الفصل التاسع

الوعي

جذور العقل البشري

في عام ١٩٩٦، كتب البابا يوحنا بولس الثاني رسالة شهيرة إلى الأكاديمية الأسقفية للعلوم، اعترف فيها بأن عملية التطور هي أكثر من مجرد فرضية. وقال: «جدير بالذكر حقًّا أن هذه النظرية قد تزايد قبولها من جانب الباحثين، على إثر ظهور سلسلة من الاكتشافات في حقول مختلفة من المعرفة. وإن التقارب غير المتعمد وغير الملفق بين نتائج الدراسات التي أُجْرِيَتْ بشكل مستقل هو في حدِّ ذاته برهان جوهري في صالح هذه النظرية.»

إلا أن البابا مع ذلك — وهو أمر غير مستغرب — لم يسلِّم بكل ما وَرَدَ ذِكْرُهُ بشأن هذه النظرية؛ إذ قال إن العقل البشري يتجاوز دائمًا حدود العلم المادي و«إن نظريات التطور، التي — تبعًا للفلسفات التي تستلهمها — ترى العقل منبثقًا من قوى المادة الحية أو مجرد ظاهرة ثانوية ناتجة عن هذه المادة، إنما تتضارب مع حقيقة الإنسان. كما أنها لا تستطيع أن تدعم كرامة الفرد.» وأردف قائلًا إن الخبرات الروحية والوعي الذاتي، وكل المنظومة الغيبية التي نتواصل عن طريقها مع الرب، لا تتأثر بالمقاييس المادية للعلم، بل تندرج ضمن عالمَيِ الفلسفة واللاهوت. وبمختصر القول، فإن البابا بينما يعترف بواقعية عملية التطور، لكنه كان حريصًا على وضع سلطة الكنيسة فوق عملية التطور.١

ليس هذا كتابًا عن الدين، ولا أرغب في مهاجمة معتقدات شخص كرَّس نفسه لها. ومع ذلك، فنفس الأسباب التي دَعَتِ البابا لأن يكتب عن التطوُّر (قائلًا: «إن سلطة الكنيسة معنيَّة على نحوٍ مباشرٍ بمسألة التطوُّر؛ لأنها تشمل مفهوم الإنسان.») جعلت العلماء يهتمون بالعقل؛ لأنه يشمل مفهوم التطور. فإذا لم يكن العقل نتاجًا للتطور فماذا يكون إذن؟ وكيف يتفاعل مع المخ؟ إن المخ كيان مادي؛ ومن ثمَّ يُفترَض أنه نتاج للتطور مثل مخاخ الحيوانات التي تتشابه في كثير من تراكيبها، إن لم يكن كلها، مع المخ البشري. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فهل يتطور العقل كما يتطور المخ، على سبيل المثال، أثناء كِبَر حجم المخ في الجماجم قبل البشرية على مدى ملايين السنين القليلة الماضية (وبالتأكيد هذا ليس موضوع نزاع علمي)؟ وفي هذا الشأن نتساءل أيضًا: كيف تتفاعل المادة والروح عند المستوى الجزيئي، كما يُفترَض أن يكون الحال؛ فكيف يمكن أن تُؤثِّر العقاقير أو إصابات المخ على العقل؟

كتب ستيفن جاي جولد بشكل إيجابي عن مجالين عظيمين غير متداخلين هما العلم والدين، ولكن كان حتميًّا أن تُوجَد بعض النقاط التي يجب أن يتلاقى عندها الاثنان ويتداخلا. ويُعتبَر الوعي المثال الأبرز لها. هذه القضايا تضرب بثقلها في أعماق التاريخ. وحتى الفيلسوف الفرنسي ديكارت، حينما افترض وجود فَصْلٍ بين الروح والمادة، لم يكن في الحقيقة يفعل أكثر من تأييد وترسيم فكرة لها جذور تاريخية وتدعمها الكنيسة باعتباره كاثوليكيًّا مخلصًا، ولم يكن لديه رغبة في التعرُّض للإدانة مِنْ قِبَل الكنيسة كما حدث لجاليليو؛ فبترسيم هذا الفصل حرَّرَ ديكارت الجسم وحتى المخ، للدراسة العلمية. وعلى العكس من البابا، يندر أن نَجِد من العلماء من يُؤيِّد الازدواجية الديكارتية صراحة، بمعنى الاعتقاد بالفصل بين الروح والمادة، ولكن هذا المفهوم ليس بالأمر السخيف، والتساؤلات التي طرحتها توًّا هي عرضة للاستكشاف العلمي. وميكانيكا الكم، على سبيل المثال، لا تزال تفتح الباب للمزيد من الأعاجيب الكونية للعقل، كما سنرى لاحقًا.

إنني أستشهد بكلام البابا لأنني أعتقد أن ما قاله يتجاوز حدود الدين؛ إذ يمس مفهوم تصوُّر الإنسان لنفسه. وحتى غير المتدينين قد يشعرون بأن أرواحهم — بكيفية ما — غير مادية، وأنها بشرية بشكل مميز، وأنها — بطريقة ما — «تتجاوز العلم المادي». إن قليلين فقط ممن قرءوا هذا الكتاب حتى هذه النقطة هم من سيشعرون أن العلم لا يحق له أن يفرض وصاية على الوعي، ولكن ربما بنفس القدر قليلون فقط هم من سيعطون علماء التطور حقوقًا خاصة تُخوِّلهم التسيُّد على مجموعة من فروع المعرفة والدراسة التي يمكن أن تزعم أن لها رؤًى متعمقة؛ مثل علم تصميم الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والعلوم اللغوية، وعلم الأعصاب، وعلم العقاقير، وفيزياء الكم، والفلسفة، واللاهوت، والتأمل، وفلسفة الزن، والأدب، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والطب النفسي، وعلم الإنسان، وعلم السلوك عند الحيوانات، وغيرها.

وعليَّ أن أقول منذ البداية إن هذا الفصل يختلف عن سائر فصول هذا الكتاب في تأكيده أن الأمر لا يقتصر على عدم معرفة العلم المادي (بعد) للإجابة عن التساؤلات السابقة، بل إننا كذلك في الوقت الحاضر يصعب علينا إدراك الكيفية التي قد تبدو عليها هذه الإجابة في ضوء القوانين المعروفة للفيزياء أو علم الأحياء أو المعلومات. ولا يُوجَد اتفاق بين دارسي العقل البشري على الكيفية التي يؤدِّي بمقتضاها تحفيز الخلايا العصبية إلى الأحاسيس الشخصية القوية.

لكن هذا سبب أقوى يجعلنا نتساءل أكثر عما يمكن أن يخبرنا به العلم عن أنشطة العقل البشري، وأين تصطدم تلك الجهود بحائط المجهول. يتراءى لي أنَّ وضع البابا هذا قابلٌ للدفاع عنه؛ حيث إننا لا نعرف كيف تُولَد «المادة وحدها»؛ ذلك العقل اللامادي الذي ندركه، بل إننا لا نعرف حتى ماهية تلك المادة المجردة تمامًا، ولا السبب وراء وجود المادة من الأساس عوضًا عن عدم وجودها (وهو تساؤل مماثل من بعض النواحي للتساؤل حول سبب وجود الوعي، بدلًا من وجود عملية معالجة لا واعية للمعلومات وحسب). ومع ذلك، أظن — أو ربما يجب أن أقول إنني أومن — أن التطوُّر يُفسِّر أكثر معالم العقل روحانية.٢ وأكثر من هذا، فإن الأنشطة المعروفة للعقل البشري أكثر روعة بكثير مما يستطيع العقل الغافل حتى أن يتخيله، وأن هناك أسبابًا وجيهة لإرساء كرامة الفرد على أساس سمو العقل البيولوجي.

ثمة أسباب قهرية أخرى تدعو العلم لأن يَقْبَل التحدي؛ فليس العقل البشري دائمًا هو الوعاء الثري الذي نُثمِّنه، بل هناك تلك الأمراض المخية التي تسلب العقل أنشطته. فمرض ألزهايمر، مثلًا، يسلب الإنسان هويته شيئًا فشيئًا، إلى أن يَصِل به في النهاية إلى أن يَصِير عديم الكيان. والاكتئاب الشديد مرض شائع جدًّا، وهو حالة خبيثة من الحزن تستهلك العقل من الداخل، أما الفصام العقلي (الشيزوفرينيا) فيأتي إلى العقل بأشد الأوهام قسوة وقربًا من الواقع في صورة هلاوس متنوعة، بينما تعمل بعض النوبات الصرعية على إذابة العقل الواعي كليةً، سالبة منه الوعي. وهذه الحالات تعطي انطباعًا رهيبًا بهشاشة العقل البشري. ثمة عبارة شهيرة وردت على لسان فرانسيس كريك يقول فيها: «إنك لست سوى كومة من الخلايا العصبية.» ولربما كان عليه أن يُضِيف أن تلك الخلايا تُشكِّل بيتًا هشًّا من أوراق اللعب. وإذا لم يعمل المجتمع والعلم جاهدَيْن على فهم تلك الحالات ومحاولة علاجها؛ فإن هذا سيكون إنكارًا للنعمة العظمى التي تُقدِّرها الكنيسة أشدَّ تقدير.

إن أول مشكلة تواجه أي حديث علمي عن موضوع الوعي هي التعريف؛ فهناك تعريفات عديدة للوعي. فإذا عرَّفنا الوعي بأنه إدراك «الذات» المنطمرة في العالَم — وهو إدراك ذاتي غني يعرِّف الفرد في إطار المجتمع والثقافة والتاريخ، بما يحمل من آمال ومخاوف عن المستقبل، وكل هذا محجوب في ثنايا الرمزية الكثيفة التأملية للغة — تكون البشرية بالطبع شيئًا فريدًا. إن هناك فجوة كبيرة بين البشر والحيوانات، فلا يمكن أن يحظى أيٌّ من الحيوانات بشرف هذه الكلمة، أي الوعي، بل ولا حتى أسلافنا ولا صغارنا.

ولعلَّ إعلاء شأن هذا المفهوم وَرَدَ في كتاب غريب، عنوانه «منشأ الوعي مع انهيار العقل الثنائي»، بقلم عالم النفس الأمريكي جوليان جاينس. وقد لخَّصَ الأمر قائلًا: «في فترةٍ ما كانت الطبيعة البشرية منقسمةً إلى عنصرين: عنصر مهيمن هو الرب، وعنصر تابع له هو الإنسان، ولم يكن أيٌّ منهما مدركًا بشكل واعٍ.» ما يثير التعجُّب أن جاينس حدَّد وقت حدوث هذا في زمن حديث للغاية في مرحلة ما بين تأليف ملحمتَي الإلياذة والأوديسة. (بطبيعة الحال، يزعم جاينس أن هاتين الملحمتين المختلفتين جدًّا قد ألَّفَهما شاعران إغريقيان اثنان يحمل كلٌّ منهما اسم هوميروس، ولكن تفصل بينهما مئات السنين.) النقطة المهمة هنا هي أن الوعي في نظر جاينس هو بنية اجتماعية ولغوية خالصة، وأنه شيء حديث نسبيًّا، وأن العقل يكون واعيًا فقط حينما يصير «مدركًا» أنه واعٍ. يمكن تقبُّل رأي جاينس دون بأس، ولكن أي رأي يبالغ في تقدير الأمور لدرجة أنه يستبعد مؤلف ملحمة الإلياذة من دائرة الوعي لا بد أن نعتبره رأيًا متطرفًا. فإذا لم يكن هوميروس الأول واعيًا، فهل كان مجرد زومبي غير واعٍ؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلا بد أن هناك صورًا ودرجات من الوعي، وتكون الصورة الأعلى منها هي الإدراك الذاتي، أو إدراك الذات بوصفها عضوًا حرًّا ومثقفًا في المجتمع، وتكون بقية الصور أدنى منها.

أغلب علماء الأعصاب يضعون فارقًا بين صورتين من الوعي، لدى كلٍّ منهما جذور في بنية المخ. تختلف المصطلحات والتعاريف، ولكن يمكننا القول بصفة أساسية إن مصطلح «الوعي الممتد» يشير إلى الأمجاد الكبيرة للعقل البشري، التي ما كانت لتحدث لولا عوامل اللغة والمجتمع … إلخ، أما الوعي «الأولي» أو «المركزي» فهو أكثر حيوانية في طبيعته تمامًا؛ إذ يتعلَّق بالعواطف والدوافع والألم، وهو إحساس بدائي بالنفس ينقصه منظور ذاتي أو إحساس بالموت، وإدراك للأشياء المادية في العالم؛ مثل عالم الثعلب، الذي إذا وقع في فخ ذي فكين، فقد يقضم ساقه ليهرب. وكما أورد العالم الأسترالي البارز ديريك دنتون في كتابه الرائع عن الوعي الحيواني، وعنوانه «العواطف الأولية»، فإن الحيوان يدرك بالتأكيد أنه وقع بين فكي الفخ، فيعقد النية على أن يتحرر منه. إن لديه قَدْرًا من إدراك النفس، ولديه خطة ما.

من قبيل المفارقة أن الوعي الممتد سهل التفسير نسبيًّا، حتى إذا استوجب الأمر تحديد مدلول كلمة «سهل». مع الوضع في الاعتبار المعنى الأولي للوعي؛ فلا شيء في الوعي الممتد يتجاوز الفهم المادي للعالم، فهناك وحسب دوائر كهربائية موازية رهيبة في المخ موضوعة في الإطار المعقَّد للمجتمع. ولا شيء إعجازي فيما يختص بالمجتمع ذاته، على سبيل المثال. ومن الواضح أن الطفل الذي يتربَّى منعزلًا داخل كهف مثلًا، لن يكون لديه من الوعي أكثر من الوعي البدائي. وكذلك، وبنفس الدرجة، إذا افترضنا أن بُعِثَ إلى الحياة إنسان كرومانيوني بدائي من عصر ما قبل التاريخ في فرنسا (الذي كان يعيش في الكهوف)، وتولَّيْنا تربيته في باريس في عصرنا هذا، فسيكون من المتعذر تمييزه عن سائر الفرنسيين الآخرين المعاصرين. نفس الأمر ينطبق على اللغة؛ فأغلب الناس يجدون استحالة في وجود أي صورة من الوعي المتطور لدى شخص أو حيوان محروم من اللغة، وهذا أمر حقيقي بصفة مؤكدة تقريبًا. لكن ليست اللغة شيئًا سحريًّا؛ إذ يمكن برمجة اللغة داخل إنسان آلي (روبوت) بما يجعله يجتاز اختبارًا للذكاء (مثل اختبار تورنج) دون أن يكون الروبوت واعيًا حقًّا أو حتى يمتلك إدراكًا أساسيًّا. الذاكرة أيضًا قابلة للبرمجة بوضوح. ونحمد الرب على أن الكمبيوتر الخاص بي يمكنه تذكُّر أي كلمة أكتبها عليه. وحتى «التفكير» قابِلٌ للبرمجة، ولنتذكَّرْ ذلك الكمبيوتر المخصص للعب الشطرنج المسمَّى «التفكير العميق» (وسُمِّي هكذا تبعًا لرواية «دليل المسافر إلى المجرة») والنموذج التالي له المسمى «الأزرق العميق»، الذي تمكَّنَ في عام ١٩٩٧ من هزيمة ملك الشطرنج وبطل العالم جاري كاسباروف.٣ فإذا كان البشر يستطيعون برمجة تلك الأجهزة فكذلك يستطيع الانتقاء الطبيعي بلا أدنى شك.

لا أريد أن أقلِّل من شأن أهمية المجتمع واللغة والتفكير للوعي الإنساني؛ فمن الواضح أن الوعي يَنْهَل من تلك الأمور جميعًا. ولكن النقطة التي أريد التركيز عليها هي أنك حتى تكون واعيًا، يجب أن تعتمد كل هذه الأمور على وجود صورة من الوعي أكثر عمقًا، وأعني المشاعر. فمن السهل أن تتخيَّل روبوتات لها القدرة المخية لكمبيوتر «الأزرق العميق» مع إمكانات لغوية، ومستقبِلات حسية للعالم الخارجي، وذاكرة هائلة فائقة، ولكن بلا وعي. فلا فرح ولا أسى ولا حب ولا حزن عند الفراق، ولا ابتهاج بفهم الأشياء ولا أمل ولا ألم، ولا إيمان أو وفاء، أو حب للخير والعطاء، ولا تأثُّر عند استنشاق عطرٍ رقيقٍ أو رؤية جسد جميل رشيق، ولا شعور بدفء أشعة الشمس على الرأس، ولا شعور بالمرارة لقضاء العيد بعيدًا عن الوطن والأهل. ومن يدري؟! لعلَّنا نجد يومًا روبوتًا له مشاعر في دوائره الإلكترونية، ولكن حتى الآن لا نعرف كيف نبرمج المشاعر الجياشة الخفية.

هذا هو نفس النطاق الداخلي الذي افترض البابا أنه يندرج تحت ما أسماه سلطة الكنيسة، والذي وصفه الفيلسوف الأسترالي ديفيد تشالمرز وصفًا شهيرًا — في نفس الوقت تقريبًا — بأنه «المشكلة الصعبة» للوعي. ومنذ ذلك الحين، جَرَتْ محاولاتٌ كثيرةٌ لحلِّ مشكلات الوعي، وبعضها تَمَّ بنجاح؛ ولكن لم ينجح أيٌّ منها في حلِّ مشكلة تشالمرز الصعبة. وحتى الفيلسوف المتمرد دانييل دنيت، الذي اتُّهِم بإنكار المشكلة كليةً، نجده يذكرها بشكل جانبي ضمن عمله الشهير «تفسير الوعي» والذي ظهر في عام ١٩٩١. وقد تساءل قائلًا: لماذا لا تشعر الخلايا العصبية النشطة بشيء؟ وكان هذا التساؤل في ختام فصله عن الخبرات الواعية الذاتية. ونحن أيضًا نتساءل حقًّا: لِمَ لا؟

إنني عالم في الكيمياء الحيوية، وأعرف مواطن قصورها. وإذا أردتَ استكشاف دور اللغة في تشكيل الوعي فاقرأ لستيفن بينكر. إنني لم أضع الكيمياء الحيوية ضمن قائمة الأشياء التي تزعم أن لها خبرة بموضوع الوعي. وقليل هم علماء الكيمياء الحيوية الذين حاولوا بجدية أن يتناولوا موضوع الوعي. وربما كان كريستيان دي دوف استثناء لهذا. ومع ذلك تُعتبَر مشكلة تشالمرز الصعبة بحقٍّ مشكلة في الكيمياء الحيوية؛ إذ كيف يُولِّد تنشيطُ الخلايا العصبية «شعورًا» بأي شيء؟ وكيف تُولِّد أيونات الكالسيوم المندفعة خلال غشاء عصبي الإحساسَ باللون الأحمر أو بالخوف أو الغضب أو الحب؟ دَعْنا نضع هذا السؤال في بالنا ونحن نستكشف طبيعة الوعي المركزي، ولماذا يؤدِّي الوعي المركزي إلى تنشيط شعورٍ ما. وحتى إذا لم أستطع الإجابة عن هذا السؤال، فإنني آمل أن أصوغه بوضوح يكفي لأن أرى أين يمكنني البحث عن إجابة له. ولستُ أظن الإجابة في السماوات العلا، وإنما هنا على الأرض، بين أسراب الطيور وأفواج النحل.

•••

أول شيء يجب أن نفعله هو أن نتخلَّص من الفكرة القائلة إن كل ما يبدو وكأنه ينتمي إلى الوعي فهو من الوعي حقًّا. فهذا ليس واقع الحال. فمثلًا، يبدو الوعي مُوحَّدًا، بمعنى أنه غير مُقسَّم إلى أجزاء. فنحن لا نملك تيارات منفصلة من الوعي تسري في رءوسنا، وإنما نملك إدراكًا واحدًا متكاملًا، يتغيَّر مع ذلك باستمرار، منتقلًا من ثانية لأخرى خلال تشكيلة لانهائية من الحالات. فالوعي يبدو مثل شريط سينمائي في الرأس؛ إذ تتكامل صور الفيلم مع أصواته، وأيضًا مع الروائح واللمسات والمذاقات والعواطف والمشاعر والأفكار، وكل ذلك مرتبط بإحساس بالنفس، التي تثبت كياننا الكلي وخبراته الشخصية بأجسامنا.

ليس عليك أن تُفكِّر في الأمر طويلًا كي تدرك أن المخ يجب أن يربط المعلومات الحسية معًا بطريقة ما ليعطي «إدراكًا» بكيان كلي متكامل لا ينفصم. تدخل المعلومات من العينين والأذنين وفتحتي الأنف، وعن طريق اللمس أو الذاكرة أو الأمعاء، إلى أجزاء مختلفة من المخ حيث تتم معالجتها بشكل مستقل، وفي النهاية تؤدي إلى نشوء إدراكات مختلفة للألوان والروائح واللمس والجوع والعطش. لا شيء من ذلك «حقيقي»، وإنما هي أعصاب تنشط، غير أننا نادرًا ما نخطئ بالخلط بين الأشياء التي «نراها» فنظنها من الروائح أو الأصوات. صحيح أن شبكية العين تتكوَّن عليها بالفعل صورة مقلوبة للعالم الذي أمامنا، إلا أن هذه الصورة لا يراها المخ مطلقًا على شريط سينمائي، ولكنها تتحوَّل إلى أنماط من خلايا عصبية تُنبِّه العصب البصري، على نحو أشبه ما يكون بآلة الفاكس. ويحدث الأمر نفسه تقريبًا حينما نسمع أو نشم؛ فلا شيء يدخل من العالم الخارجي إلى داخل رءوسنا، ولكنها أعصاب تطلق شحنات عصبية. ونفس هذا ينطبق على البطن حينما يتألم، فلا ألم حقيقي بالبطن، وإنما هي الأعصاب كما ذكرنا.

وإننا لكي نشعر بكل تلك الأحاسيس بشكل واعٍ، لحظة بلحظة، على نحوٍ أشبه بفيلم يُعرَض داخل الرأس، فهذا يتطلَّب تحويل جميع النقط والشرط الرقمية إلى إدراك «للعالم الحقيقي»، بجميع مشاهده وروائحه. ثم إننا، بالطبع، لا ندرك هذا العالم المعاد بناؤه على أنه موجود داخل رءوسنا، وإنما نسقط هذا كله إلى حيث ينتمي. إننا نرى العالم وكأنما من فتحة واحدة موجودة في مقدمة الجمجمة، لكن هذا وَهْمٌ كما هو واضح تمامًا. كل هذا يتضمن الكثير من الخداع العصبي. ومن الواضح بنفس الدرجة، أن الاتصالات والمسارات العصبية مهمة. فإذا قُطِع العصبان البصريان فسيُصاب المرء بالعمى. وعلى العكس من هذا، إذا تمَّ تنبيه المراكز البصرية في المخ لدى شخص أعمى، باستخدام مجموعة مزروعة من الأعصاب الكهربية الدقيقة، فسوف يرى صورًا تولَّدَتْ من المخ مباشرةً، حتى وإن كانت مجرد صور بدائية. هذا هو أساس الإبصار الاصطناعي؛ وهو مجال علمي لا يزال في بداياته ولكنه قابل للتطبيق من حيث المبدأ. ويقوم فيلم «ذا ماتريكس» على أساس نفس الفكرة؛ حيث يتم تنشيط جميع الخبرات بينما الإنسان، ومن ثم المخ، محفوظ في وعاء.

يمكن الاستدلال على مقدار ذلك الخداع العصبي الذي ذكرناه من واقع مئات من الحالات الشاذة أو الغريبة — بدرجة فظيعة — التي تَرِد في الإصدارات السنوية لعلم الأعصاب، التي تستثير لدى أغلبنا فكرة «كان سيحدث لنا هذا لولا رحمة الرب.» وقد نقَّبَ في هذا الأرشيف أوليفر ساكس وآخرون. ولعل أشهر حالة ذكَرَها ساكس هي حالة «الرجل الذي ظنَّ زوجته قبعة»، وقد اقتبسها الكاتب مايكل نايمان ووضعها في قالب من أوبرا الحجرة، ثم تحوَّلَتْ فيما بعد إلى فيلم سينمائي. كان الرجل المذكور والمشار إليه باسم «دكتور بي» موسيقيًّا مرموقًا، ولكنه كان يعاني من حالة مرضية عصبية تُسمَّى العَمَه البصري أو «فَقْد الإدراك البصري». كان بصر الرجل سليمًا تمامًا، ولكن قدرته على تعرُّف الأشياء وتمييزها بصورة صحيحة، ولا سيما الوجوه، صارت متدهورة بشكل يُرثى له. وحينما ذهب لاستشارة ساكس كان يظن أن قَدَمه هي حذاؤه، وبعد ذلك، حينما حاول أن يأخذ قبعته ليرتديها، أمسك بدلًا منها رأس امرأته. كانت هذه الحالة ناتجة عن تحلل عصبي لمنطقة في المخ مسئولة عن المعالجة البصرية (وهي ناتجة بدورها عن صورة غير عادية لمرض ألزهايمر)؛ مما قلص عالمه البصري إلى مجرد أنماط لا معنى لها من الأشكال والألوان والحركات النظرية التجريدية، بينما لم يؤثِّر ذلك على قدرته العقلية الإبداعية ولا قدرته الموسيقية الفذة.

من حسن الطالع أن هذا النوع من التحلل العصبي نادر، ولكن من وجهة نظر علم الأعصاب الطبي المتشدد ما هذه إلا حالة واحدة من مجموعة من الحالات. فهناك حالة أخرى ناتجة عن تلف في منطقة محدودة أخرى في المخ، وتُعرَف الحالة باسم «متلازمة كابجراس». وفي هذه الحالة يكون المريض قادرًا على تمييز الناس بصورة جيدة تمامًا، ولكن يكون لديه اعتقاد شاذ بأن شريك حياته أو والديه ليسوا كما يبدون، ولكنهم محتالون مخادعون احتلوا مكانهم. ولا تتعلق المشكلة بالناس عامةً، وإنما تتعلق فقط بالأصدقاء المقربين أو أفراد الأسرة؛ أي الأشخاص القريبين جدًّا من الناحية العاطفية. وفي هذه الحالة تكمن المشكلة في الأعصاب التي تربط بين المراكز البصرية والمراكز العاطفية في المخ (مثل لوزة المخ). فإذا حدث قطع لهذه الروابط أو حدثت سكتة دماغية أو إصابة موضعية أخرى (كأحد الأورام) فإن هذا يمنع حدوث الاستجابة العاطفية الطبيعية لرؤية أحد الأحبة، وهي استجابة يمكن الكشف عنها بجهاز كشف الكذب. وكما قال إخصائي علم الأعصاب في إس راماتشاندران بأسلوب تهكمي: حتى إذا لم تكن ولدًا يهوديًّا طيبًا، فإن رؤيتك لأمك تجعل يديك تعرقان. والعرق يُغيِّر المقاومة الكهربائية للجلد، وهو ما يسجله جهاز كشف الكذب. ولكن المرضى بمتلازمة كابجراس لا يعرقون حينما يرون من يحبون؛ فعَيْنا المريض تخبرانه بأن هذه هي أمه، ولكن مراكزه المخية العاطفية تفشل في إقرار هذا الانطباع. ويبدو هذا الفراغ العاطفي أنه الأساس لهذه المتلازمة. فالمخ، وقد ابتُلِي بنقصان في الثبات والتماسك، تقفز إليه أفكار سخيفة وإن كانت منطقية بأن الشخص الذي يراه أمامه محتال. إن العواطف أقوى من الذكاء؛ أو لِنَقُلْ إنها أساس الذكاء.

أما متلازمة كوتارد فهي أكثر غرابة. وفيها يكون القصور والخلل أشد عمقًا؛ إذ تصبح جميع الحواس مقطوعة الاتصالات مع المراكز العاطفية للمخ؛ مما يؤدي إلى حالة من التسطح أو الموات العاطفي. فإذا كان كل شيء تتلقاه جميع الحواس يسجل حالة من العدم في سجل العواطف، فإن الاستنتاج الغريب — وإن كان منطقيًّا كذلك — يقول إن هذا الشخص المريض لا بد أن يكون ميتًا. وهكذا يتم ليُّ المنطق لكي يستوعب العاطفة. والمريض بمتلازمة كوتارد يعتقد حقًّا أنه ميت، وقد يدَّعي حتى أنه يشم رائحة لحم متعفن. وهذا المريض سيوافقك على أن الميت لا ينزف، لكن إذا وخزته بإبرة، فسوف يبدو مندهشًا، ثم يسلِّم في نهاية الأمر بأن الميت ينزف حقًّا.٤

المقصِد أن ثمة إصابات (أو حالات تلف) محددة للمخ تسبب حالات خلل محددة أيضًا وقابلة للتكرار. ومما لا يثير العجب أن حدوث تلف في نفس المنطقة من المخ يسبب نفس حالة الخلل في أشخاص مختلفين، وبنفس الطريقة في الحيوانات المختلفة. وفي بعض الحالات، تُلحِق حالاتُ التلف هذه الضررَ بعملية المعالجة العصبية الحسية مسببةً حالات مثل عمى الحركة، وهي متلازمة غريبة أخرى؛ إذ لا يستطيع المرء أن يدرك الأجسام المتحركة، ولكنه بدلًا من هذا يرى العالم كأنه مضاء بأنوار الديسكو الوامضة؛ مما يجعل من المستحيل تقريبًا أن يقدِّر سرعة السيارات المتحركة أو أن يملأ حتى كوبًا من العصير. وفي حالات أخرى تُسبِّب حالاتُ تلف أخرى تغيرًا في درجة الوعي ذاته؛ فالمرضى بحالة فقدان الذاكرة المؤقت الشامل لا يستطيعون تذكُّر الماضي ولا التخطيط للمستقبل، ولا يَعُون سوى ما هو حاضر في زمانهم ومكانهم. أما المرضى بمتلازمة أنطون فيكونون عميانًا ولكنهم ينكرون هذا. والمرضى بحالة إنكار المرض (عمه العاهة) يُصرِّحون بأنهم بخير ولكنهم في الحقيقة مصابون بحالة خلل تشبه الشلل. ويقول الواحد منهم: «لا شيء بي أيها الطبيب، إنني فقط أحصل على قسط من الراحة.» والمرضى بحالة تعذُّر إدراك الألم يشعرون بالألم، ولكنهم لا يدركون خاصيته المؤذية للنفس؛ أي إنهم لا يشتكون من الوجع. والمرضى بالإبصار الأعمى يكونون غير واعين بقدرتهم على الإبصار (فهُمْ عميان بالفعل) ولكنهم مع ذلك قادرون على الإشارة بشكل صحيح إلى الأجسام التي أمامهم إذا طُلِب منهم هذا. وهذه الحالة الأخيرة تم إظهارها عمليًّا في قرود المكاك التي دُرِّبَتْ على الاستجابة كلما رأت (أو فشلت في رؤية) جسم ما. وهي واحدة من حالات مشابهة كثيرة صارت جليَّة بفضل براعة جيل صاعد من علماء علم النفس التجريبي الذين يدرسون الوعي لدى الحيوانات.

يا لها من حالات خلل عجيبة الشأن! ولكن من خلال الدراسات الدقيقة التي أجراها علماء الأعصاب على مدى القرن الأخير أو أكثر تمَّ بحث حقيقتها، وإمكان تكرارها، وأسبابها (السبب في معناه المحدود المتمثل في حدوث حالة تلف في جزء معين من المخ). وتحدث حالات عجيبة بنفس القَدْر من قطع للاتصالات العصبية إذا تمَّ تنبيه أجزاء معينة من المخ بالأقطاب الكهربية. ولقد أُجْرِيَ هذا — منذ بضعة عقود بالأساس — على مئات من الناس كانوا يعانون حالات صرعية شديدة غير قابلة للعلاج، وكانت تسبب في أسوأ درجاتها نوبات تشنجية معممة تؤدي إلى فقدان مفجع للوعي، وأحيانًا ما كانت تؤدي إلى حالة خرف أو شلل جزئي. وكان الكثير من المرضى الذين تُجرى لهم جراحة عصبية لعلاج الصرع يعملون — بإرادتهم وبكامل وعيهم — كحيوانات تجارب وهم يصفون أحاسيسهم شفهيًّا للجراح. وهكذا صرنا نعرف أن تنبيه منطقة معينة من المخ يُولِّد إحساسًا قاهرًا بالاكتئاب، وهو يتبدَّد بمجرد إيقاف التنبيه، وأن تنبيه أجزاء أخرى يُسبِّب خيالات عقلية أو يجلب إلى الذهن مقطوعات موسيقية. وتنبيه بقعة محددة بدرجة كافية يؤدي إلى تجربة الخروج من الجسم؛ إذ يعطي إحساسًا بأن الروح تطفو على ارتفاع ما قرب السقف.

في وقت حديث، استُخدِمَتْ أساليب معقَّدة بارعة للحصول على نتائج مشابهة، باستخدام خوذة تسلط مجالات مغناطيسية ضعيفة لتحدث تغيرات كهربائية في مناطق مخية معينة بدون جراحة. وقد حققت تلك الخوذة شهرة في أواسط التسعينيات، حينما بدأ مايكل بيرسنجر، بالجامعة اللورنتية في كندا، في تنبيه الفص الصدغي (تحت صدغَي الرأس) ووجد أنه أحدث بدرجة غير قليلة (في ٨٠ بالمائة من الناس) خيالاتٍ روحيةً، وإحساسًا بوجود الرب، أو حتى وجود الشيطان، في الغرفة. ولم تلبث أن عُرِفَتْ بالخوذة الإلهية، وإن كان فريق من الباحثين السويديين قد أبدى شكَّه في هذه النتائج. كما أن مُعِدِّي برنامج «هورايزون» الوثائقي العلمي الذي ينتجه التليفزيون البريطاني قاموا باستضافة أحد الملحدين المشهورين ويُدعى ريتشارد دوكينز إلى كندا لتجربة ما يُسمَّى الخوذة الإلهية عام ٢٠٠٣. ولكن مما خيَّبَ أملهم، بلا شك، أنها لم تُحدِث تجربة روحية مماثلة لدى دوكينز. وقد فسَّرَ بيرسنجر هذا الإخفاق بقوله إن دوكينز كانت درجاته سيئة فيما يتعلَّق بالمقياس النفسي الذي يقيس الميل لحساسية الفص الصدغي؛ بمعنى أن الأجزاء الروحية (أو العقائدية) من المخ كانت — في أفضل أحوالها — مُحيَّدة. إلا أن الكاتبة وعالمة النفس التجريبية المعروفة سوزان بلاكمور كانت أكثر تأثرًا، فقالت: «حينما ذهبتُ إلى معمل بيرسنجر وخضعتُ لخطوات تجربته مررتُ بأغرب خبرات حياتي على الإطلاق … وسوف أُدهَش إذا تبيَّن لي أنه مجرد تأثير وهمي.» ويجاهد بيرسنجر في توضيح أن إحداث الأحاسيس الخيالية العجيبة بطريقة فيزيائية لا يصطدم مع الإيمان بوجود الرب؛ فلا بد أن هناك «آلية فيزيائية ما لنقل الخبرات والتجارب فوق الطبيعية».

المغزى أن المخ، والعقل بنفس المفهوم، مقسَّمٌ إلى مناطق متخصصة. لسنا واعين مطلقًا بهذه الأنشطة الداخلية. وتتضح هذه الصورة من خلال تأثير بعض العقاقير التي تخامر العقل، والتي تؤثِّر كذلك على مناطق شديدة التحديد. فالعقاقير المهلوسة، مثل إل إس دي، والسيلوسيبين (أحد مكونات بعض أنواع عش الغراب) والمسكالين (مركب يُوجَد في بعض أنواع الصبار)، على سبيل المثال، تؤثِّر كلها على نمط محدد من المستقبلات العصبية (وهي مستقبلات السيروتونين) يُوجَد في خلايا عصبية محددة (وهي الخلايا العصبية الهرمية) في مناطق معينة من المخ (وهي الطبقة الخامسة من القشرة المخية). وكما قال كريستوف كوخ عالم الأعصاب في جامعة كالتك في باسادينا بالولايات المتحدة، فإن تلك العقاقير لا تلحق الضرر والاضطراب بالتوصيلات العصبية للمخ بشكل شمولي. وبالمثل فإن الكثير من العقاقير المضادة للاكتئاب أو المضادة للذهان تتميَّز بتأثيرات محددة الأهداف جدًّا. وهو ما يدل على أن الوعي أيضًا لا ينبع بشكل شمولي من الأعمال العامة للمخ، ولكنه خاصية تتصل بالصفة التشريحية المحددة للمخ الذي يتكوَّن من عدد من المناطق، وإن كانت تلك المناطق تتعاون في انسجام في جميع الأوقات. ومن الإنصاف أن نقول إنه لا يُوجَد سوى القليل من الاتفاق حول هذا النوع من الأفكار حتى بين علماء الأعصاب، ولكني سأحاول تبرير وجهة النظر هذه في الصفحات التالية.

•••

إن الإبصار أكثر تعقيدًا مما يبدو، ولكن لا يمكننا تبيُّن هذا التعقيد من خلال الفحص الذاتي، بأن «نفكر» في كيفية رؤيتنا للأشياء وفيما نراه منها، ولا يمكن لفيلسوف يتفكر في هذا الأمر منطقيًّا أن يتنبأ بكنهه. إن عقولنا الواعية لا يمكنها التوصل إلى الآليات العصبية التي يقوم عليها الإبصار. ولقد تمكَّن السابقون بالكاد من إدراك المدى الذي تنقسم عنده المعلومات إلى أجزائها ومكوناتها، إلى أن أُجْرِيَتْ دراسات رائدة على يد عالمين، هما ديفيد هابل وتورستن ويزل — في جامعة هارفرد — بدءًا من عقد الخمسينيات إلى ما بعدها، وقد حصلا عن أبحاثهما تلك على جائزة نوبل في عام ١٩٨١ (بالاشتراك مع روجر سبيري). أدخل هابل وويزل أقطابًا كهربية دقيقة في مخاخ القطط بعد تخديرها. وأثبت العالمان حدوث تنشيط لمجموعات مختلفة من الخلايا العصبية من قبل الأوجه المختلفة للمشهد البصري. إننا نعرف الآن أن كل صورة نراها يتم تجزُّؤها إلى نحو ثلاثين قناة أو أكثر؛ ومن ثم فإن بعض الخلايا العصبية تنشط فقط حينما تتلقى صورة لحافة جسم ما تتحرك في اتجاه معيَّن، في خط قطري أو أفقي أو رأسي، على سبيل المثال، وتنشط خلايا أخرى كاستجابة لتلقِّي صفة التباين المرتفع أو المنخفض، أو عمق المشهد، أو لون معين أو الحركة في اتجاه معين … وهكذا. كما يتم تحديد الموقع المكاني لكل صورة منها بالنسبة للمجال البصري، حتى إن موقع خط أفقي داكن في الركن العلوي الأيسر للمجال البصري يحفز مجموعات عدة من الخلايا العصبية كي تنشط، بينما يُنبِّه خطٌّ مماثلٌ في الركن السفلي الأيمن مجموعةً مختلفةً من الخلايا العصبية.

وفي كل خطوة تضع المناطق البصرية في المخ خريطة طوبوغرافية للعالم. ولكن لا يصير لهذه الخريطة أي معنى إلا لاحقًا. وهو نفس نوع المعنى الذي حيَّرَ «دكتور بي» المسكين الذي ذكرناه من قبل. ولكي تبلغ معنى ما، مثل اكتشاف حيوان مفترس كالنمر وتمييزه، تحتاج المعلومات البصرية لأن تترابط معًا في مراحل عدة؛ إذ يتم ربط الخطوط والألوان معًا في شكل أشرطة، وتحديد ملامح جسد النمر الرابض وفي النهاية يتم بناءً على الخبرة السابقة التعرف الكامل على النمر القابع خلف الشجيرات. ولا تحصل سوى المراحل الأخيرة من هذه العملية على التمثيل الواعي بالمخ؛ فالغالبية العظمى مما يحدث من معالجات بصرية لا يرى نور العقل مطلقًا.

كيف يتم ربط كل هذه القطع المقسمة من المشهد معًا مجددًا للحصول على إبصار مترابط؟ يبقى هذا السؤال واحدًا من أكثر موضوعات علم الأعصاب إثارة للاهتمام، ولم تتم الإجابة عنه بشكل يرضي الجميع حتى الآن. ولكن لِنُجِيبَ عنه بصفة عامة نقول إن الخلايا العصبية تنشط بشكل متزامن؛ فالخلايا العصبية التي تنشط (أي تطلق نبضاتها) معًا تترابط معًا. والتوقيت الدقيق أمر جوهري. في أواخر ثمانينيات القرن العشرين اكتشف وولف سنجر وزملاؤه في معهد ماكس بلانك لأبحاث المخ في فرانكفورت بألمانيا لأول مرة نمطًا جديدًا من الموجات المخية، يمكن التقاطه بجهاز تخطيط كهربية الدماغ، يُعرَف الآن باسم «ذبذبات جاما».٥ ووجدوا أن المجموعات الكبيرة من الخلايا العصبية تصير متزامنة في نمط مشترك، فتطلق نبضاتها مرة كل ٢٥ ملي ثانية تقريبًا، أي حوالي ٤٠ مرة في الثانية أو ٤٠ هرتز في المتوسط. (في الواقع، يتراوح المدى من حوالي ٣٠ إلى ٧٠ هرتز، وهو أمر مهم سنعود إليه فيما بعد.)

هذه الأنماط المتزامنة لإطلاق الشحنات والنبضات هي بالضبط ما كان فرانسيس كريك يبحث عنه. فبعد إنجازات كريك المشهورة في حل شفرة الدي إن إيه تحوَّل بعقله الفذِّ لحل مسألة الوعي؛ فعمل مع كريستوف كوخ للبحث عن نوع معين من نمط إطلاق النبضات الذي يمكن أن تصير له علاقة بالوعي ذاته، وقد أطلق عليه «العلاقات العصبية للوعي».

كان كريك وكوخ يدركان بشدة أن الكثير مما يجري في عملية المعالجة البصرية يبقى خارج نطاق الوعي. وهذا يجعل مسألة الوعي أكثر غرابة. فكل المدخلات الحسية إلى المخ تأتي عن طريق خلايا عصبية تطلق نبضاتها، إلا أن بعض أنماط نبضات الخلايا العصبية يستقبلها المرء بشكل واعٍ؛ ومن ثمَّ نصير مدركين للونٍ ما أو وجهٍ ما، بينما لا ينطبق هذا على الأنماط الأخرى (وهذا يشمل جميع صور المعالجة البصرية اللاواعية للخطوط والتباين والمسافات … إلخ). فما الفارق إذن؟

يرى كريك وكوخ أنه لا سبيل إلى معرفة الفارق ما دمنا لا نعرف حتى أي أنماط الخلايا العصبية ينتج عن نشاطها استقبال واعٍ وأيها ليس كذلك. وكان ما أرادا التوصل إليه هو مجموعة من الخلايا العصبية التي تبدأ في إطلاق نبضاتها في نفس اللحظة التي يصير عندها الشخص واعيًا بشيء ما (كرؤية كلب على سبيل المثال). وينقطع هذا النشاط بمجرد أن يتحوَّل انتباه الشخص إلى شيء آخر. وقد افترض كريك وكوخ أنه لا بد أن هناك شيئًا ما مختلفًا فيما يتعلَّق بإطلاق الخلايا العصبية لنبضاتها، الذي يؤدي بالفعل إلى الإدراكات الواعية. ولقد صارت محاولة التوصل إلى العلاقات العصبية للوعي من الأمور ذات الأهمية الكبيرة لدى علماء الأعصاب. وقد أثارت ذبذبات اﻟ ٤٠ هرتز مخيلتهم؛ لأنها قدَّمَتْ — ولا تزال تُقَدِّم — حلًّا فكريًّا منطقيًّا؛ فالخلايا العصبية التي تطلق نبضاتها معًا تترابط عَبْرَ التلافيف الكبرى للمخ في أي لحظة. يتم اختزال جميع الدوائر الكهربية المتوازية إلى مخرج متسلسل بفعل الزمن نفسه. ومن ثمَّ يتفاوت الوعي من لحظة لأخرى مثل الآلات الموسيقية في الأوركسترا؛ إذ ترتبط الجُمَل اللحنية المتشعبة معًا في تناغم في كل لحظة. وكما قال الكاتب تي إس إليوت: إنك أنت الموسيقيُّ حتى تتوقَّف الموسيقى.

إن هذه الفكرة مُغْرِية، ولكنها سرعان ما تزداد تعقيدًا حينما تفكر فيها. والمشكلة الأساسية هي أن الارتباط لا بد أن يحدث في مستويات متعددة، وليس ضمن الجهاز البصري فحسب. ويبدو أن الأوجه الأخرى للعقل تعمل بنفس الطريقة بدرجة كبيرة، منها الذاكرة على سبيل المثال. يذكر إخصائي الكيمياء العصبية ستيفن روز في كتابه «صنع الذاكرة» كم كان يشعر بالحيرة من الطريقة التي تتبدد بها الذكريات مثل الدخان من المخ؛ فلا يبدو أن تلك الذكريات «مستقرة» في مكان واحد بعينه. وقد اكتشف فيما بعد أن السبب هو أنها تتفتَّت إلى مكوناتها وأجزائها بطريقة تماثل بدرجة كبيرة ما يحدث للإبصار. فاكتشف روز، على سبيل المثال، أن الأفراخ حديثة الفقس التي تلتقط حبات ذات نكهات معينة سرعان ما تتعلم أن تتجنَّب الحبات ذات الطعم اللاذع التي تتسم بلون معين، ولكن ذاكرتها تختزن على نحو مجزَّأ: فاللون له مكان، والشكل له مكان آخر، والحجم أو الرائحة أو الطعم اللاذع لها أماكن أخرى مختلفة … وهكذا. ويتطلب تكوين ذاكرة متلاحمة إعادة ربط كل هذه العناصر معًا، بما يشبه عملية إعادة عرض. ويُظهر بحث حديث بجلاء أن إعادة ربط مكونات الذاكرة تعتمد على إطلاق نبضات من نفس طاقم الخلايا العصبية التي استجابت للخبرة الأولى سابقًا.

ويذهب عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو إلى أبعد من هذا؛ إذ يدخل «الذات» ضمن المزيد من الخرائط العصبية. وهو يُميِّز بدقة بين العواطف والمشاعر (البعض يرى أنه مفرط الدقة في تمييزه هذا)؛ إذ يقول داماسيو إن العاطفة (أو الانفعال) تُعتبَر، بدرجة كبيرة، خبرة جسمانية بدنية. إذ تتقلص الأمعاء بفعل الخوف، وتتسارع دقات القلب، وتتعرق اليدان، وتتسع العينان، وتتسع حدقتا العينين، ويلتوي الفم … إلخ. وهذا سلوك لاإرادي، يتجاوز حدود سيطرتنا إلى حد بعيد، بل ويتجاوز قدرتنا على التخيُّل، على الأقل بالنسبة للذين يعيشون أسلوب حياة مدنية وادعة. وبالنسبة لي شخصيًّا، فعلى مدار جميع سنوات حياتي، لم يحدث لي سوى مرتين أو ثلاث مرات أن سيطر عليَّ شعور «حيواني» حقيقي بالرعب، وأقصد بهذا الاستجابة الانفعالية التي قبضت أمعائي وسبَّبَتْ لي بشدتها صدمة في داخلي. فلقد شممت رائحة خوفي مرة واحدة فقط لن أنساها، وسبَّبَتْ لي اضطرابًا وارتباكًا. ويقول داماسيو إن جميع الانفعالات، حتى الأكثر تدرجًا منها تكون بدنية؛ موضعها الجسم. ولكن الجسم ليس بمعزل عن العقل؛ فهذا مرتبط بذاك. وكل هذه الحالات الجسمانية تتصل بالمخ عن طريق الأعصاب والهرمونات، وتُرسَم في المخ خريطة للتغيُّر في الحالة الجسمانية، جزءًا جزءًا، وعضوًا عضوًا، وجهازًا جهازًا. ويحدث أغلب هذا الرسم في الأجزاء الأكثر قِدَمًا في المخ، بما فيها جذع المخ والدماغ الأوسط اللذان تقع فيهما المراكز الحيوية الخطيرة في مخاخ جميع الفقاريات. وهذه الخرائط العقلية تكوِّن المشاعر والأحاسيس، التي تُعتبَر الانطباعات التصويرية العصبية للانفعالات الجسمانية. وأما عن كيف تؤدي تلك الانطباعات العصبية (وهي بالأساس معلومات) إلى إحساس شخصي بشعور ما، فهي نقطة نقاش سنعود إليها قريبًا.

ولكن حتى المشاعر ليست كافية لداماسيو؛ إذ يقول إننا لا نكون واعين إلى أن نبدأ في الشعور بمشاعرنا، حتى نعرف ماهية الشعور. وهذا يعني المزيد من الخرائط في المخ بالطبع. ومن ثم تُعتبَر الخرائط العصبية الأولية تضع تخطيطات لكافة جوانب أجهزتنا الجسمانية، وتشمل النشاط العضلي، وحموضة المعدة، وسكريات الدم، وسرعة التنفس، وحركات العينين، والنبض، وامتلاء المثانة … إلخ. ويحدث هذا التخطيط ويتكرر سريعًا لحظة بلحظة. ويرى داماسيو إحساسنا بذاتنا باعتباره ناشئًا عن جميع هذه التقارير الجسمانية، بادئًا في صورة ذات أولية لا واعية، وبالأساس في شكل عملية قراءة قوية للحالة الجسمانية. وينبع الوعي الحقيقي للذات من الطريقة التي يتم بمقتضاها تعديل هذه الخرائط فيما يتعلق بأجسام أو أشياء مادية تُوجَد في العالم الخارجي، أشياء مثل ابنك أو امرأة معينة، أو جَرف يثير الدوار، أو رائحة القهوة، أو مفتش التذاكر … إلخ. كل هذه الأشياء المحسوسة يتم استقبالها مباشرةً من قبل الحواس، ولكنها تولِّد أيضًا استجابة انفعالية في الجسم، وهذه تلتقطها خرائط الجسم العصبية في المخ لتوليد شعور ما. وهكذا، فإن الوعي هو معرفة كيف تعدل الأشياء الموجودة في العالم الذات؛ أي بتكوين خريطة لكل هذه الخرائط، وكيف تتغيَّر، أي بتكوين خريطة من رتبة ثانية. إنها خريطة تُبيِّن كيف تكون علاقة هذه المشاعر بالعالم، خريطة تكسب إدراكاتنا قيمًا ومعاني.

•••

كيف يتم صنع كل هذه الخرائط؟ وكيف يرتبط بعضها ببعض؟ تأتي أكثر الإجابات عن هذا السؤال إقناعًا من عالم الأعصاب جيرالد إديلمان، الذي — بعد أن فاز بجائزة نوبل عن مساهماته في علم المناعة في عام ١٩٧٢ — كرَّسَ العقود التالية لدراسة الوعي. وتَنْهَل أفكارُه من نفس المعين الذي يَنْهَل منه بَحْثُه في علم المناعة؛ وهو قوة الانتقاء داخل الجسم. ففي حالة علم المناعة، ساعد إديلمان على إظهار كيف يمكن تنشيط جسم مضاد واحد بشكل انتقائي بعد تلامسه بنوع بكتيريا ما؛ إذ يؤدِّي الانتقاء إلى تكاثر الخلايا المناعية المنتصرة على حساب الأخريات. وبعد مرور نصف عمر الخلايا المناعية، تعتمد تخصصية تلك الخلايا في مجرى دمك بدرجة كبيرة على خبراتك، وليس على جيناتك مباشرةً. ويقول إديلمان إن هناك نمطًا مشابهًا من الانتقاء يعمل في المخ باستمرار. ففي هذه الحالة يتم انتقاء مجموعات من الخلايا العصبية وتقويتها من خلال الاستعمال، بينما تذوي مجموعات أخرى من جراء عدم الاستعمال. وهنا أيضًا تسود المجموعات الفائزة، كما تتحدد العلاقات بين الخلايا العصبية بالخبرة المتراكمة، ولا تتحدد بالجينات مباشرةً.

يحدث الأمر بهذه الكيفية. فأثناء التطور الجنيني داخل الرحم يتم تزويد المخ بالوصلات (أي الألياف العصبية) على صورة كتلة غير متشعبة، مع وجود حزم من الألياف العصبية تربط بين المناطق المختلفة في المخ (فتربط بين العصب البصري والمراكز البصرية في المخ، ويتكوَّن الجسم الجاسئ الذي يربط بين النصفين الكرويين للمخ … إلخ) ولكن لا يحدث تقريبًا أي تخصص أو إدراك للمعنى. باختصار، تعمل الجينات على تخصيص الدوائر العصبية العامة بالمخ، بينما تعمل الخبرة على تخصيص الألياف العصبية بالتحديد وجميع التفاصيل المتفردة الخاصة التي تلزمها. ويأتي المعنى غالبًا مع الخبرة، التي تكتب مباشرةً في المخ. وكما يقول إديلمان فإن «الخلايا العصبية التي تطلق نبضاتها معًا تترابط أليافها معًا.»٦ بمعنى أن الخلايا العصبية التي تطلق نبضاتها في نفس الوقت تقوِّي وصلاتها (التي تُسمَّى التشابكات العصبية) وتكوِّن المزيد من الوصلات التي تربط ماديًّا بين الألياف العصبية. وهذه الوصلات تتكوَّن موضعيًّا ضمن مجموعات من الخلايا العصبية (إذ تساعد على ربط الأوجه المختلفة من المعلومات البصرية معًا على سبيل المثال)، ولكنها أيضًا تربط — عَبْرَ مسافات بعيدة — بين المراكز البصرية والمراكز العاطفية أو الكلامية. في نفس الوقت تضعف وصلات تشابكية أخرى شيئًا فشيئًا، أو تختفي تمامًا؛ إذ لا تُوجَد بين خلاياها العصبية أمور مشتركة إلا القليل. وبعد الولادة بقليل، ومع تسارع وتيرة تدفُّق الخبرات وتجمُّعها يجري تشكيل المخ من الداخل، فتموت مليارات من الخلايا العصبية؛ بنسب تتراوح من ٢٠ بالمائة إلى ٥٠ بالمائة من جميع تلك الخلايا، وتُفقَد في غضون الشهور الأولى من حياة الطفل الوليد، كما تُفقَد عشرات المليارات من الوصلات التشابكية الضعيفة. وفي نفس الوقت تتم تقوية وتدعيم عشرات التريليونات من التشابكات العصبية؛ مما يؤدي إلى تكوين ما يصل إلى ١٠ آلاف تشابك عصبي لكل خلية عصبية في بعض مناطق القشرة المخية. وهذه المرونة التشابكية تكون أكبر ما يمكن في السنوات المبكرة التي يتشكَّل فيها الجسم (والجهاز العصبي على الأخص)، ولكنها تستمر طوال حياة الإنسان. قال الكاتب الفرنسي مونتين يومًا إن كل إنسان تعدَّى سن الأربعين يكون مسئولًا عن وجهه. وكذلك نحن بلا شك مسئولون عن مخاخنا.

قد تتساءل عن الكيفية التي تسهم بها الجينات الوراثية في هذه العملية بالضبط. تفعل الجينات هذا عن طريق تخصيص البنية العصبية العامة، وأيضًا تحديد الحجم والتطور النسبيين لمناطق المخ المختلفة. وهي تؤثِّر في احتمالية بقاء الخلايا العصبية حية، وقوة وصلاتها التشابكية، والنسبة بين الخلايا العصبية التنبيهية والتثبيطية، والتوازن الكلي للنواقل العصبية المحددة … إلخ. وتسهم هذه التأثيرات في تحديد شخصيات البشر وكذلك قابليتهم لأن يصيروا مدمنين للرياضات الخطرة أو للمخدرات، أو عرضة للإصابة بالاكتئاب الشديد، أو يُفضِّلون التفكير المنطقي. وبهذه الطريقة تؤثِّر الجينات في مواهب البشر وخبراتهم أيضًا. إلا أن الجينات لا تحدِّد تخصصية البنية التركيبية العصبية للمخ بالتفصيل. فكيف هذا؟ للإجابة نقول إنه لا سبيل أمام ٣٠ ألف جين فقط لأن تحدِّد مصير التشابكات العصبية في القشرة المخية والتي يبلغ عددها، كما يزعم كوخ، ٢٤٠ تريليونًا (علمًا بأن التريليون يساوي ألف مليار). ولو حدث هذا لكان الجين الواحد مسئولًا عن ٨ مليارات من التشابكات العصبية.

يشير إديلمان إلى عملية تطور المخ باسم «الداروينية العصبية»، وهو ما يركز على فكرة أن الخبرة تنتقي المجموعات العصبية الناجحة. كل القواعد الأساسية للانتقاء الطبيعي موجودة؛ إذ نبدأ بعدد هائل من الخلايا العصبية، وتلك يمكن أن تتشابك بملايين الطرق المختلفة لتحقيق نفس النتائج. وتتفاوت الخلايا العصبية فيما بينها ويمكن إما أن تنمو وتقوى وإما أن تنتهي وتذوي. ويحدث تنافس بين الخلايا العصبية لتكوين وصلات تشابكية والبقاء التفاضلي على أساس النجاح؛ إذ تكوِّن «أنسب» مجموعات الخلايا العصبية وأنفعها أكثر الوصلات التشابكية. وقد اشتهر عن فرانسيس كريك أنه قال متندرًا إنه يفضل أن يسمي العملية كلها «الإديلمانية العصبية»؛ إذ إن التوازي بين الانتقاء الطبيعي وتطور المخ مصطنع بعض الشيء. إلا أن علماء الأعصاب صاروا اليوم متقبلين للفكرة الأساسية على نطاق واسع.

ولقد قدَّمَ إديلمان مساهمة ثانية مهمة في الأساس العصبي للوعي؛ وهي فكرة الدوائر العصبية المترددة، أو ما أسماها إديلمان «الإشارات المتوازية الراجعة من جديد» (وهي تسمية غير موفَّقة إلى حدٍّ ما). يقصد إديلمان بهذه التسمية أن الخلايا العصبية التي تطلق نبضاتها في منطقة ما ترتبط بخلايا عصبية أخرى في مناطق بعيدة، وهذه ترد النبضات من خلال وصلات أخرى لتكون دائرة عصبية عابرة متناغمة، وبعدها تقوم المدخلات الحسية المتنافسة بتبديد تجميعة الخلايا العصبية وتستبدل بها واحدة أخرى سريعة الزوال، تعاود العملية في انسجام. هنا تنسجم أفكار إديلمان بجلاء مع أفكار كريك وكوخ وكذلك وولف سنجر (وإن كان من الواجب القول إن المرء يجب أن يقرأ ما بين السطور لكي يتوصل إلى أوجه التشارك بينهم، فنادرًا ما وجدت مجالًا يعمد فيه رواده إلى عدم ذكر بعضهم بعضًا للإحالة والمراجعة مثل هذا المجال، بل ويندر حتى أن يُقْدِم البعض منهم على شجب الأفكار غير الموفقة لخصومهم أو انتقادها).

يعمل الوعي على نطاق يتراوح من عشرات إلى مئات من الملي ثانية.٧ فإذا عُرِضَتْ صورتان أمام الإنسان لحظيًّا، بينهما زمن مقداره ٤٠ ملي ثانية، فلن يدرك على نحوٍ واعٍ إلا الصورة الثانية فقط، ولن يرى الصورة الأولى. إلا أن استخدام التنبيه بالأقطاب الدقيقة ووسائل المسح التصويري للمخ (مثل الرنين المغناطيسي الوظيفي) يظهر أن المراكز البصرية في المخ تلتقط الصورة الأولى بالفعل، لكنها لا تعيها مطلقًا. ولكي يحدث الوعي، يبدو على الأرجح أنه يجب على أي مجموعة عصبية أن يتذبذب أفرادها معًا لعشرات وربما مئات من الملي ثانية؛ وهو ما يعود بنا مجددًا إلى ما ذكره سنجر عن ذبذبات اﻟ ٤٠ هرتز. ولقد أظهر كلٌّ من سنجر وإديلمان أن المناطق البعيدة بالمخ تتذبذب بالفعل في تزامن بهذه الكيفية؛ فهي تكوِّن دائرة مغلقة معًا وهو ما يُسمَّى «الانغلاق المرحلي». تنغلق مجموعات أخرى من الخلايا العصبية معًا في أطوار ومراحل مختلفة، بمعدلات أسرع أو أبطأ قليلًا. ومبدئيًّا نقول إن هذا الغلق المرحلي يمكننا من التفرقة بين الأوجه المختلفة من نفس المشهد الذي نراه. ومن ثم فإن جميع عناصر سيارة خضراء تنغلق مرحليًّا معًا، بينما تنغلق جميع عناصر سيارة زرقاء قريبة منها مرحليًّا بشكل مختلف قليلًا، بما يضمن ألا تختلط وتتشوش صورتا السيارتين في الذهن. فكل وجه من أوجه المشهد البصري يحدث له انغلاق مرحلي بشكل مختلف قليلًا.

كان لسنجر فكرة رائعة تُفسِّر كيف ترتبط كل هذه الذبذبات المنغلقة مرحليًّا معًا عند مستوى أعلى؛ عند مستوى الوعي ذاته، وبتعبير آخر: الكيفية التي ترتبط بها هذه الذبذبات بالمدخلات الحسية الأخرى (كالسمع، والشم، والذوق … إلخ) وبالشعور والذاكرة واللغة؛ لإنتاج إحساس تكاملي بالوعي. وهو يُسمِّي هذا «التصافح العصبي» الذي يسمح بحدوث «التسكين» الطبقي للمعلومات، بحيث تجد المعلومات الأصغر حجمًا أو الأقل قَدْرًا مكانها ضمن الصورة الأكبر. والطبقة العليا فقط، التي تُعتبَر أشبه بالملخَّص التنفيذي لجميع المعلومات غير الواعية، هي التي يتم إدراكها على نحوٍ واعٍ.

ويعتمد التصافح العصبي على حقيقة بسيطة؛ فحينما تطلق الخلية العصبية نبضاتها يحدث لها إزالة للاستقطاب، فلا يمكنها أن تطلق نبضاتها مجددًا إلا من بعد أن يُعاد استقطابها. وهذا يستغرق بعض الوقت. وهذا يعني أنه إذا وصلت إشارة عصبية أخرى أثناء فترة الراحة التي تستعيد فيها الخلية العصبية استقطابها فسيتم تجاهلها. ضَعْ في اعتبارك أنه إذا كانت خلية عصبية ما تطلق نبضاتها بمعدل ٦٠ مرة في الثانية (أي ٦٠ هرتز) فإنها تتقيَّد باستقبال إشارات آتية فقط من خلايا عصبية تطلق نبضات في تزامن مرحلي. ومن ثم، على سبيل المثال، إذا حدث أن كانت مجموعة ثانية من الخلايا العصبية تطلق نبضاتها بمعدل ٧٠ مرة في الثانية (أي ٧٠ هرتز) فستخرج عن نطاق التزامن مع المجموعة الأولى في أغلب الوقت. وبهذا تصير المجموعتان مستقلتين ولا تستطيعان التصافح. من ناحية أخرى، إذا كانت مجموعة ثالثة من الخلايا العصبية تطلق نبضاتها ببطء أكثر، بمعدل ٤٠ هرتز مثلًا، فستكون هناك فترة أطول كثيرًا حتى تتمكَّن هذه الخلايا من استعادة استقطابها وتكون جاهزة للإطلاق مجددًا؛ أي إنها تكون ببساطة في انتظار المنبه الصحيح. وتلك الخلايا يمكنها الاستجابة للخلايا الأخرى التي تتذبذب بمعدل ٧٠ هرتز. وبتعبير آخر نقول: كلما كان التذبذب أبطأ؛ كان تراكُب المراحل أكبر ويكون احتمال التصافح مع مجموعات أخرى من الخلايا العصبية أفضل. وهكذا نجد أن أسرع الذبذبات تربط معًا الأوجه المنفصلة من المشهد البصري، والروائح، والذاكرة، والعواطف … إلخ. وكلٌّ منها كوحدات مستقلة، بينما تربط الذبذبات الأبطأ معًا جميع المعلومات الحسية والجسمانية في كلٍّ موحَّد (وهي خريطة الرتبة الثانية لداماسيو)، وتُعتبَر هذه لحظة في تدفُّق الوعي.

لم يثبت من هذا بما لا يَدَع مجالًا للشك إلا القليل، ولكن هناك الكثير من الأدلة التي تتناغم على الأقل مع هذه الصورة. والأهم من هذا أن هذه الأفكار تصنع تنبؤات يمكن اختبارها، مثل فكرة أن ذبذبات اﻟ ٤٠ هرتز ضرورية لربط محتويات الوعي، وعلى العكس من هذا، فإن فقدان هذه الذبذبات يعادل فقدان الوعي. وإذا وضعنا في الاعتبار صعوبة إجراء هذه القياسات (التي تتطلب قياس معدلات إطلاق النبضات من آلاف من أفراد الخلايا العصبية عَبْرَ المخ في وقت واحد) فقد تمر سنوات قبل أن يتم إثبات هذه الفرضيات أو غيرها.

وحتى في هذه الحالة تساعد هذه المفاهيم، بوصفها إطارًا تفسيريًّا، على جعل الوعي مفهومًا. فهي تظهر على سبيل المثال كيف يمكن أن ينشأ الوعي الممتد من الوعي الأولي؛ إذ يعمل الوعي الأولي في الزمن الحاضر، معيدًا بناء نفسه لحظة بلحظة، واضعًا تصورًّا لكيفية تعديل النفس بالاستعانة بأشياء خارجية، وكاسيًا الإدراكات بثوب من المشاعر والأحاسيس. يستخدم الوعي الممتد الآليات عينها، ولكنه يربط الذكريات واللغة بكل لحظة من الوعي الأساسي، مطابقًا بين المعنى العاطفي والماضي الذاتي الشخصي، وواصفًا المشاعر والأشياء بالكلمات … إلخ. ومن ثم، ينبني الوعي الممتد على أساس المعنى العاطفي، مدمجًا الذاكرة واللغة والماضي والمستقبل في منظومة الزمان والمكان الحاضرين للوعي الأساسي. وتسمح آليات التصافح العصبي ذاتها لامتدادات شاسعة من الدوائر المتوازية بأن ترتبط من أجل تكوين لحظة واحدة من الوعي.

أَجِدُ كلَّ هذا قابلًا للتصديق. ولكن يبقى أعمق التساؤلات بدون إجابة؛ وهو: كيف تولِّد الخلايا العصبية الشعور في المقام الأول؟ فإذا كان الوعي هو القدرة على الشعور بشعور ما، وتوليد معنى عاطفي دقيق كتعليق مستمر على الذات في هذا العالم، فإن الصرح بأكمله يرتكز على الشعور؛ وهو ما يُسمِّيه الفلاسفة مشكلة الخبرات الواعية الذاتية. وقد حان الوقت لمواجهة المعضلة مواجهة مباشرة.

•••

إن الألم يوجع لحكمة وسبب. وقليل من الناس هم الذين يُولَدون محرومين خلقيًّا من نعمة الإحساس بالألم. وهم يعانون أضرارًا فظيعة، وغالبًا ما تكون غير متوقعة. من هؤلاء طفلة تُدعَى جابي جنجراس. حين كان عمرها أربع سنوات، كانت جابي موضوع فيلم وثائقي أخرجته ميلودي جلبرت عام ٢٠٠٥. لم تكن جابي تحس بالألم؛ مما جعل كل مراحل نموها وتطورها محنة وبلاءً من الإصابات والأمراض. فحينما بدأت تنبت أسنان لبنية لدى جابي قضمت أصابعها حتى وصلت للعظام، وشوَّهَتْها ببشاعة أجبرت والدتها على الذهاب لطبيب الأسنان ليخلع لها أسنانها. وحينما تعلمت جابي المشي تسببت في إصابة نفسها المرة تلو الأخرى، وفي إحدى المرات كسرت فكها دون أن تدري إلى أن أُصِيبَتْ بعدوى والتهاب سبَّبَ لها حالة من الحمى. والأسوأ من هذا أنها قد تنخس نفسها في عينها فتسبب إصابة تتطلب الخياطة بالغرز، التي سرعان ما تمزقها بيديها دون أن تحس شيئًا. جرب والداها معها استخدام القيود، ثم نظارة واقية، ولكن دون جدوى. وحينما وصلت إلى سن الرابعة، خضعت لعملية استئصال للعين اليسرى؛ ثم تعرَّضَتْ عينها اليمنى أيضًا لتلف خطير؛ فصارَتْ عمياء من الناحية القانونية (درجة إبصارها ٢٠ / ٢٠٠). وفي وقت كتابتي لهذه السطور تبلغ جابي من العمر سبعة أعوام، وقد بدأت تتأقلم نسبيًّا مع حالتها الصعبة. كثيرون ممن في مثل حالتها ماتوا في طفولتهم، وقليلون هم من بقوا أحياء حتى سن البلوغ، ولكنهم غالبًا ما يُضطَرون للتعرض لإصابات بالغة. ولقد أنشأ والدا جابي مؤسسة أسمياها «منحة الألم»، وهي تدعم الأشخاص الذين يعانون نفس الحالة (انضم إليها تسعة وثلاثون عضوًا حتى الآن). واسمها على مسمى؛ فالألم نعمة بلا ريب.

ليس الألم هو الإحساس الوحيد؛ فهناك الجوع والعطش والخوف والشهوة، وكلها تندرج فيما أسماه ديريك دنتون «العواطف الأولية»، التي يصفها باعتبارها أحاسيس مُلِحَّة تسيطر على التيار الكلي للوعي، مجبرة النيات على العمل. ومن الواضح أنها جميعًا مطوعة لتحقيق بقاء الكائن الحي، أو تكاثره؛ فالشعور يدفع إلى الفعل، والفعل بدوره ينقذ الحياة أو يحفظ النوع. ولعل البشر هم الوحيدون الذين يمارسون الجنس بوعي بنية التكاثر، ولكن حتى الكنيسة لم تنجح إلا قليلًا في أن تزيل من النفوس فكرة أن الإشباع الجنسي هو الغاية من الاتصال الجنسي. فالحيوانات، ومعظم البشر، يمارسون الجنس التماسًا للإشباع الجنسي وليس لمجرد إنجاب الصغار. والفكرة هنا هي أن جميع هذه العواطف الأولية هي «مشاعر»، وكلها تخدم غرضًا بيولوجيًّا، حتى إذا لم يتم تقدير هذا الغرض أو إدراكه في كل الأحوال. والألم، فوق غيره من المشاعر كلها، شعور غير سار. ولكن لولا عنصر الوجع المزعج للألم لآذينا أنفسنا بشدة وفظاعة؛ فالشعور بالألم بغير خاصيته المزعجة يكون بلا فائدة. والأمر نفسه ينطبق على الشهوة؛ فالجماع الآلي بغير مشاعر لا يُعَدُّ مكافأة في حد ذاته؛ فنحن، وسائر الحيوانات الأخرى نلتمس اللذة الحسية، والشعور بها. أيضًا مجرد أن يعطي الجهاز العصبي إشارة بوجود العطش إذا هام المرء على وجهه في الصحراء ليس كافيًا، بل إنها تلك العاطفة العارمة التي «تجفف» العقل من الداخل والتي تساعد على بقائنا أحياء، وتجبرنا على اللجوء إلى إحدى الواحات، وتعتصر آخر قطرة من قوة تحملنا.

إن الفكرة القائلة إن تلك العواطف الأولية نشأت بفعل الانتقاء الطبيعي يتعذَّر إخضاعها للاختبار. ولكن لها دلالات جوهرية، وأول من أشار إليها هو الأب المؤسس لعلم النفس الحديث والعبقري الأمريكي ويليام جيمس في أواخر العصر الفيكتوري. فقد افترض جيمس أن المشاعر، وما يستتبع ذلك من الوعي ذاته، لها منفعة بيولوجية. وهذا بدوره يعني أن الوعي ليس ظاهرة ثانوية تصاحب الكائن الحي كظلِّه ولا تستطيع إحداث أي آثار مادية خاصة بها. فالمشاعر تُحدث بالفعل آثارًا مادية. وإذا كان الأمر كذلك فإن تلك المشاعر هي — بمعنى ما — مادية. وقد استنتج جيمس أن المشاعر بالرغم من مظهرها اللامادي، فإن لها بالفعل خصائص مادية، ونشأت عن طريق الانتقاء الطبيعي. ولكن ما هي المشاعر بالضبط؟ لم يحدث بعد جيمس أن تفكَّرَ امرؤ في هذا التساؤل بأشد مما فعل جيمس نفسه، ولقد كان الاستنتاج الذي توصَّلَ إليه مضادًّا للبديهة ومثيرًا للإزعاج؛ إذ ذهب إلى أنه لا بد من وجود خصائص غير معروفة للمادة، أو نوع ما من «الغبار الذهني» الذي يتخلل الكون. ومع أن جيمس يُعتبَر البطل المبجَّل في نظر كثيرين من علماء الأعصاب المرموقين اليوم، فإنه تبنَّى شكلًا من الشمولية العقلية (قائلًا إن الوعي هو في كل مكان، وجزء من كل شيء)؛ مما جعل الذين مالوا إلى اتباعه قليلين حتى يومنا هذا.

لكي أعطيك إحساسًا بمدى صعوبة هذه المشكلة؛ فكِّر في بعضٍ من الأجهزة مثل جهاز التليفزيون أو آلة الفاكس أو الهاتف. لا حاجة بك لأن تعرف طريقة عمل أيٍّ منها كي تدرك أنها لا تكسر قوانين علم الفيزياء. فالإشارات الإلكترونية تُشفِّر مخرجاتها بشكل أو بآخر، ولكن مخرجاتها دائمًا ما تكون مادية في طبيعتها؛ فهي أنماط من الضوء في حالة التليفزيون، وموجات صوتية في حالة الهاتف أو المذياع، ومطبوعات في حالة الفاكس. وثمة شفرة إلكترونية تنتج مُخرجًا ما في وسط مادي معروف. ولكن ماذا عن المشاعر؟ في هذه الحالة تنقل الأعصاب الإشارات الإلكترونية المشفرة بنفس الطريقة أساسًا مثل التليفزيون؛ فالخلايا العصبية تحدِّد المُخرج العصبي بدقة عن طريق شفرة ما. لا مشكلة في هذا، ولكن ما هو هذا المُخرج بالضبط؟ فكِّرْ في كل الخصائص المعروفة للمادة. فلا تبدو المشاعر مثل إشعاع كهرومغناطيسي أو موجات صوتية، ولا تضاهي أي شيء ضمن البنية المادية للذرات. إنها ليست بروتونات ولا إلكترونات، فماذا تكون بحق السماء؟ أهي أوتار متذبذبة؟ أم جرافيتونات كمية؟ أم مادة مظلمة؟٨

هذه هي المعضلة الصعبة التي تحدَّثَ عنها تشالمرز. ولقد ذهب تشالمرز، مثل جيمس من قبله، إلى أنه ما من سبيل لحلها إلا من خلال اكتشاف خصائص أساسية جديدة للمادة. والسبب بسيط؛ فالمشاعر مادية، إلا أن قوانين الفيزياء المعروفة، التي يُفترَض استطاعتها أن تَصِف لنا العالم على نحوٍ وافٍ، ليس بها مكان للمشاعر. وعملية الانتقاء الطبيعي — مع كل ما تتمتع به من قوة — لا تخلق شيئًا من لا شيء، بل لا بد أن تكون ثمة بذرة من «شيء ما» كي تعمل عليها؛ بذرة من شعور ما، يمكنك القول، يستطيع التطور أن يبلورها إلى ذلك العقل المهيب. هذا ما يُسمِّيه عالم الكيمياء الفيزيائية الاسكتلندي جراهام كيرنز سميث «قنبلة القبو» للفيزياء الحديثة. ويقول مفترضًا أن المشاعر إذا لم تكن تضاهي أيًّا من الخصائص المعروفة للمادة، فلا بد أن للمادة نفسها بعض الملامح الإضافية أو ما يمكن أن نُسمِّيها «ملامح شخصية»، التي إذا تمَّ تنظيمها من قبل الانتقاء الطبيعي فستنتج عنها المشاعر الداخلية التي نتمتع بها. إن المادة تتصف بالوعي بطريقة ما مع وجود خصائص «داخلية»، فضلًا عن الخصائص الخارجية التي يقيسها علماء الفيزياء. وهكذا عاد مذهب الشمولية العقلية بقوة من جديد.

إن هذا الأمر يبدو منافيًا للعقل، ولكن لا يدفعنا الغرور لأن نظن أننا نعرف كل شيء عن طبيعة المادة! فهذا غير صحيح. بل إننا لا نفهم حتى كيفية عمل ميكانيكا الكم. تَصِف نظرية الأوتار على نحوٍ رائعٍ الكيفية التي تنشأ بها كل خصائص المادة من ذبذبات لأوتار دقيقة على نحوٍ لا يمكن تخيُّله داخل أبعاد لا يمكن تخيُّلها، عددها أحد عشر بُعدًا، ولكننا لا نملك وسيلة تجريبية للتأكد من صحة أيٍّ من فرضيات هذه النظرية. ولهذا السبب ذكرت في بداية هذا الفصل أن موقف البابا لم يكن منافيًا للمنطق. فنحن لا نعرف ما يكفي عن الطبيعة المتعمقة للمادة لكي نعرف كيف تحوِّل الخلايا العصبية المادة الجامدة إلى مشاعر شخصية فيَّاضة. فإذا كانت الإلكترونات لها خصائص الموجات والجسيمات في نفس الوقت، فلماذا لا تكون الروح والمادة وجهين لنفس الشيء؟

اشتهر كيرنز سميث بأبحاثه عن أصل الحياة، ولكن بعد تقاعُدِه تحوَّلَ بعقله الرائع تجاه مشكلة الوعي. وكُتُبه عن هذا الموضوع تتسم بالتعمق والتشويق، وتَتْبَع خطوات روجر بنروز وستيوارت هامروف إلى حدائق الكم الخاصة بالعقل. وينظر كيرنز سميث إلى المشاعر باعتبارها الذبذبات المترابطة للبروتينات. وهي مترابطة مثلما تترابط حزمة من أشعة الليزر وتتماسك؛ بمعنى أن هذه الذبذبات (التي تُسمَّى الفونونات) تندمج لتكوِّن نفس الحالة الكمية. وهذه يمكن اعتبارها حالة «كمية كبيرة»، وهي كبيرة بحيث تهيمن على المسارات الكبيرة للمخ. ومرة أخرى يفترض كيرنز سميث وجود أوركسترا ما؛ حيث تندمج ذبذبات الآلات الموسيقية المفردة لتكوِّن تناغمات فائقة. إن المشاعر هي الموسيقى، ونحن الموسيقى حتى تتوقف الموسيقى. إنه تصور جميل. وليس من غير المنطقي أن تعزو التأثيرات الكمية إلى التطور. وهناك ما لا يقل عن حالتين يُحتمَل أن تكون قوى الانتقاء الصارمة قد جندت فيها آليات الكم؛ وهما: مرور الطاقة الضوئية إلى حبيبات الكلوروفيل في عملية البناء الضوئي، ومرور الإلكترونات إلى الأكسجين في عملية التنفُّس الخلوي.

إلا أنني أَجِد صعوبة في تقبُّل أن هذا ينطبق على العقل. فربما يُوجَد ما يُسمَّى العقل الكمي، ولكن ثمة مشكلات عدة، وهي معًا تبدو لي مستعصية على التذليل.

أولى تلك المشكلات وأهمها هي مشكلة لوجستية؛ إذ كيف تقفز الذبذبات الكمية عَبْرَ التشابكات العصبية؟ وكما يُصرِّح بنروز نفسه، فإن الحالة الكمية الكبيرة التي تكون منحصرة داخل الخلايا العصبية المفردة لا تحل المشكلة، وعلى المستوى الكمي يُعَدُّ التشابك العصبي بمنزلة محيط شاسع. ولكي تتذبذب الفونونات في تناغم، فلا بد أن يكون هناك تجمع تكراري من البروتينات التي تكون متقاربة المسافات فيما بينها بحيث يتذبذب كلٌّ منها في انسجام قبل أن تذوي الفونونات. يمكن معالجة هذه الأسئلة تجريبيًّا، ولكن حتى الآن لا يُوجَد أي دليل، ولا بمثقال ذرة، على وجود الحالات الكمية الكبيرة المترابطة في العقل. بل على العكس؛ فالمخ نظام ساخن، رطب، مضطرب، ويكاد يكون أسوأ مكان لتوليد حالة كمية كبيرة.

وإذا كانت تُوجَد حقًّا تلك الذبذبات الكمية المزعومة، وكانت تعتمد على وجود تجمعات تكرارية من البروتينات، إذن فماذا يحدث للوعي إذا تشتتت هذه التجمعات البروتينية بفعل الأمراض العصبية التنكسية؟ إن بنروز وهامروف يعزوان الوعي إلى وجود أنيبيبات دقيقة مجهرية داخل الخلايا العصبية، ولكن هذه الأنيبيبات تتحلَّل في حالة مرض ألزهايمر، وينتهي بها الأمر أن تتحوَّل إلى الكتل المتشابكة التي تُعَدُّ علامة مميزة للمرض. وتُوجَد هذه الكتل المتشابكة بالآلاف في المرحلة المبكرة من مسار الحالة المرضية (وأغلبها في أجزاء المخ المسئولة عن تكوين ذكريات جديدة)، ومع ذلك يبقى الإدراك الواعي سليمًا حتى مرحلة متأخرة من المرض. وبمختصر القول، لا تُوجَد علاقات متبادلة في هذا الشأن. والكثير مما ذكرناه ينطبق على التراكيب الكمية المفترضة الأخرى. فالأغماد النخاعية، التي تُغلِّف ألياف الخلايا العصبية في المادة البيضاء للجهاز العصبي تزول وتتحلل في حالة مرض التصلب المتعدد، ومرة أخرى لا يؤثر هذا، بالكاد، على الوعي. والمثال الوحيد الذي يتفق على الأقل مع التفسير الكمي هو سلوك الخلايا الداعمة في الجهاز العصبي التي تُسمَّى الخلايا النجمية، بعد حدوث سكتة دماغية. ففي إحدى الدراسات كان عدد كبير من المرضى غير واعين لتعافيهم من السكتة الدماغية؛ فقد كان ثمة فجوة غريبة بين أدائهم الذي تم قياسه وإدراكهم لهذا الأداء، الأمر الذي قد يُفسَّر — أو لا يُفسَّر — من منظور الترابط الكمي عَبْرَ شبكة الخلايا النجمية (هذا إذا افترضنا وجود تلك الشبكة أصلًا، وهو أمر يبدو محفوفًا بالشكوك).

المسألة الثانية المتعلقة بالوعي الكمي تتمحور حول ما يستطيع هذا المفهوم أن يحله من مشاكل؟ دَعْنا نفترض أنه تُوجَد حقًّا شبكة من البروتينات المتذبذبة في المخ التي تشدو في تناغم، وأنغامها تنتج المشاعر، أو لنقل مشاعر الكينونة. ولنفترض أيضًا أن هذه الذبذبات الكمية «تشق طريقها» بشكل ما من خلال التشابكات العصبية المحيطية وتطلق «أنشودة» كمية أخرى، ناشرة الترابط عَبْرَ المخ. ما لدينا هنا هو عالم موازٍ بأكمله في المخ، وهو عالم يجب أن يعمل يدًا بيد مع العالم التقليدي المعروف من الخلايا العصبية التي تطلق نبضاتها، وإلا فكيف كان من الممكن أن يؤدي إطلاق النبضات المتزامن إلى إدراكات واعية، أو أن تؤثِّر النواقل العصبية على الحالة الواعية، وهو ما تفعله بالتأكيد؟ إن عالم الكم يحتاج لأن يُقسَّم إلى أجزاء بنفس الطريقة تمامًا مثل المخ. ومن ثم، فإن المشاعر المتعلقة بالبصر (مثل رؤية اللون الأحمر) تحتاج إلى أن تنحصر في مناطق المعالجة البصرية، في حين أن المشاعر العاطفية يمكنها أن تتذبذب فقط في مناطق مثل لوزة المخ أو الدماغ الأوسط. ثمة مشكلة في هذا الأمر هي أن البنية التحتية المجهرية في جميع الخلايا العصبية موحَّدة بالأساس — فالأنيبيبات الدقيقة في خلية عصبية ما لا تختلف بأي شكل ذي معنى عن التي في الخلايا العصبية الأخرى — فلماذا إذن وجب أن ينشد بعضها ألوانًا، والبعض الآخر آلامًا؟ وأصعب تلك الأمور فهمًا هي حقيقة أن المشاعر تعكس أكثر الشئون الجسمانية جوهرية. وهل يمكن أن يتخيَّل المرء خاصية أساسية للمادة تعكس رنين الحب أو الموسيقى في صورة ألم بالمعدة؟ وهل هناك ذبذبة فريدة تأخذ شكل شعور تفريغ المثانة على الملأ؟ هذا غير مرجح. لكن إذا لم يكن حل هذا الأمر يتعلق بالكَمِّ، فبماذا إذن؟

•••

أين يُفضَّل أن نبحث عن حل للمشكلة الصعبة التي نسميها معضلة الوعي؟ هناك عدد من التناقضات الظاهرية التي يمكن التعامل معها ببساطة، بما فيها ما أسماها كيرنز سميث «قنبلة قبو» الفيزياء الحديثة. هل يجب حقًّا على المشاعر أن تُمثِّل خاصية فيزيائية للمادة إذا كانت تتطور بفعل الانتقاء الطبيعي؟ ليس هذا ضروريًّا. ليس إذا كانت الخلايا العصبية تشفِّر المشاعر بطريقة دقيقة وقابلة للاسترجاع، بمعنى أن تطلق مجموعة من الخلايا العصبية نبضاتها بطريقة محددة تعطي دائمًا نفس الشعور. فحينئذٍ يؤثر الانتقاء الطبيعي ببساطة على الخصائص الفيزيائية المميزة للخلايا العصبية. وإديلمان، الحريص كعادته في انتقاء الألفاظ يفضِّل كلمة «يستتبع». فنمط الخلايا العصبية التي تطلق نبضاتها يستتبع شعورًا ما على نحوٍ حتميٍّ؛ فهذا لا ينفصل عن ذاك. وبنفس الطريقة يمكنك القول إن جينًا ما يستتبع بروتينًا ما. يؤثِّر الانتقاء الطبيعي على خصائص البروتينات وليس على تسلسلات الجينات، ولكن لأن الجينات تشفِّر البروتينات بأسلوب صارم، ولأن الجين فقط هو الذي يُورَّث فالاثنتان تعنيان الشيء نفسه. ويبدو لي بالتأكيد أن من المرجَّح كثيرًا أن العواطف الأولية، مثل الجوع والعطش، يجب أن تأتي نتيجة نمط محدد من الإطلاق العصبي لا أن تكون خاصية اهتزازية أساسية للمادة.

ثمة تناقض آخر يمكن معالجته ببساطة، بصفة جزئية على الأقل، وهو إدراك أن عقولنا غير مادية، وأن مشاعرنا تَفُوق الوصف. ففي رأي عالم رائع آخر تحوَّل بعقله تجاه الوعي بعد تقاعده، وهو الطبيب وإخصائي علم العقاقير من نيويورك خوزيه موساكيو، فإن الفكرة الأساسية هي أن العقل لا يكتشف، ولا يستطيع أن يكتشف، وجود المخ. فنحن لا ندرك وجود المخ ولا الطبيعة المادية للعقل عن طريق التفكير فيه. وإن الطرق الموضوعية (المادية) للعلم هي فقط التي ربطت العقل بآليات العمل المادية للمخ. ويمكن ضرب مَثَلٍ عن كَمْ كُنَّا مضللين في الماضي؛ فمثلًا كان قدماء المصريين عند تحنيطهم لجثث ملوكهم يحفظون القلب وأعضاء أخرى بعناية كبيرة (إذ كانوا يعتبرون القلب هو مركز العواطف والعقل) بينما كانوا يكشطون المخ من خلال الأنف بخطاف ويغسلون تجويف الجمجمة بملعقة طويلة ويسحبون ناتج الغسل ويتخلصون منه. وهذا يُظهر أنهم لم يكونوا على يقين بوظائف المخ وفوائده، فافترضوا أنه لن يفيد في العالم الآخر. وحتى في يومنا هذا، يمكننا تبيُّن مدى عجز العقل عن اكتشاف نفسه أثناء جراحات المخ. فالمخ بالرغم من إحساسه بكَمٍّ كبير مما يحدث في العالم لا تُوجَد به مستقبلات للألم في حَدِّ ذاته؛ ومن ثم فهو غير حسَّاس للألم كليةً. ولهذا السبب يمكن إجراء جراحات المخ دون تخدير عام.

فلماذا لا يكتشف العقل آليات عمله المادية بذاته؟ من الواضح أنه من غير الملائم، بل من الخطر، أن يشغل كائنٌ ما عقلَه في التأمل والتفكر في هذا بينما يجب عليه بالفعل أن يركز كل قدرته المخية على اكتشاف خطرٍ ما، مثل نمر يختبئ بين الشجيرات، وتقرير ما سيفعله إزاء ذلك على وجه السرعة. وهذا الفحص النفسي الذاتي في اللحظات غير المناسبة ليس بالخاصية التي يمكن أن تتغاضى عنها عملية الانتقاء الطبيعي الصارمة. ومع ذلك، فإن الناتج هو أن إدراكاتنا ومشاعرنا شفافة، وأنها موجودة هكذا دون إدراك أي شيء عن أساسها العصبي الفيزيائي. ولأننا بالضرورة غير مدركين للأساس الفيزيائي لإدراكاتنا ومشاعرنا، فإن عقولنا الواعية يكون لديها إحساس قوي باللامادية والروحانية. وقد يكون هذا الاستنتاج مزعجًا لبعض الناس، ولكنه يبدو أمرًا لا مفر منه؛ إذ ينشأ إحساسنا بالروحانية من الحقيقة القائلة إن الوعي يعمل على أساس ما تحتاج لأن تَعْرِفه فحسب. فنحن معزولون عن أمخاخنا من أجل أن نبقى أحياء.

وينطبق هذا تقريبًا على سمو المشاعر عن الوصف. فكما قلتُ من قبل: إذا كانت المشاعر تتبع — كنتيجة لا بد منها — أنماطًا من الإطلاق العصبي للنبضات، بشفرة محددة جدًّا، فإن المشاعر تُعَدُّ بمنزلة لغة غير لفظية معقدة تمامًا. وللغات اللفظية جذورها العميقة في هذه اللغة غير اللفظية، ولكنها لا يمكن أن تكون نفس الشيء. فإذا كان ثمة شعور يستثيره نمط عصبي معين، فإن الكلمة التي تصف هذا الشعور يستثيرها نمط عصبي مختلف؛ فهي تُترجَم من شفرة لأخرى ومن لغة لأخرى. ولا تستطيع الكلمات أن تصف المشاعر إلا من خلال النقل والترجمة؛ مما يجعل المشاعر تَفُوق الوصف. إلا أن جميع لغات البشر تتعلَّق بمشاعر مشتركة. فاللون الأحمر مثلًا لا يُوجَد حقيقةً، ولكنه بناء عصبي لا يمكن أن يُنقَل لشخص ما لم يكن هذا الشخص قد أدرك شيئًا مماثلًا له من قبل. وبالمثل، فإن الشعور بالألم أو الجوع، أو شم رائحة القهوة … إلخ، كلها أحاسيس ترتبط بها كلمات وتجعل التواصل اللفظي ممكنًا. وكما أفاد موساكيو، فإن هناك نقطة تأتي دائمًا نُضطَر عندها أن نقول: «هل تعرف ما أعنيه؟» ولأننا نتشارك في نفس التراكيب والمشاعر العصبية، فإن اللغات تكون مستقرة في خبرتنا البشرية المشتركة. واللغة بدون شعور تكون مجردة من المعنى، ولكن المشاعر تكون موجودة، ويكون المعنى موجودًا بدون أي لغة لفظية، كوعي أساسي لعواطف صامتة وإدراكات بلا كلمات.

كل هذا يعني أنه مع أن المشاعر قد تتولَّد عن الخلايا العصبية، فإننا لن ندنو منها من خلال الفحص النفسي الذاتي أو المنطق — أو من خلال الفلسفة أو النظرية اللاهوتية، وإنما بالتجربة فقط. ومن الناحية الأخرى، فإن الحقيقة القائلة إن الوعي مستقر في المشاعر والدوافع والمنفرات تعني أننا يمكن أن نصل إلى جذور الوعي دون الحاجة للتواصل لفظيًّا مع الحيوانات الأخرى؛ فإننا نحتاج فقط لاختبارات تجريبية بارعة. وهذا بدوره يعني أننا يجب أن نكون قادرين على دراسة التحوُّل العصبي الحاسم، من الإطلاق العصبي إلى الشعور لدى الحيوانات، حتى البسيط منها؛ إذ تدل كل الإشارات على أن العواطف الأولية واسعة الانتشار في الفقاريات.

من الأمور التي توحي بقوة بأن الوعي أكثر انتشارًا مما نَمِيل لتصديقه هو بقاء بعض الأطفال على قيد الحياة وتمتعهم بوعي ظاهري بالرغم من مولدهم بدون القشرة المخية المهمة للإنسان (انظر الشكل ٩-١). إذ يمكن أن تؤدي حالة سكتة دماغية صغيرة، أو شذوذ تطوري مماثل، إلى إعادة امتصاص أجزاء كبيرة من كلتا القشرتين المخيتين أثناء الحمل. وليس من العجيب أن يُولَد أولئك الأطفال وهم يعانون إعاقات كثيرة، ومحرومون من الكلام بلغة ما ومن الإبصار الجيِّد، ولكن كما يقول عالم الأعصاب السويدي بيورن ميركر، فبالرغم من غياب كل مناطق المخ تقريبًا التي نعتبرها معنية بالوعي في الحالة الطبيعية، فإن أولئك الأطفال يكونون قادرين على السلوك العاطفي والضحك والبكاء بشكل معقول، ويُظهرون علامات على التعبير الإنساني الأصلي (انظر الشكل ٩-٢). ذكرتُ آنفًا أن الكثير من المراكز العاطفية في المخ تقع في الأجزاء الأكثر قدمًا من المخ؛ وهي جذع المخ والدماغ الأوسط، التي تتشارك فيها جميع الفقاريات تقريبًا. ولقد أظهر ديريك دنتون، من خلال المسح التصويري بالرنين المغناطيسي أن تلك المناطق القديمة تتوسط في توصيل خبرة العواطف الأولية مثل العطش والخوف من الاختناق. وربما كان الحال أن جذور الوعي لا تُوجَد في القشرة المخية العصرية مطلقًا، التي بطبيعة الحال تطور الوعي وتتوسع فيه بغزارة وتختص بالذكاء البشري الراقي، وإنما تُوجَد في الأجزاء القديمة من المخ المنظمة بكثافة والغنية بالمراكز الحيوية، التي نتشارك فيها على نطاق واسع مع حيوانات أخرى كثيرة. وإذا كان الحال كذلك، فإن التحول العصبي من إطلاق النبضات إلى الشعور يَفْقِد بعضًا من سحره وغموضه.
fig29
شكل ٩-١: صورة مسحية بالرنين المغناطيسي لرأس طفل مصاب بحالة شديدة من الاستسقاء المخي. ويتضح منها أن القشرتين المخيتين قد اختفتا؛ وصارت الجمجمة ممتلئة بالسائل المخي الشوكي.
fig30
شكل ٩-٢: أمارات السرور والسعادة تبدو على وجه طفلة في الرابعة من عمرها، تُدعَى نيكي، مصابة بالاستسقاء المخي.

إلى أي درجة ينتشر الوعي؟ لن نعرف الإجابة عن هذا التساؤل على وجه التحقيق إلى أن يتم اختراع نوعٍ ما من مقياس الوعي. إلا أن العواطف الأولية — مثل: العطش، والجوع، والألم، والشهوة، والخوف من الاختناق … إلخ — كلها على ما يبدو واسعة الانتشار بين الحيوانات التي لديها مخاخ، بما فيها حتى لافقاريات بسيطة مثل النحل. فلدى النحلة أقل من مليون خلية عصبية (بينما لدى الإنسان ٢٣ مليار خلية عصبية في القشرة المخية وحدها)، إلا أنها قادرة على أداء سلوك معقد تمامًا؛ فهي لا تكتفي بإعطاء إشارات تُحدِّد اتجاه غذائها من خلال رقصاتها الاهتزازية الشهيرة، وإنما يرتقي سلوكها إلى درجة تحديد أماكن الأزهار الأكثر امتلاء بالرحيق الذي تتغذَّى عليه، حتى وإن عمد بعض الباحثين إلى تعديل التوازن الرحيقي للأزهار بهدف خِدَاع النحل. لا أزعم أن النحلة واعية بالمعنى الذي نفهم به هذا اللفظ، ولكن حتى «جهاز المكافأة» العصبي البسيط الذي لديها يستحق مكافأة؛ بمعنى أنه يستحق إحساسًا جيدًا، وهو ذلك الطعم اللذيذ لرحيق الزهور. أو نقول بكلمات أخرى إن النحلة لديها بالفعل ما نعتبره وعيًا، حتى إذا لم يكن وعيًا حقيقيًّا على الأرجح.

وهكذا فإن المشاعر في النهاية هي بناء عصبي، وليست خاصية أساسية للمادة. وبالنسبة لبعض الحيوانات الأخرى المشاركة لنا في هذا العالم كالحشرات، التي يتمثل أعلى ما وصلت إليه من نشوء وارتقاء في هذا النحل، هل نجد أنفسنا مجبرين على التوصل إلى قوانين جديدة للفيزياء لتفسر سلوكياتها؟ ولكن إذا لم تكن المشاعر أكثر من محض خلايا عصبية تؤدي عملها، فلماذا تبدو حقيقية إلى هذه الدرجة، بل لماذا هي حقيقية إلى هذه الدرجة بالفعل؟ إنها تبدو لنا حقيقية لأن لها معنى حقيقيًّا، وهو معنى استقيناه من بوتقة الانتقاء الطبيعي، معنى يأتي من الحياة الحقيقية، بل ومن الموت الحقيقي. إن المشاعر هي في حقيقتها شفرة عصبية، إلا أنها شفرة نابضة بالحيوية، غنية بمعانٍ اكتُسِبَتْ على مدى ملايين بل مليارات من الأجيال. ما زلنا لا نعرف كيف تفعل خلايانا العصبية هذا، ولكن الوعي في أساسه يتعلَّق بالحياة والموت، وليس بالقمم العالية الرائعة للعقل البشري. وإذا أردنا حقًّا أن نفهم ماهية الوعي وكيف صار إلى ما صار إليه، فلا بد أن نخرج أنفسنا من ذلك الإطار الذي قيَّدْنا أنفسنا فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤