الفصل السابع

البنية الإلكترونية

تناول الفصل السابق اكتشافاتٍ في الفيزياء الكلاسيكية لم تتطلَّب نظرية الكم، وقد انطبق هذا على الأشعة السينية وظاهرة النشاط الإشعاعي، اللتين أُجرِيت دراستهما في الأساس دون اللجوء لمفاهيم نظرية الكم، وإن كانت هذه النظرية قد استُحدِثت لاحقًا لتوضيح جوانب معينة. وفضلًا عن هذا، كان أغلب الفيزياء المشروحة في الفصل السابق يتعلَّق بعملياتٍ تنشأ في نواة الذرة. ويتعلق النشاط الإشعاعي أساسًا بتحلُّل النواة، وبالمثل يحدث التحوُّل بين العناصر عند مستوى النواة. وإضافةً إلى هذا، يُعتبَر العدد الذري خاصيةً من خواص أنوية الذرات، ويتمُّ التمييز بين النظائر عن طريق الكتل المختلفة للذرات من نفس العنصر، والتي تتكوَّن بالكامل تقريبًا من كتلة أنويتها.

في هذا الفصل سوف نسبر أغوار الاكتشافات المتعلقة بالإلكترونات، وهي دراسة تطلَّبت بالضرورة استخدامَ نظرية الكم منذ بداياتها الأولى. ولكن يجب أولًا أن نذكر شيئًا عن أصول نظرية الكم ذاتها؛ إذ بدأت مع بدايات القرن العشرين في ألمانيا؛ حيث حاوَلَ عدد من الفيزيائيين أن يفهموا سلوك الإشعاع المنحصر في تجويف صغير ذي جُدر معتمة. تم تسجيل السلوك الطيفي ﻟ «إشعاع الجسم المعتم» هذا بدقةٍ عند درجات حرارة مختلفة، ثم أُجرِيت محاولات لعمل نموذج من الرسوم البيانية الناتجة رياضيًّا. وبقيت المشكلة دون حل لمدة غير هيِّنة من الوقت إلى أن أدلى العالِمُ الفذُّ ماكس بلانك بافتراضه الجريء في عام ١٩٠٠، بأن طاقة ذلك الإشعاع تتكوَّن من حُزَم أو «كمَّات» متمايزة. ويبدو أن بلانك نفسه كان متردِّدًا في قبول الأهمية الكاملة لنظريته الجديدة (نظرية الكم)، فترك الأمر برمته لعلماء آخرين حتى يتوصَّلوا إلى بعض التطبيقات الجديدة لها.

تفترض نظرية الكم أن الطاقة تأتي في حُزَم أو مقادير منفصلة متميزة، وأنه لا يمكن أن توجد قِيَم وسيطة فيما بين مضاعفات أعداد صحيحة معينة للكم الأساسي للطاقة، وقد تم تطبيق هذه النظرية بنجاح على التأثير الكهروضوئي في عام ١٩٠٥، على يد ألبرت أينشتاين دون غيره، الذي ربما يُعَدُّ أكثر فيزيائيي القرن العشرين ألمعيةً، وكان نتاج بحوثه أن الضوء يمكن اعتباره ذا طبيعة كمية أو جسيمية. ومع ذلك سرعان ما بدأ أينشتاين يَعتبِر ميكانيكا الكم نظريةً ناقصة، واستمرَّ في انتقاده لها لبقية حياته.

وفي عام ١٩١٣ طبَّق العالِم الدنماركي نيلز بور نظريةَ الكم على ذرة الهيدروجين، التي كان يفترض — كما افترض رذرفورد — أنها تتكوَّن من نواة مركزية وإلكترون يدور حولها. وافترض بور أن الطاقة المتاحة للإلكترون تكون فقط بقِيَم متفردة معينة، أو نقول، بتعبير تصويري، إن الإلكترون يمكن أن يوجد في أي عدد من الأغلفة أو المدارات حول النواة. وهذا النموذج أمكنه أن يفسِّر، ولو إلى حدٍّ ما، مظهرَيْن لسلوك ذرات الهيدروجين، بل في الواقع لسلوك ذرات أي عنصر أيضًا؛ فأولًا: أوضح النموذجُ السببَ في أن ذرات الهيدروجين التي تتعرَّض لدفعة من الطاقة الكهربائية ينتج عنها طيفٌ متقطِّع لا يُلاحَظ فيه سوى بعض التردُّدات المحددة. ورأى بور أن هذا السلوك يظهر حين يحدث للإلكترون انتقالٌ من أحد مستويات الطاقة المتاحة إلى مستوًى آخَر، ويكون هذا الانتقال مصحوبًا بانطلاقٍ للطاقة — أو امتصاص لها — بما يقابل بالضبط فرْقَ الطاقة بين مستويَي الطاقة في الذرة.

ثانيًا، وهو أمر أقل قبولًا: أوضَحَ هذا النموذج السببَ في أن الإلكترونات لا تفقد طاقتها وتصطدم بالنواة في أي ذرة، كما يُتوقَّع عند تطبيق الميكانيكا الكلاسيكية على جسيم مشحون يتحرك حركة دائرية. وكان رأي بور أن الإلكترونات ببساطة لا تفقد طاقتها ما بقيت في مداراتها المحددة، كما افترض أن ثمة مستوًى أدنى للطاقة لا يمكن بعده أن تحدث للإلكترون أيُّ انتقالات لأسفل.

بعد ذلك عمَّم بور نموذجه ليغطي أي ذرة متعددة الإلكترونات غير مُكْتَفٍ بالهيدروجين، كما شرع في محاولة التوصُّل إلى الطريقة التي تترتَّب بها الإلكترونات في أي ذرة بعينها. وعلى الرغم من وجود تساؤلات بشأن صحة إجراء هذه القفزة من الإلكترون الواحد إلى الإلكترونات المتعددة نظريًّا، فإن هذا لم يَثْنِ بور عن سعيه الحثيث غير مبالٍ بشيء. والتوزيعاتُ الإلكترونية التي توصَّل إليها موضَّحةٌ في جدول ٧-١.

إلا أن تعيين بور للإلكترونات في أغلفة لم يكن مبنيًّا على أسس رياضية، كما لم يستعِنْ بأيِّ عونٍ واضح من نظرية الكم؛ بل في المقابل، احتكَمَ بور إلى أدلة كيميائية مثل معرفة أن ذرات عنصر البورون يمكن أن تكوِّن ثلاثَ روابط، كما تفعل عناصر أخرى في مجموعة البورون؛ ومن ثَمَّ يجب أن تكون لذرة البورون ثلاثةُ إلكترونات في أغلفتها الخارجية حتى يكون هذا ممكنًا. وحتى مع هذه النظرية الأولية التي لا يُستدَل منها على شيء، قدَّمَ بور أولَ تفسيرٍ ناجح معتمِدٍ على الإلكترونات حول سبب وجود عناصر مثل الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم في نفس المجموعة من الجدول الدوري، وكذلك حول السبب في الانتماء إلى أي مجموعة في الجدول الدوري، وفي حالة عناصر الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم يكون السبب أن كل ذرة من ذراتها لديها إلكترون واحد منفرد عن بقية الإلكترونات في غلاف خارجي.

جدول ٧-١: نظام بور الأصلي في عام ١٩١٣ للتوزيعات الإلكترونية للذرات. (From N. Bohr, ‘On the Constitution of Atoms and Molecules’, Philosophical Magazine, 26, 476–502, 1913, 497.)
1 H 1
2 He 2
1 2 Li 3
2 2 Be 4
3 2 B 5
4 2 C 6
3 4 N 7
2 2 4 O 8
1 4 4 F 9
2 8 Ne 10
1 2 8 Na 11
2 2 8 Mg 12
3 2 8 Al 13
4 2 8 Si 14
3 4 8 P 15
2 2 4 8 S 16
1 4 4 8 Cl 17
2 8 8 Ar 18
1 2 8 8 K 19
2 2 8 8 Ca 20
3 2 8 8 Sc 21
4 2 8 8 Ti 22
3 4 8 8 V 23
2 2 2 8 8 Cr 24
جدول ٧-٢: توزيعات بور الإلكترونية في عام ١٩٢٣ على أساس عددَيْن كميَّيْن. (From N. Bohr, ‘Linienspektren und Atombau’, Annalen der Physik, 71, 228–288, 1923, p. 260.)
1 H
2 He
1 2 Li
2 2 Be
3 2 B
4 2 C
1 4 2 N
2 4 2 O
3 4 2 F
4 4 2 Ne
1 4 4 2 Na
2 4 4 2 Mg
1 2 4 4 2 Al
4 4 4 2 Si
1 4 4 4 2 P
2 4 4 4 2 S
3 4 4 4 2 Cl
4 4 4 4 2 Ar
يعيب نظرية بور أنها تعاني بعض القيود الأخرى؛ ومنها أنها لا تنطبق بدقة إلا على الذرات ذوات الإلكترون الواحد مثل الهيدروجين، والأيونات مثل: He+، وLi2+، وBe3+، … إلخ. كما تَبيَّنَ أن بعض خطوط الأطياف التي تخصُّ هذه الأطياف «الهيدروجينية» تُقطع إلى أزواج غير متوقَّعة من الخطوط. وقد افترض آرنولد سومرفيلد الذي يعمل في ألمانيا، أن النواة قد يكون موقعها عند إحدى بؤرتَيْ شكل بيضاوي، وليس في قلب ذرة دائرية. وأظهرت حساباته أن على المرء أن يضيف مستوياتٍ تحت غلافية ضمن الأغلفة الرئيسية للإلكترونات في نموذج بور. وفي حين أن نموذج بور كان يتميَّز بعدد كمي يدل على كلٍّ من الأغلفة أو المدارات المنفصلة، فإن نموذج سومرفيلد المعدَّل تطلَّب عددين كميَّيْن لتعيين المسار البيضاوي للإلكترون. وحين أصبح لدى بور هذه الأعداد الكمية الجديدة، صار قادرًا على أن يجمع مجموعةً أكثر تفصيلًا من التوزيعات الإلكترونية في عام ١٩٢٣، كما يظهر في جدول ٧-٢.

بعد ذلك ببضع سنين، وجد الفيزيائي الإنجليزي إدموند ستونر أن الأمر يحتاج أيضًا إلى عدد كمي ثالث لتعيين بعض التفاصيل الأكثر دقةً في طيف الهيدروجين وذرات أخرى. ثم في عام ١٩٢٤ اكتشف عالِم نظريات نمساوي المولد يُدعَى فولفجانج باولي الحاجةَ لعدد كمي رابع، وقد عرف هذا العدد من مفهوم اتخاذ إلكترونٍ ما لإحدى قيمتَيْ نوع خاص من الزخم الزاوي. وقد سُمِّي بعد ذلك هذا النوع من الحركة باسم الزخم الزاوي (أو «اللف المغزلي» الإلكترون)، وإن كانت الإلكترونات لا تدور بنفس الطريقة التي تدور بها الأرض حول محورها بينما تقوم في ذات الوقت بحركة مدارية حول الشمس.

وترتبط الأعداد الكمية الأربعة بعضها ببعض عن طريق مجموعة من العلاقات المتداخلة، فيعتمد العدد الكمي الثالث على قيمة العدد الكمي الثاني، التي بدورها تعتمد على قيمة العدد الكمي الأول. بينما يكون العدد الكمي الرابع الذي افترضه باولي مختلفًا قليلًا؛ إذ يمكن أن يأخذ قيمتين هما: +١ / ٢ أو −١ / ٢، بغضِّ النظر عن قِيَم الأعداد الكمية الثلاثة الأخرى. وتكمن أهمية العدد الكمي الرابع بصفة خاصة في أن التوصُّل إليه قدَّمَ تفسيرًا جيدًا للسبب في أن كل غلاف إلكتروني يمكن أن يحتوي على عدد محدَّد من الإلكترونات (٢، ٨، ١٨، ٣٢ … إلخ)، بدءًا من الغلاف الأقرب إلى النواة.

وفيما يلي طريقة عمل هذا النظام. يمكن أن يأخذ العدد الكمي الأول n أيَّ قيمة تكاملية بدءًا من العدد ١، والعددُ الكمي الثاني، الذي يُرمَز له بالرمز ، يمكن أن يأخذ أيًّا من القِيَم التالية المتعلِّقة بقِيَم n:
وفي حالة ما إذا كانت n = 3 على سبيل المثال، فإن يمكن أن يأخذ القِيَم ٢ أو ١ أو ٠. والعدد الكمي الثالث، الذي يُرمَز له بالرمز ml، يمكن أن يأخذ قِيَمًا مرتبطة بقِيَم العدد الكمي الثاني، كما يلي:
فعلى سبيل المثال، إذا كانت ( )، فإن القِيَم المحتملة للعدد الكمي الثالث ( ) تكون:
−2, −1, 0, +1, +2
وفي النهاية، نصل إلى العدد الكمي الرابع الذي يُرمَز له بالرمز ms، والذي لا يمكن أن يأخذ سوى قيمتين محتملتين فقط هما إما +١ / ٢ وإما −١ / ٢ من وحدات اللف المغزلي للزخم الزاوي كما أسلفنا. ومن ثَمَّ هناك تدرُّج هرمي من قِيَم الأعداد الكمية الأربعة التي يتعلَّق بعضها ببعض، والتي تُستخدَم لوصف أي إلكترون معين في ذرةٍ ما (جدول ٧-٣).
ونتيجةً لهذا النظام، يتضح السبب في أن الغلاف الثالث مثلًا يمكن أن يحتوي على ١٨ إلكترونًا. فإذا كان العدد الكمي الأول هو ٣ (تبعًا لرقم الغلاف)، فإن العدد الإجمالي للإلكترونات في الغلاف الثالث يساوي ٢ × (٣)٢؛ أي إنه يساوي ١٨ إلكترونًا، والعدد الكمي الثاني ( ) يمكن أن يأخذ القِيَم ٢ أو ١ أو ٠. وكل قيمة من قِيَم هذه ينتج عنها عدد من قِيَم المحتملة، وكلٌّ من هذه القِيَم تُضرَب في عاملِ ضربٍ قيمتُه اثنان؛ إذ إن العدد الكمي الرابع يمكن أن يأخذ إحدى القيمتين ١ / ٢ أو −١ / ٢.
جدول ٧-٣: تجميع للأعداد الكمية الأربعة لتوضيح العدد الإجمالي للإلكترونات في كل غلاف.
n قِيَم المحتمَلة رموز المستويات تحت الغلافية قِيَم المحتمَلة المدارات تحت الغلافية عدد الإلكترونات في كل غلاف
1 0 1s 0 1 2
2 0 2s 0 1
1 2p 1, 0, −1 3 8
3 0 3s 0 1
1 3p 1, 0, −1 3
2 3d 2, 1, 0, −1, −2 5 18
4 0 4s 0 1
1 4p 1, 0, −1 3
2 4d 2, 1, 0, −1, −2 5
3 4f 3, 2, 1, 0, −1, −2, −3 7 32
إلا أن الحقيقة القائلة إن الغلاف الثالث يمكن أن يحتوي على ١٨ إلكترونًا، لا تفسِّر تمامًا السببَ في أن بعض الدورات في الجدول الدوري تحتوي على ١٨ خانة للعناصر. كان من الممكن أن تكون تفسيرًا قويًّا لهذا الأمر لو كانتْ أغلفةُ الإلكترونات ممتلئةً بطريقة متتابعة تمامًا؛ لكن هذا لا يحدث بدءًا من العنصر رقم ١٩، وهو البوتاسيوم. وتتشكَّل التوزيعات الإلكترونية وتتصاعد بدءًا من المدار 1s الذي يمكن أن يحتوي على إلكترونين، وتنتقل إلى المدار 2s الذي يمتلئ بالمثل بإلكترونين آخَرين، ثم تأتي مدارات 2p التي تحتوي إجمالًا على ٦ إلكترونات أخرى … وهكذا. وتستمر هذه العملية بالطريقة المتوقَّعة حتى نصل إلى العنصر ١٨، وهو الأرجون الذي لديه التوزيع الإلكتروني التالي:
1s2, 2s2, 2p6, 3s2, 3p6

وقد يتوقَّع المرء أن يكون التوزيع الإلكتروني للعنصر التالي رقم ١٩ — البوتاسيوم — كما يلي:

1s2, 2s2, 2p6, 3s2, 3p6, 3d1
حيث يحتل الإلكترون الأخير ما تحت الغلاف التالي الذي يُرمَز له بالرمز 3d، ويكون هذا متوقَّعًا لأنه وصولًا إلى هذه النقطة كان النمط هو إضافة الإلكترون المتميز إلى المدار المتاح التالي على مسافاتٍ متزايدة من نواة الذرة. ولكن تشير الأدلة التجريبية إلى أن توزيع إلكترونات البوتاسيوم يجب أن يُرمَز إليه كما يلي:
1s2, 2s2, 2p6, 3s2, 3p6 4s1
وبالمثل في حالة العنصر ٢٠، وهو الكالسيوم، يدخل الإلكترون الجديد أيضًا المدار 4S، ولكن في العنصر التالي رقم ٢١، وهو السكانديوم، لُوحِظ أن توزيع الإلكتروني كما يلي:
1s2, 2s2, 2p6, 3s2, 3p6 4s2, 3d1
هذا النوع من الحذف للخلف وللأمام فيما بين المدارات المتاحة مع ملء الإلكترونات للعناصر المتتابعة؛ يتكرَّر مجدَّدًا مرات عدة، ونظامُ الملء هذا تمَّ تلخيصه في شكل ٧-١.
fig21
شكل ٧-١: نظام ملء المدارات الذرية، اتبع السهام المائلة من أعلى لأسفل.

ونتيجةً لنظام الملء هذا، تحتوي الدورات المتتابعة في الجدول الدوري على العدد التالي من العناصر: ٢، ٨، ٨، ١٨، ١٨، ٣٢، … إلخ؛ مما يُظهِر وجود «تضاعفية» في كل دورة فيما عدا الدورة الأولى.

وبينما تقدِّم قاعدةُ تجميعِ الأعداد الكمية الأربعة توضيحًا قويًّا للنقطة التي تقفل عندها الأغلفة، فإنها لا تقدِّم توضيحًا قويًّا بنفس الدرجة للنقطة التي تقفل عندها الدورات وتنتهي. بالإمكان إعطاء بعض التبريرات لنظام الملء هذا، ولكن هذه التبريرات تميل لأن تكون معتمِدة إلى حدٍّ ما على الحقائق التي يحاول المرء أن يوضِّحها. نحن نعرف أين تقفل الدورات لأننا نعرف أن الغازات النبيلة توجد عند خانات العناصر: ٢، و١٠، و١٨، و٣٦، و٥٤، … إلخ. وبالمثل لدينا معرفة بنظام الملء من الملاحظات العلمية وليس من الأمور النظرية. والاستنتاج، الذي نادرًا ما يُنوَّه عنه في المقالات التي تتحدَّث عن شرح الجدول الدوري في الكتب الأكاديمية، هو أن فيزياء الكم تشرح الجدول الدوري بصفة جزئية فحسب، ولم يستنبط أيُّ إنسان حتى الآن نظامَ ملءِ المدارات من مبادئ ميكانيكا الكم. لكن ليس معنى ذلك أن هذا الأمر قد لا يتحقَّق في المستقبل، أو أن نظام الملء بالإلكترونات ليس في متناول علم فيزياء الكم إلى الأبد بأي حال من الأحوال.

الكيميائيون وتوزيعات الإلكترونات

لقد فتح اكتشاف جيه جيه طومسون للإلكترون في عام ١٨٩٧ الطريق لشروح جديدة، بجميع أنواعها، في الفيزياء، فضلًا عن خطوط جديدة تمامًا من التجارب العملية. كما كان طومسون من أوائل الذين ناقشوا الطريقة التي تترتَّب بها الإلكترونات في الذرات، على الرغم من أن نظريته لم تكن ناجحةً جدًّا؛ إذ لم يكن العلماء يعرفون ما يكفي عن عدد الإلكترونات التي توجد في أي ذرة معينة. وكما رأينا، فإن أول نظرية جوهرية من هذا النوع تُعزَى إلى نيلز بور، الذي أدخَلَ أيضًا فكرةَ كمِّ الطاقة إلى عالَم الذرة وإلى مهمة الترتيبات الإلكترونية. وقد نجح بور في نشر مجموعة من التوزيعات الإلكترونية لكثير من الذرات المعروفة، ولكن هذا تحقَّق فقط بعد مراجعته للسلوكيات الكيميائية والطيفية التي قام آخَرون بتجميعها على مدى سنين كثيرة.

ولكن ماذا كان يفعل الكيميائيون في تلك الآونة؟ وكيف تقارن محاولاتهم للتعامُل مع الإلكترونات بمحاولات بور وغيره من فيزيائيي الكم؟ بدْءُ هذا الاستقصاءِ يتطلَّب الرجوع زمنيًّا إلى عام ١٩٠٢ بعد اكتشاف الإلكترون بقليل؛ إذ كان العالِم الكيميائي الأمريكي جي إن لويس يعمل في الفلبين في تلك الآونة، ورسم رسمًا تخطيطيًّا — مبيَّنًا في شكل ٧-٢ — وما زالت نسخته الأصلية محفوظة حتى يومنا هذا. وفي هذا الرسم افترَضَ أن الإلكترونات تُوجَد عند أركان شكل مكعَّب، وأنه كلما تنقلنا خلال الجدول الدوري، العنصر الواحد تلو الآخَر، يضاف إلكترون إلى كل ركن. وقد يبدو اختيار لويس للشكل المكعب غريبًا في عصرنا الحديث؛ إذ من المعروف الآن أن الإلكترونات تدور في مدارات حول النواة، ولكن نموذج لويس يُعتبَر شيئًا جيدًا من وجهة نظر مهمة ترتبط بالجدول الدوري؛ فرقمُ ثمانية يمثِّل عدد العناصر التي يجب أن يعبرها المرء في الجدول الدوري قبل أن يحدث تكرارٌ لخواص العناصر.
fig22
شكل ٧-٢: مخطَّط لويس عن «المكعبات» الذرية.

ومن ثَمَّ كان لويس يفترض أن صفة الدورية الكيميائية وخواص العناصر المتفردة محكومةٌ بعدد الإلكترونات في المكعب الخارجي الذي يحيط بنواة الذرة، وكل ما يُعَدُّ خطأً في هذا النموذج هو اعتبارُ الإلكترونات ثابتةً في أماكنها، لكن اختيار شكل المكعب أمر طبيعي وذكي يعكس حقيقةَ أن الدورية الكيميائية مبنِيَّة على أساس مسافات فاصلة تتألَّف من ثمانية عناصر.

fig23
شكل ٧-٣: تصوُّر لويس لرابطةٍ ثنائيةٍ بين ذرتين.

في نفس هذا المخطَّط الشهير رسم لويس شكلًا يبيِّن كيفيةَ اتحاد ذرتَي الصوديوم والكلور لتكوين مركب كلوريد الصوديوم، بعد انتقال إلكترون من ذرة الصوديوم إلى ذرة الكلور، وذلك لكي يحتلَّ مكانَ الإلكترون الثامن المفقود في المكعب الخارجي من ذرة الكلور. وقد انتظر بعدها لويس لمدة أربعة عشر عامًا قبل أن ينشر هذه الأفكار، فضلًا عن توسيعها لتشمل صورة أخرى من ارتباط الذرات، وهي الروابط التساهُمية، التي تتضمَّن تشارُك الذرات المختلفة في الإلكترونات بدلًا من نقلها فيما بينها.

وقد وضع لويس في اعتباره الكثيرَ من المركبات المعروفة، كما أحصى عددَ الإلكترونات الخارجية التي تحتوي عليها ذرات تلك المركبات، وبهذه الطريقة توصَّلَ إلى استنتاجٍ مفاده أنه في أغلب الحالات ينتج عن إحصاء الإلكترونات عددٌ زوجي. أوحت إليه هذه الحقيقة بأن الارتباط الكيميائي قد يكون ناتجًا عن ازدواج الإلكترونات، وهي فكرة سرعان ما صارت أساسيةً في الكيمياء ككلٍّ، وبقيت صحيحةً بالضرورة حتى يومنا هذا، وحتى بعد ظهور نظريات ميكانيكا الكم عن الارتباط الكيميائي.

ولكي يمثِّل لويس تشارُك الإلكترونات بين ذرتين، رسَمَ مكعبين متجاورين يشتركان في حافة واحدة، أو في إلكترونين؛ وبالمثل، قام بتمثيل الرابطة الثنائية (أو المزدوجة) بمكعبين يتشاركان في وجه واحد، أو في أربعة إلكترونات (شكل ٧-٣). ولكن برزت هنا مشكلة؛ إذ كان من المعروف في الكيمياء العضوية، أن بعض المركبات، مثل الإسيتيلين C2H2 تحتوي على رابطة ثلاثية، فأدرك لويس أن نموذجَه عن الإلكترونات التي توجد عند أركان مكعبٍ، لا يصلح لتمثيل الروابط الثلاثية؛ فتحوَّلَ في نفس البحث إلى نموذج جديد توجد فيه أربعة أزواج (أيْ ثمانية) من الإلكترونات عند أركان شكل رباعي الأوجه بدلًا من المكعب؛ ومن ثَمَّ مثَّل الرابطةَ الثلاثية بشكلين رباعيَّي الأوجه يتشاركان في وجه مشترك.
جدول ٧-٤: التراكيب الإلكترونية الخارجية ﻟ ٢٩ عنصرًا كما بيَّنها لويس. يمثِّل الرقم الذي في أعلى كل عمودٍ الشحنةَ الموجبة على نواة الذرة، وكذلك عدد إلكترونات الغلاف الخارجي لكل ذرة (من إعداد المؤلف).
7 6 5 4 3 2 1
H
F O N C B Be Li
Cl S P Si Al Mg Na
Br Se As Sc Ca K
I Te Sb Sr Rb
Bi Ba Cs
كما عاد لويس في نفس البحث إلى مسألة التوزيعات الإلكترونية للذرات، وقد بَسَطَ ترتيباته للعناصر لتشمل ٢٩ عنصرًا كما يظهر في جدول ٧-٤. وقبل أن ننتقل إلى مشاركين آخَرين، يجدر بنا أن نذكر أن جي إن لويس ربما كان أهمَّ كيميائيٍّ في القرن العشرين لم يحصل على جائزة نوبل، وهذا يرجع لوفاته المبكرة في مختبره نتيجةً للتسمُّم بغاز سيانيد الهيدروجين، ومن المعروف أن جوائز نوبل لا تُمنَح إلا للأحياء. وأخيرًا وليس آخِرًا، فقد اكتسب لويس الكثيرَ من الأعداء في مسيرة حياته الأكاديمية؛ ومن ثَمَّ لم يُقْدِم أحدٌ من زملائه على أن يرشحه لنيل الجائزة.
fig24
شكل ٧-٤: الجدول الدوري لِلانجموير.

وقد اتسعت أفكار لويس واكتسبت شعبيةً على يد خبير أمريكي في الكيمياء الصناعية يُدعَى إرفينج لانجموير؛ فبينما اقتصر لويس على تحديد التوزيعات الإلكترونية ﻟ ٢٩ عنصرًا فقط، أخذ لانجموير على عاتقه أن يُكمِل المهمة؛ وبينما أحجَمَ لويس عن تحديد التوزيعات الإلكترونية لذرات العناصر الفلزية الانتقالية، فقد أعَدَّ لانجموير قائمةً بهذه التوزيعات ضمن بحث له في عام ١٩١٩، كما يلي:

Zn Cu Ni Co Fe Mn Cr V Ti Sc
12 11 10 9 8 7 6 5 4 3
وفعل لانجموير مثل سلفه لويس؛ إذ استخدم الخواصَّ الكيميائية للعناصر لترشده إلى هذه التوزيعات الإلكترونية، ولم يستعِنْ بأي حجج من نظرية الكم (شكل ٧-٤)، ولا يدهشنا أن هذين الكيميائيَّيْن تمكَّنَا من تحسين هذه التوزيعات الإلكترونية التي كان فيزيائيون مثل بور يتلمَّسون طريقهم إليها.
وفي عام ١٩٢١، كان يعمل كيميائي إنجليزي اسمه تشارلز بيري في الكلية الجامعية في ويلز، وقد تحدَّى فكرةً كانت متضمَّنة في بحثَيْ لويس ولانجموير، وهي افتراض أن الأغلفة الإلكترونية تمتلئ تباعًا كلما تنقلنا خلال الجدول الدوري، وذلك بإضافة إلكترون زائد لكل عنصر جديد نصل إليه، كما ذكرنا سابقًا في هذا الفصل. وافترض بيري أن مجموعته المنقَّحة من التوزيعات الإلكترونية تحقِّق اتفاقًا أفضل مع الحقائق الكيميائية المعروفة، ويقول:

حيث إن العدد ثمانية هو العدد الأقصى للإلكترونات في الطبقة الخارجية للذرة، فلا بد أن تشكِّل عناصر البوتاسيوم والكالسيوم والسكانديوم طبقةً رابعة، على الرغم من أن الطبقة الثالثة لدى تلك العناصر ليست كاملة، فتكون تراكيبها كما يلي: ٢، ٨، ٨، ١، ٢، ٨، ٨، ٢، ٢، ٨، ٨، ٣.

كما اختلف بيري مع لويس ولانجموير حين افترض أن مجموعات الثمانية إلكترونات الداخلية التي تبدو مستقرة، يمكن أن تتغيَّر إلى مجموعات من ١٨ إلكترونًا، وبالمثل فإن مجموعات اﻟ ١٨ إلكترونًا يمكن أن تتغيَّر إلى مجموعات من ٣٢ إلكترونًا. وتمثِّل هاتان الصفتان بعضًا من العلامات المبكرة لنشوء النمطَيْن من الجداول المتوسِّطة الطول والطويلة على الترتيب.

وفي الختام، أقول بإيجاز إن علماء الفيزياء قدَّموا دعمًا قويًّا لمحاولات فهم القاعدة الأساسية للجدول الدوري، ولكن علماء الكيمياء وقتئذٍ كانوا في كثيرٍ من الحالات قادرين على تطبيق الأفكار الفيزيائية الجديدة، مثل التوزيعات الإلكترونية، لتحقيق نتيجة أفضل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤