الفصل الثالث

الشمال السوفيتي

(١) الظروف الطبيعية

يمتد الإقليم القطبي وإقليم العروض العليا في الاتحاد السوفيتي من حدود فنلندا في الغرب عند إقليم كارليا إلى كمتشكا في الشرق، وتتنوع الظروف العامة في هذا الإقليم الطويل تنوعًا واسعًا في المنظر العام والصفات الطبيعية.

فإقليم كارليا لا يختلف كثيرًا عن فنلندا من حيث كونه جزءًا من الرصيف الروسي القديم التكوين من الصخور البلورية، ولا يرتفع إلى أكثر من ٥٠٠ متر إلا في أحوال نادرة، وأثرت عليه التعرية الجليدية تأثيرًا واضحًا، وتنتشر فوقه البحيرات الكثيرة التي وصلت ببعض بواسطة الأنهار التي أقيمت عليها محطات توليد الطاقة، وإلى الشمال من كارليا تمتد شبه جزيرة كولا التي ترتفع فوقها سلسلة جبال خيبيني إلى ١٣٠٠ متر والغنية بالثروة المعدنية، والساحل الشمالي لشبه الجزيرة مليء بالفيوردات، وأهمها الفيورد الذي يقع عليه ميناء مورمانسك، أما بقية السواحل القطبية فهي منخفضة مليئة بالمستنقعات.

وفيما بين كارليا وكولا من ناحية وجبال الأورال من ناحية أخرى يمتد إقليم سهلي مستنقعي غالبًا، مكون من الصخور الرسوبية التي أثرت عليها التعرية الجليدية، والنظام النهري في هذا الإقليم يتكون من نهري ديفينا الشمالي وبتشورا، وتفصل بينهما سلسلة جبال تيمان المنخفضة، وتمتد المنطقة الشمالية من جبال الأورال شمالًا إلى جزر نوفايازمليا.

وفيما بين الأورال وهضبة سيبيريا الوسطى يمتد سهل واسع مستنقعي يكاد لا توجد فيه مظاهر طبيعية متغيرة تكسر حدة التشابه، ومثل هذا السهل نظيره قليل في العالم، وقد لا تكون من الإرسابات النهرية والجليدية الحديثة، ويسيطر نهر الأوب-أيرتش على تصريف هذا السهل، وإن كان هذا التصريف ليس كاملًا، فانحدارات هذا النهر ضعيفة جدًّا، ومن ثم فإن بطء التيار قد أدى إلى انحناءات كثيرة — مياندر — في مجرى النهر تؤدي إلى انسداد المجرى بالرسوبات خاصة في موسم الفيضان الربيعي، ونتيجة لذلك كله، تحولت المنطقة بما فيها من مجاري نهرية إلى ما يُشبه مستنقعًا واحدًا ضخمَ المساحةِ، ومن ثم فإن الملاحة النهرية غير ممكنة عمليًّا إلا في المجاري العليا.

أما نهر الينسي فإنه يسير موازيًا لحافة الهضبة السيبيرية الوسطى وهو بذلك يسير في مجرى شبه مستقيم، ومن ثم فإنه أكثر قيمة من الأوب في الملاحة والنقل، وخاصة لوجود الأخشاب الجيدة في هذا الإقليم من سيبيريا الوسطى، وينتهي الينسي إلى بحر كارا كالأوب، وهو — بالمقارنة بالبحار التي توجد شرق شبه جزيرة تايمير — يعتبر بحرًا خاليًا من الجليد خلال شهري الصيف.

ويكوِّن نهر الينسي خط تقسيم هام في الشمال السوفيتي، فإلى الغرب منه سهول لا يعتريها الصقيع الدائم — برمافروست، ولكن السطح مكون من صخور لينة مشبع بالرطوبة، وإلى الشرق من الينسي تمتد هضاب سيبيريا المكونة من الصخور الصلبة، قطعتها أودية الأنهار العميقة، وهي منطقة البرمافروست الرئيسية، وتتميز بنقص في الرطوبة، وهذا الجزء الشرقي يمكن أن يقسم إلى قسمين بواسطة مسار نهر لينا.

وتمتد الهضبة السيبيرية الوسطى بين الينسي ولينا متكونة من صخور صلبة وتكوينات لافا سميكة، وترتفع في المتوسط إلى ٧٠٠ متر، وتقطع أودية الأنهار سطح الهضبة فيما يشبه الخوانق — كانيون، وإلى الشرق من مدينة المعادن نوريلسك تبدأ سلسلة جبال بوتوراما لترتفع إلى حوالي ٢٠٠٠ متر، والانحدار العام لهضبة سيبيريا الوسطى هو انحدار تدريجي إلى الشرق نحو السهل الفيضي لنظام لينا النهري.

ونهر لينا واحد من الأنهار الطويلة في الاتحاد السوفيتي، لكنه يتجمد من أكتوبر إلى يونيو وينتهي إلى بحر لابتف المتجمد بدلتا واسعة تغطيها الثلوج كثيرًا حتى الصيف، ونظرًا لأن مسار لينا يقع كله في منطقة الصقيع الدائم فإن فيضان الربيع يؤدي إلى سرعة كبيرة في تيار النهر مما يؤدي إلى كوارث كثيرة.

وفيما بين لينا والباسيفيك يتغير المنظر الطبيعي تمامًا، فالمنطقة تتكون من جبال ألبية حديثة شديدة الوعورة والتضرس ترتفع إلى أعلى من ٣٠٠٠ متر في أحيان كثيرة، وليس لهذه الجبال اتجاهات ثابتة بل هناك عشرات الاتجاهات مما يجعل المنطقة صعبة الاختراق، وتصرف عدة أنهار من المنطقة، أهمها كوليما وأنديجركا اللذان ينتهيان إلى السهول المستنقعية، في الشمال الشرقي من سيبيريا، وهنا تتدافع الكتل الجليدية بكثرة مما يجعل الملاحة في هذا الجزء من الساحل الشمالي شديدة الخطورة، وأخيرًا فإن شبه جزيرة كمتشكا تكوِّن عالمًا فريدًا في الاتحاد السوفيتي فهي مليئة بالبراكين — أعلاها كلوشفسكايا سوبكا +٥٥٠٠ متر — والينابيع الحارة والنافورات الساخنة التي بدئ في استغلال طاقتها الحرارية في الجنوب، وهي في الواقع جزء من حلقة الباسيفيكي التي تتعرض للبراكين والزلازل بشدة.

(١-١) المناخ

يتضح من الرسوم البيانية المرفقة أن المناخ وإن تميز عامة بسيادة النمط القطبي فيما يختص بكمية المطر القليلة الساقطة سنويًّا، إلا أنه يختلف من مكان إلى آخر بالنسبة لنمط الحرارة السنوية، ويرتبط ذلك ارتباطًا وثيقًا بموقع المكان وخصائص هذا الموقع المحلية، بالإضافة إلى خصائصه العامة.

ويمكن أن نتبين من محطات الرصد المختلفة عدة أنماط حرارية في الإقليم القطبي السوفيتي، ويلاحظ أن الحرارة بالذات هي عامل مؤثر في اختلاف مناخ منطقة عن أخرى؛ لأن أي تغير، ولو طفيف في هذه المنطقة التي تتميز بمتوسط حراري منخفض جدًّا طوال العام، يكون له آثار بعيدة المدى على أيكولوجية الحياة النباتية والحيوانية، ويترتب عليها مؤشرات هامة أمام التخطيط السوفيتي من أجل إقامة قواعد ثابتة للحياة في هذه الأقاليم المتطرفة، مبنية على الزراعة المحلية والرعي الحديث.

وأول ما يمكننا تمييزه من الرسوم البيانية أن هناك تقسيمًا عامًّا للنطاق إلى منطقتين رئيسيتين، هما النطاق الساحلي الذي يتأثر بالبحر حتى ولو كان ذلك المحيط الشمالي البارد، والنطاق الداخلي حتى ولو كان ذلك لا يبعد كثيرًا عن البحر.

وفي هذين القسمين الرئيسيين نلاحظ أن المدى الحراري السنوي يختلف اختلافًا كبيرًا، ففي المناطق الساحلية لا يزيد المدى الحراري عن ٢٥ درجة مئوية، بينما يرتفع هذا المدى إلى أقصاه في المناطق الداخلية بمتوسط قدره ٥٠ درجة مئوية؛ أي ضعف المدى في المناطق الساحلية.

والملاحظة الثانية أن النطاق الساحلي لا تنخفض فيه درجات حرارة الشتاء عن ٢٠–٢٥ درجة مئوية تحت الصفر كحد أدنى، بينما تنخفض الحرارة الشتوية إلى ما تحت ٤٥ مئوية تحت الصفر في المناطق الداخلية، والملاحظة الثالثة أنه بالمثل لا ترتفع درجات حرارة الصيف في النطاق الساحلي عن متوسط ٥–١٠ درجات فوق الصفر، بينما ترتفع درجات حرارة الصيف في المناطق الداخلية إلى متوسط عشر درجات مئوية فوق الصفر، وأخيرًا نلاحظ أن الصيف أطول في المناطق الداخلية منه في المناطق الساحلية، مما قد يؤدي إلى ظهور مشكلة الجفاف الصيفي بوضوح، وهو على غير ما تشتهي خطط إقامة الزراعة الصيفية في هذه المناطق.

وفي داخل المنطقة الساحلية يمكننا أن نميز مناطق مختلفة نتيجة التأثر بتيارات المياه والهواء الدافئة الجنوبية، ومن ثم فإن ساحل الباسيفيك أدفأ من الساحل السيبيري الشمالي، وبالمثل فإن مناطق بارتنس أدفأ هي الأخرى، وذلك بتأثير تيار الأطلنطي الشمالي الدافئ الذي ينتهي في هذا البحر.

(٢) الحياة في الشمال الأقصى

إن كلمة «الحياة» في هذا المجال تحمل كل التناقضات التي توجد في أية بقعة من بقاع العالم؛ فإن ظروف المناخ القاسية وحالات التربة تجعل الحياة شديدة القسوة، ما لم تكن مستحيلة، وبرغم ذلك فإن جماعة من الناس قد طوروا طريقة للحياة منذ فترة طويلة، وطريقة الحياة السلفية هذه أيضًا قد أصبحت مهددة بالتغير والانتهاء بسبب دخول الحياة الحديثة إلى المنطقة.

وثنائية الحياة في النطاق الشمالي الأقصى من الاتحاد السوفيتي تقوم على الجماعات الأصلية والوافدين الجدد من الروس وغيرهم، وتتكون الجماعات الأصلية من عدة مجموعات قبلية لغوية أهمها التنجوس والسامويد والأوزتياك والياكوت واليوكاجير والتشكشي والكامتشادال، أما الوافدون الروس فيتركزون حول المدن والمراكز العمرانية الجديدة، عند مصبات الأنهار الشمالية غالبًا على الطريق البحري الشمالي، وقد أدخلوا معهم طرقًا حديثة للحياة من النواحي الاجتماعية والسكنية ووسائل وتكنولوجيات جديدة في استغلال الموارد الاقتصادية، وفي مكافحة العناصر الطبيعية المعادية للسكن البشري.

(٢-١) المستوطنون الروس

fig4
شكل رقم (٤): أنماط الحرارة في الإقليم القطبي السوفيتي: ١–١٢ = الأشهر. (١) محطة أركانجلسك (نمط حراري بحري داخلي). (٢) محطة كارماكولي (نمط حراري قطبي محيطي). (٣) محطة أولين (نمط حراري باسيفيكي). (٤) محطة ديكسون (نمط حراري بحري). (٥) محطة بتروبافلوتسك (نمط طري باسيفيكي دافئ). (٦) محطة أوست بورت (نمط حراري قاري معدل). (٧) محطة ياكوتسك (نمط حراري قاري متطرف). (٨) محطة فرخويانسك (نمط حراري قاري شديد التطرف).

أما الوافدون من الروس على الساحل القطبي فيكوِّنون في الواقع تجمعات مركزة حول المدن الجديدة الموجودة على الساحل، وهذه المدن تكاد تنعزل تمامًا عن العالم الخارجي معظم الأشهر التسعة التي يشملها الشتاء، وتصبح أجهزة الراديو هي الوسيلة الرئيسية للاتصال بالعالم، أما أشهر الصيف فتصبح فرصة ذهبية للتنقل والسفر والاتصال الفعلي، والواقع أن إقامة هذه المدن الصغيرة قد استدعت تكلفة باهظة وتكنولوجية عالية كفأَة من أجل إنشاء مزارع صغيرة حول هذه المدن لإمدادها بالمواد الغذائية.

وقد كان لهذه المراكز أثر كبير على الجماعات الأصلية، بعضها التحم تمامًا بالمدن الجديدة والبعض الآخر ظل يعيش في ظلها فقط، ولأول مرة في الشمال الأقصى يصبح الاتجاه نحو البحر الشمالي حقيقة واقعة، خاصة في الصيف حين تتوافد السفن السوفيتية المختلفة الحجوم إلى … ومنتجات الحضارة الصناعية.

(٢-٢) السكان الأصليون

سكان شمال أوروآسيا يتكونون أساسًا من المجموعات التي نسميها «الآسيويين القدماء» Palaeoasian أو «المغول القدماء»، وهم في مجموع تركيبهم الحضاري يتشابهون كثيرًا مع أمريند شمال أمريكا الشمالية، وهذا التشابه راجع إلى أن المغول القدماء الذين سكنوا شمال آسيا منذ فترة طويلة قد عبروا مضيق بيرنج إلى أمريكا الشمالية، كما دلت الدراسات الأثنولوجية الحديثة على وجود هجرات أحدث زمنًا عبر هذا المضيق تتمثل على طول الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية.

ومصطلح «المغول القدماء» أو «الآسيويون القدماء» ما زال مصطلحًا عموميًّا؛ لأن تحديده ليس واضحًا، فهو يضم مجموعات مختلفة من الناس داخل هذا التصنيف، ولكن الاتفاق عام على أن هؤلاء الناس قد هاجروا إلى شمال آسيا منذ فترة طويلة، وتدل الدراسات الأركيولوجية على أن هذه الجماعات المختلفة قد وصلت إلى مواطنها الحالية في هجرة عامة حصلت حوالي نهاية القرن العاشر الميلادي، وأنهم كانوا يمارسون السماكة — صيد الأسماك، وأن حضارة هذه الجماعات قد تلت حضارة العصر الحجري الحديث مباشرة، ولكنهم سرعان ما انتقلوا إلى الصيد البري، وبنوا مساكن دائمة من الحجارة والأخشاب، وتتميز هذه المساكن بأن أرضيتها دائمًا تحت مستوى سطح الأرض بحيث لا ترتفع جدران المسكن كثيرًا فوق سطح الأرض المجاورة، وفي وسط السقف توجد فتحة تسمح للدخان بالخروج كما أنها تستخدم مدخلًا للبيت، وكل هذه الجماعات تمارس صناعة الفخار ببراعة كبيرة، ويمثل الكلب الحيوان المنزلي الوحيد.

وهم يلبسون جميعًا أردية مصنوعة من فراء الحيوانات القطبية، لكنها مفتوحة فقط من الرقبة وتلبس وتخلع من أعلى، وهي بذلك تعطي تدفئة ممتازة، أما حذاء الثلج — زحافة قصيرة عريضة — المستخدم من قبلهم جميعًا وخاصة في تجوالهم وراء الصيد، فيبدو كأنه جاءهم متأخرًا نسبيًّا، وكذلك من الراجح أن انتقالهم إلى رعي الرنة جاء هو الآخر متأخرًا — حوالي القرن الحادي عشر — نتيجة التأثر بجماعات التنجوس الذين زحفوا إلى أواسط سيبيريا والسامويد الذين زحفوا إلى الشمال الغربي، قادمين من مناطق سيبيريا الجنوبية.

ونتيجة لتوغل وتغلغل التجار الروس والصينيين منذ فترة طويلة دخل إلى المنطقة استعمال الأوعية والأواني المعدنية — جنبًا إلى جنب مع الأوعية الفخارية، ويرى بعض الباحثين أن لجوء سكان شمال سيبيريا إلى الصيد البري لم يكن تطورًا داخليًّا من أجل الحصول على مزيد من الغذاء، وإنما ارتبط بتجارة الفراء التي يحتاج إليها سكان المناطق الحضارية في كل من الصين وأوروبا والبحر المتوسط.

وسكان هذا النطاق القطبي يتكونون من المجموعات التالية انظر الخريطة رقم (٣).

المجموعة الشرقية

  • (١)

    الإسكيمو الموجودون في أقصى شرق سيبيريا على الساحل المواجه لألسكا ومنطقة رأس ديزينيف وجزر الألوشيان.

  • (٢)

    الجلياكن أوتيفخن في منطقة مصب نهر آمور وساحل سخالين المواجه.

  • (٣)

    إيتلمن أو الكمتشدال الذين يحتلون كل شبه جزيرة كمتشكا.

  • (٤)

    الكورياك الذين يحتلون عنق كمتشكا وسواحل خليج سيلخوفا — بين كمتشكا وأوختسك.

  • (٥)

    اليوكاجير وهم على الساحل الشمالي في منطقة مصبات أنهار كوليما وأنديجاريانا.

  • (٦)

    التشوكشي وهم أكثر هذه الجماعات عددًا، ويمثلون المنطقة الممتدة بين اليوكاجير غربًا والإسكيمو شرقًا والكورياك جنوبًا.

ويلاحظ أن هناك تشابهًا بين لغة اليوكاجير ولغة الساموييد في شمال الأورال ولغات أخرى قريبة من مصب الأوب، وهذه اللغة الساموييدية تعتبر فرعًا من مجموعة اللغات الأورالية أو الفنو-أوجرية.

المجموعة الغربية

  • (١)

    اليوراك أوننتزن ويسكنون غربي خليج الأوب والساحل الشمالي الأوروبي شمالي الأورال.

  • (٢)

    الأوستياك-ساموييد أوسلكوب وهم في حوض ينسي الأوسط.

  • (٣)

    ساموييد ينسي أو أنزن ويسكنون شرقي خليج أوب إلى الينسي الأدنى.

  • (٤)

    تاوجي ساموييد أو نجاناسان ويعيشون في شبه جزيرة تايمير.

  • (٥)

    الأوستياك أو خانت ويعيشون في حوض الأوب الأوسط.

  • (٦)

    الفوجول أو مانس يعيشون عند التقاء أيرتشي وأوب، وهم معروفون في التاريخ والوثائق الروسية، من القرن التاسع إلى القرن الحادي عشر، وكانوا يعيشون غربي جبال الأورال، لكن تقدم الروس من ذلك التاريخ أدى إلى زحزحتهم شرقًا حتى منطقة الأوب، وذلك حوالي القرن الرابع عشر.

المجموعة الوسطى

وهذه المجموعة قد زحفت إلى شمال سيبيريا متأخرة عن المجموعتين السابقتين آتية من جنوب سيبيريا ومنطقة سهول الأمور ومنشوريا ومنغوليا، ويمكن أن نطلق عليها في مجموعها اسم مجموعة التنجوس فيما عدا مجموعة الياكوت التركية الأصل.

  • (١)

    التنجوس: ويسمون أنفسهم إيفنك ويحتلون في سيبيريا الشمالية القسم الشمالي من هضبة سيبيريا الوسطى فيما بين وادي الينسي ولينا الأدنى، كما أن لهم مجموعة قوية أخرى تمتد في الجنوب من وادي آمور ومنشوريا إلى أعالي ينسي ولينا وشمال بايكال، وهم يعيشون أساسًا كمجموعة من صيادي حيوان الفراء ويستأنسون الرنة ويستخدمونها كحيوان حمل وجر.

  • (٢)

    الدولجان: أقرباء التنجوس، ويعيشون في الشمال على الساحل الشرقي لشبه جزيرة تايمير حتى مصب لينا.

  • (٣)

    لاموت أو أيفين: أيضًا أقرباء التنجوس ويعيشون على السواحل الشمالية لبحر أوخستك، ولكن اللاموت قد تأثروا كثيرًا بمجموعة الياكوت التي تعيش إلى الغرب منهم.

  • (٤)

    قبائل تنجوسية عديدة جاءت من منطقة الساحل الضيق بين نهر آمور ومضيق تاتارسكي الذي يفصل سخالين عن اليابس الآسيوي، ومن أهم هذه المجموعات الأوروك، نجيوال أولتش، ناناي أوروتش، أوريهي.

مجموعة الياكوت

قدمت هذه المجموعة التركية الأصل من أواسط آسيا وشمال بحيرة بايكال بعد دخول التنجوس إلى سيبيريا، واحتلت منطقة واسعة في حوض لينا الأوسط وروافده العديدة، وقد أدخلت هذه المجموعة معها حرفة رعي الرنة، التي يمكن أن يقال عنها: إنها أكثر مناطق الرعي تطورًا في كل الشمال السوفيتي قبل أن يبدأ الرعي العلمي الحديث.

مجموعة الأينو

هذه المجموعة التي تسكن سخالين وجزيرة هوكايدو اليابانية وجزر الكوريل الجنوبية ليست في الواقع من المجموعات المغولية الصرفة، بل إن إجماع آراء الأنتروبولوجيين على أن الأينو جماعة قوقازية انفصلت وانعزلت في هذه الجزر البعيدة، لكنها لم تسلم من تأثير المحيط الآسيوي المغولي الكائن حولها، والمعتقد أيضًا أن الأينو كانوا يسكنون جزيرة هنشو اليابانية، لكنهم وقعوا تحت التأثير الشديد للمغول وكونوا شعب اليابان الحالي.

مجموعات الشمال الأوروبي السوفيتي

وأخيرًا فإن مجموعة الكومي (الفنو-أوجرية) والننتسي (المغولية) واللاب (المغولية) كانت وما زالت تعمر الأجزاء الشمالية من تندرا أوروبا السوفيتية، مع تداخل كبير من المهاجرين الروس.

(٣) النشاط الاقتصادي التقليدي

تلعب السماكة وصيد الأحياء البحرية الدور الرئيسي في حياة القبائل التي تعيش على ساحل الباسيفيك وكمتشكا، وكذلك نجد صيد الأسماك من نهري الأوب والينسي وروافدهما من أهم الأنشطة الاقتصادية من أجل الحصول على الغذاء عند المجموعة الغربية لسكان سيبيريا، ويتخصص التشوكشي والكورياك والأيتلمن في أقصى شمال شرق سيبيريا — بالإضافة إلى القليل من الإسكيمو، في صيد الأحياء البحرية الكبيرة مثل الفقمة وعجل البحر وفيل البحر وأحيانًا الحوت، ويتم صيد هذه الحيوانات البحرية بالرمح المسنن — الهاربون، والصيادون داخل قواربهم الجلدية الخفيفة — كاياك، أما معظم مجموعة ساحل الباسيفيك فلا تعرف الكاياك وإنما تستخدم قوارب خشبية.

ويتم صيد الأسماك من الأنهار الصغيرة بواسطة سدة تُوضع في مجرى الماء ثم يصطاد السمك بالرمح أو بواسطة الأوعية، كما يستخدم الجيلاك والأوستياك وسيلة طرق الطبقة الجليدية غير السميكة التي تُغطي الأنهار خلال الشتاء مما يؤدي إلى قتل الأسماك التي تقضي الشتاء في المياه غير المتجمدة أسفل الغطاء الجليدي.

وتُؤكل الأسماك نيئة أو مسلوقة أو مشوية، أما الصيد البري فيتم بالقوس والسهم بالنسبة للحيوانات الصغيرة، أو تركيب السهم في مكان غير ظاهر مع ربطه إلى حبل، وحين يحرك الحيوان الحبل المشدود على الأرض ينطلق السهم فيصيبه، كذلك تُستخدم أشكال مختلفة من الفخوخ التي تؤدي إلى ربط الحيوان وعجزه عن الحركة، وخاصة بالنسبة لحيوانات الفراء الثمينة — خوفًا من أن يقطعها السهم فتهبط قيمتها، وأحيانًا يستخدم سهم ذو رأس غير مدبب لكي يفقد الحيوان الصغير وعيه، أما الطيور فتُصاد أساسًا بالشباك، ولكن التشوكشي يصطادون الطيور أيضًا بالمقلاع، أما الدببة فتُقتل بالحربة القصيرة.

ويستخدم الصيادون حذاء الثلج في عمليات الصيد الشتوي وأوائل الربيع لصيد الحيوانات السريعة العدو مثل التياتل والرنة، وتتم عمليات الصيد هذه بشكل جماعي وليس فرادى.

وتتفاوت المجموعات القبلية في درجة رعي الرنة من الصيد البري إلى التربية والرعي بالمعنى المتعارف عليه، فالتنجوس يمتلكون قطعانًا صغيرة من الرنة من أجل الحصول على اللبن وكحيوان ركوب وحمل وجر، ولا يُذبح من أجل الغذاء إلا نادرًا، أما سكان التندرا الشمالية فيمتلكون أعدادًا كبيرة من الرنة من أجل اللبن واللحم والدهن واستخدام العظام والقرون في أدواتهم الكثيرة، وتؤدي تربية قطعان الرنة إلى حركة السكان بصفة دائمة من أجل الحصول على مرعى الحيوان، وكذلك من أجل التجاء الرنة شتاء في منطقة الغابات حيث تنمو الطحالب المختلفة التي يتغذى بها خلال هذا الفصل.

ومساكن المجموعات الرعوية المختلفة في التندرا وسيبيريا هي الخيمة الجلدية أو المصنوعة من الفراء على هيكل خشبي، وخيام التنجوس والساموييد وبعض الأوستياك، قمعية الشكل وتترك فتحة علوية عند التقاء أخشاب الهيكل، لتصبح مخرجًا للدخان، أما عند التشوكشي والكورياك وغيرهم في الشرق فإن الخيمة أسطوانية في جزئها الأسفل وقمعية في جزئها الأعلى، ويصل ارتفاع الخيام عادة بين ٥–٨ متر عند نقطة الوسط، والبيت الحجري الذي كان منتشرًا في الماضي، لم يعد يظهر كثيرًا إلا في المناطق الصخرية، وكان مكان البيت يُختار في حفرة طبيعية أو جوار جدران صخرية، وتصبح له فتحة في السقف للدخول والخروج وتُستخدم أيضًا كمدخنة، وفي بعض المناطق تُقفل فتحة السقف لمنع تسرب الهواء البارد، وتُفتح فتحة جانبية ذات ممر أعمق من مستوى أرض البيت لكي يتراكم فيها الهواء البارد ولا يدخل الحجرة السكنية، وقد حل محله في أحيان كثيرة استخدام الخيمة عند الحفر الطبيعية أو بجوار الجدران الصخرية.

(٣-١) الياكوت كمثال للتغير الحديث

تحتل جمهورية ياكوتيا الذاتية جزءًا كبيرًا من سيبيريا الشرقية، وتبلغ مساحتها ٣ مليون كيلومتر مربع، لكن سكانها لا يزيدون عن نصف مليون شخص، وهذه الجمهورية هي أكثر بقاع العالم قاطبة تطرفًا في المناخ القاري المتطرف، فالمتوسط الحراري السنوي هو −١١° مئوية، ومتوسط حرارة يناير −٤٥° مئوية، وترتفع الحرارة بشدة في الصيف إلى أن تبلغ أحيانًا +٤٠°م، ولكن لا توجد أكثر من مائة يوم ترتفع فيها متوسطات الحرارة إلى أعلى من عشر درجات مئوية.

والياكوت جماعة تنتمي إلى المجموعة التركية-المغولية، تطرفت في سكناها إلى هذه المنطقة الشديدة القسوة لأسباب غير معروفة — ربما بداعي الغزو، وقد طرد الياكوت جماعات التنجوس واليوكاجير إلى الشمال والشمال الشرقي حينما احتلوا هذا الإقليم، ويُكوِّن المستوطنون من الروس نحو ١٠٪ فقط من مجموع السكان.

وفي عام ١٩٢٣ عثر على خام الذهب في رمال وادي نهر ألدان، ثم اكتشفت أيضًا مصادر الفحم مما وجه الأنظار إلى هذا الإقليم الشديد الفقر.

وبالرغم من أن الاستغلال المعدني لم يكن واسعًا وعدد المستوطنين الروس قليل نسبيًّا إلا أن أهم النتائج إنما كانت التحول الكبير في حياة الياكوت السلفية، فلقد نظم الرعي والصيد تنظيمًا علميًّا ممتازًا ودخلت التعاونيات والمزارع الجماعية — الكولخوز — المنطقة، وأقبل عليها السكان إقبالًا كبيرًا مما أدى إلى توقف الرعي المترحل للرنة، وأصبحت هناك مناطق مخصصة لصيد حيوان الفراء، بل ومزارع لتربية بعض هذه الحيوانات والصغيرة أيضًا.

وابتداء من عام ١٩٣٠ دخلت السيارة والجرارات ياكوتيا، وأدخلت الأبقار إلى حوض لينا الأوسط لأول مرة في صورة مزارع جماعية لتربية الحيوان، وكذلك نظمت حياة مستخرجي الذهب تنظيمًا تُشرف عليه الدولة بعد أن كان في البداية مرتبطًا بعمليات فردية.

ولا شك أن هذا التحول الكبير قد جاء نتيجة لدخول المواصلات الحديثة إلى الإقليم، فالأنهار التي يبلغ طولها قرابة عشرين ألف كيلومتر لا يمكن استخدامها إلا في خلال الصيف القصير، وتستخدم أساسًا في نقل الأخشاب المقطوعة شمالًا بالإضافة إلى نقل بعض البضائع، وإلى جوار الأنهار كانت هناك الطرق غير المعبدة، والنية متجهة إلى مد خط حديدي بين أركوتسك على بحيرة بايكال وياكوتسك عاصمة ياكوتيا، وقد وصل هذا الخط إلى كيرنسك على أعالي لينا، وبذلك يكون قد قطع حوالي ثلث المسافة إلى ياكوتسك، لكن المواصلات الحديثة الحالية تتمثل في خطوط الطيران التي أصبحت ياكوتسك مركزًا هامًّا لها في سيبيريا الشرقية، وهناك عدة طرق مرصوفة تنتهي إلى سيبيريا الجنوبية أو إلى ميناء ماجادن على بحر أوختسك في الشرق، وتمثل ياكوتيا في الواقع منطقة صعبة الارتياد والسكن تتضافر فيها كل العوامل الطبيعية لمعاداة السكن والاستيطان، لكن الثروة الطبيعية الممثلة في الذهب والماس والفحم، والأخشاب وحيوان الفراء، قد أدت إلى استحداثات جديدة في طرق الحياة برغم التكلفة المرتفعة، وسيجيء اليوم الذي تقل فيه التكلفة بعد إعداد شبكة نقل برية وحديدية منتظمة، ولكن ذلك مرتبط أساسًا بالاهتمام باستغلال فحم ياكوتيا الذي ما زال حتى الآن احتياطيًّا عظيمًا للمستقبل في الاتحاد السوفيتي، طالما أن مصادر الفحم السوفيتية الأخرى الكائنة قرب مراكز الصناعة ما زالت في حالة استخدام جيد.

(٤) النمو السكني في الشمال السوفيتي

منذ أكثر من ألف عام والمنطقة الشمالية الأوروبية تعتبر خلفية أساسية للروس، فهي بذلك ليست أرضًا جديدة، وقد كانت هذه المناطق الشمالية مصدرًا للفراء الفاخر الذي يتجه في تجارته جنوبًا إلى حوض البحر المتوسط، وفي خلال القرن الرابع عشر عبر الروس الأورال الشمالية، ومنذ ذلك الحين أصبحت التاييجا الأوروبية حتى الأورال المصدر الأساسي للأخشاب والثروة لإمارة موسكو، وفي خلال القرن السادس عشر ونظرًا لتحكم السويد وبولندا في البلطيق، كان على موسكو أن تتجه شمالًا بحثًا عن مخرج بحري لها، وقد تم ذلك بعد وصول سفن إنجليزية إلى ديفينا الشمالي عام ١٥٥٣، وبذلك أصبحت أركانجل نافذة لإمارة موسكو على العالم الخارجي حتى بداية القرن الثامن عشر، وقد توالت بعثات الكشف الروسية في سيبيريا حتى وصلت إلى الباسيفيك في النصف الأول من القرن السابع عشر، وفي تلك الفترة أنشئت المدن الروسية القديمة في سيبيريا مثل توبلسك وياكوتسك وفرخوياتسك، ولكن الاهتمام بسيبيريا والشمال قل كثيرًا بعد عام ١٧٠٠ نظرًا لسقوط البلطيق في يد الروس، وإنشاء مدينة لننجراد الحالية، ونمو مركز الثقل الصناعي من موارد الطاقة المتمثلة في الأخشاب الشمالية إلى فحم الأورال وأوكرانيا خلال القرن التاسع عشر.

وقد ظلت منطقة مورمانسك ميناء صيد صغير إلى أول القرن العشرين حين بدأ الاهتمام بها، ومد إليها الخط الحديدي الذي وصلها قبيل الثورة البولشفية مباشرة، ومنذ تلك الثورة بدأت العناية توجه إلى الشمال مرة أخرى، وفي هذه المرة كان الدافع هو البحث عن المعادن، وفتح طريق الشمال البحري لأول مرة في أوائل الثلاثينات، وأصبحت السفن تمر من أركانجل إلى فلاديفستوك خلال الصيف، لكن معظم السفن كانت تقوم بنقل الأخشاب من ميناء إيجاركا الجديد على مصب الينسي إلى مورمانسك وساحل الأطلنطي.

وقد اكتشف الذهب في حوض كوليما وألدان، وبنيت طرق لكل الأجواء لتصل إليها من ميناء ماجادن على بحر أوختسك ومن خط حديد سيبيريا عند بحيرة بايكال، كما ثبت وجود احتياطي كبير من الفحم تحت أرض الصقيع الدائم، واستغل بكميات صغيرة، واكتشفت مناجم النيكل الغنية عند نوريلسك قرب مصب الينسي، وبدأ تشغيلها عام ١٩٤٠، كما استغل الحديد والنيكل والأباتيت في شبه جزيرة كولا والبترول بكميات محدودة في وادي بتشورا الأسفل، وإلى جانب ذلك نمت صناعة صيد الأسماك في كل من بحر كارا وكمتشكا على السواء.

(٥) الأوضاع الاقتصادية الحالية

يمتلئ الشمال السوفيتي بمشروعات اقتصادية عظيمة، لكن التكلفة العالية، وقلة وسائل النقل، ووجود عقبتين أساسيتين: ندرة الزراعة لإعطاء ثبات محلي للسكان، وقلة الأيدي العاملة، كلها عوامل تقف أمام تنفيذ هذه المشروعات.

كذلك يلعب المكان الجغرافي دورًا هامًّا في تنشيط أو بطء النشاط الاقتصادي، فالشمال السوفيتي الأوروبي، بقربه المكاني من المدن والأسواق قد نشطت فيه اقتصاديات قطع الأخشاب وصيد الأسماك، أما الشمال السيبيري فإن النشاط قد اقتصر فيه — إلى حد كبير — على استغلال المعادن النادرة ذات القيمة الثمينة مما يستدعي الانفاقات المالية الكبيرة، أما حقول الفحم الواسعة في سيبيريا الشمالية، بالإضافة إلى مواردها الخشبية الرائعة، فستظل بعيدة عن الاستغلال لفترة غير معروفة نظرًا لوجود بديل لها في أماكن أخرى أقل تكلفة في النقل وأقرب إلى أماكن استهلاكها، أما مصادر الغاز الطبيعي واحتمالات البترول الكبيرة في شرق سيبيريا فقد أصبحت الآن مشروعات سوفيتية ضخمة مطروحة للاستغلال بالاشتراك مع الاستثمارات العالمية واليابانية بصفة خاصة.

(٥-١) التعدين والطاقة

تدل الدراسات التي قام بها الباحثون على أن ثلثي احتياطي الفحم السوفيتي يوجد في منطقة الصقيع الدائم في شمال سيبيريا شرقي الينسي، ولكن مساهمة هذه المنطقة في إنتاج الفحم السوفيتي حتى الآن ما زالت في حدود ١٪ فقط، وحقل الفحم الشمالي الوحيد الذي له أهميته في الاستغلال الحالي هو ذلك الذي يوجد حول فركوتا Vorkuta في داخل إقليم التندرا الأوروبية — حوض البتشورا، وهذا الحقل هو المصدر الأساسي لفحم الكوك لمصانع شربوفتس Cherepovets التي تورد الصلب إلى لننجراد — تقع شربوفتس على الفولجا الأعلى عند التقاء خط يمتد إلى الشرق من لننجراد، وخط يمتد إلى الشمال من موسكو، وقد بدأ العمل في فحم فركوتا عام ١٩٤٢ حين وصلتها السكة الحديدية، وبعد أن سقط فحم الدونابس في جنوب شرق أوكرانيا في يد الألمان، وبذلك أصبح لحقل فركوتا أهمية حيوية لثلاثة أعوام، لكن موقعها الآن في مناطق الصقيع الدائم وبعدها عن السوق، وارتفاع أجور العمالة، ووصول أنابيب الغاز الأرضي إلى شربوفتس، كلها عناصر مناهضة للتوسع في إنتاج فحم فركوتا، لكن فركوتا تمتلك خطًّا حديدًا، وهو عنصر حاسم في بقاء إنتاجها إلى الآن رغم المصاعب المذكورة، خاصة مع الدراسات التي تدل على غنى وجودة احتياطي الفحم في هذا الحقل.

وفي الشمال السوفيتي أيضًا أكثر من ثلث إمكانات الطاقة الكهرومائية، وهناك مشروعات ضخمة لإقامة سدود على نطاق لم يعرفه العالم للآن، وأحد هذه المشروعات الضخمة هو إقامة سد على الأوب الأدنى وتحويل منطقة المستنقعات الهائلة في شمال غرب سيبيريا إلى بحيرة هائلة، ومن هذه البحيرة تضخ المياه جنوبًا إلى آسيا الوسطى العطشى إلى المياه، لكن ضخامة المشروع، واحتمالات ما ليس في الحسبان، قد أجلت تنفيذ هذا المخطط إلى أجل غير مسمى، وبالمثل هناك مشروع مستقبلي يتضمن إنشاء سد على لينا الأدنى لتوليد الطاقة عند دلتا هذا النهر، وقد أرجئ البت فيه، والمفروض في مشروع لينا أنه سيكون ضعف الطاقة المنتجة حاليًّا من سدي براتسك وكراسنويارسك — على أعالي نهري إنجارا وينسي على الترتيب، وهما أضخم منتجين للطاقة الكهرومائية حاليًّا في الاتحاد السوفيتي، والمفترض أن تنقل طاقة لينا الأدنى على خطوط تحميل قوتها ١٤٠٠ كيلوفولت، وهو مشروع مذهل، لكنه أرجئ إلى الخطة العشرينية التي تبدأ عام ١٩٨٠.

كذلك هناك مشروعات طاقة أصغر، مثل تحويل جزء من مياه المجرى الأعلى لبتشورا إلى الفولجا بواسطة سد يولد الطاقة أيضًا، ولكننا نلاحظ — نظرًا لظروف الشمال السوفيتي عامة — أن مشروعًا واحدًا هامًّا قد نفذ فعلًا في سد ماماكان Mamakan أحد روافد لينا العليا — شمالي بحيرة بايكال، وينتج هذا السد الآن نحو سبع كهرباء سد براتسك الضخم، وتستغل الطاقة المنتجة في مناجم الذهب المجاورة وفي أغراض محلية أخرى.

لكن أكثر المناطق القطبية السوفيتية التي صادفت نجاحًا واستمرارًا في التقدم الاقتصادي هي منطقة كارليا الممتدة من الحدود الفنلندية إلى البحر الأبيض وخليج كندلاكشا، في هذه المنطقة تتحسن الظروف المناخية نسبيًّا وتوجد انحدارات طبيعية معقولة، وموارد معدنية وخشبية كثيرة، وقد أدت هذه الظروف إلى إنشاء مجموعة من السدود المولدة للطاقة، وخاصة حول خليج كاندلاشكا.

وكذلك بدأ السوفيت مشروعات تجريبية من أجل استخدام طاقة المد والجزر في توليد الطاقة، وخاصة في خلجان البحر الأبيض ومورمانسك، وكذلك استخدام الطاقة الحرارية الأرضية في شبه جزيرة كمتشكا لتوليد الطاقة أيضًا.

لكن أكثر مصادر الطاقة إثارة هي البترول والغاز الطبيعي، فالبترول يستغل منذ بضع عشرات من السنين في منطقة أوختا Ukhta في حوض نهر بتشورا، لكنه محدود الكمية بالقياس إلى الإنتاج السوفيتي العام.
fig5
خريطة رقم (٥): الشمال السوفيتي الأشكال الرئيسية للنشاط الاقتصادي الحالي (أ) الحد الجنوبي التقريبي للشمال السوفيتي (ب) مصايد الأسماك (ج) ماس (د) ذهب (ﻫ) بترول (و) غاز طبيعي (ز) فحم (ح) محطات الطاقة المائية (ط) محطات الطاقة الحرارية (ك) مناطق الصناعة الحديثة: (١) منطقة شبه جزيرة كولا (٢) منطقة كاريليا أركانجلسك (٣) منطقة فركوتا (٤) منطقة فوريلسك (٥) منطقة ياكوتسك.

ومن الناحية الجيولوجية توجد كل الأسباب التي تشير إلى أن أحواض أوب ولينا هي مناطق يمكن العثور فيها على حقول بترول غنية ومصادر ضخمة للغاز الأرضي، وحتى وقت قريب لم تعط الأبحاث المختلفة نتائج إيجابية، ولكن في أوائل الستينيات كشف التنقيب في منطقة التقاء الأيرتش بالأوب عن حقل بترولي، وكذلك في لينا الأعلى، ووضعت الخطط لمد خطوط أنابيب من هذه الحقول لتكريرها في مصافي أومسك والشرق الأقصى على الترتيب، وكذلك عثر على الغاز الأرضي في منطقة الأوب الأدنى — منطقة بريزوفو، والخطة الحالية ترمي إلى مد خط أنابيب طوله حوالي ٥٠٠ كيلومتر إلى منطقة الصناعات المعدنية في الأورال الشمالي.

وأغنى حقول الغاز الأرضي هي تلك التي توجد في منطقة مصب نهر تاز Taz — خليج أوبسكايا الذي يصب فيه الأوب، والتي تبعد نحو ٤٥٠ كيلومترًا غربي منطقة نوريلسك الصناعية عند مصب الينسي، والاتجاه يرمي إلى مد خط أنابيب من هذا الحقل إلى توريلسك.

ولا شك أن الصقيع والمستنقعات في هذه المناطق، بالإضافة إلى مصاعب النقل تجعل التنقيب عن البترول والغاز الأرضي واستغلالهما أمرًا شديد التعقيد وكثير المصاعب، وبالإضافة إلى ذلك فإن وجود بديل لمثل هذه المصادر يجعل استغلالها في الوقت الحاضر مقتصرًا على مناطق الصناعة المحلية في الشمال الأقصى.

وأكبر مستهلك للوقود والطاقة في الشمال السوفيتي هو التعدين، كما أن التعدين يمثل النشاط الاقتصادي الصناعي الرئيسي في هذا النطاق البعيد.

فالمعادن والخامات توجد بكثرة في مناطق كثيرة، لكن المناطق التعدينية التي لها وزن وثقل بالنسبة للاقتصاد القومي السوفيتي في النطاق الشمالي تتمركز في ثلاثة مراكز هامة هي:

شبه جزيرة كولا

وتحتوي على أكبر مناجم معروفة في العالم كله لتعدين الأباتيت Apatite وهو معدن ينتج مخصبات زراعية ذات قيمة عالية، وتنتج منه كميات تستهلك في كل أنحاء الاتحاد السوفيتي.
وفي كولا أيضًا مناجم حديد غنية تعتمد عليها صناعة الحديد والصلب الكبيرة في شربوفتس التي تقع إلى الشرق من لننجراد، وكذلك معدن النفليت Nephelite من شبه جزيرة كولا، ويستخدم كخامة جيدة لعمل الألومنيوم.

وفي شبه الجزيرة أيضًا معادن عديدة غنية كالنيكل والنحاس والتيتانيوم والزركينيوم والمولبدنم، وكثير منها يدخل مع الحديد لعمل أنواع مختلفة من الصلب، وبذلك فإن شبه جزيرة كولا — برغم تطرفها الشمالي — منطقة تعدينية متعددة الجوانب نادرة المثال في الأقاليم القطبية.

منطقة نوريلسك التعدينية

وتقع حول مدينة نوريلسك على حافة هضبة سيبيريا الوسطى شرقي مصب الينسي، وترتبط بهذا المصب بخط حديدي قصير، وهذه المنطقة التعدينية تعد منطقة على جانب كبير من الأهمية في تعدين عدة معادن ذات قيمة استراتيجية وصناعية كبيرة، وعلى رأس هذه المعادن النيكل والكوبالت والبلاتين، ونظرًا لوفرة هذه المعادن وأهميتها، فإن نوريلسك تنمو بصفة منتظمة ومستمرة برغم الظروف القاسية المناخية والأيكولوجية التي تحيط بها.

منطقة ياكوتيا

وهذه المنطقة أكثر انتشارًا من المنطقتين السابقتين، فإذا رسمنا دائرة مركزها مدينة ياكوتسك وقطرها حوالي ألف كيلومتر نجد مناطق عديدة داخل هذه الدائرة تشتغل في تعدين الذهب والماس، وقد أصبحت هذه المنطقة المتطرفة شمالًا أكبر منافس لجنوب أفريقيا في إنتاج هذين المعدنين النادرين، وجعل من الاتحاد السوفيتي ثاني دولة في العالم في إنتاج الذهب والماس.

ويأتي الماس أساسًا من وادي نهر فيليوي Vilyuy غربي لينا، أما الذهب فينتج من ثلاث مناطق رئيسية هي: منطقة كوليما-أنديجاركا العليا إلى الشرق من ياكوتسك، ومنطقة ألدان، ومنطقة فيتيم إلى الجنوب من ياكوتسك.

وفي هذا الإقليم التعديني الشرقي توجد أيضًا مناجم للقصدير والتنجستن في الشمال الشرقي الأقصى من سيبيريا، ومناجم عديدة للميكا في الجزء الجنوبي من ياكوتيا، وفضلًا عن ذلك فإن الفحم يوجد في أماكن كثيرة، وهو يستخدم محليًّا في مناطق التعدين من أجل الحصول على الطاقة اللازمة لعمليات التعدين.

(٥-٢) الثروات النباتية والأسماك والفراء

الأخشاب

تغطي المنطقة الغابات المخروطية الشاسعة التي تسمى «التاييجا»، لكن غالبية الاستغلال الغابي — حوالي تسعة أعشار الإنتاج — يأتي من منطقة الغابات المخروطية الأوروبية، ولا شك أن العامل الأساسي يرجع إلى القرب من أكبر الأسواق الاستهلاكية، ففي القطاع الأوروبي من الاتحاد السوفيتي يتركز جزء كبير من السكان، وتتركز غالبية المدن الكبرى والصناعات، وهناك عامل ثان هو أن غابات القطاع الأوروبي أجود من القطاع السيبيري، ومن ثم فالقيمة أعلى.

وتقطع الأشجار في الجزء الجنوبي من القطاع الأوروبي الشمالي، وترسل بواسطة نهر دفينا الشمالي إلى أركانجلسك التي أصبحت مركزًا عظيمًا لتجميع الأخشاب، والصناعات المرتبطة بقطع الأخشاب والأبلكاش — الخشب الرقائقي — والورق وغير ذلك.

وحرفة قطع الأخشاب منتعشة أيضًا في منطقة سيبيريا الوسطى، ويستغل نهر الينسي في نقلها إلى ميناء إيجاركا عند المصب، ومن ثم تنقل الأخشاب بواسطة خط الملاحة الشمالي إلى ميناء أركانجلسك، أو تُصدر إلى الخارج.

وهناك مناطق أخرى يرتبط نشاطها الاقتصادي بقطع الأخشاب وتصنيعها، منها منطقة كوتلاس عند التقاء رافدي الدفينا — جنوب أركانجلسك، وسيكتيفكار على الدفينا الأعلى — جنوب أوختا.

أما كاريليا — المتاخمة للحدود الفنلندية، فتمتاز بثروة خشبية جيدة مماثلة لأخشاب فنلندا، وفي المجموع فإن صناعات الأخشاب في الشمال السوفيتي تكاد تكون قاصرة على النشر والتقطيع وعمل الألواح المختلفة، والقليل منها يقوم بصناعة الورق، وهي صناعة موجودة بكثرة في الأجزاء الوسطى من الاتحاد السوفيتي الأوروبي.

الأسماك

وفيما يختص بالأسماك فإن ربع كمية الصيد السوفيتي يأتي من البحار الشمالية ويتركز في عدد من موانئ الشمال، وتتصدر مورمانسك موانئ الشمال في كمية ما يصلها من الصيد البحري الذي يتركز معظمه في بحر بارنتس، ومعظم هذا الصيد من القد والرنجة والهادوك، وبذلك فإن مورمانسك هي الميناء الأول الذي يعمل في الصيد والقاعدة الأساسية لأساطيل الصيد الشمالية.

وفي الجانب الشرقي من الشمال السوفيتي توجد منطقة أخرى هامة في صيد الأسماك، وهي وإن كانت أقل كمية من المنطقة الشمالية، لكنها تكوِّن أهم مناطق الصيد البحري من ناحية النوع، فالسلمون وسرطانات البحر والفقمات المختلفة والحيتان تتركز مصايدها في منطقة شبه جزيرة كمتشكا وجزر كوريل وكوماندورسكي وبحر أوختسك، ففي هذه المنطقة تلتقي تيارات بحرية باردة آتية من منطقة بحر بيرنج لتلتقي بالتيارات البحرية الدافئة الجنوبية — كيروسيفو، ومن ثم فإن غالبية قرى ومدن السواحل الشرقية تقيم أسسها الاقتصادية على الصيد البحري.

أما ساحل سيبيريا الشمالي والأنهار السيبيرية الشمالية فنصيبها من الصيد أقل من المنطقتين السابقتين، وذلك للبعد المكاني عن العمران الرئيسي وعن خطوط المواصلات السريعة، ومع ذلك فإن كمية ما يصطاد من أسماك في هذه المنطقة وأنهارها يستهلك محليًّا في المدن الجديدة، أو يستهلكه الصيادون أنفسهم كما كان الحال دائمًا في الماضي.

الزراعة

وفي المجال الزراعي سبق أن ذكرنا أن السوفيت قد قاموا بمجهودات علمية عظيمة في محاولة منهم لدفع حد الزراعة نحو الشمال، ولكن ذلك وحتى الآن ما زال محدودًا لعدة أسباب على رأسها:
  • (١)

    قلة السكان الذين يمكن أن يكونوا سوقًا لاستهلاك محاصيل حقول واسعة.

  • (٢)

    الظروف الطبيعية القاسية من فقر التربة والمناخ المعادي للإنبات.

  • (٣)

    الحاجة المستمرة إلى الدراسة العلمية والتجارب الكثيرة للحصول على محاصيل لها من الصفات ما يمكنها من الإنتاج الجيد في مثل هذه الظروف.

ومع ذلك فإننا نجد أن نجاح السوفيت كان كبيرًا في منطقتين رئيسيتين تستحقان الجهد ورأس المال المستثمر، المنطقة الأولى هي وادي الدفينا الشمالي حيث توجد سوق رائجة ممثلة في مدن وموانئ قطع الأخشاب وعلى رأسها أركانجلسك وكوتلاس، وفي هذه المنطقة تزرع أنواع من القمح والشيلم والشوفان ويعتني الأهلون بتربية الحيوان، وبذلك أصبحت تكون امتدادًا لنطاق الزراعة في الفولجا الأعلى.

أما المنطقة الثانية ففي حوض لينا الأوسط حيث كان الياكوت يقومون برعي الرنة والأبقار، وقد أمكن هنا استنباط أنواع من القمح المقاومة للصقيع، ولكن العقبة الرئيسية هي جفاف الصيف، ومع ذلك فقد تمت عملية استصلاح وزراعة ٢٥٠ ألف فدان في أواسط ياكوتيا، وإلى جانب ذلك فإن تربية الحيوان في مراعي علمية جماعية واسعة، يمكن أن يعد أكبر نجاح في هذا الإقليم، فلقد استغل السوفيت التقليد الرعوي القديم عند الياكوت، وطعموه بأنواع منتقاة من الماشية، والكثير من الإرشاد العلمي بشأن طرق ووسائل رعي الحيوان، وخاصة الرنة.

وتعيش الرنة بأعداد تبلغ بضعة ملايين في مناطق مختلفة من سيبيريا، وتتجه التنمية الزراعية والخطط الاقتصادية والغذائية إلى الاستفادة من هذه الأعداد الكبيرة استفادة علمية واسعة، وذلك بالإرشاد والتحسين عند الكثير من القبائل من كمتشكا إلى رأس ديزينيف في أقصى الشمال الشرقي، إلى الينسي والأوب في الغرب، بالإضافة إلى مجموعة اللاب السوفيتية في شمال شبه جزيرة كولا.

الفراء

وأخيرًا فإن الاتحاد السوفيتي ما زال أكبر مصدر للفراء في العالم، كما كان الحال منذ أزمان بعيدة، ولا يزال حيوان الفراء يكوِّن مصدرًا هامًّا للدخل النقدي عند كثير من قبائل الشمال السوفيتي — الموطن الرئيسي لحيوان الفراء، ولكن نظرًا للإسراف الطويل المدى في صيد الحيوانات ذات الفراء الثمين كالثعلب الفضي والقاقم — الأرمين، فإن الدولة قد وضعت سياسة خاصة للمحافظة على هذه الثروة من الانقراض، كما أنشأت مزارع لتربية حيوان الفراء، وقد انتشرت هذه المزارع بكثرة في مناطق عديدة من الشمال السوفيتي.

(٦) النقل والصناعة في الشمال السوفيتي

إن الاختلافات الجوهرية التي تظهر بين الشمال الأوروبي والآسيوي في الاتحاد السوفيتي تنعكس بوضوح لا مزيد عليه في حركة النقل وكميات البضائع وخطوط المواصلات الحديثة.

فالشمال الأوروبي الآن تغطيه شبكة جيدة من خطوط المواصلات — طبعًا بالقياس إلى سيبيريا، ولا شك أن ذلك يرتبط أيضًا بكثافة السكان والنشاط الاقتصادي.

في هذه المنطقة راجع خريطة رقم (٦) يوجد خطان حديديان أساسيان هما: (١) خط لننجراد-مورمانسك، (٢) خط موسكو-أركانجلسك، وقد اتصل الخطان ببعضهما خلال الحرب العالمية الثانية — أثناء حصار الألمان لمدينة لننجراد — بواسطة خط يمتد جنوبي البحر الأبيض وخليج كندلاكشا، وهذان الخطان هما الشريان الرئيسي الذي ينقل إلى الجنوب الأخشاب والأسماك والمعادن.
fig6
شكل رقم (٦): الشمال السوفيتي الأوروبي: نمط الاستغلال الزراعي الحديث: (أ) الحد الجنوبي للشمال السوفيتي الأوروبي (على وجه التقريب). (ب) سكك حديدية. (ج) مناطق الزراعة حول المدن (خضروات – بطاطس – ألبان): (١) نطاق رعي وتربية الرنة. (٢) رعي الأبقار وزراعة متناثرة حديثة. (٣) رعي وألبان كثيفة مع زراعة حديثة جيدة.

ويبلغ طول خط مورمانسك-لننجراد حوالي ١٤٠٠ كيلومتر، وهو أول خط تم خلال العهد السوفيتي، وقد مد هذا الخط إلى مورمانسك لكي تصبح الميناء الشتوي للننجراد خلال فترة تجمد مياه البلطيق، كما أنه ساعد على تنمية وتنشيط صيد الأسماك من بحر بارنتس، وذلك بفتح أسواق المدن الكبرى الجنوبية للأسماك المصادة، وفي الوقت نفسه فإن هذا الخط الحديدي قد ساعد على استغلال الثروة المعدنية المتعددة الوجوه في شبه جزيرة كولا، وخاصة في منطقة كيروفسك التعدينية الكبيرة، وقد أصبح لهذا الخط عدة فروع داخل إقليم كاريليا لزيادة استغلال موارد المنطقة التي تقع شمالي بحيرة لادوجا وشمال غربي بحيرة أونيجا، وأصبحت بتروزادوفسك مركز مواصلات جديدة هام في كاريليا.

وقد أدى كل ذلك إلى نشأة صناعات عديدة تقوم على موارد البيئة، ففي كاريليا تتركز صناعة الورق حول بحيرة لادوجا وخاصة قرب الحدود الفنلندية، وفي منطقة أونيجا صناعات المخصبات وتعليب وإعداد الأسماك والخضروات والمنسوجات، وفيما بين أونيجا والبحر الأبيض نمت صناعة قطع الأخشاب وإعدادها وصناعة الورق وتصنيع المعادن غير الحديدية، وخاصة بعد إنشاء مجموعة كبيرة من محطات الطاقة المائية على مياه الأنهار القصيرة التي تصل مجموعة البحيرات العديدة في المنطقة، وفي منطقة خليج كندلاكشا وكيروفسك نمت أيضًا حرفة قطع الأشجار وتشغيل المعادن غير الحديدية وصناعة الآلات، وفي منطقة مورمانسك تسيطر صناعة إعداد الأسماك وتعليبها بالإضافة إلى صناعة الآلات.

وفي كاريليا مجموعة من الأنهار التي تصل بين البحيرات، وقد شق السوفيت وعمقوا بعض هذه الأنهار وحفروا قنوات أخرى لكي يتم إنشاء طريق مائي يربط البحر الأبيض — عند خليج أونيجا — ببحيرة أونيجا، وبحيرة لادوجا — على الأصح جنوب البحيرة مباشرة — بنهر نيفا الذي ينتهي إلى لننجراد وبحر البلطيق، كما حفرت قناة أخرى تربط بين أونيجا والفولجا عند شربوفتس، وقد تم حفر الوصلات المائية بين البلطيق والبحر الأبيض عام ١٩٣٣، وتقوم هذه القناة بمساعدة خط حديد مورمانسك في أعمال النقل، ومعظم البضائع التي تمر بها هي الأخشاب.

أما الخط الحديدي بين موسكو وأركانجلسك فهو قديم؛ إذ أنشئ عام ١٨٩٧، وهو بذلك تعبير عن أهمية أركانجلسك القديمة بالنسبة لنمو إمارة موسكو واتجاهها صوب الشمال من القرن السادس عشر، قبل أن تحتل واجهتها على البلطيق والأسود «القرن الثامن عشر».

وقد اتصل هذا الخط بخط مورمانسك خلال الحرب العالمية الثانية، كما أدت هذه الحرب أيضًا إلى أن يبني السوفيت فرعًا آخر يبدأ من كوتلاس بحذاء الدفينا والبتشورا ليصل إلى فحم فركوتا في أقصى الشمال — بعد أن استولى الألمان على فحم أوكرانيا والدوناباس، وساعدت هذه الخطوط الحديدية على نهضة كبيرة في النشاط الاقتصادي، فعلى خط حديد فركوتا ينقل الفحم جنوبًا إلى شربوفتس، كما تنقل الأخشاب أيضًا، وقد مد خط فركوتا عبر الأورال إلى منطقة الأوب الأدنى، لكن حركة النقل عليه ليست كبيرة في الوقت الحاضر، ولعلها تزيد باستمرار أعمال الكشف عن البترول والغاز الأرضي في الأوب الأدنى.

وتتركز صناعة بناء السفن في أركانجلسك وكوتلاس، إلى جانب الورق والأدوات المعدنية، بينما نشأت في أوختا — على خط فركوتا — صناعة تكرير البترول وعدد من صناعة الأدوات، أما في فركوتا فإن صناعة الآلات والورق — بجانب تعدين الفحم — تسيطر على اقتصاديات المنطقة.

ونهر الدفينا الشمالي نهر صالح للملاحة منذ القدم، وأهميته في تأمين نقل الأخشاب إلى الساحل ما زالت كبيرة لدرجة أن حجم النقل عليه يلي حجم النقل النهري على الفولجا، أما نهر البتشورا فإنه ينقل كميات أقل من الأخشاب إلى الشمال.

وفيما بين الأوب الأدنى والمحيط الباسيفيكي تمتد مساحة ضخمة قد تبلغ حجم الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يوجد في هذه المساحة سوى خط حديدي واحد طوله حوالي ١١٥ كيلومترًا يربط مدينة نوريلسك بنهر الينسي، وقد وضح أن الصقيع الدائم يشكل مخاطر للسكك الحديدية في سيبيريا الشمالية، وبالإضافة إلى ذلك فإن عدد السكان القليل، وكثرة الطرق النهرية الكافية للاحتياجات الحالية للنقل تجعل التفكير في مد الخطوط الحديدية في هذه الأصقاع عملية مكلفة دون داعٍ أو عائد اقتصادي كبير.

وتشكل أنهار سيبيريا محاور نقل رئيسية من الجنوب إلى الشمال، ويكون خط حديد سيبيريا المحور الشرقي-الغربي للنقل في الجنوب «بامتداده الجديد إلى أعالي لينا»، أما خط الملاحة الشمالي فيكون محور النقل الشرقي الغربي في الشمال، وبذلك تكتمل شبكة نقل بسيطة في هذه المساحة الهائلة، فضلًا عن اختلاف جذري في وسيلة النقل على هذه الشبكة: السفن البحرية خلال أشهر الصيف في الشمال، القطارات الحديدية طوال السنة في الجنوب، والأنهار تربط بينهما خلال الصيف أيضًا.

وخط الملاحة البحري الشمالي يمكن أن يمثل الشريان الحيوي للنقل في شمال سيبيريا برغم أنه يكون مفتوحًا فقط خلال ثلاثة أشهر، وعلى هذا الخط تعمل سفن تقطع المسافة بين مورمانسك وفلاديفستوك «البالغ طولها ٥٩٩٦ ميلًا» في رحلة مستمرة، إلا أن معظم الملاحة الشمالية تتركز فيما بين مورمانسك وأركانجلسك من ناحية الغرب، ومصب الينسي من ناحية الشرق؛ أي في بحري بارنتس وكارا، ولا شك أن وراء ذلك دواع ودوافع، فمنطقة مصب الينسي — بما فيها من ثروة معدنية ذات قيمة عالية في منطقة نوريلسك، تستدعي مثل هذه الكثافة النسبية في النقل البحري.

وفضلًا عن ذلك فإن الملاحة الشمالية حول شبه جزيرة نايمير ورأس شيلوسكين تتعرض كثيرًا للجليد الطافي، والجليد الركامي، وذلك برغم تشغيل كاسحات الجليد الذرية الحديثة، ومثل هذه الظروف أيضًا تسيطر على الملاحة في مضيق بيرنج، وفضلًا عن هذا فإن كمية الحمولة في المنطقة الشرقية عامة صغيرة، ومن ثم فإن أحد أغراض الملاحة الشمالية هو تموين المدن الساحلية الشمالية باحتياجاتها وتموين القواعد السوفيتية العديدة الخاصة بالأرصاد والأبحاث العلمية والدفاع.

وبرغم أهمية طريق الشمال الملاحي، إلا أنه يمكن أن يتم تموين المناطق الشمالية بواسطة طرق سيبيريا الجنوبية الحديدية والبرية، ثم بواسطة الأنهار المتجهة شمالًا، وإلى جانب ذلك فإن السوفيت قد أنشئوا في الفترة الأخيرة عدة طرق برية من النوع الذي يلائم كافة الأجواء، وخاصة في شرق سيبيريا.

ففي المنطقة التعدينية شقت طرق جيدة من أهمها طرق ألدان الرئيسي الذي يبدأ من الخط الحديدي شمالي قوس نهر آمور، ويتجه شمالًا عبر جبال ستانوفوي إلى ألدان، ثم يواصل السير شمالًا إلى ياكوتسك، وهناك طريق رئيسي جديد آخر يسمى طريق كوليما الذي يبدأ من ميناء ماجادان في شمال بحر أوختسك ويعبر ممرات جبال كوليما وشيرسكي إلى أعالي كوليما وأنديجاركا، ثم يتجه جنوبًا بالغرب ليعبر نهر ألدان ويصل في النهاية إلى ياكوتسك، ويخدم هذا الطريق مناطق تعدين الذهب الهائلة وصناعات الفحم العديدة في أعالي كوليما وأنديجاركا، هذا إلى جانب القصدير والتنجستن.

وتنقل ميناء ماجادان — التي تظل مفتوحة للملاحة طوال السنة بواسطة محطمات الجليد — كل المؤن والمعدات اللازمة لأعمال التعدين العديدة الجارية في الشمال، بالإضافة إلى كميات الوقود لمساحة عدة آلاف من الكيلومترات بواسطة شاحنات ضخمة وسائقين مدربين لمثل هذه الظروف القاسية مناخًا والتربة ذات الصقيع الدائم، وعبر طرق غير معبدة بالمعنى المفهوم، وهناك فرع من طريق كوليما عند جبال شيرسكي يمتد شمالًا بغرب عبر الجبال إلى وادي نهر يانا — الذي يقع بين أنديجاركا ولينا، وينتهي هذا الخط عند تجني يانسك عند مصب نهر يانا — المسافة بين ماجادان وتجني يانسك ٣٥٠٠كم، ويفتح هذا الطريق المؤقت من نوفمبر إلى مايو ليستفيد من الأرض المتجمدة دون وجود مستنقعات وبحيرات تعوق السير.

وإلى جانب هذه الطرق، هناك طريق آخر يمتد غربًا من ياكوتسك إلى فيليويسك حيث مناجم الماس الغنية، وبذلك تصبح ياكوتسك مركزًا هامًّا لتقاطع الطرق الرئيسية في سيبيريا الشرقية — إلى جانب مطارها الكبير، وانتفاعها بنهر لينا الواسع كطريق مائي كبير يقود إلى الشمال حيث ميناء تكسي على بحر لابتف.

وعلى هذا النحو فإن السكك الحديدية والقنوات تكوِّن شبكة نقل هامة في الشمال الأوروبي، بينما يعتمد النقل في الشمال الآسيوي على الأنهار وخط الملاحة الشمالي ومجموعة الطرق البرية في شرق سيبيريا، وتبرز سيبيريا الغربية كمنطقة غير مخدومة كثيرًا؛ لكثرة مستنقعاتها، ولقربها من خط حديد سيبيريا الشمالي قربًا نسبيًّا.

(٧) السكان والمدن

(٧-١) السكان

برغم ما ذكرنا من نشاط اقتصادي تعديني وصناعي أولي فإن الشمال السوفيتي كله قليل السكان جدًّا، حقًّا زادت كثافة السكان كثيرًا خلال العهد السوفيتي في عدة مناطق من هذا الشمال إلا أن هناك مساحات هائلة تكاد لا توجد فيها مساكن على الإطلاق.

وربما يبلغ عدد السكان الحاليين قرابة خمسة ملايين، بينما لم يكونوا أكثر من مليونين عام ١٩٢٦، ومعنى هذه الزيادة أن نسبة الزيادة السكانية في الشمال السوفيتي كانت أعلى من نسبة الزيادة القومية للسكان في كل أنحاء الاتحاد السوفيتي.

ولا شك أن نسبة كبيرة من الزيادة السكانية كانت في البداية تعود إلى الهجرة الجبرية التي توقفت بعد الحرب العالمية الثانية بفترة وجيزة، ولا بد أن نفترض أن عددًا كبيرًا من الخاضعين للهجرة الجبرية قد فضل البقاء في المنطقة بمحض اختياره فيما بعد.

ومعظم الزيادة السكانية في الشمال تكاد تنحصر في النمو العددي لسكان المدن، ومعظم هؤلاء نراهم قادمين من روسيا وأوكرانيا، وقد ترتب على ذلك تغير شامل في التكوين السلالي لسكان الشمال، ففي ١٩٢٦ كان عدد الروس لا يزيد عن عدد السكان الأصليين؛ أي إن النسبة كانت ٥٠٪ لكل من المجموعتين أو حوالي مليون لكل منهما، واليوم نجد أن الزيادة السكانية بالنسبة للجماعات الأصلية لم تبلغ حدًّا كبيرًا، وربما ما زال عددهم في حدود المليون، والباقي — أربعة ملايين — هم من الروس والوافدين.

وليس معنى هذا أن النمو السكاني عند السكان الأصليين قد توقف، بل لا شك أن نسبة نموهم قد ارتفعت بعض الشيء نتيجة انتشار الطب الحديث انتشارًا لا بأس به في المراكز المدنية الجديدة، لكن الاحتمال الأقوى هو أن عددًا من السكان الأصليين قد اندمجوا في المجموعة السكانية الجديدة، ومهما يكن من أمر فإن الوافدين، ومن اندمجوا معهم، أصبحوا يكونون الآن ٨٠٪ من مجموع سكان الشمال.

وأكبر المجموعات الأصلية عددًا هي الكومي في غابات بتشورا، والياكوت في حوض لينا، وربما بلغ عددهم معًا أكثر من ٨٠٠ ألف شخص، والكومي — بحكم موقعهم — هم على اتصال دائم بالروس منذ عدة قرون، أما بقية السكان الأصليين فهم يتكونون من أعداد قليلة — الإسكيمو في حدود ألف شخص، التشوكشي في حدود ١٢ ألفًا.

وتدل إحصاءات عام ١٩٥٩ على أن عدد السكان كان حوالي أربعة ملايين ونصف على النحو التالي:

الإقليم أو الوحدة الإدارية المساحة ألف ميل مربع عدد السكان بالآلاف الكثافة شخص/كم٢ النسبة المئوية لسكان المدن
مجموع الشمال السوفيتي ٣٨٢٠ ٤٤٩٨
مورمانسك ٥٦ ٥٦٧ ١٠ ٩٢
كاريليا ٦٧ ٦٥٠ ١٠ ٦٣
أركانجلسك ٢٢٩ ١٢٧٨ ٥ ٥٣
كومي ١٥٩ ٨٠٤ ٥ ٥٩
مجموع الشمال الأوروبي ٥٥١ ٣٢٩٩
ياكوتيا ١٢١٠ ٤٨٨ أقل من ١ ٤٩
ماجادان ٤٦٨ ٢٣٦ أقل من ١ ٩١
كمتشكا ١٨٢ ٢٢٠ ١٠
كراسنويارسك (جزء) ٨٢٠ ١٩ أقل من ١
نوفوسيبرسك (جزء) ٩ ٢٠ أقل من ١
تومسك (جزء) ٩٥ ٣٠ أقل من ١
تويمن (جزء) ٥٢٥ ١٨٦ أقل من ١
مجموع الشمال الآسيوي ٣٣٠٩ ١١٩٩

يتضح من هذه الأرقام استئثار القسم الأوروبي بحوالي ثلثي السكان برغم أن مساحته لا تتجاوز سدس مساحة الشمال الآسيوي، وهو أمر راجع إلى الموقع الجغرافي واعتدال الظروف المناخية وزيادة النشاط الاقتصادي، وينعكس ذلك كله في ارتفاع نسبة ساكني المدن في مناطق الشمال الأوروبي، وفي مناطق التعدين ياكوتيا وماجادان.

(٧-٢) المدن

عدد سكان المدن الرئيسية في الشمال السوفيتي في عدة سنوات (بآلاف الأشخاص).
المدينة ١٩٢٦ ١٩٥٩ ١٩٦٢ ١٩٦٤
أولًا: مدن القطاع الأوروبي
أركانجلسك ٧٧ ٢٥٦ ٢٧٦ ٣٠٣
مورمانسك ٢٢٢ ٢٤٥ ٢٧٢
بتروزافودسك ١٣٦ ١٤٢ ١٥٧
سفرودفنسك ٧٩ ٩٧ ١١٣
سيكتيفكار ٦٤ ٧٩ ٩٤
فركوتا ٥٦ ٦٠
ثانيًا: في القطاع الآسيوي
نوريلسك ١٠٩ ١١٧ ١٢٤
بتروبا فلوفسك كمتشاتسكي ٨٦ ١٠٠
ياكوتسك ٧٤ ٧٩ ٨٩
ماجادان ٦٢ ٦٨ ٧٩

يتضح أيضًا من هذا الجدول أن معظم المدن يوجد في الشمال الأوروبي، وقد سبق أن قلنا إن نمو السكان في الشمال السوفيتي راجع أساسًا إلى نمو كبير لعدد سكان المدن، ففي سنة ١٩٥٩ كان عدد سكان المدن الكبرى المذكورة بهذا الجدول ١١٤٤٠٠٠ شخص من مجموع قرابة أربعة ملايين ونصف مليون؛ أي حوالي ٢٥٪ من السكان يسكنون هذه المدن الكبرى.

ويوجد الآن في الإقليم الشمالي أكثر من ١٢ مدينة يزيد عدد سكانها عن خمسين ألف شخص، ومجموعة أخرى من المدن أكثر من ٢٠ ألفًا.

ومدن الشمال السوفيتي عامة هي أكثر مدن العالم تطرفًا نحو الشمال، وأكثر مدن العالم بعدًا عن النطاق الزراعي المعروف، وعلى هذا فهناك عدد من المشاكل تحاول التكنولوجية السوفيتية أن تحلها بزراعة الخضروات وتوفير الأغذية بكافة الطرق حول هذه المدن، فضلًا عن تموينها ببعض الأغذية من النطاقات الجنوبية، وفيما يلي عرض سريع لبعض المدن الكبرى.

أركانجلسك

هذه هي أكبر مدن الشمال، ويقترب عدد سكانها الآن من ثلث مليون شخص، وتقع المدينة على رأس خليج الدفينا، وعلى رأس المصب الخليجي الدلتاوي لنهر الدفينا الشمالي، وهي أقدم مدن الشمال قاطبة، وما زالت أكثرها أهمية.

ولقد اكتشفت جماعة من البحارة الإنجليز هذا الموقع بالصدفة، واستخدموا النهر في الصعود جنوبًا حتى وصلوا إلى الفولجا ومن ثم إلى موسكو، ومنذ ذلك التاريخ وللمدينة أهمية كبيرة بالنسبة لعلاقات روسيا بالشمال، وتعبيرًا عن ذلك فقد مُدَّ أول خط حديدي في الأصقاع الشمالية إلى أركانجلسك قرب نهاية القرن الماضي — فموقع المدينة عند نقطة تجميع لمنتجات الغابات المخروطية الشمالية أعطاها سيطرة احتكارية في تجارة الدولة الخارجية لكل من الفراء والأخشاب والكتان.

ولكن مجد أركانجلسك — أركانجل كما كانت تُسمى من قبل — لم يطل كثيرًا، وذلك بعد أن أسس بطرس الأكبر سان بطرسبورج — لننجراد الحالية، وتدهورت أهمية أركانجلسك خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، بل أصبحت أيضًا منفى شماليًّا.

وحينما تم مد الخط الحديدي إليها بدأت صحوة جديدة لأركانجلسك، فزادت أكثر من عشر مرات عما كانت عليه من حيث الحجم وعدد السكان في القرن التاسع عشر، وتسيطر منتجات الغابات على نشاطها الاقتصادي، وفيها أكبر معامل قطع ونشر الأخشاب في الاتحاد السوفيتي، إلى جانب ترسانة متوسطة لبناء السفن ومعامل متوسطة في تعليب وإعداد الأسماك، ولقد قلت قيمة البحر الأبيض في صيد الأسماك بعد أن تطورت سفن الصيد إلى السفن الحديثة التي تجوب أعالي البحار، وأصبحت مورمانسك الميناء الأول في مضمار السماكة، وقد نمت في المدينة أيضًا بعض معامل النسيج، وخاصة نسيج الأكياس المصنوعة من الجوت، وبعض الصناعات الهندسية، وبالرغم من تجمد مياه البحر الأبيض شتاء إلا أن محطمات الجليد تفتح طريقًا مستمرًّا إلى أركانجل وميناء سفيرودفنسك — على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض — خلال الشتاء.

مورمانسك

أكبر مدينة تقع شمال الدائرة القطبية في العالم، وتتمتع مورمانسك بميناء مفتوح طوال السنة على عكس أركانجلسك، وتقع المدينة على رأس فيورد صخري عميق يمتد ٦٥ كيلومترًا إلى الداخل، لكن ظروف التندرا المحيطة بالمنطقة وصعوبة الاتصال بالجنوب جعلت أهمية مورمانسك تتأخر كثيرًا، وظهورها كمدينة وميناء هام يعود إلى اتصالها بالسكة الحديدية القادمة من لننجراد والتي بدأ العمل فيها عام ١٩١٦.

ولقد نمت المدينة بسرعة كبيرة في خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، وظهرت أهميتها كمركز رئيسي لأسطول صيد متزايد، وكميناء لبداية خط الملاحة الشمالي، كما كان للمعادن العديدة التي وجدت بالقرب منها أثر كبير على النمو، وفي المجموع تزايد سكان المدينة من لا شيء في أوائل العشرينيات إلى ١٢٠ ألفًا سنة ١٩٣٩، حتى تضاعف العدد أكثر من مرتين في ١٩٦٤.

وتعتمد المدينة في نموها على تزايد سفن أسطول الصيد السوفيتي في البحار الشمالية بصفة مستمرة، مما يؤمن مستقبلها الاقتصادي كثيرًا.

بتروزافودسك

تقع على بحيرة أونيجا وعاصمة إقليم كاريليا وعلى الخط الحديدي من لننجراد إلى مورمانسك، وتقع وسط إقليم زراعي غابي، وأضيفت إلى وظائفها الاقتصادي صناعات الآلات والفخاريات، ونمو المدينة العددي مستمر ولكنه ليس سريعًا.

أما مدينة سيكتيفكار على الدفينا الأعلى فهي عاصمة إقليم الكومي، وتقع وسط إقليم منتجات الغابات، وتقوم فيها صناعات الأخشاب وإعداد الفراء والجلود كما تصنع سفن النقل النهري، ولم تصلها السكك الحديدية إلا في عام ١٩٦٠ بعد وصلة من خط كوتلاس-فركوتا، ومدينة فركوتا مركز لإنتاج الفحم في العالم القطبي يستغل استغلالًا جيدًا.

وفي الشمال الآسيوي نجد نوريلسك أكبر مدن هذا النطاف، وتماثل مورمانسك في أنها هي الأخرى شمال الدائرة القطبية، وتعود نشأتها إلى مناجم النيكل والنحاس وغيرهما من المعادن، وهي مناجم غنية بلا شك حتى إنها أدت إلى نمو سريع جدًّا لهذه المدينة المنعزلة في أقصى شمال سيبيريا، والممتدة على أرض الصقيع الدائم، ومصدر الطاقة في المدينة يأتي من مناجم الفحم المحلي، وإن كانت هناك مشروعات لتوليد الطاقة من أنهار شبه جزيرة تايمير القريبة، ومد خط أنابيب للغاز الأرضي القريب في وادي نهر تاز. هذا؛ وترتبط نوريلسك بميناء دودنكا النهري على الينسي الأدنى بخط حديدي قصير.

أما ياكوتسك فمدينة تختلف عن نوريلسك كثيرًا، فهي مركز تجاري قديم في حوض لينا، وأصبحت مركزًا لإقليم تعديني عظيم القيمة، وهي فوق ذلك عاصمة جمهورية ياكوتيا الذاتية، ومركز لمنطقة زراعية واسعة ورعي حديث.

(٨) ختام

في ختام هذا الفصل يتضح لنا أن هناك في الشمال السوفيتي عدة أقاليم متمايزة فيما بينها، وإن كانت تتشابه إلى حد بعيد في كثير من مقوماتها الطبيعية، وهذه الأقاليم هي:

(٨-١) الشمال الأوروبي

أحسن أقاليم الشمال السوفيتي من حيث ظروفه الطبيعية والمناخية، كما أن علاقاته المكانية بالبحر المفتوح طول السنة — بارنتس، واقترابه من الكتلة السكنية الرئيسية في الاتحاد السوفيتي، قد جعلته أكثر أقاليم الشمال ارتيادًا، ومن ثم أعمقها تاريخًا، وبالرغم من أن السكان الأصليين من المغول والفنواجريين — لغويًّا، إلا أنهم قد تأثروا كثيرًا بعملية التحول الحضاري الأوروبي في جملة نشاطهم الاقتصادي، كما حدث بينهم امتزاج كبير مع الروس، ونظرًا للأبعاد التاريخية لهذا الإقليم، فإنه صار من أحسن أقاليم الاتحاد السوفيتي في استغلال موارد الغابة بشتى أشكالها — أخشاب وفراء، وزاد عليه الكشف عن كثير من المعادن الهامة في شبه جزيرة كولا، بالإضافة إلى حرفة صيد الأسماك التي تعد هنا أكثر تطورًا من غيرها في بقية الدولة، وترتب على ذلك كله انتشار شبكة مواصلات حسنة تربط الإقليم بأكبر مركز بين مدينتين في الاتحاد السوفيتي: ليننجراد وموسكو.

(٨-٢) إقليم شرق سيبيريا وحوض لينا

بالرغم من بعده كثيرًا عن قلب الاتحاد السوفيتي إلا أنه استفاد استفادة كبيرة من القواعد الحضارية الممتدة على طول خط الحديد الجنوبي، والمحيط الباسيفيكي والموانئ التي أنشئت عليه، وترتب على هذا المكان الجغرافي إمكانية الاتصال — مع صعوبة واضحة بالبحر المفتوح، ومن ثم أنشئت شبكة من طرق الاتصال البري إلى الموانئ أو خط السكة الحديد السيبيري، والمنطقة هي أغنى مناطق الاتحاد السوفيتي بالذهب والماس والفحم، ولو أن الأخير ما زال يُستخدم بقدر يسير من أجل الأغراض المحلية لوفرة الفحم في بقية الاتحاد السوفيتي، فضلًا عن ذلك أصبحت هذه المنطقة تمثل مستقبلًا زراعيًّا ورعويًّا لا بأس به، وذلك من أجل إقامة أساس دائم للحياة خارج حد الزراعة التقليدية.

(٨-٣) إقليم سيبيريا الوسطى والغربية والشاطئ الشمالي

تمثل هذه المنطقة أقل المناطق تقدمًا من حيث الاستغلال الحديث، باستثناء منطقة نوريلسك عند مصب الينسي، وهي منطقة غنية بالدرجة التي جعلتها تنمو هذا النمو السريع برغم قسوة الظروف، والسكان معظمهم يعيشون حسب أصول النشاط الاقتصادي القديم، ومع قليل من التعديل، قرب مراكز المدن الحديثة على الشواطئ الشمالية، ونظرًا لظروف المنطقة — مستنقعات الأوب الأدنى، والصقيع الدائم شرقي الينسي، فإن المواصلات الحديثة تكاد تقتصر على الملاحة الشمالية الموسمية، والأنهار التي تتجمد أيضًا خلال معظم أشهر السنة، ومن ثم فإن مستقبل المنطقة حتى الآن أقل من الإقليمين السابقين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤