الفصل الأول

الكِنْدِيُّ

أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي، فيلسوف العرب، وأحد أبناء ملوكها، فرع الدوحة الكندية، وسليل أمراءِ الجزيرة العربية، كان أبوهُ إسحق بن الصباح أميرًا على الكوفة لعهد ثلاثة من خلفاء العباسيين: المهدي والهادي والرشيد، وتنتهي سلسلة أجداده لدى يعرب بن قحطان، وبينهم الأشعث بن قيس من أصحاب النبي ، وكان قبل ذلك ملكًا على كندة كما كان أبوهُ. ومن أجداد الكندي معدي كرب وكان ملكًا في حضرموت كأبيه. ومعظم أجداد الكندي ملوك بالمشعر واليمامة والبحرين.

لم يذكر مؤرخو العرب تاريخ ميلاد الكندي ووفاته بالدقة، ولم يذهبوا إلى أكثر من أنهُ من أهل القرن الثالث للهجرة، ولكن عالمين غربيين حققا ذلك، فذكر فلوجل أن الكندي عاش في النصف الأول من القرن العاشر للميلاد، ومات بعد عام ٨٦١م. وذكر العلامة ناجي الإيطالي — أحد أساتذة الفلسفة بروما، المتوفى في أواخر القرن التاسع عشر وكان ممن عنوا بتاريخ الفلسفة العربية، ونشر كتبًا للكندي باللاتينية — أن وفاتهُ كانت عام ٢٥٨ هجرية؛ أي ٨٧٣ مسيحية، وثبت أنهُ كان حيًّا يرزق عام ١٩٨ هجرية فكأنهُ عُمِّر نحو سبعين عامًا.

قال سليمان بن حسان (وهو ابن جلجل الأندلسي) إن الكندي كان بصريًّا، وكانت لهُ بالبصرة ضيعة نزل بها، ثم انتقل إلى بغداد، وتخرج في مدارسها بعد مدارس البصرة، وكان عالمًا بالطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق وتأليف اللحون والهندسة وطبائع الأعداد وعلم النجوم، وقيل إنه كان يملك جانبًا من علوم الإغريق والفرس، ويعرف حكمة الهنود، وكان كذلك ملمًّا بإحدى اللغتين الأجنبيتين الذائعتين لذاك العهد، وهما اليونانية والسريانية، لأجل هذا نَدَبَهُ المأمون فيمن ندب من الحكماء إلى ترجمة مؤلفات أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان.

وقال سليمان بن حسان إنهُ لم يكن في الإسلام فيلسوف غيرهُ! ولعلهُ يقصد بذلك إلى أنه أول فلاسفة الإسلام. ثم إن الكندي احتذى في تآليفهِ حذو أرسطو، وفسر من كتب الفلسفة الكثير، وأوضح منها المشكل، ولخص المستصعب وبسط العويص، وهذا لعلو كعبه في الترجمة؛ فقد ذكر شاذان في المذكرات عن أبي معشر، المشهور عند المصريين بكتاب في التنجيم: «إن حذاق التراجمة في الإسلام أربعة، بينهم يعقوب بن إسحق الكندي.»

بيد أن بعض معاصريه نقموا عليه إما حسدًا وإما غير ذلك، ومنهم القاضي أبوالقاسم صاعد بن أحمد القرطبي، قال في «كتاب طبقات الأمم» عند الكلام على كتب الكندي في المنطق إنها «نفقت عند الناس نفاقًا عامًّا، وقلما يُنتفع بها في العلوم؛ لأنها خالية من صناعة التحليل التي لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل في كل مطلوب إلَّا بها. وأما صناعة التركيب، وهي التي قصد يعقوب في كتبه هذه إليها، فلا يَنتفع بها إلَّا من كانت عنده مقدمات عتيدة فحينئذ يمكن التركيب، ومقدمات كل مطلوب لا توجد إلَّا بصناعة التحليل، ولا أدري ما حمل يعقوب على الإضراب عن هذه الصناعة الجليلة، هل جهل مقدارها أو ضنَّ على الناس بكشفها؟ وأي هذين كان فهو نقص فيه، وله بعد هذا رسائل كثيرة في علوم جمة، فيها آثار فاسدة ومذاهب بعيدة عن الحقيقة». ا.ﻫ.

وتحامل القاضي القرطبي ظاهر على أن هذا لم يكن رأي علماء الإفرنج في الكندي، فقد عده غليوم كردانو الإيطالي المتوفى سنة ١٥٧٦، بين الاثني عشر عبقريًّا الذين ذكر أنهم أهل الطراز الأول في الذكاء والعلم، لم يخرج للناس سواهم منذ بداية العالم إلى نهاية القرن السادس عشر للمسيح. وقال روجر باكون، وهو قس إنجليزي من أهل القرن الثالث عشر للمسيح، ومن مشاهير القرون الوسطى: «إن الكندي والحسن بن الهيثم في الصف الأول مع بطليموس لاشتهاره بما دونهُ في علم المرئيات، وقد نقل بعض رسائله في هذا الباب جيرار دي كريمونا.»

على أن مؤلفات الكندي الفلسفية، وشروحه لحكمة أرسطو، وهي أول ما دوَّنهُ العرب في هذا، نادرة الذكر في كتبهم التي وقعت لنا. ونذكر بين مؤلفاته كتابًا في قصد أرسطوطاليس في المعقولات، وآخر في ترتيب مصنفات أرسطو. وذكر لهُ ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء رسالة «في كمية كتب أرسطو، وما يحتاج إليه في تحصيل علم الفلسفة، مما لا غنى في ذلك عنهُ، وفي ترتيبها وأغراضهِ فيها»، وكتاب في قصد أرسطوطاليس في المقولات، والموضوعة لها رسالتهُ الكبرى في مقياسه العلمي. ومن كتب أرسطو كتاب أتلوجيا، وهو «قول على الربوبية»، تفسير فارفوريوس الصوري، ونقله إلى العربية عبد المسيح بن عبد الله ناعمة الحمصي، وأصلحه لأحمد بن المعتصم بالله أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي، وطبع ببرلين عام ١٨٨٢.

أسفلنا أن الكندي في طليعة من شرحوا أرسطو، ولكن ابن سينا خلفهُ وتفوق عليه. وذكر ابن جلجل أنه لم يكن بين فلاسفة الإسلام (كتب هذا بعد وفاة الفارابي) من اقتفى آثار أرسطو بأدق مما اقتفاه الكندي.

أما تآليف الكندي فتكاد تشمل سائر العلوم، فقد دوَّن كتبًا في الفلسفة وعلم السياسة والأخلاق، والأرثماطيقي وعلم الكريات والموسيقى، والفلك والجغرافيا والهندسة ونظام الكون والتنجيم، والطب والنفسانيات والأبعاديات والمساكن ألف فيه رسالته الكبرى، ورسالة في الربع المسكون وعلم المعادن، وفيه رسالة في أنواع الجواهر والأشباه، ورسالة في نعت الحجارة والجواهر ومعادنها وجيدها ورديئها وأثمانها، ورسالة في تلويح الزجاج، وأخرى في أنواع الحديد والسيوف وجيدها ومواضع انتسابها. وألف في الكيميا رسالة في العطر وأنواعه، ورسالة في كيمياء العطر. وأخرى في التنبيه على خدع الكيمائيين، ورسالة في الطبيعة، ورسالة في الأجرام الغائصة في الماء، ورسالة في الأجرام الهابطة، ورسالة في عمل المرايا المحرقة. وله كتب خطية في مكاتب أوروبا ذكرها بروكلمان في فهرسته.

بيد أن الناظر في مؤلفات الكندي يرى أنها لم تخرج عن حد العقليات. وأخبرنا العلَّامة سنتلانا، أستاذ تاريخ الفلسفة بالجامعة المصرية في عام ١٩١١: «إن البينوناجي الذي سلف ذكرهُ نشر في عام ١٨٩٧ خمس رسائل فلسفية للكندي، أولاها في ماهية العقل، ونشرت ترجمتها باللاتينية.»

وليس بين مؤلفات الكندي شيءٌ في الدين، بل إنه اشتهر برأي خاص في «واجب الوجود»، خالفه فيه المتشددون من أهل عصره، وأخذوا عليه رأيه المذكور الذي أودعه رسالة التوحيد. وقد روى عبد اللطيف البغدادي، أحد أطباء العرب، ومؤلف «كتاب أخبار مصر»، وهو من أهل القرن الثاني عشر ومن الفقهاء المتعصبين؛ أنه كتب رسالة ضمنها بحثًا في حقيقة واجب الوجود وما ينبغي نحو ذاته العلية، وأن غايتهُ من تدوينها نقض ما دوَّنه الكندي من قبل في «رسالة التوحيد». وروى كاتب «مقالة الكندي» في دائرة المعارف البريطانية «أنه كان أول الثائرين على الإسلام»؛ يقصد المبتدعين. ولكن في هذا مغالاة، فقد سبقهُ كثير من المعتزلة، كواصل بن عطاء في أوائل القرن الثانين وعمرو بن عبيد، والنظام تلميذ ابن الهيثم، والجاحظ تلميذه، وكلهم سابقوه. على أن خصوم الكندي لم يأخذوا عليه إلَّا قوله «بوحدة واجب الوجود وبساطة ذاته العلية»، وإن هذا القول أرسطيٌّ محض، ومعناه أن القائلين به لا يعترفون لواجب الوجود بصفة مطلقة، والصفات المطلقة هي المميزة عن الذات، وكان أرسطو حقيقة ينكر الصفات ويقول بأنها والذات شيء واحد، وهذا القصد من قولهم ببساطة واجب الوجود.

على أن المعتزلة والسنيين متفقون في جوهر هذه المسألة. فإن المعتزلة تقول: «إن الله عليم بذاته خبير بذاته قادر بذاته»؛ أي يعلم ويقدر دون الاحتياج إلى صفة. أما الصفاتية، وهم جمهور المسلمين، فيقولون بأن الله عليم بالعلم؛ أي بصفة العالِم، وقادر بالقدرة؛ أي بصفة اسمه القادر. وإن هذه الصفات ليست منفصلة عن الذات؛ لأنها لو انفصلت لعادوا إلى رأي المعتزلة، وقد يشركون. وحجة المعتزلة فيما سبق بيانهُ أن القول بالصفات يثبت ثلاثة عشر قديمًا (الصفات المشهورة ثلاث عشرة: خمس سلبية وواحدة نفسية وسبع معان). على أن المعتزلة إذا سئلوا قالوا إن الله قادر، فهُم متفقون وجمهور المسلمين في الجوهر كما أسفلنا.

أول أعداءِ الكندي من معاصريه أبو معشر. روى ابن النديم البغدادي الكاتب المعروف بابن أبي يعقوب في كتاب الفهرست «أن أبا معشر، وهو جعفر بن محمد البلخي، من أصحاب الحديث أولًا، وكان منزله في الجانب الغربي بباب خراسان ببغداد، وكان يضاغن الكندي ويغري به العامة، ويشنع عليه لأخذه بعلوم الفلاسفة، فلما رأى الكندي منهُ ذلك أراد أن يقطع عن نفسه شرهُ بما ينفع أبا معشر ولا يضرهُ، فدس عليه من حسَّن لهُ النظر في علم الحساب والهندسة فاشتغل بهما، ولكنهُ لم يوفق فيهما فعدل عنهما إلى علم أحكام النجوم، فانقطع شرهُ عن الكندي بنظره في هذا العلم، وقد تعلم علم أحكام النجوم بعد سبع وأربعين سنة من عمره»، وأمسى من تلاميذ الفيلسوف بعد أن كان ألد أعدائه!

روى أبو جعفر ابن يوسف في كتابه «حسن العقبى»، عن أبي كامل شجاع بن الحاسب «أنهُ كان لعهد المتوكل أخوان شريران: محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر، وكان هذان الشقيان يكيدان لكل من ذكر بالتقدم في علم أو معرفة، فلما ذاع فضل الكندي غاظهما ذلك، وأرادوا الوقيعة به لدى المتوكل، وكان للكندي نصير في بلاط الخليفة، وهو سند بن علي، فباعداهُ عن المتوكل وأشخصاهُ إلى مدينة السلام، فلما خلا لهما الجو دبرا على الكندي مكيدة، فضربهُ المتوكل، ووجها إلى دارهِ فأخذا كتبهُ بأسرها وأفرداها في خزانة سميت «الكندية».»

وقد ردت لهُ هذه الكتب بخبر غريب، وهو أن الشقيقين الشقيين كانا يعملان للانفراد بالمتوكل وإبعاد أهل الفضل عنهُ، والحصول على ما يستطيعان من المال، فكشف أمرهما في حفر النهر المعروف بالجعفري؛ فإنهما أسندا حفره إلى مهندس معرفته أوفى من توفيقه، فغلط في فوهة النهر، وأتلفا جملة من مال المتوكل، فأقسم أن يصلبهما على شاطئه إن كان ما بلغهُ عن الغلط حقًّا، فتوسلا إلى سند بن علي الذي ما تركا شيئًا من سوءِ القول إلا ذكراه عند المتوكل به، فقال لهما سند بشمم أهل الفضل: «إنكما لتعلمان ما بيني وبين الكندي من العداوة والمباعدة، ولكن الحق أولى ما أتبعهُ، والله لا ذكرتكما عند المتوكل بصالحة حتى تردا عليهِ كتبهُ!» فتقدم محمد بن موسى في حمل الكتب إليه وأخذ خطة باستيفائها، فوردت رقعة الكندي بتسلمها عن آخرها، وقال سند للمتوكل إنهما ما غلطا لينقذهما من العقاب. ومات المتوكل بعد ذلك بشهرين قبل أن يظهر غلط الحفر في النهر.

اعتاد مترجمو الحكماء رواية بعض أقوالهم في الحكمة العامة للاستدلال على آرائهم، ويغلب أن يكون المنقول من الحِكم الذائعة على ألسنة الأدباء ذكرت للإسهاب، أو دُسَّت على الرواة؛ فقد قرأت حِكمًا نسبت لسقراط، وقرأتها بعينها منسوبة لكونفوشيوس ولقمان وغيرهما، ومثل هذا كثير، ولا أظن أنهُ يؤخذ به في تقدير المنسوب إليه أو في الحكم عليه.

والأقوال المروية عن الكندي تنقسم، من حيث شكلها، قسمين: نثرًا وشعرًا. والنثر في ثلاثة أمور: الأول نصيحة للطبيب، والثاني في الحث على التواضع، والثالث في التحذير من الأقارب، ورويت عنُ سبعة أبيات من الشعر، رواها العسكري في كتاب الحكم والأمثال وهي:

أناف الذنابي على الأرؤسِ
فغمض جفونك أو نكِّسِ
وضائل سوادك واقبض يديك
وفي عقر بيتك فاستجلس
وعند مليكك فابغ العُلوَّ
وبالوحدة اليوم فاستأنس
فإن الغنى في قلوب الرجال
وإن التعزز بالأنفس
وكائن ترى من أخي عسرة
غنيٍّ وذي ثروة مفلس
ومن قائم شخصهُ ميت
على أنهُ بعدُ لم يرمس
فإن تطعم النفس ما تشتهي
تقيك جميع الذي تحتسي

وعندي أن هذه الأبيات تدل على حالة نفسية حزينة، تدني هذا الفيلسوف العربي القديم من شوبنهور. ولا غرابة إذا كان الحزن ميزة الحكماء؛ فهو كما قال زيلر في كتابه عن تاريخ فلاسفة اليونان «علامة الأمم المفكرة».

قال في وصيته: «ليتق الله تعالى المتطبب ولا يخاطر فليس عن الأنفس عوض!» وقال: «كما يحب أن يقال إنهُ كان سبب عافية العليل وبرئه، كذلك فليحذر أن يقال إنهُ كان سبب تلفه وموته.» وكان رحمهُ الله طبيبًا ونصحه صالح لكل زمان!

«العاقل يظن أن فوق علمه علمًا فهو أبدًا يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنهُ قد تناهي فتمقته النفوس لذلك» نقلًا عن كتاب المقدمات لابن بختويه.

قال الكندي يوصي ولده: «يا بني، الأب رب والأخ فخ والعم غم والخال وبال والولد كمد والأقارب عقارب.»

وهذا من وصيته لابنه أيضًا «قول «لا» يصرف البلا، وقول «نعم» يزيل النعم، وسماع الغناء برسام حاد؛ لأن الإنسان يسمع فيطرب وينفق فيسرف فيفتقر فيغم فيعتل فيموت.»

«الدينار محموم فإن صرفتهُ مات! والدرهم محبوس فإن أخرجتهُ فرَّ! والناس سخرة فخذ شيئهم واحفظ شيئك! ولا تقبل من قال اليمين الفاجرة فإنها تدع الديار بلاقع!»

(١) إيضاح عن الكندي

١

لا يوجد أدب لغة أغزر مادة من الأدب العربي، ولا أبعد عنه مدى ولا أعمق غورًا ولا أشهى ثمرًا وأكثر نفعًا، ولكنه لسوء حظ عشاقه وهواته والمشتغلين به محدود الفائدة لطلابه، وقد يتعجب القارئ لهذا التناقض ولكن تلك الدهشة تزول إذا علم أن المؤلف أو الباحث قد يصرف أيامًا في التنقيب عن مبحث يريده وقد يقرأ مائة صفحة قبل أن يعثر بسطرين لهما مساس بمبحثه، فقد منح الله كتَّاب العرب وأدباءهم من سعة الاطلاع وحب الاستطراد والتعلق بأسباب الإسهاب والتطويل، ما يجعل بعضهم ينتهي من مؤلفه قبل أن يصل إلى بداية الموضوع الذي ندب نفسه لدرسه، أو الكتابة فيه، ولم يسلم من فضلاء الأدباء إلا العدد القليل ممن صحت عقولهم وعزائمهم وتمكنوا من كبح جماح نفوسهم لدى استهواء الاستطراد مثل الجاحظ على أن أمثال الجاحظ قليلون. أما سواهم فيجعلون كتب التاريخ موسوعات لفنون الأدب وعلم النبات والحيوان والطب والتنجيم، ويندر أن لا يفردوا في كل فصل من فصولها بابًا للنحو والصرف والبيان!

ومما يعجب له أن الكتَّاب الذين قطعوا أنفسهم لتدوين تراجم العظماء والفلاسفة والشعراء، لم يعنوا قط بوصف معايشهم وأخلاقهم وأطوارهم وأحوالهم النفسية كما فعل اليونان وكما يفعل الأوروبيون في هذا الزمان. وقد يكتفي بعضهم بذكر مؤلفاتهم، وسنتي ميلادهم ووفاتهم وقد لا يذكر ذلك على التحقيق إلا في بعض الأحوال دون غيرها. ومن غرائب هذا الباب أن لا يذكر مؤرخو حياة المتنبي إلا أنه مدح سيف الدولة وهجا كافورًا وقتل بمكان قفر، ولا يوجد في سيرته خاصة إلا رسالة ضئيلة طبعت على هامش شرح العكبري لديوان هذا الفحل، وهو شرح مطول في جزأين ضخمين يبدأ في تفسير كل بيت من أبياته بالإعراب والتحليل والصرف والنحو والغريب من الألفاظ.

ومما ذكره المؤرخون عن ابن تيمية، وهو أعظم أئمة المجتهدين المصلحين أمثال مارتين لوثيروس وكالفين في الغرب، «أنه مات من قطعة هريسة ازدردها» …

وغنى عن البيان بعد ما تقدم أن من يريد أن يكتب صفحة صحيحة عن عظيم عربي يعرض نفسه لأنواع المشاق والمتاعب. ويحسن بي ذكر ما قاله لي العلامة سانتيلانا أستاذ تاريخ المذاهب الفلسفية في الجامعة المصرية عامة ١٩١١، عند الكلام على تراجم فلاسفة الإسلام، من أنه قد يقرأ الكتاب ذا الصفحات العديدة دون أن يتمكن من تدوين سطر واحد. وروى لي الأستاذ إدوار لامبير أستاذ الحقوق بمدرسة ليون الجامعة، أن جولد زيهر أحد علماء المشرقيات النمسويين قضى أكثر من عشر سنين في تأليف كتابه «في السنة المحمدية»؛ وذلك لتشتت المواد وصعوبة الوصول إلى ما كان يريد جمعه من الأخبار والروايات والأسانيد.

٢

لا يمكن تصوير الكندي تصويرًا معنويًّا أو خلقيًّا ينطبق على الحقيقة انطباقًا تامًّا؛ لأنه لم يترك كتابًا ولا رسالة في ترجمة حاله، ولأن المؤرخين لم يذكروا عنه إلا أمورًا مبتذلة، ولكن بعض مؤلفاته وبعض أقواله وحال العصر الذي عاش فيه قد تساعد في مجموعها الباحث المدقق، في الوصول إلى الوقوف على ما يقرب من الحقيقة من شئونه.

فمما يذكر عنه وله شأن في هذا المعنى أن الكندي عمر طويلًا، ويصح القول بأنه ساير القرن التاسع المسيحي، وهو من أهل المائة الثالثة الهجرية. والفضل في تحقيق ذلك راجع إلى عالمين غربيين هما فلوجل وناجي. أما مؤرخو العرب، وفي مقدمتهم المسعودي، فلم يذكروا عن ميلاده ووفاته شيئًا بالتحقيق أو ما يشابهه؛ لأن الكندي توفي بعيدًا عن بلاط المتوكل، وقد ردته هذه العزلة إلى الخمول الذي يشمل سائر الأحياء في الأرستقرَاطيات الشرقية التي لا يظهر فيها إلا كل من له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بولي الأمر في زمنه.

ويستنتج من أقوال هذين العالمين الغربيين فيما سبق أن الكندي عاش نحو سبعين عامًا، وهذا يدل على اعتداله في عيشته واستقامته في أمور حياته الدنيوية، وعلى قوة بنيته الأصلية.

ويؤخذ من أخباره أنه نشأ وترعرع في كنف الخلفاء العباسيين، فقد كان أبوه أميرًا على الكوفة لعهد ثلاثة من خلفاء العباسيين، فلما نبت يعقوب لجأ إلى قصور الخلفاء، وقد عاش الكندي كأبيه في ظل ثلاثة من الخلفاء العباسيين، وهم المأمون والمعتصم والمتوكل، وأولهم أعظمهم، وقد مرح الكندي في كنفه ونال من حظوته ما ناله أمثاله العلماء، وكان المأمون أوسع الخلفاء العباسيين صدرًا للحكماء وأرحبهم جانبًا وأقلهم تشددًا وتعصبًا.

وقد ندب فيمن ندبوا لنقل العلوم من اليونانية والسريانية إلى العربية، وكان كذلك ينتاب الخلفاء في التطبيب ويخدمهم في التوقيعات الفلكية دون التنجيم، فإنه كان يبغضه وينفر الناس منه، وله مع ابن معشر الشهير حديث طويل أتينا عليه قبلًا، وقد عاش أبو يوسف معظم أيامه عيشة هنية في ظلال دواوين الحكومة العباسية لعهد المأمون والمعتصم فتفرغ لدرس فلسفة أرسطو، وأخذ في شرحها والتعليق عليها. فصححت تلك الفلسفة الإغريقية نظره في الأشياء وشحذت من ذهنه ووسعت دائرة معارفه وفكره، وكانت المائة الثالثة الهجرية حافلة بفضلاء المعتزلة وأكابر علماء الكلام والمجتهدين وأحرار الفكر، وقد رماهم بعض المغالين بالإلحاد أمثال النظام والجاحظ وواصل بن عطاء وغيرهم ممن حفل بذكرهم كتابا «الملل والنحل» و«الفرق بين الفرق» للشهرستاني والبغدادي وغيرهما، ولم يكن للكندي بد من الاحتكاك بهم والأخذ عنهم والاستنارة بأفكارهم، فأدخل في كتبه ما شاء العقل الراجح والبصيرة المنورة، مما أخذه عليه الجهال والنُّوكَى فوشوا به عند المتوكل، وكان المتوكل متسرعًا فنقم على الكندي ولم يرع خدمته له ولأسلافه من قبل ونكبه في حقوقه وكتبه.

٣

بيد أن الكندي على عظم علمهن واتساع نطاق معارفه، وغزارة مادته، وتعدد تواليفه وتصانيفه، وسبقه سواه من العرب إلى درس أرسطو وترجمة كتبه؛ لم يكن عبقريًّا بالمعنى الصحيح على الرغم مما ذكره غليوم كردانو؛ لأنه لم يكن له مبدأ فلسفي خاص به، بل كان مصنفًا يعمم العلم وينشره بشرح أمهات الكتب والتعليق عليها وإدخال مذهب أتباع فيثاغورس وأرسطو في كتبه. فكان إذن عالمًا ذا مواهب جمة لم تبلغ به سمت الذكاء الإنساني، ولم تنزل به إلى مستوى العلماء المتوسطين، وكانت له في الطب والرياضيات عصمة عن الخرافات والتدجيل.

فمن فضائله أنه نهى عن الاشتغال بالكيمياء للحصول على الذهب، وذمَّ ذلك وبيَّن أنه عبث وتضييع للعمر والعقل والمال، وقد سبق ابن سينا في هذا السبيل، وكان أشرف مبدأ وأسمى غرضًا لأن ابن سينا ختم كتبه بالكيمياء فاغتر بها غيره، ومنهم عبد اللطيف البغدادي الذي لم يبق لابن سينا كرامة؛ لأنه غرر به واستهواه بكتبه للاشتغال «بالصنعة». وعبد اللطيف أحد أطباء العرب ومؤرخيهم، ساح في أواخر المائة السادسة للهجرة، وألف رسالة في الرد على الكندي في بعض مسائل التوحيد، مع أن الكندي كان أصدق إيمانًا وأكبر فضلة وأكثر قناعة وتعففًا من ذاك «التيس الملتحي»، الذي وصم الإسلام والمسلمين بإحراق مكتبة الإسكندرية. (راجع كتابه مختصر تاريخ مصر طبع أكسفورد عام ١٨٠٠ صفحة ١١٤). وقد ثبت كذبه ونفى علماء الإفرنج هذه الوصمة عن العرب والإسلام.

ومما يذكر عن الكندي أنه كان بخيلًا إلى درجة الشح، وله في ذلك أقوال مأثورة رواها عنه ابن أبي أصيبعة، وهو مؤرخ مشهور برواية حكم ونبذ مسجوعة عن كل حكيم ترجمه، أما البخل أو التشدد في نفقة المال فسجية معظم الأدباء والعلماء في الشرق والغرب، ولهم في ذلك أخبار ونوادر. وقد ذكر ذلك نزبيت الإنجليزي مؤلف كتاب «العبقرية والجنون»، وقال إن بخل العلماء من الأمراض النفسية اللاصقة بالنبوغ. أما عن انقطاع الكندي عن الناس وانزوائه وزهده فقد تكون من عواقب نكبته التي أصابه بها المتوكل ومما قاساه من الاضطهاد في محنته.

(٢) بيان مؤلفات الكندي الموجودة إلى الآن في عالم الآداب مخطوطة أو مطبوعة

ذكر صاحب الفهرست كتب الكندي فإذا هي كما يأتي:
المجموع ٢٣١ كتابًا
فلسفة ٢٢ كتابًا
حساب ١١ كتابا
نجوم ١٩ كتابًا
هندسة ٢٣ كتابًا
فلك ١٦ كتابًا
طب ٢٢ كتابًا
جدل ١٧ كتابًا
سياسة ١٢ كتابًا
أحداث ١٤ كتابًا
طبيعيات ٣٣ كتابًا
الكريات ٨ كتب
منطق ٩ كتب
موسيقى ٧ كتب
أحكام ١٠ كتب
نفس ٥ كتب
أبعاد ٨ كتب
تقدمة المعرفة ٥ كتب
أما الباقي من كتب الكندي إلى الآن فثمانية وهي:
  • (١)

    كتاب في إلهيات أرسطو أو كلام في الربوبية، مترجم عن فيلسوف اليونان ومنه نسخة خطية ببرلين.

  • (٢)

    رسالة في الموسيقى.

  • (٣)

    رسالة في معرفة قوى الأدوية المركبة بمكتبة منشن، وترجمتها اللاتينية مطبوعة.

  • (٤)

    رسالة في المد والجزر(بمكتبة أكسفورد).

  • (٥)

    علة اللون اللازوردي الذي يرى في الجو(بمكتبة أكسفورد).

  • (٦)

    ذات الشعبتين وهي آلة فلكية في ليدن.

  • (٧)

    اختيارات الأيام.

  • (٨)

    مقالة تحاويل السنين، في الاسكوريال وغيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤