خاتمة

(١) الإنسان والمملكة الحيوانية

على مرِّ صفحات هذا الكتاب قارنَّا بين الإنسان — أنفسنا — وفئتين من الأنظمة المعقدة التي تملك صفات مشابهة له، ألا وهما الحيوانات والآلات. وسرعان ما نلاحظ بالطبع أنه لا يوجد تشابه بين أصل كلٍّ من الحيوانات والآلات بما أن الإنسان انحدر عن الحيوان في حين أن الآلة انحدرت عن الإنسان، ولكن لا يفيد اختلاف الأصل في الإجابة عن الأسئلة الرئيسية التالية: هل لا يزال هذا الإنسان المنحدر عن الحيوان حيوانًا؟ وهل تفترض الآلة المنحدرة عن الإنسان أن الإنسان هو أيضًا آلة؟ هل يوجد لدى الإنسان خصائص فريدة من نوعها تميزه عن الحيوانات والآلات؟ لقد سمحت الفصول المختلفة في هذا الكتاب بمناقشة هذه الأسئلة المهمة فيما يتعلق بنقاط أساسية يبرز فيها النشاط الإنساني.

ولقد استطعنا تقدير أوجه الشبه العديدة بين الإنسان والأنظمة المعقدة الأخرى. وفيما يتعلق بأوجه الشبه مع الحيوانات أوضحنا أنها عديدة. فنجد لديها المبادئ الأولى لكل القدرات الإنسانية: القدرة على الشعور بالألم والتعلم والذكاء والوعي والفضول والثقافة والتحلي بالأخلاق … إلخ، حتى لو كانت القدرات الإنسانية تتخطى قدرات الحيوان في أغلب الأحيان. وترتبط هذه القدرات بتعقيد الكائنات الحية، وهو ما يُعَدُّ إحدى صفات الكائنات الحية بأسرها، بما فيها الإنسان. وينتج عن ذلك أن الإنسان حيوان قادر مثل الحيوانات على امتلاك عواطف وغريزة جنسية، وينتج عن ذلك أيضًا أن الحيوانات قد تكون جزءًا لا يتجزأ من العالم الفكري للبشر وتساعدهم على التفكير، وأنها تستطيع أن تمتلك حقوقًا. وينتج عن ذلك أيضًا أنه يمكن المزج بين المملكة البشرية والحيوانية وأنه يمكن تخيل استمرار الحياة الحيوانية دون الإنسان.

ولقد وصفنا أيضًا الدَّوْر الجوهري الذي تلعبه التقنية فيما يخص إنسانيتنا وكيف يمكن اعتبار كل أداة وكل آلة جهازًا بديلًا أو امتدادًا لجسمنا. ولقد أوضحنا العلاقات المعقدة التي تربطنا بهذه التقنيات التي تحيك معنا علاقات نفسية بعيدًا عن دورها الوظيفي. وناقشنا كيف بدلت الآلة مفهومنا عن الوقت وأوجدت استعارات تجعلنا نفكر في أنفسنا، وكيف اختلطت التقنية بمجملها مع الثقافة في نهاية المطاف. وقد عرضنا أيضًا كيف تستطيع بعض الآلات الحديثة حاليًّا التعلم والتنبؤ والمحاكاة وكيف يمكننا تزويدها بالفضول وبإدراك لذاتها. وتوقعنا ابتكار آلات قادرة على الشعور والتخيل، بل قادرة على أن تشكل بصورة جماعية ظواهر ثقافية تميزها وحدها. ولكن بدلًا من أن نرى في هذه التطورات حججًا تؤيد الرؤية الميكانيكية بالكامل للإنسان، ركزنا في المقابل على أن الآلات تُتِيح لنا قبلَ كلِّ شيء أن نفهم أنفسنا بإبراز الاختلافات؛ «فنحن لدينا ما لا تمتلكه الآلات». وإذا بدت الآلات ذكية فذلك يعني أننا لم نتحرَّ الدقة بالدرجة الكافية حول معنى الذكاء. وإذا بدت تمتلك نوعًا من الوعي فيتعين علينا تحديد ما نقصده بهذا المصطلح؛ فكلما تطورت الآلات نجد تعريفًا أفضل لما يميزنا.

نود في الختام محاولة تحديد المعايير التي قد تسمح بتعريف الإنسان مقارنةً بالأنظمة المعقدة الأخرى. وفي ضوء التجاوز المنتظم لكافة الحدود المفروضة على مدار التاريخ، سنتفهم قطعًا الطابع المؤقت الذي قد يتسم به هذا الجهد، ولكن يجدر وصفه بصورة إجمالية بما أن المنطق يُملي علينا أن الإنسان يمتلك حاليًّا طريقة عيش تميزه وحدَه، وذلك دون أن يكون الهدف هو الاستجابة إلى رؤية بعيدة المدى. وتختلف إجابات كلٍّ مِن عالِم الأحياء والمهندس عن هذه الأسئلة وفقًا للمساحة التي تخصصها للطبيعة والثقافة في عملية التحول إلى الإنسانية.

(٢) الإنسان وعقله القوي ومغامرات المعلومات

وفقًا لما ذكره ديزموند موريس،1 الإنسان قِردٌ عارٍ مُزوَّد بعقل فائق القوة، وبدقة أكبر هو شمبانزي عارٍ بما أن ٩٨٪ من جيناته مشتركة مع نظرائه الشمبانزي لدرجة أنه يُطلَق أحيانًا على الإنسان «الشمبانزي الثالث» إلى جانب فصيلتي الشمبانزي. وفي الواقع، لا يختلف السلوك الاجتماعي أو الجنسي للإنسان كثيرًا عن سلوك الشمبانزي، ولكن إذا كانت كل الحيوانات كائنات معقدة، وإذا كان الشمبانزي يمتلك عناصر ثقافية أولية معقدة وصفناها على مرِّ صفحات هذا الكتاب، فالإنسان وحده هو الذي يمتلك ثقافة شديدة التعقيد، وقادرة على الانتقال من جيل إلى آخر، ومختلفة عن النماذج الأولية الموجودة لدى نظرائه. وانتقل الإنسان من النموذج الأولي لأداة الشمبانزي إلى الكمبيوتر أو الصاروخ، ومن النموذج الجمالي إلى العمل الفني، ومن النموذج الخطابي إلى لغات ذات تعقيد نادر. وحتى في المجال الذي لم يبرع فيه الإنسان بصورة كبيرة على مدار تاريخه وهو مجال الأخلاق، انتقل من أخلاقيات أولية تجريبية لدى الشمبانزي إلى أنظمة أخلاقية خطابية معقدة.

وتتسم الكائنات الحية بأسرها، سواء الحيوانات أو البشر، بالتعقيد ولكن يمكن حاليًّا تعريف هذا التعقيد من حيث المعلومات، وانطلاقًا من هذا المفهوم يمكن المقارنة بين قدرات الحيوانات والبشر.

وثمة طريقتان لفهم المعلومة. فيما يتعلق بالطريقة الأولى، أعطى بعض خبراء المعلوماتية مثل شانون معنًى رياضيًّا بحتًا لهذا المفهوم؛ فعرَّفوه ليس على أنه «معلومة» بل على أنه «كمية المعلومات التي تحتوي عليها رسالة ما». وفي السياق ذاته، أراد الفيزيائي ليون بريوان تشبيه المعلومة بحجم من الطاقة يتلاءم مع فكرة «ترتيب» ولكن جانَبَه الصواب في ذلك الأمر2 فلن يكون ذلك هو المعنى الذي سنستخدمه.

(٢-١) المعلومة لدى الكائنات الحية

نستند هنا إلى طريقة أخرى للتفكير في هذا المفهوم وهي طريقة تنظر إلى المعلومة بمعناها الأعم والأقل دقة على المستوى الرياضي ولكن الأكثر قدرة على الوصف على الصعيد العملي، على أنها «جزء من المعنى» أيْ إنها معلومة ترتبط بتنفيذ مهمة ونقل أمرٍ بين كيانين، وهذا هو المعنى المنتشر في علم الأحياء حيث كتب عالِم الأحياء فرانسوا جاكوب: «إن عالمنا الحالي عبارة عن رسائل ورموز ومعلومات.» فهكذا تتحكم في تعقيد الأجسام الحية (انظر الفصل الأول) معلوماتٌ متشابكة ذات طبيعة كيميائية في أغلب الأحيان، وتسمح هذه المعلومات للأجزاء المختلفة بالتفاعل فيما بينها؛ ومِن ثَمَّ تسمح لهياكلها بالتغير مع الوقت وبالتفاعل مع المعلومات التي تصل إليها من بيئتها. وتُعتبر هذه المجموعة المعقدة من الأحداث التي تحمل أعمالًا أو تأثيرًا أو معنًى هي إحدى خصائص الكائنات الحية.3 وكلما زاد تعقيد النظام الحي زاد عدد هذه المعلومات التي تتيح عمل النظام؛ لذا يتعلق الأمر مِن الآن فصاعدًا بالمعلومة الوراثية الموجودة داخل جيناتنا، تلك التي تحدد عددًا من صفاتنا الجسدية، أو عن المعلومة المحفوظة في الذاكرة، تلك التي تملأ عقلنا بالذكريات وتقود أعمالنا في العالم الذي يحيط بنا.

ويعنينا هنا هذا النوع الأخير لأنه يشكل طريقتنا المميزة للبشر. وقد جرت محاولات لتعريف الذاكرة الإنسانية من حيث كمية المعلومات، ولن نذكر هنا نتائجها؛ لأنها تقريبية للغاية وربما تكون خاطئة. ولكن الشيء الوحيد الذي يجب معرفته هو أن هذه الأرقام المحدودة بالطبع (فكمية المعلومات المُخزَّنَة في ذاكرتنا ليست بلا حدود) هي أرقام هائلة. ولمزيد من الوضوح، نذكر بأن العقل الإنساني يحتوي على حوالي ١٠٠ مليار خلية عصبية، وأن كلًّا منها يستطيع التفاعل مع (أيْ نقل المعلومات إلى) الآلاف من الخلايا الأخرى. فيمكننا إذن أن نتخيل — بلا مشقة — التعقيد والعدد الضخم من التفاعلات الممكنة، وما يمكننا بلا شك إبرازه هو أن الأداء القوي للعقل الإنساني يسمح له بالتعامل مع كمية من المعلومات أضخم بكثير من تلك التي يتعامل معها عقل أقرب نظرائه مثل الشمبانزي.

(٢-٢) هل الاختلافات بين الإنسان والحيوان اختلافات كمية فقط؟

هل اختلافنا الوحيد عن الحيوان على الصعيد الكمي فقط؟ هل كمية المعلومات التي يُعالجها العقل هي التي تفرق وحدها بين الإنسان وأسلافه الحيوانات الأكثر قربًا منه (والأكثر ذكاءً)؟ في الواقع تسمح بعض التأملات في علم الأعصاب بالتفكير في هذا الافتراض. فلا يمكن عامةً مقارنة حجم عقول حيوانات مختلفة؛ فنظرًا إلى اختلافات الحجم والتركيب التشريحي، لا معنى لمثل هذه المقارنات. ولكن يمكننا في المقابل التفكير في القيام بذلك بين فصيلتين متشابهتين تشريحيًّا مثل الشمبانزي والإنسان،4 ولكن حجم جمجمة الإنسان حوالي أربعة أضعاف حجم جمجمة الشمبانزي؛ وبذلك يمكننا أن نتخيل إجمالًا وجود قسمين إضافيين للخلايا العصبية؛ ومِن ثَمَّ أربعة أضعاف عدد الخلايا. وعندما نعرف أن كل خلية تتفاعل مع الآلاف من الخلايا الأخرى، يزيد ذلك من احتمالات التفاعل بصورة هائلة. فيبدو إذن من المعقول أن الاختلاف الجوهري بين الإنسان والحيوانات يكمن أولًا في هذا التفاوُت الكبير في كمية المعلومات التي يُعالجها العقل.

ولكن الفلسفة تعلمنا أن الكمية قد تتحول أحيانًا إلى نوعية، وهذا ما نلاحظه بالطبع لدى الجنس البشري، فهو بالطبع حيوان ومزود بآليات جينية أو فسيولوجية أو عاطفية تميزه جوهريًّا عن (بقية) الحيوانات، ويبلغ بفضل قوة عقله «طريقة عيش» جديدة، فيحول النماذج الأولية التي لاحظناها عدة مرات لدى أسلافه الحيوانات إلى إنجازات مدهشة في أغلب الأحيان (انظر الفصول الثامن والتاسع والحادي والعشرين)، ويكون ذلك على مستويين يتلاءمان إجمالًا مع عمل نصفَيْ مخِّهِ.

(٢-٣) معالجة المعلومة ونصفا المخ

لدى الإنسان الأيمن (بما أن المسألة تزداد تعقيدًا لدى الشخص الأعسر، ولن نتطرق إليها هنا) يُعالِج نصفُ المخِّ الأيسرُ المعلوماتِ البسيطةَ بصورة تحليلية ومجردة ويحاكي العالم الخارجي، فيستكمل هكذا معرفة العالم الواقعي والبيئة التي يتحرك فيها، وهي العملية التي تبدأ بالفعل لدى الحيوانات «المتطورة» وتحولها إلى معرفة أكثر تعقيدًا نسميها «المعرفة العلمية». وبعبارة أخرى، يتعلق النصف الأيسر باللغة والعقلانية. ومن أجل إبراز هذه العملية المهمة المتمثلة في معالجة المعلومة، أطلق الإنسان على نفسه لقب «الإنسان العاقل». وما دُمْنا نتحدث عن الإنسان الأيمن، فإن النصف الأيمن يعالج بصورة إجمالية وواقعية صورًا وأشكالًا ورسومًا بيانية شاملة؛ أيْ مجموعة من المعلومات الأكثر تنظيمًا دون أن يفصل مكوناتها وغالبًا بإضافة ملمح عاطفي. ويسهم هذا النصف أيضًا في توليد الفكر الخيالي والأولي، كما رأينا لدى الحيوانات، ويدفع الجهاز العصبي إلى محاكاة ما وراء الواقع، وبعبارة أخرى يتعلق هذا النصف باللاعقلانية بل بالفن.

كان ذلك بالطبع وصفًا إجماليًّا بما أن نصفَيِ المخ يعملان معًا في تناغم ويتفاعلان بلا توقف. فالفن على سبيل المثال حتى إن كانت نقطة انطلاقه هي النصف الأيمن فهو يعود بصورة عرَضِية وضرورية إلى النصف الأيسر ليأخذ شكل التعبير اللغوي أو ليتم كتابتُه، وذلك عندما يتعلق الأمر بالأدب أو حتى الموسيقى. فلا ينبغي إذن أن نبالغ في الفصل بين النصف الأيمن والأيسر للمخ.

بَيْدَ أن هذه المعالجة المتشعبة التي يقوم بها العقل فائق القوة للمعلومة والتي تؤدي في آنٍ واحد إلى محاكاة عقلانية العالَم وإلى المحاكاة — التي لا تقل غرابة — للاعقلانية العالَم الخيالي، قد تمثل الصفة الأكثر تمييزًا للحيوان الإنساني. فننتقل هكذا من عمل عقلي يبرز أولًا بفضل كمية معلوماته إلى صفات خاصة: العلم الدقيق والعالَم الخيالي الذي لا حدود له وكلاهما مصدر للابتكار والإبداع وميزة لجنسنا على كوكب الأرض.

وفي مواجهة كل هذه الحجج التي تشير في مختلف فصول هذا الكتاب إلى التشابه الكبير جدًّا بين البشر والحيوانات، ما هي إذن السمة المميزة لجنسنا البشري؟ إن سمة «الروح» التي قد يمتلكها الإنسان وحده لا يمكن فصلها عن بعض الاعتبارات الدينية المحددة وهي بعض العادات الدينية التي تؤكد هذا الاختلاف الجوهري؛ لذا لا يمكن لهذه السمة أن تمثل إجابة شاملة. فتُعتبر إذن الاختلافات المرتبطة بالقدرات الاستثنائية للعقل الإنساني أكثر إقناعًا؛ شعورٌ أكبر بالوقت والمستقبل، وولوجٌ مميز إلى عالم الخيال، وحوارٌ بين العقلاني (المعرفة) والخيالي وهو حوار قد يرجع أصله العصبي إلى الحوار بين نصفَيِ المخ. وتؤدي هذه الاختلافات لدى الإنسان إلى توليد قدرات على الابتكار ترتبط بالقدرة على معالجة كمية هائلة من المعلومات، وهي قدرة تحول الكمي إلى النوعي الخاص بالإنسان؛ أيْ تحول الكم إلى الكيف، إلى طريقة عيش مختلفة تقوم على فكر معقد لا مثيل له على كوكب الأرض.

يُعتبر كل ما يدفعنا إلى التفكير في الخصائص المميزة للإنسان، لا سيما نشاطه الثقافي الضخم الذي يتجلَّى في مجال العقلانية والعلم وكذلك في العالم الخيالي والفن، نتاجًا لنشاط عقلي لا مثيل له، فيحول كمية المعلومات إلى نوعية ويمنح الإنسان «طريقة عيش» جديدة.

من وجهة نظري باعتباري عالِمَ أحياء، يُعَدُّ ظهور هذا العقل فائق القوة عبر الاصطفاء الدارويني أحد العناصر الأساسية للخصائص المميزة للإنسان حاليًّا مقارنةً بالحيوانات.

(٣) الثقافة شكَّلتْ ذكاء الإنسان وقد تُشكِّل مستقبلًا ذكاء الآلات

يعتقد عدد من الباحثين في الذكاء الاصطناعي أنه من أجل ظهور الذكاء يكفي إعداد شبكة من الخلايا العصبية يكون لها سمات مشابهة للعقل الإنساني من حيث الحجم وعدد التوصيلات وسرعة النقل. فبسبب اطمئنانهم من ناحية التطور السريع لقوة أجهزة الكمبيوتر، هم مقتنعون بأن هذا العصر سيأتي خلال بضعة عقود على أقصى تقدير. ينبغي فقط أن ننتظر.

وكما رأينا يتميز الإنسان بالفعل عن سائر الحيوانات الأخرى بالحجم النسبي لعقله. ويتفق هذا النهج الكمي للذكاء مع نموذج «المذهب العقلي» الذي يفسر تطور الإنسان عبر المعطيات حول حجم جمجمة فصيلة القردة العليا المُكتشفة. وفي هذا الإطار، يُعتبر العقل هو الشرط المسبق اللازم لبناء أدوات ولتطوير الثقافة ولتكوين لغة خطاب، فلا يستحيل شيء على العقل الكبير.

يحكي علماء مختصون بعصور ما قبل التاريخ وعلماء أنثروبولوجيا قصة مختلفة.5 فهم يَرَوْن أن التحول إلى الإنسان بدأ بالأقدام. فإن جمجمة طفل تونج التي اكتشفها دارت عام ١٩٢٤ وهو ذو قدمين وعقل صغير، تُعتبر من العناصر المؤيدة لهذا الافتراض. فربما دفعتْ بعض الظروف البيئية الخاصة أسلافنا القدماء إلى اختيار نمو طريقة خاصة للجسم: وهي السير منتصبًا. ولكن ليس من السهل اكتساب مهارة السير على قدمين؛ لأنها تحدٍّ حقيقي لتشريح أجسام ذوات الأربع، فيحتاج الإنسان إلى حوالي مليونَيْن أو ثلاثة ملايين عام لكي يطور تشريحًا، ومهارات تسمح بقوام رأسي مريح ومستقر. فمَن يعانون حتى يومنا هذا من آلام في الحوض أو الركبة أو الظهر يعرفون جيدًا كم هو منافٍ للطبيعة السير واقفًا. لقد اختار الإنسان السير منتصبًا ثم تكيف الجسم تدريجيًّا.

وهنا تبدأ مغامرة غريبة. فالسير على قدمين يسمح باستخدام الأيدي في مهام جديدة. فاليد تُستخدم في حركات الروابط الاجتماعية وفي التخلص من القمل وفي وضع الزينة وفي لعب الأطفال وفي إظهار الحنان والحب، فاليد تفسح المجال للتعقيد الثقافي.

وتسمح اليد أخيرًا وخاصةً بالحركة التقنية. ومنذ ذلك الوقت حلت اليد المقترنة بالشيء المصطنع، أي جهاز اصطناعي بديل، محل الأسنان للإمساك بالشيء أو نقله أو تحطيمه أو تمزيقه، مما أدى إلى صغر قناع الوجه وعضلاته. وتناقصت الضغوط العضلية التي تتعرض لها قشرة الجمجمة، فعندما تتحرر الجمجمة من العضلات، تسمح بنمو عقل أكبر حجمًا.

وتنشأ حينئذٍ دائرة ممتلئة فتؤدي زيادة حجم العقل إلى توسيع القدرة على الحركة وتعقد الأشياء المصطنعة والتقنيات الثقافية. ومن أجل إنجاب طفل بهذا العقل الكبير يتعين على الطفل الإنساني أن يُولَد مبكرًا عن الحيوانات وسيكون أمامه أن يتعلم الكثير.

يبدو أن التشريح والقدرات العقلية والثقافة يرتبط كلٌّ منها ارتباطًا وثيقًا بالآخر من أجل فهم طبيعة الذكاء الإنساني. فقد اتخذ الجنس البشري مسارًا ثقافيًّا محددًا، وكان بإمكانه أن يكون مختلفًا. أما الحيوانات الأخرى فقد استكشفت سبلًا أخرى. وفي هذا الإطار لا يرتبط الذكاء فقط بكمية المعلومات أو القدرة على التعلم، فلا يمكن النظر إليه إلا في إطار بيئة محددة وسلالة ثقافية معينة.

وإذا شكلت الثقافة بالفعل ذكاء الإنسان فمن المرجح أن عملية ثقافية واحدة قد تؤدي إلى ظهور آلات مزودة بنوع من الذكاء. يتعين إذن إعادة النظر في مسألة ذكاء الآلات في ضوء قدرتها على التعلم من خبرتها وعلى التخيل مما تعلمتْه وعلى نقل نتاج هذا التخيل إلى آلات أخرى عبر الثقافة. وربما يكون من المستحيل تصميم آلة ذكية من العدم حتى لو زودناها بعقل كبير. ولكن من الوارد في المقابل أن تستطيع آلة ما تطوير مهارات أكثر إتقانًا مع زيادة خبراتها. ومن الممكن أيضًا أن تستطيع مجموعة من الآلات إنتاج أشياء مصطنعة أو تمثيلات يمكن نقلها ثقافيًّا من جيل إلى جيل، ومن شأنها أن تعجل ببدء التعلم لدى الآلات اللاحقة. ولن تكون هذه العملية وحدها هي التي ستتيح لسلالة من الآلات في يوم ما أن تنمي نوعًا مميزًا من الذكاء المتطور.

وفي مواجهة هذه التخمينات يتعين علينا ذكر ما ينبغي إضافته إلى كل فصل من فصول هذا الكتاب. وسنكتفي كالعادة بترجمة اللغز الغريب لتطور الذكاء الإنساني أو تعميمه في لغة الآليات التي نفهمها. فما يُفهم جيدًا يتحول إلى آلة وفي المقابل تغير الآلات من نظرتنا إلى جوهرنا.

(٤) إعادة تعريف مستمرة للطبيعة الإنسانية

لقد ذكرنا أن الإنسان الذي يتسم بالنقص والضعف في وسط الغابة الأولية التي ظهر فيها ولكن المزود بذكاء استثنائي سمح له في نهاية المطاف بالسيطرة على الكوكب، طالما سعى إلى معرفة نفسه وتعريفها. وقد بدأ منطقيًّا بتعريف نفسه أولًا بالمقارنة مع بقية الكائنات الحية التي تملأ الأرض معه، أي «الحيوانات» التي يشبه سلوكها سلوك الإنسان في العديد من الأمور على الأقل فيما يتعلق بالسلوكيات الأكثر تعقيدًا، ولكنه اضطر مؤخرًا إلى مقارنة قدراته بقدرات كيانات أخرى صنعها هو بنفسه بفضل ذكائه، وهي «الآلات» التي يزداد إتقانها، والتي تستطيع أن تتجاوزه في بعض المجالات، والتي يسمح تطورها المنتظم بأن نتخيل أنها سوف تمتلك في المستقبل قدرات أكثر قربًا من قدرات الإنسان.

ولقد قادنا تعريف حدود الخصائص المميزة له حاليًّا إلى موقفين مختلفين: موقف عالم الأحياء وموقف المهندس. ولا يجب أن يختلط علينا الأمر: «مختلفان» لا يعني أنهما «متعارضان». فما بين العقل البشري والثقافة الإنسانية ثمة لعبة تفاعلات معقدة أو ما يمكن أن نسميه جدلًا هكذا تجعل من الصعب تحديد العنصر المحرك أو الأساسي في التفاعل. ويُعتبر دور كلٍّ من العقل والثقافة أساسيًّا فيما نسميه «التحول إلى الإنسان» ولكنْ لكلٍّ منهما وزنٌ مختلفٌ. وهنا نجد أيضًا تفرقة بين مفهوم «بيولوجي» ومفهوم «أنثروبولوجي» لهذا التحول، وبالرغم من كون أحدهما يكمل الآخر فإن المواجهة لا تزال مستمرة بين هذين المفهومين في كتابات الخبراء.

وعلى أية حال، ثمة تشابه بين الحيوانات والآلات: فنحن نُعرِّف أنفسنا بالاتصال معها. وبما أننا نقارن أنفسنا بها فهي تجبرنا على وضع مسألة تميزنا موضع سؤال، وهو سؤال قديم وسيستمر طرحه في المستقبل بلا شك كلما اكتشفنا قدرات جديدة لدى الحيوانات وأنشأنا آلات أكثر إتقانًا. وهذا هو ما نود أن نختم به: إنها هذه الرؤية لإنسان يعيد تعريف نفسه بصورة مستمرة.

تُعد الكتب بلا فائدة في بعض المجالات؛ فعن طريق العيش مع حيوان ما نقتنع بذكائه، وعن طريق استخدام آلة ما بصورة يومية يمكن أن تتغير مفاهيمنا المسبقة حول ما يمكنها أو لا يمكنها فعله. ولقد اكتفينا هنا بالعودة إلى ما نعتقد معرفته عن الحيوانات والآلات والتركيز على أهميتها في تكوين إنسانيتنا. والآن يتعين على كل فرد أن يستعين بخبرته لتكوين رأي حول الطريقة التي تحول بها الحيوانات والآلات من جوهره يومًا بعد يوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤