الفصل الأول

التعقيد

(١) التطور والتعقيد لدى الكائنات الحية

تُعَدُّ الكائنات الحية هياكل معقدة بصورة خاصة. فإلى جانب الكائنات كبيرة الحجم والمجهريات «الصغيرة جدًّا»، عادةً ما يُقال إن الكائن الحي «معقد جدًّا». كيف يتجلَّى هذا التعقيد؟ وكيف يجد الإنسان مكانه وسط ذلك؟

حتى لو لم يكن من السهل دائمًا تعريف التعقيد بدقة، فثمة طريقة بسيطة للغاية لإثبات التعقيد لدى الكائنات الحية وهي ملاحظة أنها تتكون من طبقات متداخلة. فعلى سبيل المثال تتكون أجسام الحيوانات من أعضاء تتكون بدورها من خلايا، وتتكون الخلايا من «عضيات» تتكون هي الأخرى من جزيئات شديدة التعقيد. وبغضِّ النظر عن الأجسام يمكننا أيضًا أن نجد طبقات مثل المجموعات من الفصيلة الواحدة (أو المجتمع)، أو السكان أو النوع … وفي هذه الطبقات المتداخلة يتضح أن الجسم المكون من أعضاء هو أكثر تعقيدًا من الأعضاء التي يحتوي عليها كلٍّ على حِدَة، وأن الخلية أكثر تعقيدًا من «العضيات» التي تضمها، وهكذا …

إن هذا التعقيد الذي تتسم به الكائنات الحية هو نتاج ظاهرة شديدة الأهمية نسميها «تطور» أنواع الكائنات الحية، والتي اكتشفها لامارك وداروين في القرن التاسع عشر والتي تشير إلى أن ثمة خلايا قد أدت في فترات سحيقة من عمر كوكبنا إلى وجود النحلة والأخطبوط أو … الإنسان. كيف حدث ذلك؟ كيف بُني هذا «التعقيد ذو الطبقات المتداخلة» الذي أدى اليوم إلى وجود كائنات على الأرض أكثر تعقيدًا من تلك التي تولدت منها؟

(١-١) الاصطفاء الدارويني

لا يُعتبر تفسير ما يمكن أن نطلق عليه «آليات التطور» معروفًا بالضبط، ولكننا قد نلاحظ أنه يُفترض وجود عمليات عدة، وأشهرها هي ما أُطلق عليها «الاصطفاء الطبيعي» أو «الاصطفاء الدارويني» الذي يقوم على التكاثر الجنسي للأفراد وعلى تغيرات عَرَضية في السمات الوراثية تسمى «الطفرات». وتتحدد سمات الكائنات الحية إلى حد ما عن طريق ما نسميه «الجينات»، وهي جزيئات موجودة بخلايا هذه الكائنات وتحدد العديد من سماتها مثل لون العينين وملامح الوجه وطريقة عمل أعضائها وأيضًا حساسيتها بسبب بعض الأمراض. وتنتقل هذه الجينات من خلال التكاثر الجنسي من الآباء إلى نسلهم الذي يُشبِههم تبعًا لذلك. ولكن قد تقع أحيانًا أخطاء في الجينات نُطلِق عليها اسم «الطفرات»، وقد يكون بعضها مفيدًا؛ فيجعل المولود الذي يحمل الطفرة أكثر تكيفًا مع بيئته مما كان عليه والداه. وهكذا بسبب طفرة قد يُولَد ظبي بعنق أكثر طولًا من عنق أبيه، مما يسمح له بتناول أوراق الشجر. ووفقًا لنظرية الاصطفاء الطبيعي، فإن هذا المولود الأفضل تكيفًا سيحظى بسهولة أكبر في البقاء وفي إيجاد شريك جنسي للتكاثر. وستكون «طفرته» إذن هي المعيار وستتطور المجموعة الحيوانية. وفي هذه الحالة الخاصة، ولدت بعض الزرافات من ظباء قديمة. ويعتقد المناصِرون المتشددون للداروينية أن هذه الآلية يمكنها بمفردها أن تفسر كل شيء عن التطور حتى التعقيد.

(١-٢) الكائنات الحية تشبه «الفسيفساء»

قد نعتقد أيضًا أن هذه الآليات التي لا جدال عليها (فكل علماء الأحياء الكبار حاليًّا يُسلِّمون بالأفكار الداروينية) لا تفسر كل شيء، وأن بعض المبادئ التنظيمية قد تدل أيضًا على التعقيد، ويمكن هذه المرَّة وصف مبدأين منها يتعلقان بالطريقة الأخرى الكبرى للتكاثر لدى الكائنات الحية، ألَا وهي التكاثر «اللاجنسي». يعتمد هذا التكاثر على الانقسام والتكاثر «بالتماثل» لجسم حي. وهكذا فإن خلايا كبد الإنسان أو جلده، التي تنقسم لتوليد خليتين متماثلتين، تقوم بذلك بطريقة لا جنسية. ولكن الظاهرة أعم بكثير وتنتشر بصورة خاصة في عالَم الكائنات الحية. ومن مظاهر التكاثر اللاجنسي: التعقيل في النباتات أو تولُّد دودتَيْ أرض عبر انقسام دودة واحدة أصلية. وبالأساس تنفصل بعد ذلك الكيانات المولودة بهذه الطريقة لتعيش حياة مستقلة، ولكن تُوجَد استثناءات.

إذا لم تنفصل هذه الكيانات وظلت متجمعة (أو متجاورة) فهي قد تُشكِّل طبقة علوية. ودون الخوض في التفاصيل،1 فعن طريق ترك الخلايا متجاورة، سيتشكل جسم متعدد الخلايا، وعن طريق ترك الأجسام المتعددة الخلايا متجاورة مثل البوليبات، ستتشكل مجموعات من البوليبات مثل تلك التي تنمو على الصخور المرجانية الكبيرة. وبمجاورة الديدان لدائرة حلقية واحدة، ستتشكل مجموعات حلقية من الديدان على غرار الديدان الموجودة بحدائقنا. وبمجاورة أفراد مع عصافير أو ثدييات، ستشكل تجمعات (تُسمى حشودًا). وفي هذه الحالات كافة، سوف تؤدي مجاورة هياكل متماثلة إلى تكوين هيكل من الطبقة العلوية. وبعد هذه المجاورة للكيانات المتماثلة سنشهد في أغلب الأحيان ظاهرة ثانية في عالم الكائنات الحية يُطلق عليها اسم «التكامل»: تكف الهياكل المتجاورة عن تماثلها لتتخصص كلٌّ منها في وظيفة تختلف عن الأخرى. وستكتسب الخلايا مهام مختلفة لتشكل كائنًا متعدد الخلايا بأعضاء مختلفة، وستظهر أجسام معقدة مكونة من بوليبات تقوم بمهام مختلفة: الطفو والدفاع والتغذية والتكاثر. ومقارنةً بديدان الأرض الموجودة بحدائقنا، تصبح الحيوانات المتكاملة نحلًا أو أخطبوطًا أو … إنسانًا. وحتى لو كانت هذه الحيوانات تحتفظ أحيانًا في أجسامها بآثار مجاورة الهياكل المماثلة لسلفها؛ فإن معدة النحلة مقسمة مثل جسم سلفها الحلقي، ويحتوي جسم الإنسان بالطريقة ذاتها على تقسيمات الضلوع والفقرات العظمية. وإذا تكاملت في النهاية «الحشود» المكونة من أفراد متماثلين فسنحصل على مجتمعات معقدة مثل مجتمعات النحل أو البشر التي يضطلع فيها الأفراد بأدوار مختلفة فيما بينهم.

ودون الخوض في تفاصيل هذه النقطة، نلاحظ إذن أن التطبيق المتكرر لمبدأَيِ الجمع الكبيرين خلال تاريخ الأحياء (تَجاوُر عناصر متماثلة ثم تَكامُلها بحيث تُصبح هذه العناصر مختلفةً فيما بينها) يسمح للعالَم الحي بتشكيل طبقات متداخلة على مراحل، وهو ما يُعدُّ إحدى خصائص تعقيد الكائن الحي كما رأينا. وفي هذا الصدد، تُعَدُّ صورة الفسيفساء موضحة للفكرة؛ فعلى غرار الفسيفساء بالمعنى الفني للكلمة، تُعتبر الكائنات الحية طبقات متداخلة وتَمنَح كلُّ طبقة للطبقات الأسفل منها استقلالية في العمل. وكما يحدث في الفسيفساء، تمنح الصورة الكبرى لونها وشكلها وبريقها للتربيعات الرخامية التي تتكون منها.

في المجمل يُعَدُّ المبدأ التنظيمي لتعقيد الكائنات الحية بنية «من الفسيفساء» ناتجة عن طفرتين للتكاثر اللاجنسي، ألَا وهما تجاور الكيانات المتماثلة ثم تكاملها. ويمكن إذن أن ينطبق غربال الاصطفاء الطبيعي على هذه الكائنات المعقدة إلى حدٍّ ما والمكونة بهذه الطريقة، وذلك لكي لا يبقى منها إلا الأكثر تكيفًا.

(١-٣) أين الإنسان من كل ذلك؟

خضع الإنسان على غرار نُظَرائه من الحيوانات إلى عمليات تجاوُر وتكامُل واصطفاء طبيعي. وفي هذا الشأن وفيما يتعلق بجسده المعقد فهو لا يختلف بصورة جوهرية عن نظرائه قريبي الشبه به مثل الشمبانزي أو بعيدي الشبه عنه مثل الأخطبوط. ولكنه يتميز بامتلاك عقل قوي بصورة خاصة، ولا يوجد مقياس عام لأداء هذا العقل حتى مع نظرائه الأكثر قربًا منه. ويبلغ التعقيد في هذا العقل البشري ذروته الذهنية التي يستطيع الإنسان وحدَه أن يَصِل إليها على هذا الكوكب والتي تجعل منه حيوانًا «فريدًا من نوعه». إلا أنه من الممتع ملاحظة أننا قد نجد في نشاط العقل الإنساني فائق القوة (فكره) مبادئ التعقيد ذاتها الموجودة بتشريح الحيوانات. وهكذا تُعتبر ذاكرتنا التي تبدو لنا موحدة مجموعة متجاورة وضعيفة التكامل من الذاكرات المختلفة، اكتسبتْها الحيوانات السالفة لنا خلال التطور (انظر الفصل الثاني). وكذا وَعيُنا (انظر الفصل السابع) وحديثنا،2 وهما مقدرتان تجعلان من العقل البشري بنية معقدة بصورة خاصة.

(٢) تعقد التقنيات وتركيبها الطبقي

على غرار الكائنات الحية، تكون التقنيات على هيئة طبقات متداخلة؛ فعادةً ما تتكون التقنية من مكونات تقنية أولية: نابض الاتزان والتروس في الساعة، ومكونات الدائرة الإلكترونية، وأجزاء برنامج الكمبيوتر، والتي تتقسم هي الأخرى إلى عناصر أساسية بصورة أكبر. ومن الأصح أن نعتبر أن التقنيات مرتبة على هيئة نظم تقيم بداخلها العديد من علاقات الترابط، بما في ذلك تبادل الطاقة (أجهزة موصلة بشبكة الكهرباء أو مزودة ببطارية) وتبادل المعلومات (شبكات الأجهزة الموصلة بعضها ببعض، وجهاز مشغل الوسائط). وسوف نتطرق إلى البيئات التقنية حتى لو كان هذا المصطلح يُعَدُّ بلا شك إساءة استعمال للغة. وبدايةً من الترتيب السلس في بيئة ما وحتى التكامل المُنتقَى بداخل الجهاز نفسه، يمكن إذن توحيد عمل الأجهزة التقنية إلى حدٍّ ما بداخل النظام ذاته.

(٢-١) التطور التقني يتم أيضًا عبر التجاور والتكامل

على غرار تطور الكائنات الحية، يمر التطور التقني بعمليتين متكاملتين، ألا وهما التجاور والتكامل. ففي البداية تنتج مجموعة جديدة عبر المزج بين عناصر تقنية أولية. وفي هذا الترتيب يضطلع كل عنصر تقني بمهام مكمِّلة لمهام العناصر المجاورة، ولكن النظام الكامل يظل غير متكامل بصورة كبيرة. وفي البداية تكون العناصر التقنية المجمعة والناتجة عن عمليات تطور مستقلة متجاورة فقط. ثم تخضع التقنية الجديدة والمتكونة بهذه الطريقة لمسارها التطوري بالتحسن التدريجي عبر التكامل. ويكثف كل عنصر تفاعلاته مع العناصر الأخرى بغية تشكيل كلٍّ متماسك وموحَّد. ومن أجل وصف هذه العملية، يستخدم جيلبرت سيموندون مصطلح «الإتقان» بمعناه الأصلي (أي، ما ينمو بصورة متناسقة).3
يمثل التطور في صناعة هياكل السيارات مثالًا جيدًا على عمليات التجاور والتكامل. فعلى مرِّ أجيال السيارات، قامت الهياكل على التوالي «بإدخال» الأجنحة والمصابيح والمرايا ومؤخرًا الواقي من الصدمات لكي تتحول إلى الأشكال «البيضوية» للسيارات الحديثة.4

إن التجاور والتكامل ليسا فقط مرحلتين مختلفتين بل اتجاهان لا يزالان مستخدمين في عملية تطور الأشياء. ويمكننا أن نعتبر أن هاتين القوتين تنطبقان على التوازي على المكونات التقنية الأولية (صمام دائرة إلكترونية، أو محرك سيارة، إلخ …) وينطبقان أيضًا على مستوى الأشياء الضخمة، ألا وهي البيئات التقنية. وثمة اتجاهٌ الآن لدى البيئة الشاملة لتكنولوجيا المعلومات إلى التكامل، مما يجعل كل تقنية تشارك في هذه العملية (كمبيوتر، مشغل موسيقى، البِنَى التحتية للشبكات) تَميل إلى تكثيف التفاعلات مع الأشياء الأخرى؛ ومِن ثَمَّ تحدد إطارها.

وحتى لو تميل التقنية إلى التكامل إلا أنها لا تتكامل أبدًا بصورة كلية، وهذا ما يتضح عبر بقاء أجهزة متنوعة لا تزال تحتفظ بدرجة من درجات الاستقلالية. فيمكننا إذن أن نتحدث بكل وجاهة عن «الفسيفساء» التقنية.

(٢-٢) التقنيات تتطور في شكل سلالات

تتطور التقنيات في شكل سلالات وتخضع لعمليات اصطفاء وأنظمة تكاثر مختلفة. وتنطبق عمليات الاصطفاء على التوازي على مستويات عدة بدايةً من المكونات الأولية حتى الأنظمة البيئية نفسها. وتتسم معايير اصطفاء التقنيات وانتشارها بالتعقيد، وبالإضافة إلى ذلك فهي لا تزال غير معروفة. ويبدو أن انتشار معظم الابتكارات التقنية يَمُرُّ عبر ثلاث مراحل متتالية.

خلال الفترة الأولى وهي فترة التكون، تُشكل مجموعة تقنية جديدة عبر تجاور عناصر تقنية قائمة بالفعل أو في طور النمو، وتتسم هذه المجموعة بدرجة منخفضة من التكامل. وتُعَدُّ العناصر التقنية المستخدمة ناتجة عن سلالات تقنية مستقلة بعضها عن بعض، وربما تكون شديدة القِدَم. وبصورة عامة، ظهر تاريخيًّا في ذلك التوقيت «مخترع»، وهو يستحق هذا اللقب حتى لو لم يكن سوى حلقة صغيرة من حلقات سلسلة طويلة من المبتكرين. فعلى سبيل المثال صنع فانفر بوش في عام ١٩٣٠ أول جهاز كمبيوتر على هيئة آلة عملاقة تضم مكونات كهربية وميكانيكية مختلفة. وفي الفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، لم يكفَّ هذا النوع من الكمبيوتر عن النمو عبر التجاوُر حتى ضم ٢٠٠٠ أنبوب كاثودي و١٥٠ محركًا كهربيًّا. وتطورت عملية تكامل على التوازي مما أدى إلى إحلال الترانزستور والدوائر المتكاملة بدلًا من العناصر الكهروميكانيكية. وبدايةً من عام ١٩٥٨ كان الكمبيوتر جاهزًا للانتشار في بيئات أكثر انفتاحًا من بيئة مختبر البحث.

وخلال الفترة الثانية وهي فترة النضوج، يمكن إذن للتقنية أن تنتشر مستمرة في تحولها عبر التجاور والتكامل، وعند بلوغها درجة معينة من الانتشار، تصل إلى نقطة انفصال، ويتم تبني هذه التقنية من خلالها بفضل ديناميكية التعزيز الذاتي؛ فيؤدي كل شيء جديد ومنتشر إلى زيادة في الطلب عليه (فكلما زاد عدد الأشخاص الذين يحملون هاتفًا كان من المفيد الحصول على واحد منه). وتقود هذه السرعة في الانتشار من جهة إلى تكامل أقوى للتقنية، ومن جهة أخرى إلى بزوغ أنظمة بيئية جديدة تتمحور حول التقنية المنتشرة أو حول أحد أجزائها. ومنذ بداية الستينيات بدأت أجهزة الكمبيوتر في الانتشار بعدد متنامٍ من المكاتب. وفي عام ١٩٧١، نجحت شركة إنتل للمرة الأولى في وضع كل أجهزة الترانزستور لإحدى وحدات المعالجة المركزية على دائرة واحدة متكاملة؛ مما أدى إلى اختراع المعالج الدقيق. وأتاح هذا التصغير زيادة استخدام الكمبيوتر (حيث قلت المسافة بين المكونات)، وخفض التكاليف وصناعة أجهزة كمبيوتر أصغر حجمًا: أجهزة الكمبيوتر الصغيرة، وهو ما أدى إلى ميلاد أجهزة الكمبيوتر الشخصية التي تسللت من بيئة الشركات إلى العالم المنزلي. وعبر ربط أجهزة الكمبيوتر فيما بينها على المستوى المحلي في بادئ الأمر ثم في شكل شبكات عالمية، أدى ذلك إلى نشأة بيئة جديدة تتضمن بِنًى تحتية للتواصل وبرامج من شأنها هي الأخرى أن تمثل سلالات تقنية جديدة.

وفي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التشبع، تشهد بعض السلالات التقنية استقرارًا أو تراجعًا. وثمة سببان من شأنهما أن يقودا إلى هذا التشبع. فقد تقترب التقنية المتكاملة من الحدود الفيزيائية التي لا يمكن تجاوزها، مثل قانون الديناميكا الحرارية للحد الأقصى من الطاقة المنتجة للمحركات. ومع ذلك، غالبًا ما يُستبدل به سلالة تقنية أخرى أكثر تكيفًا مع بيئة معينة. وشهدت دقة الساعات الميكانيكية زيادة مطردة خلال ستة قرون. إلا أنه في العشرينيات وبعد ظهور ساعات الكوارتز صارت هذه السلالة التقنية غير مستعملة، على الأقل فيما يتعلق بقياسات الدقة.

ويمكن أيضًا وصف تاريخ الطباعة والطيران أو المحرك البخاري عبر عمليتي التجاور والتكامل ووفقًا لمراحل التكون والنضوج والتشبع. وكان دور الإنسان في هذه التطورات أساسيًّا وغير مباشر في آنٍ واحدٍ. فخلال بعض الفترات تطورت بعض السمات التقنية المرغوب فيها بصورة ضخمة وسريعة. فبين عامي ١٤٠٠ و١٩٢٠ على سبيل المثال، تضاعفت دقة الساعات الميكانيكية كل ٤٥ عامًا في المتوسط. وبين عامي ١٨٨٤ و١٩٦٥ تضاعف الرقم القياسي للسرعة في الهواء كل ١٧ عامًا. وفي وقت قريب من وقتنا، تنبأ قانون مور بأن الحد الأقصى لعدد مكونات المعالج الدقيق يتضاعف في المتوسط في أقل من عامين. وحتى لو يجب النظر إلى هذه التطورات في ضوء سياقها الاجتماعي والثقافي العام الذي يحدد ما هو مرغوب فيه وما ليس كذلك؛ فإنها تمخضت بصورة أساسية عن ديناميكية جوهرية لتطور التقنيات وانتشارها. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو متناقضًا، فإن تلاؤم هذه التطورات مع الإنسان يبدو في أغلب الأحيان أمرًا ثانويًّا في هذه العمليات؛ فلوحة مفاتيح دفوراك المبسطة التي تم اختراعها في عام ١٩٣٢ والتي تم تحسين ترتيبها للتلاؤم مع سرعة الكتابة، لم تنجح قط في شغل مكان لوحة مفاتيح كويرتي التي صُممت في عام ١٨٧٣، على الرغم من أن هذه الأخيرة أقل كفاءة بكثير من الأولى.

(٢-٣) هل يمكن المقارنة بين تطور التقنيات وتطور الكائنات الحية؟

هكذا يتشابه تطور التقنيات مع تطور الكائنات الحية في العديد من الأمور: الترتيب في سلالات تطورية وأنظمة بيئية متداخلة، ودرجة متباينة من التكامل، واصطفاء على مستويات متعددة، وعمليتي التجاور والتكامل، إلا أنه يبدو واضحًا أن التقنية يمكنها أن تحظى بآلية لزيادة التعقيد قد تكون أكثر فاعلية من الآلية المستخدمة في التطور البيولوجي؛ وذلك بالتحديد لأنَّ التقنيةَ من صُنع الإنسان وليست وليدة ديناميكيات عمياء. ويجمع الإنسان عبر السلالات التقنية في عصره بين الترتيبات الجديدة بقدر إمكانية إعادة استعمال المكونات التقنية الفسيفسائية والمتكاملة إلى حد ما بداخل جهاز واحد، بحيث يُعاد استعمالها في سياقات غير مسبوقة.

ويعتمد مدى هذا الجمع على انتشار التقنيات والمعارف التقنية الدالة على بيئة وعصر محددين. فقد أدت النزعة إلى الموسوعية في القرن الثامن عشر إلى تحويل الفنون اليدوية التي تتسم بمهارات سرية وانتشار جغرافي محدود إلى معارف عامة يمكن أن يستخدمها الجميع. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، لم يكفَّ تحويل الفنون إلى تقنيات والتطوير الصناعي وتحديد معايير التفاعلات وعولمتها عن توسيع نطاق الإمكانيات التقنية. واليوم فإن العصر الرقمي الذي يضمن وصف المعلومات وتكاثرها ومشاركتها على الصعيد العالمي، مَنَحَ التقنيات في مجملها قدرة تطورية لم يسبق لها مثيل. وفي حين أن التطور البيولوجي لا يزال محصورًا في زمانية بطيئة، فإن التقنيات تُعَدُّ اليوم في قلب الديناميكيات القوية لإعادة التركيب والانتشار والاصطفاء مما يؤدي إلى بزوغ ترتيبات جديدة كل يوم، ترتيبات من شأنها أن تقلب هيكل البيئة التي نعيش فيها رأسًا على عقب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤