستيدات) الكلوروفيل، وهي تراكيب دقيقة خضراء تُوجَد في خلايا جميع أوراق النباتات، وجميع أوراق الحشائش، وتُضْفي لونها الأخضر على أوراق النباتات ككلٍّ. وسُمِّيَتْ هكذا تبعًا للصبغ النباتي الذي أسبغ عليها لونها. ذلك الصبغ هو الكلوروفيل، الذي يُعتبَر مسئولًا عن امتصاص طاقة الشمس في عملية البناء الضوئي. ويُوجَد الكلوروفيل مدفونًا في نظام غشائي غير عادي يكوِّن الجانب الداخلي لحبيبات الكلوروفيل. تأخذ تلك الحبيبات شكل أقراص مسطحة تتكدَّس في الخلايا النباتية، وتبدو لمن يتأملها مثل محطة طاقة فضائية في فيلم من أفلام الخيال العلمي، ويرتبط بعضها ببعض عن طريق أنابيب سريعة النقل، تتقاطع عَبْر سيتوبلازم الخلية بجميع الزوايا والارتفاعات. وداخل هذه الأقراص الخضراء نفسها يجري العمل الأهم لعملية البناء الضوئي: استخراج الإلكترونات من الماء.

قُلْنا إن استخراج الإلكترونات من الماء عمل صعب؛ ومن ثم فإن النباتات تصنع في هذا العمل وجبة غير عادية. إن مركبات البروتينات والأصباغ النباتية كبيرة جدًّا — من الناحية الجزيئية — لدرجة أنها تُقارِب في عملها عمل مدينة صغيرة. وهي ككلٍّ تُشكِّل مجموعتين كبيرتين من المركبات؛ تُعرَفان بالنظام الضوئي ١ والنظام الضوئي ٢، وتحتوي كل حبيبة كلوروفيل على آلاف من هذين النظامين. ووظيفتهما هي التقاط حزمة من الضوء، وتحويلها إلى مادة حية. وقد أُجْرِيَتْ أبحاث كثيرة لمعرفة كيفية إنجاز هذا العمل واستغرقت تلك الأبحاث جانبًا كبيرًا من قرن كامل، وتطلبت بعضًا من أكثر التجارب ذكاء ومهارة في التاريخ. ومما يُؤسَف له أن المكان هنا لا يسمح بشرح تلك الأمور.٣ ولكننا في حاجة إلى أن نشغل أنفسنا فقط بما تعلمناه وما يجب أن نقوله عن ذلك الاختراع الذي يُسمَّى البناء الضوئي.
يعرف الأساس المفاهيمي لعملية البناء الضوئي؛ أي خارطة الطريق التي تفسر عمله، بما يُسمَّى «المخطط Z»، وهو صيغة تُلهِب خيال طلبة الكيمياء الحيوية وتبثُّ الرعب في قلوبهم على حد سواء. وضع هذا المخطط رجل إنجليزي ألمعي، وإن كان شديد التحفظ، يُدعَى روبن هيل في عام ١٩٦٠، ويشرح المخطط Z «ملامح الطاقة» لعملية البناء الضوئي. كانت ألفاظ هيل مبهمة مقتضبة، فلم يشأ أو لم يجرؤ حتى مَنْ زاملوه في معمله أنفسهم على إظهار جهلهم بما يفعله، حتى إنهم فُوجِئوا بنشر فرضيته تلك في مجلة «نيتشر» في عام ١٩٦٠، فلم تكن لديهم فكرة، إلا القليل، عما كان يقوم به. وفي واقع الأمر لم يكن المخطط Z مبنيًّا على تجارب هيل، التي كانت لها أهمية كبيرة، ولكنه كان مأخوذًا من عدد من الملاحظات التجريبية المحيِّرة. وعلى رأس تلك الملاحظات موضوع مثير للفضول يتعلَّق بالديناميكا الحرارية. فلقد تبيَّنَ أن عملية البناء الضوئي لا تنتج مادة عضوية جديدة فحسب، بل إنها تنتج أيضًا مادة ثلاثي فوسفات الأدينوسين، التي تُعتبَر «عملة الطاقة» للحياة. ومما يثير التعجب أن هذين الشيئين يبدو أنهما يكونان معًا دائمًا؛ فكلما زاد ما ينتجه البناء الضوئي من مادة عضوية زاد مقدار ثلاثي فوسفات الأدينوسين، والعكس بالعكس (فإذا انخفضت كمية المادة العضوية انخفض كذلك إنتاج ثلاثي فوسفات الأدينوسين). يبدو أن الشمس ترسل وجبتَيْ غذاء مجانيتين بشكل متزامن. وكان روبن هيل يتمتع بالبصيرة التي جعلته يفهم آلية البناء الضوئي بكاملها من هذه الحقيقة بمفردها؛ فمن العبقرية — كما يُقال — أن يكون لدى المرء القدرة على رؤية ما هو واضح بديهي قبل أي شخص آخر.٤
لكن تبيَّن أن مصطلح المخطط Z خادع، شأنه شأن أي شيء آخر مرتبط بهيل. فحرف Z يجب حقًّا أن نديره بزاوية ٩٠ درجة ليصبح حرف N؛ وحينئذٍ سوف يعكس بشكل أدق ملامح الطاقة المتعلقة بالبناء الضوئي. تخيَّل الجزء الصاعد من حرف N كتفاعل رأسي متجه إلى أعلى؛ فيجب أن يتمَّ التزوُّد بالطاقة ليتم هذا التفاعل. أما الجزء النازل بميل من حرف N فهو تفاعل متجه لأسفل كشلال مائل؛ وهو يطلق الطاقة التي يمكن التقاطها وتخزينها في صورة ثلاثي فوسفات الأدينوسين. ثم الارتفاع الأخير من حرف N هو تفاعل متجه لأعلى مجددًا ويتطلب إمدادًا بالطاقة.
في عملية البناء الضوئي يقع كلا النظامين الضوئيين ١ و٢ عند النقطتين السفليتين من الحرف N. ففوتون الضوء يضرب النظام الضوئي ١ فيطلق إلكترونًا لأعلى نحو مستوى أعلى من الطاقة، ثم يهبط مستوى الطاقة لهذا الإلكترون في سلسلة من الخطوات الجزيئية الصغيرة التي توفر الطاقة المطلوبة لصنع ثلاثي فوسفات الأدينوسين. وحين يعود الإلكترون إلى مستوى طاقته المنخفض يصل إلى النظام الضوئي ٢؛ حيث يطلقه فوتون ثانٍ لأعلى في المرة الثانية لمستوى طاقة أعلى. وفي هذه النقطة العالية الثانية يكون الإلكترون قد انتقل إلى ثاني أكسيد الكربون، وهي الخطوة الأولى لصنع السكر. وقد رسم ريتشارد ووكر رسمًا كاريكاتوريًّا (انظر الشكل ٣-١) يصور العملية كلعبة اختبار قوة في الساحة، حيث يضرب المتباري على رافعة معدنية بالمطرقة لتدفع قطعة معدنية لأعلى على طول عمود رأسي ليدق الجرس في أعلى العمود. وفي هذه الحالة يعطي تأرجح المطرقة الطاقة اللازمة لضرب قطعة الدق لكي ترتفع لأعلى العمود، وفي حالة عملية البناء الضوئي تقوم طاقة فوتون صادر من الشمس بنفس المهمة.
fig6
شكل ٣-١: رسم كاريكاتوري لريتشارد ووكر يصوِّر المخطط Z. طاقة الفوتون، التي ترمز إليها ضربة المطرقة، تضرب الإلكترون ليرتفع إلى مستوى طاقة أعلى. وحينما يهبط الإلكترون عائدًا لأسفل، كما يسقط الشلال إلى مستوى طاقة أقل، ينطلق قَدْرٌ من الطاقة لِيبُثَّ النشاط في الخلية. ثم يأتي فوتون ثانٍ حينئذٍ ليضرب الإلكترون ليرتفع لأعلى مجددًا إلى مستوى طاقة أعلى من السابق، حيث يتم التقاطه في صورة جزيء عالي الطاقة NADPH وذلك يتفاعل فيما بعد مع ثاني أكسيد الكربون ليكوِّن جزيئًا عضويًّا.
يُعتبَر المخطط Z — أو لِتُسمِّه المخطط N إذا شئت — طريقة ملتفة بشكل غريب لعمل الأشياء، ولكنَّ هناك أسبابًا تقنية قوية لذلك. فهي تقوم بمهمة تتمثَّل في الإقران بين إزالة الإلكترونات من الماء وبين تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى سكر، وهي مهمة من المستحيل كيميائيًّا القيام بها بصورة أخرى. ويتعلَّق السبب بطبيعة نقل الإلكترونات، وبوجه خاص، بالانجذاب الكيميائي للإلكترونات تجاه مركبات معينة. وكما رأينا من قبل، فإن الماء شديد الثبات، وله قوة جذب عالية لإلكتروناته. ولكي نسرق إلكترونًا من الماء فهذا يتطلب قوة شد هائلة، بمعنى أننا نحتاج إلى عامل مؤكسِد قوي جدًّا، وهذا العامل المؤكسد القوي هو شكلٌ شَرِهٌ من الكلوروفيل، يمكننا تسميته «السيد هايد الجزيئي» الذي تحوَّلَ إلى هذه الصورة من صورة دكتور جيكل الخنوع عن طريق امتصاص فوتونات عالية الطاقة.٥ ولكن من المعروف أن الشيء الذي يكون ماهرًا في الأخذ يَمِيل إلى أن يكون أقلَّ مهارة في العطاء. ومن ثم؛ فإن الجزيء الذي يمسك بالإلكترون بإحكام يكون غير ميَّال كيميائيًّا لأن يتخلَّى عنه طواعية، تمامًا مثل السيد هايد مبغض البشر، أو أي شخص بخيل عضوض على ما له؛ فليست لديه قابلية لأن يعطي من ثروته بكرم تلقائي. وكذلك الحال مع ذلك الشكل من الكلوروفيل؛ فحينما يتم تنشيطه بالضوء تكون لديه قوة هائلة في جذب الإلكترونات من الماء، ولكن تقِلُّ لديه القدرة على الدفع بها مجددًا لأي مادة أخرى. أي باختصار مُبسَّط نقول إنه عامل مؤكسد قوي، ولكنه عامل مختزل ضعيف.
أما ثاني أكسيد الكربون فيعاني من مشكلة عكسية؛ فهو كذلك شديد الثبات، ولكن لا تكون لديه الرغبة كيميائيًّا في أن يتلقَّى المزيد من الإلكترونات. فهو لن يقبل أي إلكترونات إلا على مضض من عامل آخر شديد القوة في الدفع بالإلكترونات؛ أي من عامل مختزل قوي. وهذا يتطلب شكلًا آخر من الكلوروفيل؛ شكلًا يكون شديد المهارة في الدفع، وشديد الضعف في الجذب، فبدلًا من أن يكون بخيلًا قابضًا على حاجياته، فإنه أقرب للبائع المتجول الذي يُجْبِر المارة على شراء منتجات رديئة منه. وحينما يتم تنشيط ذلك الشكل من الكلوروفيل بالضوء تكون لديه القدرة على الدفع بإلكتروناته إلى جزيء آخر — يمكن تشبيهه بمساعد البائع المتجول — يريد في الوقت نفسه أن يتخلص منها وهو جزيء NADPH؛ ومن ثم تدفع الإلكترونات إلى ثاني أكسيد الكربون.٦
وهكذا هناك سبب لوجود نظامين ضوئيين في عملية البناء الضوئي، ولا عجب هنالك. ولكن السؤال الأكثر صعوبة هو: كيف نشأ وتطور هذا النظام المعقد المترابط؟ وللإجابة نقول: يُوجَد في الحقيقة خمسة أجزاء متتابعة في هذا النظام. أولها هو «مركب إنتاج الأكسجين»؛ وهو نوع من كسَّارة البندق الجزيئية التي تضبط مواضع وأوضاع جزيئات الماء بحيث يتم تكسيرها الواحد منها تلو الآخر لإخراج إلكتروناتها منها، مع إطلاق الأكسجين كناتج ثانوي. ثم يأتي دور النظام الضوئي ٢، (وهذا مما يثير الارتباك؛ إذ سُمِّي النظامان الضوئيان ١ و٢ بترتيب معكوس لأسباب تاريخية)، الذي حينما ينشطه الضوء يتحوَّل إلى مستر هايد الجزيئي، فينتزع هذه الإلكترونات من مركب إنتاج الأكسجين. ثم تأتي سلسلة خاصة بنقل الإلكترونات، وهذه تنقل الإلكترونات بعيدًا، مثل لاعبي الرجبي الذين يمررون الكرة بعرض الملعب. ثم تستخدم سلسلةُ نَقْل الإلكترونات فَرْق مستوى الطاقة المتدرج لصنع القليل من ثلاثي فوسفات الأدينوسين، قبل تسليم نفس الإلكترونات إلى النظام الضوئي ١. وهنا يأتي فوتون آخر ليضرب الإلكترونات لترتفع إلى مستوى طاقة أعلى؛ حيث يتلقفها جزيء NADPH (مساعد البائع المتجول الجزيئي) وهو قادر على دفع الإلكترونات بقوة، ولا يريد أفضل من أن يتخلص منها مجددًا. وفي النهاية تأتي الآليات الجزيئية المطلوبة لتنشيط ثاني أكسيد الكربون وتحويله إلى سكر. وباستخدام اﻟ NADPH المتولد عن النظام الضوئي ١ يتم تشغيل عملية تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى سكر، وذلك بواسطة الكيمياء وليس الضوء، وهو ما يُعرَف بالتفاعل المظلم، وهو ملمح أخفق بريمو ليفي في إدراكه.

تعمل هذه الأنظمة الخمسة في تتابع لانتزاع الإلكترونات من الماء ودفعها مجددًا إلى ثاني أكسيد الكربون. إنها طريقة شديدة التعقيد لكسر بندقة، ولكنها على ما يبدو تكاد تكون الطريقة الوحيدة لكسر تلك البندقة تحديدًا. والسؤال التطوري الكبير هنا هو: كيف ظهرت تلك الأنظمة المعقدة المترابطة فيما بينها إلى حيِّز الوجود، وكيف تم تنظيمها بهذه الطريقة الصحيحة، تلك الطريقة التي قد تكون الطريقة الوحيدة لجعل البناء الضوئي الأكسجيني يؤدي مهمته؟

•••

إن كلمة «حقيقة» من المرجح دائمًا أن تجعل علماء الأحياء يرتعدون؛ إذ إن هناك الكثير من الاستثناءات لكل قاعدة، ولكن هناك حقيقة تُعتبَر مؤكدة فعليًّا في عملية البناء الضوئي الأكسجيني، وهي أنها نشأت دفعة واحدة. فمقر البناء الضوئي، أي حبيبة أو بلاستيدة الكلوروفيل، يُوجَد في جميع الخلايا المتخصصة في البناء الضوئي في جميع النباتات وجميع الطحالب؛ فحبيبات الكلوروفيل واسعة الانتشار ويرتبط بعضها ببعض بوضوح. وهي تشترك معًا في تاريخ سري. وتكمن القرينة على ماضيها في حجمها وشكلها؛ إذ تشبه البكتيريا الصغيرة التي تعيش داخل خلية عائل أكبر حجمًا (انظر الشكل ٣-٢). وهذا الشبه بالبكتيريا تم إثباته بوجود حلقات مستقلة من الدي إن إيه في جميع حبيبات الكلوروفيل. وهذه الحلقات من الدي إن إيه يتم صنع نُسَخ منها كلما انقسمت حبيبات الكلوروفيل، ويجري تمريرها إلى «نسلها» بنفس الطريقة مثل البكتيريا. أيضًا، فإن التتابع التفصيلي لأحرف الدي إن إيه الخاص بحبيبات الكلوروفيل لا يقتصر أمره على كونه يؤكد الرابطة التي بينها وبين البكتيريا، ولكنه يشير أيضًا إلى أقرب أقربائها الأحياء؛ وهي البكتيريا الزرقاء. وأخيرًا وليس آخرًا، فإن مخطط Z المتعلق بالبناء الضوئي النباتي، بجميع أجزائه الخمسة المكوِّنة له، يُوجَد تمامًا (ولكن بآلية أبسط) في البكتيريا الزرقاء. واختصارًا نقول بلا شك إن حبيبات الكلوروفيل كانت أسلافها من البكتيريا الزرقاء الحرة.
fig7
شكل ٣-٢: شكل نموذجي لحُبَيْبة كلوروفيل من نبات البنجر (من نوع بيتا فلجاريس)، تظهر أكوام الأغشية (الثيلاكويدات)؛ حيث يتحلل الماء إلى عُنصرَيْه لإطلاق الأكسجين في عملية البناء الضوئي. وليس ذلك التشابه مع البكتيريا من قبيل المصادفة؛ فحبيبات الكلوروفيل كانت أسلافها من البكتيريا الزرقاء الحرة.

والبكتيريا الزرقاء، التي كانت تُسمَّى سابقًا خطأً بالطحالب الزرقاء المخضرة، تُعتبَر المجموعة الوحيدة المعروفة من البكتيريا التي يمكنها أن تُحلِّل الماء من خلال الشكل «الأكسجيني» من عملية البناء الضوئي. ولكن لا تزال كيفية وصول بعضٍ من أعداد تلك البكتيريا لتعيش داخل خلية عائل أكبر حجمًا لغزًا مختفيًا في غياهب أحقاب جيولوجية موغلة في القدم. لا شكَّ أن ذلك حدث منذ أكثر من ١٠٠٠ مليون سنة خلَتْ، ولكن يُفترَض أنها ابتُلعت ببساطة في وقت ما، ولم تُهضَم (وهو أمر شائع)، ثم ظهرت فائدتها لخلية العائل الخاصة بها في نهاية الأمر. والعائل الذي تمَّ تلقيحه وتلقيمه بالبكتيريا الزرقاء، استمرَّ تطوُّره حتى تكوَّنَتْ منه مجموعتان نباتيتان كبيرتان هما: الطحالب والنباتات؛ لأنها جميعًا اليوم تتميَّز بقدرتها على أن تعيش على الشمس والماء، عن طريق ذلك الجهاز المختص بالبناء الضوئي الذي توارثته عن أسلافها من البكتيريا.

ومن ثمَّ يصبح التساؤل عن أصل البناء الضوئي تساؤلًا عن أصل البكتيريا الزرقاء، وهي النوع الوحيد من البكتيريا الذي حلَّ مشكلة تحلُّل الماء. هذه واحدة من أكثر روايات علم الأحياء الحديث إثارة للجدل، جدل لم يُحسَم أمره إلى اليوم.

حتى منعطف الألفية الحالية، كان معظم الباحثين مقتنعين — وإن كانوا في حيرة — بالنتائج المدهشة التي توصَّلَ إليها عالم يُدعى بيل شوبف، الأستاذ النشيط الميال للنزاع لعلم الأحياء الحفرية في جامعة كاليفورنيا، بمدينة لوس أنجلوس الأمريكية. فمنذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين اكتشف شوبف وحلَّل عددًا من أقدم حفريات الحياة على الأرض، والتي يرجع زمنها إلى حوالي ٣٥٠٠ مليون سنة. ويحتاج لفظ «حفرية» إلى قليل من التوضيح هنا. فما وجده شوبف كانت خيوطًا من كبسولات صخرية ميكروسكوبية، وهذه كانت تشبه البكتيريا كثيرًا، وفي نفس أحجامها الحقيقية تقريبًا. وقد افترض شوبف في بداية الأمر، على أساس البنية التفصيلية لتلك الحفريات الميكروسكوبية، أنها من البكتيريا الزرقاء. كانت تلك الحفريات الميكروسكوبية الدقيقة تُوجَد ضمن قطع نسيجية حفرية (تُسمَّى «ستروماتوليتات» حفرية). أما الستروماتوليتات الحية فهي على شكل قباب مشبعة بالمعادن وتنمو في طبقات متزايدة، تصل ارتفاعاتها إلى متر تقريبًا، وتتكوَّن من مجتمعات مزدهرة من البكتيريا التي تُشكِّل قشور الطبقات المعدنية المدفونة (انظر الشكل ٣-٣). وفي نهاية الأمر تتحوَّل البنية كلها إلى صخر صلد، وغالبًا ما يبدو جميل المنظر عند أخذ قطاع منه. عادة ما نجد الطبقات الخارجية الحية من الستروماتوليتات الحديثة تعج بالبكتيريا الزرقاء، ومن ثم افترض شوبف أن تلك الأشكال العتيقة دليل إضافي على الظهور المبكر للبكتيريا الزرقاء. وخشية من وجود أي شك، استطرد شوبف في عمله ليظهر أن تلك الحفريات المشكوك في أمرها تحتوي على بقايا من كربون عضوي، من نوع اعتُبِر علامة مؤكَّدة على الحياة؛ ليست فقط أي حياة قديمة، ولكنها حياة مارست البناء الضوئي. وقال شوبف إن البكتيريا الزرقاء، أو كائنات شابهتها كثيرًا، قد نشأت على الأرض منذ ٣٥٠٠ مليون سنة مضَتْ، أي بعد نهاية فترة تعرُّض الأرض للقصف الكبير من الكويكبات — تلك الفترة التي ميَّزَت السنوات المبكرة لكوكبنا — ببضع مئات من ملايين السنوات فقط، بل إن هذا حدث بعد تكوُّن النظام الشمسي نفسه بفترة قصيرة نسبيًّا.
fig8
شكل ٣-٣: ستروماتوليتات حية في بركة هاملين، قرب خليج القرش في غرب أستراليا. تَصِل درجة ملوحة البركة إلى ضعف ملوحة البحار والمحيطات العادية، وهذا يَعُوق تكاثر الكائنات البحرية مثل القواقع، ويمكِّن مستعمرات البكتيريا الزرقاء من الازدهار.
لم يكن سوى قلة من الناس مستعدين لتحدي تقييم شوبف لهذه الحفريات العتيقة، بل إن هذه القلة نفسها بدت مقتنعة بما قال. كان هناك آخرون أكثر تشككًا، وإن كانوا أقل خبرة. لم يكن من السهل أن يقبل المرء بفكرة النشوء المبكر للبكتيريا الزرقاء — والمفترض أنها كانت تطلق الأكسجين كناتج ثانوي كما تفعل اليوم — مع وجود أول علامات جيولوجية للأكسجين في الجو، واستمرار ذلك إلى ما يزيد عن مليار سنة بعدها. ولعل ما كان أكثر أهمية أن تعقيد المخطط Z جعل معظم علماء الأحياء يرفضون فكرة أن يكون البناء الضوئي الأكسجيني قد نشأ بهذه السرعة. ونظرًا لأن أشكال البناء الضوئي الأخرى أكثر بساطة؛ فقد بدا أنها تتوافق على نحوٍ أفضل مع تلك الأوقات العتيقة. وبصفة عامة نقول إن معظم الناس تقبَّلوا أن ما تم اكتشافه هو بكتيريا بالفعل، وربما كانت بكتيريا تستخدم البناء الضوئي، ولكن كان ثمة شكوك عما إذا كانت بالفعل من البكتيريا الزرقاء، وهذه هي قمة المشكلة.

ثم جاء مارتن برايسير أستاذ علم الأحياء الحفرية بجامعة أكسفورد، وخطا إلى الحلبة، فتحوَّل الأمر إلى واحدة من أحمى المعارك في علم الحفريات في العصر الحديث، وهو علم عُرِف عامة بالطباع الانفعالية لكبار رجاله، مع مرونة ومطاطية الكثير من أدلته. اتَّكَل معظم الباحثين المهتمين بالحفريات الشديدة القِدَم على العينات القابعة في متحف التاريخ الطبيعي بلندن، ولكن برايسير رجع إلى المكان الجيولوجي الذي استخرج منه شوبف حفرياته أصلًا، فشعر بالصدمة؛ إذ وجد المكان بعيدًا عن أن يكون ذلك المسطح البحري الضحل الهادئ الذي افترض شوبف وجوده، بل كانت المنطقة كلها تتخللها العروق الحرارية الأرضية، وهو دليل على وجود ماضٍ جيولوجي عنيف، على حد قول برايسير الذي أردف قائلًا إن شوبف انتقى عينات بعينها ليبرز أفكاره، وأخفى عينات أخرى كانت تبدو مماثلة سطحيًّا، ولكنها رسميًّا غير بيولوجية، ويرجح أنها كلها تكوَّنَتْ بتأثير الماء الشديد السخونة على الرواسب المعدنية. وتابع كلامه قائلًا إن الستروماتوليتات أيضًا تكوَّنَتْ بعمليات جيولوجية وليست بكتيرية، ولم يكن أمرها أكثر غموضًا من ظهور تموُّجات في الرمال. لم يكن للكربون العضوي بنية ميكروسكوبية على الإطلاق؛ مما جعله لا يختلف عن الجرافيت غير العضوي الذي نجده في كثير من الأماكن الحرارية الأرضية. وفي النهاية، وهو ما عُدَّ بمنزلة دقِّ المسمار الأخير في نعش عالم كان يُعتبَر عظيمًا في وقتٍ ما، قال طالبٌ سابقٌ لدى شوبف إنه يتذكَّر أنه حين كان طالبًا بالجامعة أجبره شوبف على إصدار تأويلات مشكوك فيها. بدا الأمر وكأن شوبف قد تحطَّمَ تمامًا.

لكن شوبف لم يكن من طراز الرجال الذين ينهزمون بسهولة، فبرز للمعركة، ورتَّبَ بعض المعطيات ليدلل على آرائه. ثم تقابل مع برايسير على المسرح في مناظرة ربيعية نارية أجرَتْها وكالة ناسا الفضائية في أبريل ٢٠٠٢، ودافع كلٌّ منهما عن قضيته. فبدأ برايسير الأستاذ بجامعة أكسفورد بعجرفته المعهودة، فشجب قضية شوبف قائلًا: «إنها حقًّا تمثيلية حرارية مائية؛ فكلها حرارة وليس فيها الكثير من الضوء.» ومع ذلك، لم يقتنع المحلفون في هذه المناظرة حقًّا بآراء أيٍّ من الطرفين المتنازعين. فبالرغم من وجود شكوك حقيقية بشأن الأصل البيولوجي لأوائل الحفريات الدقيقة، فإن هناك حفريات أخرى — يعود تاريخها إلى مائة مليون سنة فقط بعدها — لم تتعرض إلا لقليل من الدحض؛ بل إن برايسير نفسه كان قد تقدَّم بحفريات رشَّحَها للعرض من نفس ذلك الزمن. إن معظم العلماء، وفيهم شوبف، يُطبِّقون الآن معايير أكثر تشددًا لإثبات صحة المصادر البيولوجية التي لديهم. لكن لا تزال هناك جزئية من العشوائية؛ وهي المتعلقة بالبكتيريا الزرقاء، التي كانت حجر الأساس لشهرة شوبف. وحتى شوبف يعترف بأن الحفريات الدقيقة التي عرضها يرجح أنها ليست من البكتيريا الزرقاء، أو على الأقل ليست أكثر ترجيحًا لأن تكون من البكتيريا الزرقاء عن أي نوع آخر من البكتيريا الخيطية. وهكذا عادت قضية البكتيريا الزرقاء إلى المربع صفر، وهدأت حدة الجدل، مع عدم وجود فكرة أفضل عن نشوء تلك البكتيريا مما كان في البداية.

•••

ذكرت تلك القصة لإظهار مدى صعوبة أن يغوص المرء في أعماق الزمن الجيولوجي، مستخدمًا سجل الحفريات وحده. فحتى إثبات وجود البكتيريا الزرقاء، أو أسلافها على الأقل، لا يثبت أنها تمكنت من تحليل الماء بالفعل. ولعل أسلافها اعتمدت على صورة من البناء الضوئي أكثر بدائية. لكن هناك طرق أخرى لاستقاء المعلومات من العصور السحيقة، التي يمكن أن يثبت أنها أكثر نفعًا؛ وهي الأسرار المدفونة داخل الكائنات الحية نفسها، في داخل جيناتها الوراثية وأيضًا في تراكيبها الجسمانية، لا سيما في تراكيبها البروتينية.

فعلى مدى ما يزيد عن العقدين أو العقود الثلاثة الماضية، تعرَّضَت التراكيب الجزيئية التفصيلية للأنظمة الضوئية النباتية والبكتيرية للتدقيق والفحص العميق، مع استخدام العلماء لترسانة كبيرة من التقنيات لها أسماء تُثِير الرهبة؛ مما يدل على أن طرق عملها ليست أقل بثًّا للرهبة في القلوب، بدءًا من استخدام جهاز التصوير البلوري بالأشعة السينية إلى استخدام مطياف الرنين بالتدويم الإلكتروني. لا تعنينا الآن كيفية عمل تلك التقنيات المعقدة، بل يكفي أن نعرف أنها استُخدِمت لرسم صور وتكوينات مركبات عملية البناء الضوئي بدرجة تقارب الوضوح الذري؛ وإن كانت للأسف لا تصل إليها. وحتى يومنا هذا تستعر المجادلات في الاجتماعات، ولكنها مجادلات تخص التفصيلات. وأثناء تأليفي لهذا الكتاب، كنت قد رجعت توًّا من لقاء للمناقشة في الجمعية الملكية بلندن، وكان اللقاء ثريًّا بالجدل عن المواضع المحددة لخمس ذرات مهمة في مركب إنتاج الأكسجين. وسرعان ما صارت المجادلات ذات جانبين أحدهما سطحي والآخر عميق. فأما الجانب العميق فلأن المواضع المحددة للذرات تحدد الآلية الكيميائية الدقيقة التي يتم بمقتضاها تحليل الماء، وتُعَدُّ معرفة هذا الأمر هي الخطوة المفتاحية لحل أزمة الطاقة العالمية. وأما الجانب السطحي فهو أن مشاجرات العلماء في هذا الصدد كانت عن تحديد مواضع تلك الذرات الخمس داخل مسافة أقطار قليلة للذرة؛ أي بضعة أنجسترومات (أي أقل من واحد على المليون من المليمتر). ومما يثير دهشة الجيل الأكبر سنًّا من الباحثين، أنه لا يُوجَد إلا القليل من الخلاف بشأن مواضع جميع الذرات الأخرى التي تخص النظام الضوئي ٢ وعددها ٤٦٦٣٠ ذرة، والتي حدَّدها فريق جيم باربر في جامعة إمبريال كوليدج في عام ٢٠٠٤، بل وحُدِّدَتْ في وقت أحدث بتفصيل أكثر.

صحيح أن تلك الذرات القليلة المتبقية لا يزال مطلوبًا تحديد مواضع استقرارها النهائية، إلا أن المعمار الأكبر للنظامين الضوئيين، الذي تم التلميح إليه على مدى أكثر من عقد مضى، قد صار الآن أمرًا بسيطًا، وهناك كتب تتحدث عن تاريخ هذين النظامين التطوري. ففي عام ٢٠٠٦ أظهر فريق صغير قادَهُ بوب بلانكنشيب، الذي صار اليوم أستاذًا متميزًا في جامعة واشنطن، بمدينة سانت لويس الأمريكية، أن النظامين الضوئيين محفوظان جيدًا بشكل رائع في البكتيريا.٧ وبالرغم من المسافات التطوُّرية الشاسعة بين المجموعات المختلفة من البكتيريا، فإن التراكيب الأساسية للنظامين الضوئيين متماثلة تقريبًا، لدرجة إمكان مطابقتهما مكانيًّا بوضع أحدهما فوق الآخر باستخدام الكمبيوتر. وفضلًا عن هذا، فقد أكَّدَ بلانكنشيب وجود رابطة أخرى كان الباحثون يشكُّون في وجودها زمنًا طويلًا؛ وهي أن النظامين الضوئيين (١ و٢) يتشاركان أيضًا في التراكيب الأساسية، ومن المؤكد تقريبًا أنهما نشآ من سلف واحد منذ زمن بعيد جدًّا.
بتعبير آخر نقول إنه كان هناك سابقًا نظام ضوئي واحد. وفي وقتٍ ما حدث ازدواج لأحد الجينات لإنتاج نظامين ضوئيين متماثلين، ثم تباعد النظامان ببطء أحدهما عن الآخر تحت تأثير الانتقاء الطبيعي، بينما احتفظا بتشابه تركيبيٍّ وثيق فيما بينهما. وفي نهاية الأمر اقترن النظامان معًا ضِمْنَ المخطط Z المتعلق بالبكتيريا الزرقاء، ثم وصلا فيما بعد إلى النباتات والطحالب، وتحديدًا في حبيبات الكلوروفيل. ولكن هذا السرد البسيط يخفي معضلة عجيبة، فازدواج نظام ضوئي بدائي لا يحل مشكلة البناء الضوئي الأكسجيني مطلقًا؛ إذ لا يمكن أن تقرن بين جاذب قوي للإلكترونات ودافع قوي لها مطلقًا. وقبل أن يتمكَّن البناء الضوئي من ممارسة عمله، يجب على كلا النظامين أن يتباعدا في الاتجاهين المضادين، وحينئذٍ فقط يمكنهما أن يترابطا معًا بشكل مفيد. ومن ثم يكون السؤال: ما تتابع الأحداث الذي يمكن أن يباعد بين النظامين، فقط لكي يعيد ربطهما معًا كشريكين حميمين ولكن متضادين، تمامًا مثل ذكر وأنثى حيوان ما، يُعاد تزويجهما معًا، بعد أن كانا قد خرجا في السابق منفصلين من بويضة واحدة؟
إن أفضل وسيلة للوصول إلى الإجابة هي أن ننظر إلى النظامين الضوئيين أنفسهما. فهما يترابطان ضمن المخطط Z في البكتيريا الزرقاء، ولكن فيما عدا هذا فإن لديهما تاريخين تطوريين متباعدين بشكل يثير الاهتمام. فدَعْنا الآن ننحي جانبًا التساؤل عن المصدر الذي جاء منه النظامان الضوئيان أصلًا، ونلقي نظرة سريعة على توزيعهما الحالي في العالم البكتيري؛ فبعض مجموعات البكتيريا لديها النظام الضوئي ١ فقط، ولدى مجموعات أخرى النظام الضوئي ٢ فقط. وكل نظام ضوئي يعمل بنفسه ليحقق غايات مختلفة، وتقدِّم لنا مهمتهما المحددة فكرة دقيقة عن الكيفية التي نشأ بها البناء الضوئي الأكسجيني في البداية.
ففي البكتيريا، يفعل النظام الضوئي ١ بالضبط ما يفعله في النباتات. فهو يسحب إلكترونات من مصدر غير عضوي ويعمل كالبائع المتجول السابق الإشارة إليه ولكن على المستوى الجزيئي؛ إذ يدفع بتلك الإلكترونات بقوة إلى ثاني أكسيد الكربون لصنع السكريات. وما يختلف هنا هو المصدر غير العضوي للإلكترونات. فبدلًا من الماء، الذي لا يستطيع النظام الضوئي ١ التعامل معه مطلقًا، يسحب ذلك النظام الإلكترونات من كبريتيد الهيدروجين أو الحديد، وكلاهما يُعتبَر هدفًا أسهل من الماء بكثير. وفي نفس الوقت، فإن مساعد «البائع المتجول» الجزيئي الآخر، وهو جزيء NADPH، يمكن أيضًا أن يتكوَّن بالكيمياء وحدها، على سبيل المثال: في الفوهات الحرمائية التي شرحناها في الفصل الأول. هنا أيضًا يُستخدَم جزيء NADPH لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى سكريات عن طريق منظومة مشابهة من التفاعلات. ومن ثم، فإن الشيء الوحيد الذي استجدَّ في النظام الضوئي ١ هو ترويض الضوء ليؤدي مهمة كانت الكيمياء تؤديها وحدها في السابق.
ومما يستحق الذكر هنا أيضًا أنه لا يُوجَد شيء خاص فيما يتعلَّق بالقدرة على تحويل الضوء إلى كيمياء؛ فأي مادة صبغية طبيعية يمكنها أن تفعل هذا. إذ تبرع الروابط الكيميائية في تلك الأصباغ في امتصاص فوتونات الضوء، وحينما تفعل هذا يرتفع أحد الإلكترونات إلى مستوى طاقة أعلى، فتستطيع الجزيئات القريبة بسهولة أن تقتنصه. نتيجة لهذا يكون الصبغ قد تأكسد ضوئيًّا؛ فهو بحاجة إلى أحد الإلكترونات ليوازن حساباته، فيأخذه من الحديد أو كبريتيد الهيدروجين. هذا كلُّ ما يفعله الكلوروفيل. والكلوروفيل مادة بورفيرينية، ولا يختلف كثيرًا في صيغته البنائية عن مادة الهيم؛ ذلك الصبغ الحيواني الذي يحمل الأكسجين في دمائنا (ويشكل أحد جزئي هيموجلوبين الدم). وهناك بورفيرينات أخرى كثيرة يمكنها أن تنجز أفعالًا عجيبة مماثلة بالضوء، وأحيانًا ما تكون عواقب ذلك غير محمودة، كما يحدث في أمراض كالبورفيريا.٨ ومن المهم أن نعرف أن البورفيرينات هي ضمن أكثر الجزيئات تعقيدًا التي تمَّ عزلها من الكويكبات الفضائية وتخليقها أيضًا في المختبرات تحت ظروف تمهيدية حيوية معقولة. بتعبير آخر نقول إن البورفيرينات يُرجَّح أنها تكوَّنَتْ تلقائيًّا على الأرض في أزمنة مبكرة.

اختصارًا، التقط النظام الضوئي ١ صبغًا بسيطًا نسبيًّا هو البورفيرين، وأضاف قدرته الكيميائية التي تتأثر بالضوء تلقائيًّا إلى تفاعلات تحدث في الخلايا البكتيرية على أي حال. وكان نتاج ذلك صورة بدائية من البناء الضوئي يمكنها أن تستخدم الضوء لسحب إلكترونات من مصادر «سهلة» مثل الحديد وكبريتيد الهيدروجين، وتمرير الإلكترونات إلى ثاني أكسيد الكربون لصنع السكريات. ومن ثم؛ فإن تلك البكتيريا تستخدم الضوء لصنع الغذاء.

ماذا عن النظام الضوئي ٢؟ إن البكتيريا التي تستخدم هذا النظام الضوئي تستخدم الضوء لتنجز مهمة مختلفة تمامًا. فلا ينتج هذا النوع من البناء الضوئي مادة عضوية، ولكنه يُحوِّل الطاقة الضوئية إلى طاقة كيميائية، وهي في الواقع طاقة كهربية يمكن استخدامها لشحن الخلية. وآلية ذلك بسيطة؛ فحينما يصطدم أحد الفوتونات بجزيء من الكلوروفيل، ينفصل منه إلكترون ويرتفع إلى مستوى طاقة أعلى، كما ذكرنا سابقًا، حيث يلتقطه أحد الجزيئات القريبة. ثم يتم تمرير هذا الإلكترون سريعًا من حامل للإلكترونات إلى آخر على طول سلسلة هابطة ناقلة للإلكترونات، مع إطلاق القليل من الطاقة في كل مرة، إلى أن يعود مجددًا إلى مستوى طاقة أقل. ويتم التقاط بعضٍ من الطاقة المنطلقة في هذه العملية لإنتاج ثلاثي فوسفات الأدينوسين. وفي النهاية، يعود الإلكترون الذي أضناه الجهد إلى نفس الكلوروفيل الذي خرج منه في البداية، وبهذا تتم دورة كاملة. ومختصر القول إن الضوء يُسبِّب انفصال إلكترون ورفعه إلى مستوى طاقة عالٍ، وحينما يرجع لأسفل إلى مستوى «مستقر» فإن الطاقة المنطلقة يتم التقاطها لتكوين ثلاثي فوسفات الأدينوسين؛ وهو نوع من الطاقة التي يمكن أن تستعملها الخلية. فهي إذن بمنزلة دورة كهربية تُشحَن بالضوء.

من أين جاءت هذه الدورة؟ نقول مجددًا إنها جاءت من مصادر متعددة هي الأخرى. إن سلسلة نقل الإلكترونات مماثلة تقريبًا لتلك المستخدمة في التنفُّس، التي نشأت وتطوَّرت في الفوهات كما رأينا في الفصل الأول، فكأنها استُعِيرَتْ منها لأداء غرض أكثر حداثة قليلًا. ففي التنفس، كما لاحظنا، يتم نزع الإلكترونات من الغذاء وتمريرها في نهاية الأمر إلى الأكسجين لتكوين الماء. ويتم استخدام الطاقة المنطلقة لتوليد ثلاثي فوسفات الأدينوسين. وفي هذا النوع من البناء الضوئي يحدث نفس الشيء؛ إذ يتم تمرير الإلكترونات عالية الطاقة على طول سلسلة، ولكن ليس إلى الأكسجين، وإنما إلى نوع «جشع» (مؤكسِد) من الكلوروفيل. وكلما كان الكلوروفيل أكثر قدرة على «نزع» الإلكترونات (أي كلما كان أقرب إلى الأكسجين في طبيعته الكيميائية) كانت السلسلة أكثر كفاءة، وهي تمتص الإلكترونات أولًا بأول وتسحب طاقتها منها. والميزة الكبيرة هي أن تلك العملية لا تحتاج إلى وقود، ولا غذاء، على الأقل لتوفير الطاقة (ولكن الطاقة مطلوبة لتركيب جزيئات عضوية جديدة).

وكاستنتاج عام نقول إن النوعين الأكثر بساطة من البناء الضوئي يشبهان الفسيفساء في طبيعتهما. وكلا النوعين أوصلا محولًا جديدًا للطاقة؛ هو الكلوروفيل، إلى آلية جزيئية موجودة بالفعل. ففي إحدى الحالتين تُحوِّل هذه الآليةُ ثاني أكسيد الكربون إلى سكريات، وفي الحالة الأخرى تنتج ثلاثي فوسفات الأدينوسين. أما عن الكلوروفيل فمن المرجح تكوُّن أصباغ بورفيرينية مشابهة على الأرض في الأزمنة المبكرة تلقائيًّا، ثم تكفل الانتقاء الطبيعي بالباقي. وفي كلتا الحالتين يؤدي حدوثُ تغيراتٍ طفيفة في بنية الكلوروفيل إلى تعديل الطول الموجي للضوء الممتص، ومن ثم الخصائص الكيميائية. كل هذه التغيرات تُعدِّل كفاءة العمليات التي تحدث تلقائيًّا، وإن كانت في بادئ الأمر يَشُوبها الكثير من الهدر. ويكون الناتج الطبيعي هو نشوء نمط «بخيل جشع» من الكلوروفيل لتخليق ثلاثي فوسفات الأدينوسين في بعض أنواع البكتيريا الحرة، ونمط «البائع المتجول» من الكلوروفيل لصنع السكريات في البكتيريا التي تعيش بالقرب من موارد كبريتيد الهيدروجين أو الحديد. ولكن لا يزال السؤال الأساسي ماثلًا دون جواب: كيف ترتبط كل تلك العوامل معًا في المخطط Z للبكتيريا الزرقاء؛ لكي تحلل الوقود النهائي، وهو الماء؟

•••

الإجابة القصيرة عن السؤال هي: لا نعرف على وجه التأكيد. هناك طُرُق للتوصُّل إلى إجابة محددة، لكنها للأسف لم تفلح. فمثلًا، يمكننا بشكل منظم أن نقارن ونباين الجينات المتعلقة بالنظامين الضوئيين في البكتيريا؛ لبناء شجرة جينية تدل على أسلاف النظامين الضوئيين. إلا أن تلك الأشجار الجينية لا معنى لها فيما يخص الحياة البكتيرية بسبب حقيقة تخص تلك الحياة؛ وهي الجنس. فالجنس في عالم البكتيريا يختلف تمامًا عن الجنس في عالم الإنسان مثلًا؛ ففي عالم البشر تُتوارَث الجينات عَبْر الأجيال خطوة بخطوة؛ مما يُشكِّل شجرة عائلية واضحة محددة جيدة التنظيم. أما البكتيريا فتنشر جيناتها الوراثية بشكل مفرط دون أن تلقي بالًا لجهود خبراء الأنساب والجينات الوراثية. وتكون نتيجة هذه الفوضى هي شكل أقرب إلى الشبكة العنكبوتية وليست شجرة على الإطلاق؛ حيث تنتهي جينات بعض البكتيريا عند بكتيريا أخرى لا علاقة لها بها بالمرة. وهذا يعني أنه ليس لدينا دليل جيني حقيقي على الكيفية التي تمَّ بها تجميع النظامين الضوئيين ضمن المخطط Z.

لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نعطي أي إجابة. إن القيمة الكبيرة للفرضيات النظرية في العلوم هي أنها تلجأ إلى القيام بقفزات تخيلية إلى المجهول، فتقترح زوايا وتجارب جديدة يمكن أن تؤكِّد الافتراضات أو تُفنِّدها. وفيما يلي واحدة من أفضل تلك الفرضيات؛ وهي فكرة جميلة من جون ألِن أستاذ الكيمياء الحيوية في كلية كوين ماري بجامعة لندن وصاحب العقل المبدع. تحدثت عن ألِن في ثلاثة كتب متتابعة، وفي كل مرة كنتُ أقدِّم فكرة إبداعية مختلفة صادرة عنه. وفرضيته هي مثل أفضل الأفكار في العلوم، تتميَّز بالبساطة التي تُمزِّق سريعًا طبقاتٍ عدَّةً من التعقيد. قد لا تكون صحيحة؛ فليست كل الأفكار الكبيرة في العلوم صحيحة. ولكن حتى إذا كانت خطأ، فإنها تُظْهِر كيف «يُحتمَل» أن تكون الأمور قد صارت إلى ما هي عليه، كما أنها عن طريق اقتراح التجارب المطلوبة لاختبار تلك الأمور، ترشد الباحثين إلى الطريق الصحيح. إنها تُقدِّم الفكرة الثاقبة والحافز في الوقت ذاته.

يقول ألِن إن كثيرًا من أنواع البكتيريا تشغل الجينات الوراثية أو تُعطِّلها استجابةً لتغيُّرات في بيئتها؛ وهذه في حدِّ ذاتها تُعَدُّ من المعلومات العامة، ومن أهم المفاتيح البيئية المسئولة عن تشغيل الجينات وتعطيلها وجود المواد الخام أو غيابها. وبصفة عامة، فإن البكتيريا لا تُهْدِر الطاقة في بناء بروتينات جديدة بهدف معالجة مواد خام إذا لم تجد أيًّا منها حولها، بل إنها تكتفي بإيقاف أنشطتها إلى حين صدور إشعار آخر. ومن ثم؛ فإن ألِن يتخيَّل بيئةً متقلبةً — ربما كانت في شكل ستروماتوليتات في البحار الضحلة، أو عند فوهة حرمائية تُطلِق كبريتيد الهيدروجين إلى العالم. وتتفاوت الأحوال تبعًا لتأثير المد والجزر البحري، والتيارات الأخرى، والوقت من العام، والنشاط المائي الحراري وغيرها. والعامل الحاسم هو وجوب أن يكون لبكتيريا ألِن الافتراضية كلا النظامين الضوئيين، كما هو حال البكتيريا الزرقاء في يومنا هذا، ولكن تلك البكتيريا تختلف عن البكتيريا الزرقاء في كونها تستخدم أحد النظامين فقط في كل مرة. فحينما يكون كبريتيد الهيدروجين موجودًا، فإن البكتيريا تشغل النظام الضوئي ١ وتستخدمه لإنتاج المادة العضوية من ثاني أكسيد الكربون، ويمكنها أن تأخذ هذه المادة الجديدة وتستخدمها في النمو والتكاثر، وهكذا. ولكن إذا تغيَّرَتِ الظروف، وصارت الستروماتوليتات بغير مواد خام فإن تلك البكتيريا تنتقل إلى تشغيل النظام الضوئي ٢. وحينئذٍ تكف تلك البكتيريا عن صنع مواد عضوية جديدة (فهي لم تَعُدْ تنمو ولا تتكاثر)، ولكن يمكنها الحفاظ على وجودها عن طريق استخدام ضوء الشمس في صنع ثلاثي فوسفات الأدينوسين مباشرة إلى أن تتحسَّن الأحوال. لكلا النظامين الضوئيين فائدته، وكلٌّ منهما نشأ وتطوَّرَ من خلال سلسلة من الخطوات البسيطة كما رأينا سابقًا.

ولكن ماذا يحدث إذا اندثرت إحدى الفوهات الحرمائية، أو أدَّتِ التياراتُ الهوجاء إلى تغيُّرات طويلة الأمد في البيئة؟ لا بد حينئذٍ أن تعتمد البكتيريا على دورة الإلكترونات للنظام الضوئي ٢ في أغلب أحوالها. ولكن هنا تكمن مشكلة محتملة؛ إذ يمكن أن تنسَدَّ الدورة بإلكترونات من البيئة، حتى إذا حدث هذا ببطء في محيطها الفقير في الإلكترونات. إن دورة الإلكترونات تشبه إلى حدٍّ ما لعبة تمرير الطرود، فإما أن يكون لدى حامل الإلكترونات إلكترون وإما لا، تمامًا مثل الطفل؛ فإما أن يكون لديه طرد حينما تتوقَّف الموسيقى وإما لا. ولكن تخيَّلِ الآن مشرفًا وغدًا على هذه اللعبة معه كومة من الطرود، فهو مستمر في تمريرها إلى دائرة الأطفال الواحد تلو الآخر. وفي نهاية اللعبة يكون لكل طفل طرد واحد، ولا يمكن لأحد منهم أن يمرر طرده لمن يليه؛ فتتوقف اللعبة بسبب حالة الارتباك تلك.

نفس هذه الحالة تنطبق في أغلبها على النظام الضوئي ٢؛ إذ تكمن المشكلة في ضوء الشمس، لا سيما في تلك الأيام التي سبقَتْ وجود طبقة الأوزون؛ حيث كان المزيد من الإشعاع فوق البنفسجي يشق طريقه وصولًا إلى مستوى سطح البحر. ولا يقتصر تأثير الأشعة فوق البنفسجية على تحليل الماء، ولكن يمكن أيضًا أن تفصل الإلكترونات عن الأملاح المعدنية والمعادن الذائبة في المحيطات، وعلى رأسها المنجنيز والحديد. وهذا يُوضِّح بالضبط نوع المشكلة التي تحبط لعبة تمرير الطرود التي لدينا؛ إذ يتسرَّب بعضٌ من الإلكترونات إلى دورة الإلكترونات دون استعداد لها.

لا يُوجَد الحديد ولا المنجنيز بتركيزات عالية في مياه البحار اليوم؛ لأن مياه المحيطات تُأكسِد ما فيها تمامًا من هذين المعدنين، ولكن في الأزمنة الغابرة كانا بكميات وفيرة؛ فالمنجنيز، على سبيل المثال، يُوجَد بكميات هائلة في قاع البحر على شكل عقيدات عجيبة مخروطية الشكل، تراكمت على مدى ملايين السنين حول أشياء مثل أسنان أسماك القرش، وهي واحدة من قليل من الأشياء الحيَّة التي يمكنها أن تتحمَّل الضغوط الهائلة للماء عند قاع المحيط. ويُعتقَد أن هناك تريليون طنٍّ من العقيدات الغنية بالمنجنيز مبعثرة على قيعان البحار، وهو مخزون هائل ولكنه غير اقتصادي. وحتى المخزونات الأكثر اقتصادية مثل حقول المنجنيز الهائلة في كالاهاري بجنوب أفريقيا (وتحتوي على كمية أخرى مقدارها ١٣٫٥ مليار طنٍّ من الخام) فقد ترسَّبَتْ أصلًا في المحيطات منذ ٢٤٠٠ مليون سنة. خلاصة القول إن المحيطات كانت في قديم الزمان مليئة بالمنجنيز.

وبالنسبة للبكتيريا، يُعَدُّ المنجنيز بضاعة قيِّمة؛ فهو يعمل كمضاد للأكسدة ليحمي الخلايا من التأثير المدمِّر للإشعاع فوق البنفسجي. وحينما تمتص ذرة المنجنيز فوتونًا من الإشعاع فوق البنفسجي فإنها تُطلِق إلكترونًا، فتتأكسد ضوئيًّا، وفي هذه العملية تكون قد «عادلت» الأشعة. وبهذا تتم «التضحية» بالمنجنيز بدلًا من قطع وأجزاء الخلية الأكثر أهمية، مثل البروتينات والدي إن إيه، التي لولا ذلك لتفتتت بفعل الأشعة؛ ومن ثم ترحب بشِدَّةٍ البكتيريا بوجود المنجنيز لديها. وتكون المشكلة أنه حينما تَفْقِد ذراتُ المنجنيز إلكترونًا؛ فمن المرجَّح دائمًا أن يتلقَّفه ذلك النوع «البخيل الطماع» من الكلوروفيل في النظام الضوئي ٢. ومن ثم تنسد الدائرة تدريجيًّا بالإلكترونات، تمامًا مثلما غرقت دائرة الأطفال — التي ذكرناها — في الطرود. وما لم يكن ثمة وسيلة لاستنزاف الإلكترونات الزائدة التي تعوق الدائرة فإن النظام الضوئي ٢ يصير أقل كفاءة رويدًا رويدًا.

ولكن كيف يمكن أن تستنزف البكتيريا الإلكترونات من النظام الضوئي ٢؟ هنا تكمن عبقرية فرضية ألِن كلها؛ فالنظام الضوئي ٢ يكون قد انسَدَّ بالإلكترونات، بينما يبقى النظام ١ عاطلًا عن العمل بسبب نقص الإلكترونات لديه. إن كل ما تحتاجه البكتيريا هو تعطيل مفتاح التشغيل الذي يمنع عمل كلا النظامين الضوئيين في الآن عينه، إما بطريقة فسيولوجية وإما عن طريق طفرة من الطفرات. فماذا يحدث حينئذ؟ تدخل الإلكترونات النظام الضوئي ٢ مجلوبة من ذرات المنجنيز المؤكسدة، ثم يتم إطلاقها إلى مستوى عالٍ من الطاقة، بينما يمتص النوع «البخيل الطماع» من الكلوروفيل شعاعًا من الضوء. ومن هنا يتم تمريرها لأسفل عَبْر سلسلة نقل الإلكترونات، مع استخدام الطاقة المنطلقة لتوليد قليلٍ من ثلاثي فوسفات الأدينوسين، ثم تحدث هنا عملية التغيير. فبدلًا من العودة إلى النظام الضوئي ٢ المعاق بكثرة الإلكترونات، يقوم النظام الضوئي ١ النشط بالتقاط تلك الإلكترونات الجديدة الزائدة التي هو متعطِّش لها. ثم يتم إطلاق الإلكترونات لمستوى مرتفع من الطاقة مجددًا، مع امتصاص نوع «البائع المتجول» من الكلوروفيل لشعاع من الضوء. ومن ثم — بطبيعة الحال — يتم تمرير الإلكترونات في نهاية الأمر إلى ثاني أكسيد الكربون، لتكوين مادة عضوية جديدة.

هل هذا الكلام يبدو مألوفًا لك؟ لقد شرحتُ توًّا المخطط Z مجددًا؛ إذ يمكن بواسطة طفرة وراثية واحدة ربط النظامين الضوئيين في سلسلة واحدة، مع تمرير الإلكترونات من ذرات المنجنيز عن طريق المخطط Z بأكمله إلى ثاني أكسيد الكربون لصنع السكريات. وهكذا فما تبدو الآن فقط كعملية شديدة الالتفاف والتعقيد يمكن فجأة جعلها ممكنة، بل حتمية، وذلك بإجراء طفرة جينية واحدة. هذا منطق سليم ومعقول؛ فالقطع الجزيئية كلها في مواضعها وكلها تؤدي وظيفة كوحدات مفردة، كما أن الضغوط البيئية معقولة ويمكن توقُّعها. ولم يحدث من قبل أن أدَّتْ طفرةٌ واحدةٌ إلى إحداث مثل هذا الفارق الكبير في العالم.
الأمر يستحق تلخيصًا سريعًا لتقدير الصورة الكبيرة بالكامل. في البداية كان هناك نظام ضوئي واحد، يُرجَّح أنه استخدم ضوء الشمس لاستخلاص الإلكترونات من كبريتيد الهيدروجين ودفعها إلى ثاني أكسيد الكربون لصنع السكريات. وفي مرحلةٍ ما صار الجين مزدوجًا، ربما لدى أحد أسلاف البكتيريا الزرقاء. وتباعد النظامان الضوئيان وصار لكلٍّ منهما استخدام مختلف.٩ فاضطلع النظام الضوئي ١ بأداء ما كان يفعله في السابق، بينما تخصص النظام الضوئي ٢ في توليد ثلاثي فوسفات الأدينوسين من ضوء الشمس عن طريق دائرة إلكترونات. وكان يتم تشغيل النظامين الضوئيين أو إيقافهما تبعًا لحالة البيئة، ولكن لم يحدث قط أن تمَّ تشغيل النظامين معًا في آنٍ واحد. وبمرور الزمن، مع ذلك، يقع النظام الضوئي ٢ في مشكلة نتجت عن خصائص دائرة الإلكترونات؛ فأي زيادة فيما يَرِد من الإلكترونات من البيئة يؤدِّي إلى إرباك الدائرة وإعاقتها. ومن المرجح أنه كان ثمة ورود بطيء ومستمر من الإلكترونات من ذرات المنجنيز لتستخدمه البكتيريا في حماية نفسها من الإشعاع فوق البنفسجي. وهناك حل لهذه المشكلة يتمثَّل في تثبيط عملية التحويل بين النظامين الضوئيين، مع تمكينهما من العمل في آنٍ واحد. وبهذا تتدفَّق الإلكترونات من المنجنيز، خلال كلا النظامين الضوئيين، إلى ثاني أكسيد الكربون، وذلك عن طريق مسار مُعقَّد يُعتبَر إرهاصًا للمخطط Z الملتف بكل تفصيلاته الغريبة.

والآن صِرْنا على بُعْد خطوة واحدة من البناء الضوئي الأكسجيني بكل عنفوانه؛ فنحن نسحب الإلكترونات من المنجنيز، وليس من الماء. كيف إذن يحدث التحوُّل النهائي المطلوب؟ الإجابة المدهشة هي أننا في غير حاجة إلى شيءٍ مُعيَّن لإحداث التغيير.

•••

يُعتبَر المُركَّب المطلق للأكسجين مثل كسارة البندق؛ إذ يكبل الماء حتى يتم ضربه وإطلاق الإلكترونات منه الواحد تلو الآخر. وحينما تتم إزالة الإلكترونات ينطلق الأكسجين، ذلك الناتج الثانوي الثمين، إلى العالم. وذلك المركب المطلق للأكسجين في حقيقته أحد مكونات النظام الضوئي ٢، ولكنه يستقر عند آخر حافته، مواجهًا للعالم الخارجي، ومعطيًا انطباعًا بأنه «مثبت» في موضعه، وهو صغير بدرجة عجيبة. ويتكون ذلك المركب من عنقود من أربع ذرات من المنجنيز وذرة واحدة من الكالسيوم، ترتبط كلها معًا بشبكة من ذرات الأكسجين. هذا كل ما في الأمر.

على مدى سنوات، كان العالم قويَّ الشكيمة، مايك راسل — الذي صادفناه في الفصلين الأول والثاني — يجادل قائلًا إن بنية ذلك المُركَّب مشابهة بشكل ملحوظ لبعض المعادن التي تتأثَّر بحرارة الفوهات الحرمائية، مثل خام الهولنديت أو منجنيت الكالسيوم النفقي. ولكن حتى عام ٢٠٠٦ لم نكن نعلم بنية عنقود المنجنيز هذا بالتحليل الذري، وكان راسل مجرد صوت في البرية، ولكننا اليوم نعرف تلك البنية. ومع أن راسل لم يكن مُصيبًا تمامًا، فإن مفهومه بصفة عامة كان صحيحًا تمامًا. والصيغة البنائية التي كشف عنها فريق كان يرأسه فيتال ياشاندرا في بيركلي تحمل تشابهًا واضحًا للأشكال المعدنية التي افترضها راسل (انظر الشكل ٣-٤).
fig9
شكل ٣-٤: البنية المعدنية القديمة للمُركَّب المطلق للأكسجين: أربع ذرات من المنجنيز (موضَّحة بالحروف من A إلى D) ترتبط بالأكسجين ضمن شبكة، مع وجود ذرة من الكالسيوم قريبة منها. وقد تَمَّ الكشف عن هذه البنية باستخدام التصوير البلوري بالأشعة السينية.
لا نعرف ما إذا كان المركب المطلق للأكسجين في الأصل مجرد قطعة من المعدن اندمجت ضمن النظام الضوئي ٢ أم غير ذلك. فربما صارت ذرات المنجنيز مرتبطة بالأكسجين في شكل شبكة أثناء أكسدتها بالإشعاع فوق البنفسجي؛ مما أدى إلى تكوُّن بلورة دقيقة في نفس الموقع ونموها.١٠ وربما أدَّى قُرْب ذلك العنقود من الكلوروفيل، أو من قطع البروتين القريبة، إلى تغيير شكله بطريقة ما؛ مما أدى إلى تحسين وظيفته. ولكن أيًّا كان أصل ذلك العنقود، فهناك قَدْر كبير من الأحداث التصادفية المتعلقة به. فهو قريب إلى حدٍّ بعيد من التركيب المعدني لدرجة يتعجَّب معها المرء من كونه نتاجًا لعملية بيولوجية. وهو مثل قليل من العناقيد المعدنية الأخرى التي تُوجَد في قلب الإنزيمات، فنكاد نكون على يقين من أنه ارتداد إلى الأحوال التي كانت موجودة منذ مليارات السنين في الفوهات الحرمائية. وذلك العنقود المعدني، أغلى الجواهر الثمينة، تركَّزَ في مادة بروتينية، واحتفظت به وصانَتْه البكتيريا الزرقاء على طول الزمان.

وأيًّا كانت طريقة تكوُّن ذلك العنقود الصغير من ذرات المنجنيز فإنه فتح عالمًا جديدًا، ليس للبكتيريا التي احتفظت به منذ زمن البداية فحسب، ولكن لجميع صور حياة الكائنات على ظهر الأرض. فبمجرد تكوُّن ذلك العنقود الصغير من الذرات، بدأ في تحليل الماء، وبدأت ذرات المنجنيز المؤكسَدة الأربع بتجميع شراهتها الطبيعية لانتزاع الإلكترونات من الماء، ومن ثم إطلاق الأكسجين كناتج ثانوي. ويُلاحَظ أن تحليل الماء الذي تَمَّ حفزه بفعل الأكسدة المستمرة للمنجنيز بتأثير الإشعاع فوق البنفسجي، لا بد أنه كان بطيئًا في بادئ الأمر. ولكن بمجرد أن صار العنقود مرتبطًا بالكلوروفيل بدأت الإلكترونات في التدفُّق. ومع تأقلم الكلوروفيل مع هذه العملية ازدادت سرعته، وبدأ سحب الماء وتحليله، وسحب إلكتروناته وإخراجها، وطرد الأكسجين. وهذا التدفق المانح للحياة للإلكترونات — الذي بدأ ببطء ثم تسارع كالفيضان الغامر — وراء جميع مظاهر ازدهار الحياة على الأرض. إننا يجب أن نشكر تلك العملية الحيوية مرتين: مرة لأنها مصدر جميع أنواع الغذاء الذي نأكله، ثم مجددًا لما انطلق بسببها من الأكسجين الذي نحتاجه لحرق الغذاء الذي يبقينا أحياء.

تلك العملية هي أيضًا مفتاح حل أزمة الطاقة العالمية؛ فلا حاجة بنا لوجود نظامين ضوئيين؛ إذ لا يعنينا صنع المادة العضوية في هذا الصدد. بل نحتاج فقط إلى منتجين ينطلقان من تحليل الماء — وهما الأكسجين والهيدروجين — فجعلهما يتفاعلان معًا مجددًا يُولِّد كل الطاقة التي نحتاجها، والنفاية الوحيدة الناتجة هي الماء. وبتعبير آخر، نقول إننا بذلك العنقود الصغير من المنجنيز يمكننا استخدام طاقة الشمس في تحليل الماء، ثم نجعل المكونين الناتجين يتفاعلان معًا مرة أخرى لتوليد الماء مجددًا؛ ما يمكن تسميته اقتصاد الهيدروجين. فلا مزيد من التلوث، ولا مزيد من أنواع الوقود الحفري، ولا مزيد من أضرار غازات الكربون ومركباته الضارة، ولا مزيد من الاحترار العالمي الذي تسبب فيه البشر، وذلك إذا استثنينا احتمالات حدوث بعض الانفجارات. وإذا كان ذلك العنقود الصغير من الذرات قد غيَّرَ تركيبة العالم منذ زمن بعيد، فإن معرفتنا لتركيبته الذرية لا بد أن تكون الخطوة الأولى نحو تغيير عالمنا اليوم. وأثناء كتابتي لهذا الفصل، يتسابق الكيميائيون في أنحاء العالم في تخليق ذلك العنقود المنجنيزي الدقيق في المعمل، أو أي شيء مشابه له يحقق الفائدة مثله. وإنني مُوقِن أنهم سريعًا ما سيحققون النجاح. حينئذٍ لن يمر وقت طويل حتى نتعلم أن نعيش حياتنا بقدر من الماء وشيء من أشعة الشمس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤