الفصل الحادي عشر

محيي الدين ابن العربي

(١) كلمة عامة في التصوف

نشأ علم التصوف ونضج في العصر العباسي الثالث، وهو من العلوم الشرعية الحادثة، وأصله العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيها من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة.

واختلف علماء الإسلام في أصل كلمة التصوف أو الصوفية فقال جماعة باشتقاقها من الصفاء أو الصفَّة، وقال آخرون غير ذلك، ويرى ابن خلدون أن اشتقاقها من الصوف أقرب إلى الصواب؛ لاختصاص أصحابه بلبس الصوف، ونحن نخطئه في هذا التعليل ونعتقد أنها مشتقة من كلمة ثيوصوفيا اليونانية، ومعناها الحكمة الإلهية. والصوفي هو الحكيم الذي يطلب الحكمة الإلهية ويسعى لها، والوصول إلى الحقيقة الإلهية هو غاية الصوفي أو المتصوف.

وذلك لأن الصوفية كانوا يبحثون فيما يقولونه أو يكتبونه بحثًا فلسفيًّا في سبيل الحقيقة العليا، ومما يؤيد هذا الرأي أن الصوفية لم يظهروا بعلمهم هذا ولا عرفوا بهذه الصفة إلا بعد ترجمة كتب اليونان إلى العربية ودخول لفظ الفلسفة فيها.

(٢) الطريقة الصوفية ومراتبها ودرجاتها

ومدار الطريقة الصوفية أو خطتهم العملية في السعي وراء الحقيقة للوصول إليها محاسبة النفس على الأفعال والتروك وآداب خاصة بهم، واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم يدلون بها على ما يريدونه من أساليب المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم.

وللمتصوفين اصطلاحات خاصة بمراتبهم، بعضها معلوم وذائع على الألسنة وفي مجالسهم، وبعضها يعد من الأسرار المكتومة، وقد أفاض كثيرون من المؤلفين في ذكر تلك المراتب، بحيث يحسب القارئ أن للقوم نظامًا باطنيًّا خفيًّا في الظاهر، قويَّ الأثر في الحقيقة فمنهم الأوتاد، والأبدال، والأقطاب، وأعظمهم القطب الغوث، وهذه المراتب يتولاها البعض طول حياته والبعض مددًا محدودة، وقد يترك صاحب إحدى تلك المراتب ميراثه لواحد أو أكثر من مريديه أو غيرهم، ولذلك أخبار مشهورة عند القوم.

وفي كل زمان ينفرد القطب الغوث بهذا المنصب، ولذا يسمى أيضًا صاحب الوقت، ومن هؤلاء الأقطاب الغوثية كثيرون من الأولياء ذوي المقامات والأضرحة المشهورة، ويقال في أعمال هؤلاء الصالحين إنهم أرباب وظائف أهمها الإشراف على النظم الكونية، والاشتراك في تدبير الأمور العامة والخاصة بطرق معلومة للقوم ولا يعرفها إلا ذووها.

وقد صرح كثيرون من المؤلفين بهذه الأمور، وأشار البعض إليها تلميحًا، فتكلم السهروردي في أنواع الصوفية وفي ذكر (الملامتي) وشرح حاله، وهو الذي يكون في ظاهر حياته ما يدعو إلى الملامة، وتكلم في رتبة المشيخة وأنها أعلا الرتب في طريق الصوفية، بل هي نيابة النبوة في الدعاء إلى الله، والسر في وصول السالك إلى رتبة المشيخة أنه مأمور بسياسة النفس كما يشاء الشيخ، وهذا السر هو في الآية الشريفة: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ.

ويكون في الشيخ حينئذ معنى التخلق بأخلاق الله تعالى، ويصير المريد جزءًا من الشيخ، كما أن الولد جزءٌ من الوالد، بولادة معنوية. وإلى هذا المعني الدقيق العجيب أشار سيدنا يسوع المسيح بقوله «لا يدخل ملكوت السماء من لم يولد مرتين.» ولهذا يقولون كان الشيخ محيي الدين ابن العربي على قدم السيد المسيح، كما كان غيره على قدم سيدنا موسى وبمثل هذه الولادة يستحق السالك ميراث الأنبياء، وهذا تفسير قوله: «إن العلماء ورثة الأنبياء.»

أما السالكون فينقسمون إلى أربعة أقسام وهم:
  • (١)

    السالك المجرد.

  • (٢)

    المجذوب المجرد.

  • (٣)

    السالك المتدارك بالجذبة.

  • (٤)

    المجذوب المتدارك بالسلوك.

أما الأول فلا يؤهل للمشيخة ولا يبلغها، والثاني لا يؤهل للمشيخة، وأما الثالث فيؤهل للمشيخة، ويكون له أتباع تنتقل منه إليهم علوم، والرابع هو صاحب المقام الأكمل في المشيخة.

(٣) تعريف الصوفية وأصل تسميتها

التصوف اسم لثلاث معان:
  • (١)

    الذي لا يطفئ نورُ معرفته نورَ ورعه.

  • (٢)

    ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب أو السنة.

  • (٣)

    ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله.

قال الجنيد: «ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات.» ويقصد بذلك المجاهدة والمكافحة اللتين يعقبهما الوصول إلى الذوق.

قلنا إن العلماء اختلفوا في أصل التصوف ومعناه، وذكر الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد عبد الله السهروردي في كتاب «عوارف المعارف» في نسخة كانت ملكًا للمرحوم الشيخ محمد محمود الشنقيطي بن التلاميد التركزي، وهي مما وقفه سنة ١٢٩٤ﻫ وقفًا مؤبدًا على عصبه بعده بخطه، ووصلت إلينا استعارة، في ذكر منشأ علوم الصوفية:

إن رسول الله قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومًا فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء! فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فأنطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذَّب بما جئت به من الحق.»

ويريد هؤلاء العلماء من هذه الفرقة أن الذين أطاعوا الرسول صفت قلوبهم فصاروا «صوفية» (من الصفاء)، وأنهم بالتقوى زكت نفوسهم، وبالزهد صفت قلوبهم.

ويقول الإمام السهروردي أن الصوفي هو المقرَّب، وإن لم يرد في القرآن، وإن هذا الاسم يطلق على أهل القرب الذين يتزيون بزي الصوفية، ومشايخ الصوفية كلهم كانوا في طريق المقربين، وعلومهم علوم أحوال المقربين، ومن تطلع إلى مقام المقربين من جملة الأبرار فهو متصوف ما لم يتحقق بحالهم، فإذا تحقق بحالهم صار صوفيًّا، ومن عداهما (المتصوف والصوفي) ممن تميز بزي ونسب إليهم، فهو متشبه بهم.

أما الشيخ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، وهو من أئمة هذه الطائفة ومن خير من كتبوا في علومها وآدابها، فقد قال في باب التصوف في صفحة ١٦٤ من كتابه الشهير باسم «الرسالة القشيرية»: «فقد رُدَّ منشأ الصوفية إلى حديث عن أبي حجيفة أنه قال خرج علينا رسول الله متغير اللون فقال: «ذهب صفو الدنيا وبقي الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم».» ويقول الأستاذ القشيري هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة، وليس يشهد لهذا الاسم قياس ولا اشتقاق.

ونفى نسبة هذا الاسم إلى لبس الصوف، لأن القوم لم يختصوا بلبسه، ونفى نسبتهم إلى صُفَّة مسجد رسول الله بالمدينة، ونفى نسبتهم أيضًا إلى الصفاء لأن اشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد، وكذلك نفى نسبتهم إلى الصف الأول، ولم يهتد الشيخ القشيري إلى صحة النسبة، وعندنا ولو كره المكابرون، أنها من كلمة «ثيوصوفيا» اليونانية كما تقدم، ومعناها الحكمة الربانية، فالصوفي هو الحكيم في سبيل الله.

أما تعريف التصوف ومعناه، فقد عبر كل منهم بما وقع له في أثناء سلوكه، وقال رُوَيْم بن أحمد البغدادي إن التصوف مبني على ثلاث خصال:
  • (١)

    التمسك بالفقر والافتقار.

  • (٢)

    التحقق بالبذل والإيثار.

  • (٣)

    ترك التعرض والاختيار.

وقد أجمع العلماءُ الصوفية في تعريف الصوفيِّ على «أنه رجل أحب الله فآثره وكره الدنيا فزهد فيها».

(٤) بعض اصطلاحات الصوفية المتفق عليها

إن للصوفية ألفاظًا يستعملونها، انفردوا بها عمن سواهم، وتواطؤا عليها لأغراض لهم، وهذا من قبيل اللغات الرمزية الشائعة بين الطوائف في الشرق والغرب، وألف فيها علماء أوروبا كتبًا ومعاجم باسم روح «الأرجو» أو الملاحن، وأهمها كتاب العالم الإيطالي (نيتشوفورو) ومن هذه الألفاظ:
  • الوقت: ومعناه وقتك الذي أنت فيه كوقت الدنيا، ووقت السرور، ومن أقوالهم «الاشتغال بفوات وقت ماضٍ تضييع وقت ثان.» وقولهم أيضًا «صاحب الوقت» يقصدون «القطب الغوث» ومن ذلك:
  • المقام: وهو موضع الإقامة بضرب تطلب، ومقاساة تكلف.
  • الحال: معنى يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب.
  • القبض والبسط: وهما حالتان بعد ترقي العبد عن حالتي الخوف والرجاء.
  • الهيبة والأنس: وهما فوق القبض والبسط، كما أن القبض والبسط فوق الخوف والرجاء.
  • التواجد والوجد والوجود: ومعناها في حكاية معروفة بين أبي محمد الجريري والجنيد.
  • الجمع والفرق: قال فيهما أبو علي الدقاق: «الفرق ما نسب إليك والجمع ما سلب عنك.»
  • جمع الجمع: هو الاستهلاك بالكلية وفناء الإحساس وفوقها درجة:
  • الفرق الثاني: وهو أن يُرد صاحب هذه المرتبة إلى الصحو عند أوقات أداء الفرائض.
  • الفناء والبقاء: أولهما سقوط الأوصاف المذمومة، وثانيهما قيام الأوصاف المحمودة، ولهما معان أخرى ليس هذا مقام شرحها.
  • الغيبة والحضور: تكون الغيبة للقلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه، والحضور معناه أن يكون السالك حاضرًا بالحق؛ لأنه إذا غاب عن الخلق حضر بالحق.
  • الصحو والسكر: الصحو رجوع إلى الإحساس بعد الغيبة، والسكر غيبة بِوَارد قوي.
  • الذوق والشرب: وهو ما يجد المتصوف من ثمرات التجلي ونتائج الكشوفات وبواده الواردات، وأعلى منهما درجة:
  • الري: فيقولون صاحب الذوق متساكر، وصاحب الشرب سكران، وصاحب الري صاحٍ، ومن قوي حبه تسرمد شربه.
  • المحق والإثبات: المحق رفع أوصاف العادة، والإثبات إقامة أحكام العبادة.
  • الستر والتجلي: ويقصد بهما أن العوام في غطاء الستر، والخواص في دوام التجلي.
  • المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة: وهي ثلاث درجات:
  • اللوائح والطوالع واللوامع: وهي من صفات أصحاب البدايات الصاعدين في الترقي بالقلب، أضعفها الأولى وأقواها الأخيرة.
  • البواده والهجوم: البواده ما يفجأ قلب السالك من الغيب على سبيل الوهلة، والهجوم ما يرد على القلب بقوة (الوقت) من غير تصنع.
  • القرب والبعد: أول رتبة في القرب الاتصاف بالعبادة، والبعد التدنس بالمخالفة والتجافي عن الطاعة.
  • الشريعة والحقيقة: الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، وكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبولة، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصولة.
  • النَفَس: صاحب الأنفاس أرقى وأصفى من صاحب الأحوال.

    فيقال عند القوم، صاحب (الوقت) مبتدي، وصاحب (الأحوال) في وسط (الطريق) وصاحب (الأنفاس) منتهٍ.

  • الخواطر: خطاب يرد على الضمائر وقد يكون من المَلَك فهو إلهام، وقد يكون من النفس فهو هاجس، ويكون من الشيطان فهو وسواس، ويكون من الله سبحانه وتعالى فيكون خاطر حق.

وهذا ما أردنا إيراده من تلك المصطلحات بإيجاز ليلم بها القارئ ويقف منها على تلك المعاني.

ولهم بعد ذلك آداب، وطرق في الحياة هي أشبه الأشياء بدستور التصوف، استنبطه العلماء من أخلاق المشايخ والواصلين وآدابهم الكاملة.

ومن تلك الآداب والقواعد، التوبة والمجاهدة والخلوة والتقوى والورع والصمت، والخوف والرجاء، والحزن والجوع وترك الشهوة والخشوع والتواضع، وترك الحسد والغيبة، والقناعة والتحلي بالقناعة والشكر، والصبر والرضا، والاستقامة والعبودية، والصدق والحياء، والبقاء بباب المراقبة، والاستسلام للإرادة.

ولهم آداب في العشرة، وأحكام في السفر والصحبة.

(٥) ذكر أشهر مشايخ الطريقة الصوفية الأقدمين

  • (١)
    أبو إسحق إبراهيم بن أدهم بن المنصور: من كورة بلخ، تعلم اسم الله الأعظم من رجل بالبادية ودخل مكة، وكان يعيش من عمل يده بعد أن كان أميرًا من أبناء الملوك وتوفي في عام ١٦١ﻫ.
  • (٢)
    ثوبان بن إبراهيم أبو الفيض ذو النون المصري: توفي سنة ٢٤٥ﻫ، وهو مولد كان أبوه نوبيًّا، وسبب توبته أنه رأى تيسير الرزق لقنبرة عمياء في الصحراء فتاب ولزم الباب.
  • (٣)
    أبو علي الفضيل بن عياض: من ناحية مرو بخراسان توفي سنة ١٨٧ﻫ، وكان أصله من قطاع الطريق وأحب جارية، فارتقى الجدران إليها فسمع تاليًا يتلو أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ فتاب عن جرائمه وتعلق بعشق أعظم من عشق الجارية.
  • (٤)
    أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي: توفي سنة ٢٠٠ﻫ، ولد على غير دين الإسلام ثم أسلم، وكان مبدؤه العمل، وهو في عرفه طاعة الله وخدمة المسلمين والنصيحة لهم.
  • (٥)
    أبو الحسن سري بن المفلس السقطي: كان تلميذ الكرخي وخال الجنيد وأستاذه توفي سنة ٢٥٣ﻫ، وكان يقول بنظرية أستاذه في «الطمأنينة».
  • (٦)
    أبو نصر بشر بن الحرث الحافي: أصله من مرو توفي سنة ٢٢٧ﻫ، قيل إنه بلغ منازل الأبرار باتباعه السنة وخدمة الصالحين ونصيحته لإخوانه ومحبته لأصحابه وأهل بيته.
  • (٧)
    أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي: توفي سنة ٢٦١ﻫ وكان جده مجوسيًّا، وهو من أئمة الصوفية وأعلامهم وله مؤلفات جليلة وأتباع كثيرون.
  • (٨)
    أبو القاسم الجنيد: سيد هذه الطائفة وإمامهم، أصله من نهاوند ومنشؤه ومولده بالعراق، قال: «إن علمنا هذا (التصوف) مقيد بالكتاب والسنة.» وله كلام صريح بأنه تلقى علمه من الله مباشرة، فقد قيل له من أين استفدته فقال: «من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة.» وأومأ إلى درجة في داره.
  • (٩)
    أبو عثمان الحيري: توفي سنة ٢٩٨ﻫ كان من الري وأقام بنيسابور.
  • (١٠)
    أبو عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء: وهبه أبواه لله عز وجل، وكان من أكابر المشايخ، وعاقبه الله بنسيان القرآن لأنه رأى إنسانًا جميلًا فسأل أستاذه إن كان الله يعذبه فقال له أستاذه: أونظرت؟ سترى غِبَّه! أي نتيجة النظرة والاعتراض، فكان ما كان.
  • (١١)
    أبو سعيد حسن ابن أبي حسن يسار الميساني البصري: يرجحون مولده بالمدينة عام ٢١ﻫ. وكان أبوه معتوق زيد بن ثابت وأمه خيرة خادمة أم سلامة. نشأ بالبصرة وعاش بالمدينة وجاهد وعلم وتولى القضاء بالبصرة، وتوفي سنة ١١٠ﻫ في التسعين من عمره.
  • (١٢)
    أبو عبد الله الحسين بن منصور الحلاج المكنى بأبي المغيث: ولد بالطور بالبيضاء سنة ٢٤٤ﻫ، ونشأ وتربى بواسط ورحل إلى مكة والهند وتركستان، وحوكم مرتين وحكم عليه بالسجن ثم بالصلب، فاستشهد في ذي القعدة سنة ٣٠٩ﻫ.

(٦) بعض فطاحل المتصوفين الذين ألفوا كتبًا

  • (١)
    تاج الدين بن عطاء الله الإسكندري الشاذلي: توفي سنة ٧٠٩ﻫ وقبره بالقاهرة بسفح جبل المقطم.

    مؤلفاته:

    • (أ)

      الحكم العطائية، طبع بمصر مع شروح سنة ١٢٨٤ وسنة ١٣٠٦ﻫ.

    • (ب)

      تاج العروس وقمع النفوس في الوصايا، طبع مرارًا.

    • (جـ)

      لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه أبي الحسن الشاذلي، في ٦٠٨ صفحات مطبوع في مصر.

  • (٢)
    جمال الدين عبد الرزاق الكاشائي: توفي سنة ٧٣٠ﻫ.

    مؤلفاته:

    • (أ)

      اصطلاحات الصوفية طبع كلكتا سنة ١٨٤٥م.

    • (ب)

      رسالة في القضاء والقدر طبع سنة ١٨٧٥م.

      وقد ترجمت اصطلاحاته إلى اللغات الأوروبية وطبعت بها، وله بالقاهرة ضريح مشهور بشارع «تحت الربع».

  • (٣)
    عفيف الدين عبد الله بن أسعد: اليافعي توفي سنة ٧٦٨ﻫ.

    مؤلفاته:

    • (أ)

      روض الرياحين، طبع في مصر سنة ١٣٠١ﻫ.

    • (ب)

      أسنى المفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر، (خطية في برلين).

    • (جـ)

      مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقلب أحوال الإنسان، (خطي في مكاتب أوروبا).

  • (٤)
    قطب الدين عبد الكريم بن إبراهيم ابن سبط عبد القادر الجيلي: توفي سنة ٨٢٦ﻫ.

    مؤلفاته:

    • (أ)

      الناموس الأعظم والناموس الأقدم، في أربعين مجلدًا (خطي في أوروبا ومصر).

    • (ب)

      الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر، (طبع مصر).

  • (٥)
    عبد الرحمن البسطامي الحنفي الحروفي: توفي سنة ٨٥٨ﻫ في (بروسه).

    مؤلفاته:

    • (أ)

      الفوائح المسكية في الفواتح المكية.

    • (ب)

      الدرر في الحوادث والسير.

    • (جـ)

      تراجم العلماء.

    • (د)

      مناهج التوسل في مباهج الترسل.

  • (٦)
    ابن أبي بكر الجزولي السملالي: توفي في أواخر القرن التاسع.

    مؤلفاته:

    • (أ)

      دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على المختار، وهو كتاب مشهور يستعمله كثيرون من المسلمين للتعبد بالصلاة على النبي ويستظهره بعضهم.

  • (٧)
    محمد بن سليمان الكفهجي: توفي سنة ٨٧٩ﻫ، وولد ببلاد الروم، وتعلم في تبريز والقاهرة.

    مؤلفاته:

    • (أ)

      التيسير في علم التفسير.

    • (ب)

      تفسير آيات متشابهات.

  • (٨)
    أبو عبد الله محمد بن يوسف الحسني السنوسي الصوفي: توفي سنة ٨٩٢ﻫ.

    مؤلفاته:

    • (أ)

      كتاب عقيدة أهل التوحيد، المخرجة من ظلمات الجهل، وربقة التقليد.

    • (ب)

      عقيدة أهل التوحيد الصغرى وتسمى «أم البراهين»، وقد ترجمت إلى الألمانية والفرنسية، وطبعت في (ليبزج) سنة ١٨٤٨م وفي الجزائر سنة ١٨٩٦م.

  • (٩)
    شهاب الدين أحمد بن زروق البرنوسي البرلسي الفاسي: توفي سنة ٨٩٨ﻫ.

    له كتب عديدة في التصوف.

(٧) منشأ التصوف وتطوره

أما منشأ التصوف الإسلامي ففي قراءة القرآن واستمرار تلاوته بصفة عامة، في مجالس معينة غير مجالس «الذكر برفع الصوت»، وقد تحولت مجالس الذكر إلى «السماع» وذكر أوائل المتصوفين أمثال ذي النون المصري والجنيد والحلاج، إن «السماع» يحدث «الوجد».

ولكن فرقة «الملامتية»، وهم من الصوفية الذين لهم حال خاصة بها، أفاض في وصفها السهروردي في الجزء الثاني من كتاب «عوارف المعارف»، انتقدوا «السماع» وعدوه من الشهوات الروحانية، وانتقده الحلاج، وشبه الذكر بجوهرة ثمينة تحجب المعبود عن العابد، ورد أصحاب «السماع» من صوفية بغداد على منتقديهم من «الملامتية» وغيرهم بأن السماع لا يقصد لذاته، إنما يقصد لإحداث «الوجد» و«فقد الإحساس»، وقد كانت هذه هي الحالة في القرن الرابع الهجري.

وفي القرن السابع الهجري نزل بالعراق والشرق العربي متصوفون من الهنود أقرب إلى المشعوذين من الحكماء الإلهيين، فإنهم أدخلوا على حلقات الصوفية صنوفًا من المخدرات الصناعية، نضرب عن ذكرها صفحًا، وأطلقوا عليها اسم «بنج أسرار».

ثم دخلت على الذكر طرائق غريبة عنه مثل الرقص، الذي علله منتحلوه وبرروه بتمثيل دورة الأفلاك، وهو لا يزال شائعًا إلى يومنا هذا في تكايا الدراويش «المولوية».

ثم أدخلوا عادة «التمزيق» والمقصود بها تمزيق الثياب أثناء الذكر، وهذه العادة أقرب إلى تقليد الأمراء الذين كانوا يسمعون الغناء من القيان فيطربون فيمزقون ملابسهم، ثم انحدر الذكر إلى أعمال تقرب من الشعوذة مثلما يحدث من بعض الفرق من الطرق الصوفية، كالرفاعية بالبصرة، والبيومية بالقاهرة، والعيسوية بمكناس بالمغرب الأقصى، ومن ذلك أكل الحيَّات والأفاعي وشظايا الزجاج واللهب، ووخز البدن بإبر من الحديد المحمي.

وقد استنبط الصوفيون من القرآن جميع الرموز والإشارات التي استعملوها في طرقهم، كالضوء والنور والنار والشجرة والشراب والكأس والسلام ودخول المقربين والهلال والطريق في جبل غربيب والسفر والإسراء وحديث الغبطة ويوم المزيد، الذي وصفه بالإسهاب الشيخ المحاسبي في كتاب «التوهم» والدير والشراب من يد الساقي في ضوء الشمع وتتلوه عبادة الشماس.

ثم إن المسائل التي في الشرع الظاهر هي عين مسائل الصوفية، كالعدل والرضا والتوكل والتفويض والتفعيل وقدم المحدثات وتقدم الشواهد والتخلق بأخلاق الله عز وجل والانتقال من التجريد إلى التوحيد.

ثم انتبه أهل السنة إلى بعض ما ينتقد من أحوال الصوفية، كقولهم: «إن الخلة تمنع الرخص والإباحة بعد موت الشهوات، وتفضيل الغنى على الفقر، ثم الملامسة فالحلول.» فلما ظهر ذو النون المصري وابن أبي الحواري بمبادئهما مثل «المتعة» و«تقديس عين الجمع» و«سبحاني …» لم يتردد أهل السنة في اضطهاد المتصوفين، فحكم على البسطامي والخراز والتستري بالنفي، أما الحلاج وابن عطاء فقد صلبا ومثل بهما.

وفيما يتعلق بالإمام الحلاج فنحيل القارئ المحب للاستيفاء إلى الكتاب العجيب الممتع الذي ألفه باللغة الفرنسية العلامة «لويز ماسنيون» في جزأين كبيرين باسم «تعذيب الحسين بن منصور الحلاج الشهيد الصوفي في الإسلام الذي نفذ فيه القصاص في بغداد في ٢٦ مارس ٩٢٢م» طبع باريس سنة ١٩٢٢م؛ أي بعد استشهاد ذلك الإمام بألف سنة.

فلما حصل التنبيه الأول بتوقيع العقوبات من أهل السنة على بعض أهل التصوف، جاء السراج في كتاب «اللمع» ونبه المريد والسالك إلى ما لا يجوز أن يصرح به، كالفناء عن العبودية والبشرية والحلول بالأنوار والشواهد والمستحسنات، وأيده السُّلمي في كتاب «الغلطات» والغزالي في «الإحياء».

ولا شك في أن أهل السنة ذعروا من انتحال الصوفية بعض الأقوال التي يشكل فهمها على غير خواص القوم، كقول ابن طاهر المقدسي بأن الخدمة أفضل من العبادة، فإن هذا كله أدى إلى نظرية (الشاذ)، وفيها كلام يقوله الصوفيون ويكاد يكون غير مفهوم لسواهم، مثل أقوال الشبلي والحلاج، أما شاذيات الكيلاني والرفاعي وابن العربي فلا يدرك القارئ من معناها شيئًا ما لم يكن أحد رجلين: الأول المفتوح عليه من الله، والثاني المتغلغل في أسرار القوم، وقد وصف بعضها العلامة محمد بن شاكر بن أحمد الكتبي بقوله: «الذي نفهمه من كلامه (يعني كلام الشيخ محيي الدين ابن العربي) حسن، والمشكل علينا نكل أمره إلى الله تعالى، وما كلفنا اتباعه ولا العمل بما قاله.»

ونحن نقسم المبهم من كلامهم إلى قسمين:
  • القسم الأول: عبارة عما أطلقوه من الأسماء للأحوال والمقامات، واستعملوا للدلالة عليه ألفاظًا لها عند غيرهم معان عادية، مثل «الفقه» و«النية» و«النفاق» و«الرضا» و«الفتوة»، واتخذوها للدلالة على درجات في طريق الوصول، وشرحها الهراوي بما فيه الكفاية في كتابه «منازل السائرين».
  • القسم الثاني: ويدخل فيه نظرية «الشاذ» المذكورة آنفًا، وهي ظاهرة نفسانية تجلت بكلام مبهم ينتقده أهل السنة وغير الراسخين، كقول بعضهم: «قدمي على رقاب الأولياء.»

الأحاديث القدسية

ولما كان المتصوفون يذكرون أقوالًا شتى ذات معان مختلفة يطلعون عليها في حالاتهم بالإلهام أو الوحي أو التجلي أو الفتوح الرباني، فقد ظهرت نظرية «الأحاديث المرسلة» و«الأحاديث القدسية»، وضرب الصوفيون صفحًا عن الاصطلاحات المعتبرة والمتفق عليها في علوم رواية الحديث وإسناده.

وممن اشتهروا براوية بعض الأحاديث القدسية السادة:

أبو ذر الغفاري، وله حديث «من تقرب إليَّ شبرًا …»

وكعب، وله حديث «يد الله مع الجماعة».

ابن مسعود، وله حديث «طوبى لمن لم يشغل قلبه بما ترى عيناه».

وحسن البصري، وله حديث «من عشقني عشقته».

ويزيد الرقاشي، وله حديث «غبطة المتحابين».

وابن أدهم، وله حديث «كنت سمعه وبصره … الخ».

ويحيى بن معاذ الرازي، وله حديث «من عرف نفسه فقد عرف ربه».

وقد اختلف هؤلاء المشايخ إقدامًا وترددًا في نسبة هذه الأحاديث إلى مصدرها الأصلي، فنسبها بعضهم إلى أنبياء سابقين، كما فعل ابن أدهم بنسبته الحديث إلى سيدنا يحيى بن زكريا، وبعضهم مثل الحلاج قال إنها ثمرة الفكر والإلهام ولم يخف من أمرها شيئًا.

وفي كتاب الإحياء أحاديث كثيرة بغير إسناد، ولا اعتراض لنا على الغزالي في ذلك؛ لأن كتابه كتاب أخلاق وآداب دينية، وليس متنًا من متون الحديث.

سلسلة الطريق

منذ القرن الخامس الهجري بدأ أرباب الطرق الصوفية يبحثون عن أسانيد سلسلتهم في أخذ الطريق، فردهم العلماء إلى التابعين فالصحابة فالرسول ، وكانوا قبل ذلك بمائتي عام يكتفون بالخرقة أو «بالشهرة بلباس».

وفي القرن الرابع روى جعفر الخُلدي أول إسناد لسلسلة الطريق، فوضعها مبتدئًا بأستاذه وشيخه:

(٦) الجنيد المتوفى عام ٢٩٨ﻫ أخذ الطريق عن:

(٥) سري المتوفى عام ٢٥٣ﻫ، وقد أخذ الطريق عن:

(٤) معروف المتوفى عام ٢٠٠ﻫ، وقد أخذ الطريق عن:

(٣) فرقد سنجي المتوفى عام ١٣١ﻫ، وقد أخذ الطريق عن:

(٢) حسن البصري المتوفى عام ١١٠ﻫ، وقد أخذ الطريق عن:

(١) أنس بن مالك المتوفى عام ٩١ﻫ.

وقد تعدلت هذه السلسلة ولم تثبت على حال، فأضيف إليها رجال أمثال الإمام علي وداود الطائي وغيرهما.

والعلم الصحيح لا يجعل لهذه السلسلة شأنًا عظيمًا من حيث الشكل؛ لأن الصوفية إنما اضطروا لذكرها اضطرارًا مجاراة لعلماء الحديث، أما التلقي فغير مشكوك فيه.

وقد يلجأ الصوفيون في إسناد أخذ الطريق إلى الخضر عليه السلام، الذي هو وليُّ خالد يجدد شبابه كل عشرين ومائة عام مرة ويجوب أقطار الأرض باستمرار، ويذهب حيث يأمره الله بحسب حاجة خلقه إليه. وذكر السمناني اسمه كاملًا وهو أبو العباس بليان بن قليان بن فالج الخضر، ويعتقد الصوفية أن في الأرض أبدالًا هم دعائمها الباطنيون أو الروحانيون، ولولاهم لمادت الأرض وخربت، وعددهم أربعون بدلًا، ومعهم ثلاثمائة نقيب وسبعون نجيبًا وسبعة أمناء، منهم الأبرار والأوتاد والأخيار، وأربعة أعمدة ومنهم الأثافي وفوق الجميع قطب الغوث وعن يمينه وشماله الإمامان.

وروى المغربي أن الرئيس يعرف مرءوسيه والعكس ممنوع.

ومما تجب ملاحظته أن التصوف الإسلامي لم يكن نظامًا أجنبيًّا عن الإسلام ولا دخيلًا من النصرانية أو البوذية، وأن أصول التصوف موجودة في القرآن وفي الحديث وفي العقيدة الإسلامية وشعائر الدين نفسه. وهذا لا يمنع من الاعتراف بأن أنظمة كالتصوف أساسها الزهد والتقشف كانت موجودة في الأديان الأخرى، ولكن التصوف الإسلامي كان نظامًا إسلاميًّا محضًا كما بيَّنَّا، وأن حديث «لا رهبانية في الإسلام» ليس حديث صحيحًا ولم يجزم أحد من علماء الحديث بصدق إسناده.

كذلك لم تكن حياة النبي والصحابة قبل المبعث وبعده حياة نعومة ولين وطراوة، بل كانت على العكس من ذلك حياة خشونة وتقشف وتحمل، وهذه هي الحقيقة على الرغم مما جاء في طبقات ابن سعد صاحب الواقدي مما يخالف ذلك، فإن الواقدي وابن سعد وأشباههما من علماء أخريات القرن الثاني للهجرة كانوا يلتمسون في الأحاديث الضعيفة والركيكة ما يبرر حياة الخنوثة والنعومة التي كان يعيشها ملوك ذاك الزمان وأمراؤُه.

ولما كان التصوف أساسه الزهد والخشونة، فقد بالغ بعض المتصوفين في ذلك من حيث التعفف عن سائر الشهوات، فلا يبعد والحال هذه أن تكون جذور التصوف في حياة النبي وأصحابه.

ومما تحسن الإشارة إليه أن كلمة الصوفي — نسبة إلى الصوف — وهي النظرية التي قال بها ابن خلدون، كان لها نصيب من الصحة؛ فقد تعود بعض المتصوفين لبس الصوف، وقد جاء حين من الدهر عليهم اتخذوا فيه الصوف علامة مميزة لهم، حتى كان «الثوري» أحد أئمتهم يلبس الصوف فوق الحرير وقد انتقدوا عليه ذلك، وكان الصوف الأبيض هو المقصود ثم عدل الصوفيون عن هذه الثياب خشية القول فيهم بتقليد السيد المسيح أو حوارييه أو رهبان النصارى.

وقد أجمع العلماء على أن أكابر الأولياء من الصوفيين غير من ذكرناهم: مالك بن دينار، البوناني، السختياني، وهيب بن الورد بن أسباط، مسلم الخواص، البسطامي، التستري.

(٨) ترجمة الحكيم الإلهي محيي الدين ابن العربي

ولد محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الشيخ محيي الدين أبو بكر الطائي الحاتمي الأندلسي المعروف بابن عربي في شهر رمضان سنة ستين وخمسمائة هجريًّا بمرسية بالأندلس، ولا نعرف عن طفولته شيئًا غير أنه لما نما وترعرع طلب العلم في وطنه، فتلقى مبادئه على ابن بشكوال، ثم سافر إلى مصر ودمشق ومكة وبغداد، وأقام في بلاد الروم في طلب العلم والرجال والسياحة.

ولما كان في بلاد الروم سمع حاكمُها بصيته فانتقل إليه، فلما وقع بصر الحاكم على محيي الدين قال لمن معه: «هذا رجل تذعر لرؤيته الأسود!»

فسئل محيي الدين في معنى قول الحاكم عنه فقال: «إنه لما كان بمكة خدم شيخًا صالحًا بإخلاص، فدعا له بقوله «الله يذل لك أعز خلقه.» فكان من آثار هذه الدعوى ما شاهده ملك الروم.»

ولما وقعت محبته في قلب الملك المذكور أمر له بدار تساوي قيمتها مائة ألف درهم، ويروى أن سائلًا لقيه يومًا فطلب منه إحسانًا فقال له محيي الدين: «ما لي غير هذه الدار فخذها لك!» وخرج عنها.

قال ابن مسدي في ترجمته: «إن محيي الدين كان ظاهريَّ المذهب في العبادات، باطني النظر في الاعتقادات، وإنه حج ولم يرجع إلى بلده، وإنه تلقى العلم على ابن بشكوال وعن علماء عديدين في العواصم التي زارها في رحلته، ومن بينهم السلفي الذي أجازه فروى محيي الدين عنه.»

ولا ريب في أنه برع في علم التصوف، والدليل على ذلك شهرته العظيمة في العالم، وكثرة مصنفاته، وكان ينتقل من مكان إلى مكان للقاء علماء الحقيقة والمتعبدين.

روى الشيخ شمس الدين في وصف مؤلفات محي الدين «أنه كان ذا توسيع في الكلام وذكاء وقوة خاطر وحافظة وتدقيق في التصوف وتآليف جمة في العرفان. قال شمس الدين: «ولولا شطحه في الكلام لم يكن به بأس، ولعل ذلك الشطح وقع منه حال سكره وغيبته».»

وقال الشيخ قطب الدين اليونيني في تعقيبه على (المرآة): «وكان محيي الدين يقول أنا أعرف اسم الله الأعظم، وأعرف الكيميا.»

قال العلامة محمد بن شاكر بن أحمد الكتبي عن محيي الدين: «الذي نفهمه من كلامه حسن، والمشكل علينا نكل أمره إلى الله تعالى، وما كلفنا اتباعه ولا العمل بما قاله.»

وتوفي محيي الدين في الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة؛ أي في الثامنة بعد السبعين من عمره.

وكانت وفاته في دار القاضي محيي الدين بن الزكي، وقام بغسله الجمال بن عبد الخالق والقاضي الذي حصلت في بيته الوفاة، وكان عماد الدين بن النحاس يصب عليه الماء، ثم حملوه إلى (قاسيون) حيث دفن بمدفن بني الزكي.

وقبره الآن بالشام بالصالحية في مسجد يعرف باسمه وبجواره قبر الأمير عبد القادر الجزائري.

وقال الشيخ جمال الدين بن الزملكاني: «الشيخ محيي الدين ابن العربي البحر الزاخر في المعارف الإلهية.» ونقل بعض كلامه في فصل عقده في بعض مؤلفاته على فضل مقام الصديقية، وقال: «إنما نقلت كلامه — يعني محيي الدين — وكلام من يجري مجراه من أهل الطريق؛ لأنهم أعرف بحقائق هذه المقامات وأبصر بها لدخولهم فيها وتحققهم بها ذوقًا، والمخبر عن الشيء ذوقًا مخبر عن اليقين فاسأل به خبيرًا.»

ومن شعره الذي يستدل به على أسلوبه في النظم الصوفي قوله:

نفسي الفداء لبيض خرد عرب
لعبن بي عند لثم الركن والحجر
ما أستدل إذا ما تهت خلفهمُ
إلا بريحِهِمُ من طيب الأثر
غازلت من غزلي فيهن واحدة
حسناءَ ليس لها أخت من البشر
إن أسفرت عن محياها أرتك سنى
مثل الغزالة إشراقًا بلا غِيَر
للشمس غرتها، لليل طرتها
شمس وليل معًا من أحسن الصور

وفي شهر ربيع الأول سنة ٦٠٠ﻫ لما كان الإمام أبو عبد الله محمد ابن العربي في تمام الأربعين من عمره يؤدي فريضة الحج، كتب إلى صديقه وأخيه محمد بن عبد العزيز أبي بكر القرشي المهدوي نزيل تونس في تلك السنة رسالة، أرسل فيها إليه تحية رفيقة عبد الله بدر الحبشي الذي كان معه في الحج، كما أرسل سلامه إلى أبي عبد الله ابن المرابط وأبي عتيق والحاج معافى وأبي محمد الحافظ وعبد الجبار وعبد العزيز البابلي وعبد الله القطان، ونعى إليهم محمد التائب الذي توفي بين مكة والمدينة على مرحلة من الأولى بين مرو وعسفان، وقال الشيخ إنه بعد أن كتب تلك الرسالة طاف بها أسبوعًا وألمسها الحجر الأسود والملتزم والمستجار، وأدخلها البيت العتيق والمواضع الفاضلة تيمنًا وتبركًا.

ولم تكن تلك الرسالة قاصرة على تبليغ الأشواق ونعي صديق الجماعة، بل كانت تنطوي أيضًا على مسألتين من أهم المسائل التي تلقي نورًا جديدًا على حياة هذا العالم الصوفي، وقد أطلق عليها اسم «رسالة الروح القدس» وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: مناجاة بين محيي الدين ونفسه، وهي شبه اعتراف وتعنيف وتهذيب والقسم الثاني: يشتمل على أسماء معظم الرجال والمشايخ الذين لقيهم وتلقى عنهم وصحبهم في حياته. قال: «ولقد لقينا من المشايخ والإخوان والنساء ما لو دونت أحوالهم وسطرت كما سطرت أحوال من تقدم، لرأيت الحال الحال والعين العين في الأعمال والجد والإشارات وصحة القصد، فيا وليَّ تعالَ نُقِمْ مأتما للفراق، ونندب إخواننا الظاعنين!»

(٩) مشايخ محيي الدين في الطريق

وأولهم: أبو جعفر العريني، وصل إلى أشبيلية في أول دخول محيي الدين إلى الطريق. والثاني: أبو يعقوب يوسف بن يخلف الكومي العبسي وهو من أصحاب أبي مدين، وكان يقول: «إذا شاء الشيخ أخذ بيد المريد من أسفل سافلين وألقاه في عليين في لحظة واحدة.» والثالث: صالح العدوي. والرابع: أبو عبد الله محمد السرقي. والخامس: أبو يحيى الصنهاجي.

السادس: أبو الحجاج يوسف السبريلي (نسبة إلى قرية بالشرق على فرسخين من أشبيلية) ويروي لنا محيي الدين أن الشيخ يوسف هذا كان يمارس الطب الروحاني، فقد رأى محيي الدين عنده رجلًا في عينيه وجع شديد، يصيح منه مثل المرأة النفساء (كذا)، فاصفرَّ وجه الشيخ وقلع يده المباركة ووضعها على عينيه فسكن الوجع من جبينه، واضطجع الشخص كأنه الميت، ثم قام وخرج مع الجماعة وما به من بأس. وروى الشيخ ابن العربي رواية من قبيل القصص العجيبة، وهي أنه كانت لشيخه يوسف السبريلي هرة سوداء شديدة النفور من عامة الناس، ولكنها تأنس للأولياء وتميزهم.

السابع: أبو عبد الله محمد بن قسوم وكان يعيش من صناعة القلنسوات، ويرزقه الله حينًا من غير تعب ولا سعي.

الثامن: أبو عمران موسى بن عمران المارتلي، حبس نفسه في بيته ستين عامًا، وكان على طريق المحاسبي، لا يقبل من أحد شيئًا ولا يطلب حاجة لنفسه، ولا لغيره.

التاسع والعاشر: الشقيقان أبو عبد الله محمد الخياط وأبو العباس أحمد الأشبيليني، وكان الأول شديد البر بوالدته حتى ماتت، وكان الثاني يُنادي من وراء حجاب.

الحادي عشر: أبو عبد الله محمد بن جمهور، كان يكره الشعر ولم ينشده في حياته، وإذا سمع دفًّا وضع أصابعه في أذنبه.

الثاني عشر: أبو علي الشكَّاز وكانت صناعته نوعًا من الدباغة.

الثالث عشر: أبو محمد عبد الله بن محمد بن العربي الطائي عم محيي الدين نفسه.

الرابع عشر: أبو محمد بن عبد الله بن الأستاذ المروزي، وكان من خدام أبي مدين.

الخامس عشر: أبو محمد عبد الله القطان، كان لا تأخذه في الله لومة لائم، عرض بنفسه للقتل مرارًا من كثرة سبِّه لأفعال السلاطين وما هم عليه من مخالفة الشريعة، عرض عليه السلطان أن يجلس مجلسه فقال: «لا، فإن مجلسك مغصوب، ودارك التي تسكنها أخذتموها بغير حق، ولولا أني مجبور ما دخلت هنا، حال الله بيني وبينك!» وبالجملة كان هذا الشيخ على نوع من المبالغة في قول الحق بغير مبالاة.

السادس عشر: أبو عبد الله محمد بن أشرف الرندي، وهو من «الأبدال»، لم يأو إلى معمور قريبًا من ثلاثين سنة.

السابع عشر: موسى أبو عمران السيد راني، كان من «الأبدال»، وكانت له عجائب وغرائب.

(١٠) أشهر مؤلفاته

بلغت مؤلفاته ٢٠٠ كتاب، ذكر منها بركلمن الألماني في فهرست الكتب العربية ١٥٦ كتابًا، وذكر أماكن وجودها، وأكثرها في التصوف، وبعضها في الجفر وأسرار الحروف:
  • (١)

    الفتوحات المكية، في معرفة الأسرار الملكية.

  • (٢)

    التدبيرات الإلهية.

  • (٣)

    التنزلات الموصلية.

  • (٤)

    فصوص الحكم في خصوص الكلم. وله شرح بقلم ابن سويدكين سماه «نقش الفصوص».

  • (٥)

    الأسرا إلى المقام الأسرى (نثرًا وشعرًا).

  • (٦)

    شرح خلع النعلين.

  • (٧)

    الأجوبة المسكتة، عن سؤالات الحكيم الترمذي.

  • (٨)

    تاج الرسائل ومنهاج الوسائل، وهو غير تاج التراجم.

  • (٩)

    كتاب العظمة.

  • (١٠)

    كتاب السبعة، وهو كتاب البيان، والحروف الثلاثة، التي انعطفت أواخرها على أوائلها.

  • (١١)

    التجليات.

  • (١٢)

    مفاتيح الغيب.

  • (١٣)

    كتاب الحق.

  • (١٤)

    مراتب علوم الوهب.

  • (١٥)

    الإعلام، بإشارات أهل الإلهام.

  • (١٦)

    العبادة والخلوة.

  • (١٧)

    المدخل إلى معرفة الأسماء، وكنه ما لا بد منه، والنقباء.

  • (١٨)

    حلية الأبدال.

  • (١٩)

    الشروط، فيما يلزم أهل طريق الله تعالى من الشروط.

  • (٢٠)

    المقنع في إيضاح السهل الممتنع.

  • (٢١)

    عنقاء مغرب، وختم الأولياء، وشمس المغرب.

  • (٢٢)

    مشكاة الأنوار فيما روي عن الله عز وجل من الأخبار.

  • (٢٣)

    شرح الألفاظ التي اصطلحت عليها الصوفية.

  • (٢٤)

    محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار، في خمسة مجلدات.

  • (٢٥)

    ديوان محيي الدين، وهو مجموع القصائد التي قالها، غير الشعر الذي حلى به كتبه.

(١١) ملخص كتاب الفتوحات المكية في معرفة الأسرار الملكية

كتاب «الفتوحات المكية التي فتح الله بها على الشيخ الإمام العامل الراسخ الكامل خاتم الأولياء الوارثين برزخ البرازخ محيي الحق والدين» مؤلَّف من أربعة أجزاء كبار تقع في أكثر من ثلاثة آلاف صفحة، ويندر من يمكنه أن يلم بهذا الكتاب في فصل أو في جملة فصول؛ لأنه والحق يقال كالبحر الزاخر في علوم الحقائق والتصوف وأحكام الشرائع، ممتزج بعضها ببعض، ولا ريب في أن هذا الكتاب قد ألف بإلهام، ولا يمكننا أن نتعرض لتفسير بعض ما جاء فيه من الآراء نثرًا وشعرًا مما انقسم جمهور المسلمين بسببه فرقًا، فمن قائل إن المؤلف له شطحات، ومن قائل إنه كتب ما أراد برموز وألغاز، يدركها أربابها للوهلة الأولى.

ومن قوله شعرًا في مفتتح الكتاب البيتان المشهوران اللذان يحتج بهما قوم من الفريق الأول وهو قوله:

الرب حق والعبد حق
يا ليت شعري من المكلَّف؟
إن قلت عبد، فذاك ميت
أو قلت رب أنَّى يكلف!

ومن الفصول المهمة في هذا الكتاب الفصل «في علم الحق وعلم الأحوال وعلم الأسرار»، وفصل في «اعتقاد أهل الاختصاص» وفصل في «معرفة الروح».

ويقرر محيي الدين في فاتحة كتابه أنه قبل بدايته في تأليف هذا الكتاب قد كُلِّف بوضعه من ذي مقام عظيم، ثم قال: «ثم أظهرت أسرارًا وقصصت أخبارًا لا يسع الوقت إيرادها، ولا يعرف أكثر الخلق إيجادها، فتركتها موقوفة على رأس منبعها، خوفًا من وضع الحكمة في غير موضعها.»

ولم نجد لصوفي نفسًا طويلًا في الشعر والنثر كنفس هذا الإمام، ونضرب لذلك مثلًا قصيدته الهمزية التي مطلعها:

لما انتهى للكعبة الحسناء
جسمي وحصل رتبة الأمناء

وختامها:

فاشكر معي «عبد العزيز» إلهنا
ولتشكرنْ أيضًا أبا العذراء
شرعًا فإن الله قال اشكر لنا
ولوالديك وأنت عين قضاء

وبجانب الفصول التي ضمنها الأسرار والرموز، فصول جلية ظاهرة في أحكام الشرع مثل: فصل الوضوء وأحكامه، وأسرار الطهارة، وأفعال الصلاة، بتوسع وإسهاب لا مثيل لهما في أي كتاب آخر من كتب هذا العلم.

وتكلم في الجزء الثاني في منازل الأولياء، ومقام أهل المجالس وحديثهم ونجواهم، وفي حظ الرسل من ربهم ومقامهم من مقام الأنبياء، ومقام الأنبياء من الأولياء، وفي هذا الفصل تفصيل بين نبوة الشرائع والنبوة المطلقة، فهم من الأولياء إذا كانوا أنبياء شريعة من الدرجة الثالثة، وإن كانوا في النبوة اللغوية فهم في الدرجة الثانية، وإن الأولياء هم الذين تولاهم الله بنصرته في مقام مجاهدتهم الأعداء الأربعة، الهوى، والنفس، والدنيا، والشيطان، والمعرفة بهؤلاء أركان المعرفة عند المحاسبي.

ومن الرسل من لهم خصائص على أمتهم، ومنهم من لا يختصهم الله بشيء دون أمته، وكذلك الأولياء فيهم أنبياء؛ أي خصوا بعلم لا يحصل إلا لنبي من العلم الإلهي، ويكون حكمهم من الله فيما أخبرهم به حكم الملائكة، ولهذا قال في نبي الشرائع مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا أي ما هو ذوقك يا موسى مع كونه كليم الله، فخرق السفينة وقتل الغلام حكمًا، وأقام الجدار مكارم خلق عن حكم أمر إلهي، كخسف البلاد على يدي جبريل ومن كان من الملائكة، ولهذا كان الأفراد من البشر بمنزلة المهيمنين من الملائكة، وأنبياؤهم منهم بمنزلة الرسل من الأنبياء.

وبعد أن أفاض المؤلف في تفصيل النبوة وأسرارها وأحكامها، تكلم في الحب والسكر، والتوبة، والمجاهدة، والخلوة، والتقوى، ومقامي الخوف والرجاء، والفرق بين الشهوة والإرادة، وشهوة الدنيا وشهوة الجنة، والفرق بين اللذة والشهوة، ومقام الخشوع، والقناعة، والتوكل واليقين، ومقام الذكر وأسراره، والفكر وأسراره.

ثم تكلم في أسماء الله الباطن منها والظاهر، وفي الأسماء على العموم، وانتقل إلى الكلام في حضور القلب بتواتر البرهان ومنزل الحوض وأسراره من المقام المحمدي، ومنزل تزاور الموتى وأسراره من الحضرة الموسوية.

وفي الجزء الثالث من الكتاب أفاض المؤلف في الكلام على الحضرة الموسوية والحضرة المحمدية، وتكلم على منزل الإمام الذي على يسار القطب، وهو منزل أبي مدين أحد أئمة الصوفية ببنجانة بالأندلس وهو ممن لم يلقهم محيي الدين.

كلام محيي الدين في المهدي المنتظر

ثم تكلم على المهدي المنتظر وفي معرفة نزول وزرائه، فقال في ج٣ ص٣٦٤: «اعلم أن لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جورًا وظلمًا، فيملؤها قسطًا وعدلًا، لو لم يبق من الدنيا يوم واحد، طوَّل الله ذلك اليوم حتى يلي هذا الخليفة من عترة الرسول يواطئ اسمه اسم رسول الله، يبايع الناس بين الركن والمقام، وهو أجلى الجبهة أقنى الأنف، أسعد الناس به أهل الكوفة يقسم المال بالسوية، ويعدل في الرعية، ويفصل في القضية، يمسي جاهلًا بخيلًا جبانًا، فيصبح أعلم الناس وأكرمهم وأشجعهم، يمشي النصر بين يديه، يعيش خمسًا أو سبعًا أو تسعًا، يصلحه الله في ليلة بفتح المدينة الرومية بالتكبير في سبعين ألفًا من ولد إسحاق، يشهد الملحمة العظمى، مأدبة الله بمرج عكا، يبيد الظلم وأهله، يرفع المذاهب من الأرض، يفرح به العامة أكثر من الخاصة، ويبايعه العارفون بالله من أهل الحقائق عن شهود وكشف، له رجال إلهيون يقيمون دعوته وينصرونه هم الوزراء، ينزل عليه عيسى ابن مريم بالمنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، متكئًا على ملكين، يقطر رأسه ماء مثل الجمان، يتحدر كأنما خرج من دماس، ويقبض الله المهدي إليه طاهرًا مطهرًا، وفي زمانه يقتل «السُفياتي» عند شجرة بغوطة دمشق، ويخسف بجيشه في البيداء بين المدينة ومكة.»

ثم تكلم المؤلف في العرش والهواء والفلك والبرزخ، وفي معرفة الأمة البهيمية.

أما الجزء الرابع والأخير من هذا الكتاب النفيس، فبدأه بمعرفة منازلة الميت، والحي ليس له إلى رؤيته سبيل، ومعظم هذا الجزء في تفاسير أحاديث قدسية أو إلهامية منسوبة إلى الله عز وجل مثل:
  • (١)

    «من دعاني فقد أدى حق عبوديته، ومن أنصف نفسه فقد أنصفني.»

  • (٢)

    «من سألني فما خرج من قضائي، ومن لم يسألني فما خرج من قضائي.»

  • (٣)

    «أسمائي حجاب عليك فإن رفعتها وصلت إليَّ.»

  • (٤)

    «أحبك للبقاء معي، وتحب الرجوع إلى أهلك.»

ولولي الله السيد محمد عبد السلام — رضي الله عنه — الذي انتقل إلى البرزخ في هذا الوقت تفسير بليغ عجيب لهذا الحديث.

وهذا الجزء الرابع كالأجزاء الثلاثة السابقة، بحر زاخر في الحكمة الإلهية والفلسفة الشرعية، وذكر الأسباب والنتائج والأسرار الباطنية والألغاز العليا في الكون والخليقة والشريعة والوحي والإلهام والولاية والقطبانية.

ولا يليق بعالم أو متصوف أو أديب أن يبقى بدون إلمام بهذا الكتاب الذي يعد فريدًا في بابه في سائر اللغات.

أما قبر الشيخ العظيم فقد اكتشفه في الشام السلطان سليم الأول العثماني، ويذكرون أن الشيخ كان ذكر عبارة رمزية للدلالة على قبره وتاريخ اكتشافه، ونصها: «عندما يدخل السين في الشين يكشف عن قبر محي الدين.» والمقصود بذلك عند دخول السلطان سليم بلاد الشام يكشف قبر هذا الحكيم.

(١٢) اعتراف محيي الدين ومناجاته بينه وبين نفسه

قال محيي الدين: «رأيت في منامي كأني أُدخلت الجنة، ولم أكن رأيت نارًا ولا حشرًا ولا حسابًا ولا شيئًا من أهوال القيامة، ووجدت في نفسي راحة عظيمة، فلما استيقظت علمت أن في حالي بعض اختلال، وأن نفسي ادعت فوق حالها من جهة ما أعطاها الله من العلم، ولو كانت متحققة بالحق تحققًا عقليًّا مقدسًا إلهيًّا يغنيها عنها، لم تلتذ بدخول الجنة، فأرادت أن تقيم عليَّ الحجة القاطعة من جهة تقسيم الحقائق الإنسانية ومراتبها، فلم أسمع لها، ودارت بيني وبينها المحاسبة الآتية:

ابن العربي : يا نفس لا أتركنك على دعواك حتى أعرض أحوالك على كتاب الله وسنة رسوله ، فإن وافقت ذلك سلمت لك، وإن وجدتك دون ذلك فأنا ألطف بك وأرحمك بأن أمشي بك على أحوال أهل الصفَّة وعلى أحوال الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فإن قصرت عن شأوهم فالنار أولى بك.
نفسه : أما النبي فلا أعرض حالي مع حاله أدبًا معه، وكذلك القرآن فإنه البحر الأعظم، ولكن حسبك من دون القرآن والنبوة، فخذ معي في مراتب الولاية وأنا المنقادة السميعة السهلة المطيعة.
ابن العربي : أخرجي أسنى ما تدعين وأعلا ما تحفظين، وأنا أعرض أولًا حال أهل الصفَّة.
نفسه : قل!
ابن العربي : كان سبعون من أهل الصفة يصلون في ثوب، فمنهم من يبلغ ركبتيه ومنهم أسفل من ذلك، والله ما اجتمع لهم ثوبان، ولا حضر لهم من الأطعمة لونان، ناشدتك الله يا نفس، فهل أنت أفقر منهم؟
نفسه : لا.
ابن العربي : فلست إذن منهم، استحي من الله وارجعي على عقبك ولا تطاولي لقوم لست منهم في شيء!
نفسه : على بعيرهم فليس لي هنا قدم.
ابن العربي : قال عمار بن ياسر وهو يسير على شط الفرات: «اللهم لو أعلم أن أرضى لك عنى أن أتردى فأسقط فعلت، ولو علمت أن أرضى لك عني أن ألقى في هذا فأغرق فيه فعلت.» ناشدتك الله يا نفس، هل خطر لك هذا قط في رضى الله لا تبغين به بدلًا؟
نفسه : لا والله فانتقل بي عن هذا!
ابن العربي : هذا عمر بن الخطاب لما أسلم قال له النبي : «يا عمر استره.» قال رضي الله عنه: «والذي بعثك بالحق لأعلننه كما أعلنت الشرك!» ناشدتك الله يا نفس هل قمت لي قط في دين الله تعالى حامية عنه في موطن دونه النفوس الحداد، وعدم الناصر يغلب فيه على ظنك أنك تقتلين فيه؟
نفسه : لا والله، وإنما قاربت هذا المقام، ولكن بسياسة وطنت بها نفوس الأعداء بحيث إن غلب على ظني الأمن والعافية في دمي.
ابن العربي : فارجعي!
نفسه : نعم، هات غيره.
ابن العربي : كان عثمان بن عفان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخبز والزيت، هل فعلت هذا مع أصحابك قط؟ آثرتهم باللطيف وقنعت بالخشن.
نفسه : لا والله، بل كنت على أحد وجهين معهم، إن لم يكن عندي طعام غير ما جعلت بين أيديهم شاركتهم فيه، وإن كان عندي أرق منه أكلت وحدي ذلك، مثل الحلو أو الخوشكنان، وأقول هذا غذاء لين، وألبس على نفسي بهذه الترهات حتى أتنغص به عند أكله، وأقول هؤلاء الإخوان في مقام التربية، فينبغي أن لا أزرع حب الشهوات في قلوبهم بإطعامهم مثل هذا، ومقامي لا يؤثر فيه هذا الطعام، فلا بأس بتناولي إياه، فآكله على هذه الحال وقد عميت عن مطالبة الحق، في موازنة المعاشرة وأدناها أن أشاركهم في خشونتهم لما أعرفه من تأثير الحقائق، ولا شك أن عثمان ما فعل هذا في بدايته وإنما فعله بعد التمليك.
ابن العربي : بارك الله فيك يا نفس إذ أنصفتني.
نفسه : الحق أحق أن يتبع هات غيره.
ابن العربي : هذا الإمام علي كان إذا أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يتمثل في محرابه قابضًا على لحيته ويبكي بكاء الحزين وهو يتضرع بقوله «يا ربنا!» ثم يخاطب الدنيا بقوله «غري غيري، واخدعي سواي، فقد تبت عنك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك كثير، أواه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق!» فهل صاحبت هذه الحال استصحاب هذا الإمام؟
نفسه : لا والله، إنما هي بوارق تلمع، وأهلة تطلع، في أوقات دون أوقات، والغالب الشتات، لولا أني أريد أن أقف منك على أحوال هذه السادة لطويت معك بساط المناظرة وعدلنا عن هذه المحاضرة.
ابن العربي : هذا الذي بشرت غيرما مرة أنك في مقامه: أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — (وهذه إشارة إلى أن محيي الدين ابن العربي كان في مقام الصديقية) خرج حين توفي رسول الله وعمر يكلم الناس، ثم قال بعد أن تشهد: «أما بعد فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله عز وجل فإن الله حي لا يموت!» ثم تلا قوله تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ الآية، فسكن جأشهم بالقرآن وهو لم يزل ساكن القلب مع الرحمن، ناشدتك الله يا نفس هل حصلت بالسر الذي تدعينه أنه قد حصل لك من الحق حالًا ومقامًا من تعظيم الله ما علمت به تعظيم من عظمة الله من جهة تعظيم الله إياه؟
نفسه : لا والله يا ولي، إنما أنا بين فناء وبقاء، وتلاش وانتعاش، وإقبال وإدبار ووصول ورجوع، وما كنت فهمت هذا من هذا الكلام الذي خرج من فم الصديق حتى نبهتني عليه، فانتقل بي عن هذا المقام فقد قصم ظهري.
ابن العربي : إن النبي عاش في البؤس وضنك العيش حتى رق له عمر لمَّا أثَّر شريط السرير في جنبه، فقال عمر: «تذكرت كسرى وقيصر.» فقال النبي : «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» أين أنت يا نفس من قول سلمان الفارسي حيث ذكر ما فتح الله على المسلمين من كنوز كسرى فقال: «إن الذي أعطاكموه وفتحه عليكم وخولكم لممسك خزائنه ومحمد حي، ولقد كان يصبح وما عنده دينار ولا مد من الطعام، بم ذاك يا أخا بني عبس؟» فانظري يا نفس كلام هذا الصاحب وشرحه لحالة النبي وتعريفه وتقريعه بقوله «بم ذاك؟» ثم إنه لو كانت الدنيا تنال على حسب المراتب عند الله من الرفعة لكانت كلها لرسول الله وهذه حالته في دنياه، ولم يرض لقرة عينه بنته فاطمة أن تنال فيها راحة ولا توسعًا، هذا وقد رأى أثر حبل القربة في عنقها من حمل الماء وأثر الرحى من الطحين في يديها، وجاءه السبي فلم ير أن يعطيها خادمًا يحول بينها وبين ذاك الشقاء الذي نزل بها، وأعطاها بدل ذلك تسبيحًا وتحميدًا وتكبيرًا وقال: هو خير لكم. فأين أنت يا نفس وهذا العارف، فلا الحق رضيها لنبيه ولا النبي رضيها لابنته ووصيه، فهل قنعت يا نفس بعد أن لم تجدي لك قدمًا مع أحد من الصالحين؟ فمن اتبعت؟ وبمن تأسيت؟
نفسه : اتبعت هواي، فتأسيت بشيطان مُدَّعٍ في المعرفة، مكب على الدنيا مثلي، فأثمر لي الدعوى، وعراني من ملابس التقوى، وأنا أتوب إلى الله وأتضرع إليه في الوفاء والعدل والميزان!

(وبعد أن استرسل محيي الدين في ذكر أخبار قويس القرني وعبادته وزهده ومقابلته لهرم بن حيان ختم مناجاته بقوله لنفسه):

ابن العربي : فهذا يا نفس من بعض أخبار قويس الذي أحببته لله وفي الله، ولولا خشية التطويل لأشبعناك من أخباره وأخبار أمثاله من سادات التابعين، ولكنك قنعت بهذا القدر، فالتزمي طاعة الله وطاعة رسوله ».»

قال محيي الدين ابن العربي: «فأسلمت إسلامًا جديدًا — يقصد نفسه — الله يثبتها عليه، وأخذت منها العهود التي أخذ النبي على نساء المؤمنات، فالتزمت ذلك كله عارفة قدر ذلك وما لها في الوفاء به، وما عليها من الرجوع عنه.»

«هذا يا ولي — مخاطبًا صديقه عبد العزيز المهدوي — أبقاك الله ما اتفق بيني وبين نفسي في مكة المشرفة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤