الفصل السادس

الألم

(١) كيف نعرف أن حيوانًا يتألم؟

كان نيكولا مالبرانش يؤكد أن الحيوانات لا تتألم، ترديدًا لكلام ديكارت مؤلف كتاب «مقال في المنهج».

عادةً ما يصل التلاميذ بأفكار معلميهم إلى حد التطرف بل السخرية. فكان ديكارت قد تخيل أن الجسم (جسم الإنسان أو الحيوان على حد سواء) يشبه «آلة» وفقًا لما كان شائعًا في عصره، ولكن الإنسان من وجهة نظره كان يُفلِت من كونه آلة بحتة؛ لأنه يمتلك روحًا خلافًا للحيوانات (انظر الفصل التاسع عشر). فاستنتج مالبرانش أن الحيوانات لا تتألم بما أن الجسم آلة وأن الحيوانات آلات بحتة. ومن أجل إثبات ذلك، كان يضرب بعض الكلاب وحين كانت هذه الحيوانات البائسة تَعوِي كان يقول: «تَرَوْن جيدًا، أنها كالساعة التي تدق أجراسها!»

سرعان ما يقود هذا التشبيه بين الحيوانات والآلات إلى بعض الأفكار. فالعلم الحديث لا يشكك في كون الجسم آلة شديدة التعقيد كما افترض ديكارت حتى لو تعلق الأمر بآلة ذات درجة تعقيد مختلفة تمامًا عن تعقيد آلات القرن السابع عشر! ولكن العلم الحديث يؤكد أيضًا أن الجسم في جميع الأحوال عبارة عن آلة مزودة بالإحساس وقادرة على الشعور بالألم.

كيف تتضح إذن هذه القدرات على الشعور بالألم لدى الحيوانات؟ يحدد علماء الأحياء ثلاث درجات فيما يتعلق بالشعور بما يسبب ألمًا: الاستقبال الحسي للألم، والألم، والمعاناة.

إن الاستقبال الحسي للألم هو إنذار للجسم ضد كل العوامل المثيرة التي قد تكون مضرة له: حرارة شديدة، أو برد قارس، أو التهاب، أو ضغط مرتفع … ويشعر الجسم بهذا الإنذار عبر مستقبلات حسية في الجلد، وينتقل الإنذار إلى خلايا عصبية تخبر المراكز العصبية بهذا الخطر. وفي المقابل، تصدر المراكز العصبية أوامر تهدف إلى الحد من العامل المثير والخطير أو القضاء عليه، مثلًا عبر انسحاب أحد أفراد القطيع أو هروب الحيوان. وتُعَدُّ كل الحيوانات القادرة على الإحساس، أيِ المزودة بمستقبلات حسية، قادرة على الاستقبال الحسي للألم.

وعندما يقترن الاستقبال الحسي للألم بمظاهر شعورية، فنحن نتحدث إذن عن «الألم» وذلك يفترض وجود نظام داخل الجهاز العصبي قادر على التحكم في العواطف. فعلى سبيل المثال لدى الفقاريات، يُطلق على هذا النظام اسم «الجهاز الحوفي»، وهو مسئول أيضًا عن بعض ظواهر الذاكرة (انظر الفصل الثاني) لأنَّ الذاكرةَ والعواطفَ مرتبطتان بالفعل كلٌّ منهما بالأخرى.

وأخيرًا عندما يقترن الاستقبال الحسي للألم بظواهر إدراكية تولِّد وعيًا ما (انظر الفصل السابع)، فنحن نتحدث إذن عن «المعاناة». وترتبط المعاناة بالمنطقة التي توجد بداخل العقل وتتحكم بالوعي، وهي القشرة المخية التي تحتوي بدورها على العديد من الطبقات: قشرات «قديمة» توجد لدى الأسماك أو الزواحف، وقشرة أكثر حداثة توجد خاصةً لدى الثدييات وتُسمى القشرة الجديدة. ولدى الإنسان تتحكم القشرة الجديدة بالطبع في المعاناة، ولكن لدى الأسماك غير المزودة بهذه القشرة تتحكم القشرات الأخرى في المعاناة دون أن نفهم جيدًا في ظل معارفنا الحالية ممَّ تتكون «التجربة المعيشة» لهذا الوعي الذي يعتمد على هياكل عصبية قديمة ولهذه المعاناة المرتبطة به، ولكي نفهم ذلك، يتعين أن نكون بداخل رأس الأسماك لنعرف ماذا يدور به! وربما تساعد التطورات المستقبلية لعلم التصوير المخي في الإجابة عن هذا السؤال بأن تتيح لنا تكوين فكرة عن العمليات النشطة داخل العقل.

إلا أننا إذا لم نشعر بظواهر الاستقبال الحسي للألم، والألم، والمعاناة بالطريقة التي يشعر بها الحيوان، فيتعين على الأقل أن ندرك وجود هذه الظواهر، فهي إحدى الخصائص الأساسية للحيوانات؛ فالقدرة على الشعور هي إحدى السمات المميزة للحيوانات المزودة بجهاز عصبي. وخلافًا لمالبرانش يمكن إذن أن نؤكد أن الحيوانات قادرة على الشعور بالألم، ويقود هذا التأكيد إلى التفكير في سلوكنا المحتمل إزاءها وطريقة تعاملنا معها (انظر الفصل الرابع عشر).

(٢) كيف نعرف إذا ما كانت الآلة تتألم؟

تُزود العديد من الآلات بآليات إنذار تلعب دورًا مهمًّا في حمايتها وحماية مستخدميها. فيمكن أن يتوقف محرك في حالة ارتفاع الحرارة أو أن يتوقف مصعد إذا كان الوزن زائدًا. وربما يمكن مقارنة هذه الإنذارات بالاستقبال الحسي للألم لدى الحيوانات بما أنها تضطلع بمهمة محددة بوضوح.

إن اقتران هذا الاستقبال الآلي للألم بسلوكيات خاصة محددة سلفًا لا يمثل مشكلة في حد ذاته سواء تعلق الأمر بإشارة تضيء أو برمجة وجه آلي عابس. فيستطيع الروبوت الذي لعب به أرنولد شوارزنجر في فيلم «المدمر» أن يعبر عن شعوره بالألم، أو أن يُبدي سخطه عندما يُنتزَع ذراعه. ويمكنه أن يحاول لاحقًا تجنب مثل هذا النوع من المواقف.

وثمة مسألة أكثر دقة، ألا وهي إدراك هذا الألم من ناحية والشعور به من ناحية أخرى. فيتعين علينا منذ البداية أن نميز ما يتعلق بمشكلة «حصول» أجهزة فرعية أخرى في الآلة على المعلومات. فعلى سبيل المثال تستطيع آلة متعلمة (انظر الفصل الثاني) أن تصنِّف بنفسها الأنواع المختلفة للعوامل المثيرة للألم أو للمتعة بصورة عشوائية وأن تستخدم هذه المعلومة في أجزاء أخرى ذات مستوًى أعلى. فمِن المتوقع إذن تصميم آلة قادرة على التفكير بهذه الطريقة؛ أيْ إن تمثل لنفسها بطرق مختلفة العواملَ المثيرةَ التي تُلاحظها (انظر الفصل السابع).

لكن هل تستطيع الآلة، مع ذلك، الشعور بالألم؟ وبصورة أعم هل تشعر بنعومة ملمس القطيفة أو بمرونة الإسفنج أو بالقهوة المركزة؟ يزعم البعض أننا لن نستطيع أبدًا الإجابة عن هذا السؤال؛ نظرًا لأننا لن نستطيع أبدًا الدخول إلى رأس الآلة كعدم قدرتنا بالضبط على الشعور بصورة مباشرة بما تشعر به الحيوانات الأخرى أو حتى إنسان آخر. ويكمن الموقف الأكثر شيوعًا في افتراض أنه إذا كان من المتوقع وجود شكل من أشكال الوعي التأملي لدى الآلة فربما يكون من المستبعد أنها تشعر بأي شعور. فالروبوت «داتا»، إحدى شخصيات مسلسل «ستار تريك فوياجر»، يجسد الانحياز لهذا الموقف، فهو فضولي وذكي ويشبه الإنسان جسديًّا، ولكنه لا يستطيع الشعور بأي عاطفة وهذا ما يمنعه من فهْم البشر.

(٢-١) الإحساس ينتج عن بنية البيئة الحسية والحركية

ألا يُعَدُّ التساؤل حول الإحساس المحتمل للآلات طريقة للتساؤل حول أصل العواطف لدى الإنسان والحيوان وطبيعتها؟ إن مناصري المنهج الحسي والحركي للشعور لا سيما كلفين أوريجان، بوصفهم ورثة الفينومينولوجيا، يتبنون نظرية شائقة،1 فالعواطف قد تكون قبل كل شيء نتيجة لأنشطة حسية وحركية خاصة. وهكذا ربما تحدد بنية البيئة الحسية والحركية نوعية الإحساس الناتج؛ فالمشاعر الناتجة عن حاسة البصر قد تختلف مع اختلاف العالم بمجرد أن نُغلِق جفوننا ونحرك أعيننا وأجسامنا. وتختلف القوانين التي تحكم مدخلات هذا النظام ومخرجاته بصورة كبيرة عن تلك التي تحكم العالَم السمعي على سبيل المثال. فعندما نقترب من مذياع، يرتسم تدفق متوسع على شبكية عيننا مع إدراكنا لارتفاع مدى الإشارة الصوتية الملحوظة. وتمثل هذه العلاقات ما يميز الرؤية عن السمع.
وبفضل سلسلة من التجارب تُسمى «الإبدال الحسي» استطاع البروفسير باك واي ريتا أن يُثبت أنه يمكن لكفيفي البصر أن يروا بفضل نظام يثير جلدهم بطريقة اللمس على معدتهم أو ظهرهم عبر المعطيات التي تستقبلها آلة تصوير.2 ففي حين أن التحفيز السلبي لا يثمر أيَّ نتيجة حاسمة، يستطيع الأشخاص القادرون على التحرك بنشاط مع الآلة ليس فقط القيام بحركات تتطلب مهارات بصرية كالإمساك بشيء موجود فوق الطاولة، بل إنهم يقولون أيضًا إنهم يشعرون بشعور مماثل للرؤية. وتستكمل العديد من التجارب الجديدة هذه الدراسات خاصةً عبر نُظُم تربط الرؤية بعوامل مثيرة موجودة على اللسان.

وإذا اتبعنا هذا الافتراض؛ فلن تكون ثمة علاقة كبيرة بين الحواس والتشريح الخاص للشبكات العصبية التي تحتوي عليها (مثل العصب البصري وغير ذلك)، ولكن ستكون لها علاقة أكبر ببنية البيئة الحسية والحركية التي تتسم بها. وفي الواقع يتحكم جهازنا العصبي دائمًا بنبضات قلبنا ومعدل الأكسجين وثاني أكسيد الكربون في الدم إلا أننا لا نشعر بذلك على الإطلاق. فنحن لا ندرك إلا المواقف التي نقوم فيها بأنشطة حسية وحركية منظمة (الرؤية والسمع والتذوق والشعور).

وتكون النتيجة المحيرة إلى حد ما التي يقودنا إليها هذا المفهوم عن الشعور هي أننا يمكننا أن نعتبر أن الآلة تشعر بشعور ما بقدر قيامها بنشاط حسي وحركي منظم. وقد يرتبط ثراء هذه العواطف وتنوعها بالتنوع والتعقيد الذي تتسم به بيئات المدخلات والمخرجات التي ستضطر للتعامل معها. وبسبب اختلاف طبيعة هذه البيئات مقارنةً ببيئاتنا، فستكون فُرَص العواطف الآلية قليلة فيما يتعلق على سبيل المثال بالتفرقة بين مذاق لحم الثور وسمكة التروتة وعصير الليمون، ولكن إذا تبنَّيْنا مفهومًا حسيًّا وحركيًّا للشعور، فمن المشروع أن نتساءل حول وجود شكل من أشكال الخبرة لدى الآلات.

وفي النهاية كان مالبرانش مخطئًا بصورة مزدوجة؛ فليستِ الحيوانات وحدها هي التي قد تتألم، بل على الأرجح الآلات أيضًا.

وتبقى بالطبع إمكانية وجود شيء جوهري في الخبرة الإنسانية لم تَصِفْه الطريقة الحسية والحركية. فالخبرة والشعور والعواطف هي مصطلحات غامضة تستحق توصيفات أكثر دقة. ويساعدنا تصميم الآلات على تعريف هذه المصطلحات وخصائصها المميزة بصورة أفضل.

من المحتمل أيضًا ألَّا يكون الألم شعورًا مثل بقية المشاعر. وفي النهاية، يكون الألم أحيانًا شعورًا بلا سبب، فعندما نتذوق دائمًا الطعام ذاته أو نشم الرائحة ذاتها أو نرى الشيء نفسه، فقد نتألم ببساطة بلا سبب. وبصفة خاصة، قد نتألم دون أن نقوم بأي حركة. وسنترك إذن باب النقاش مفتوحًا في هذه المرحلة وسنعود إليه باختصار في نهاية هذا الكتاب حين نتناول التخيل؛ لأنه من الممكن، كما سنرى، أن يرتبط الألم والتخيل أحدهما بالآخر كقطبين متعارضين على مقياس واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤