الفصل العاشر

إلكتروناتٌ في الفراغ

برامج الفضاء غير المأهولة

تقع بلدة أندوفر، بولاية مين، في منطقة شديدة التحدُّر قُرْبَ حدود نيوهامبشير، في منطقة من أراضي الغابات التي كانت تلقى استحسانًا كبيرًا لدى الشاعر روبرت فروست. في أوائل الستينيات من القرن العشرين كانت خدمةُ الهواتف المحلية تتضمَّن خطوطًا جماعية وهواتف يدوية، ومع ذلك، كان هذا المكان النائي بما فيه من تكنولوجيا بسيطة للغاية يلائم شركة «بيل لابس»؛ لأنه كان يعني عدم حدوث تداخُل لاسلكي كبير في المنطقة. وقع اختيار الإدارة بشركة «بيل لابس» على هذه المنطقة لتكون موقع مركزها الرئيسي لاتصالات الأقمار الصناعية. بَنَتِ الشركة هنا هوائيًّا بُوقي الشكل قابلًا للتوجيه بالكامل، بطول ١٧٧ قدمًا، داخل غطاءٍ واقٍ.

بلغ «تِلستار»، أول قمر صناعي يتقدَّم إلى ما وراء قمر «إكو»، مدارًا فضائيًّا في يوليو ١٩٦٢. كان القمر مشروعًا تجاريًّا في مجمله؛ حيث دفعت «إيه تي آند تي»، التي كانت تمتلك «بيل لابس»، إلى ناسا ٣ ملايين دولار أمريكي لشراء مركبة الإطلاق «ثور-دلتا». بعد خمسة عشر ساعة من الإطلاق، أثناء تحليق «تِلستار» من جزر الكاريبي إلى إسبانيا في مسار قوسي من جهة الشمال الشرقي، حاوَلَ مراقبوه نقلَ أول بثٍّ تليفزيوني عبر الأطلنطي في العالم. تنتقل إشارات التليفزيون في خطوط مستقيمة ولا تتبع السطح المنحني للأرض؛ حتى عندما يكون البث من أعلى مبنى «إمباير ستيت»، تبلغ الإشارات نطاقًا لا يزيد عن خمسين ميلًا. لكن، مع جاهزية هذا القمر لالتقاط الإشارات وتكبيرها وإعادة إرسالها، ربما تَعْبُر هذه الإشاراتُ الأطلنطي بسهولةٍ.

تضمَّنَ العرضُ عملياتِ إرسالٍ بين أندوفر ومحطتين أرضيتين أوربيتين، في «جونهيلي داون» في كورنوول و«بلومير-بودو» في بريتاني. كان المقطع الأمريكي يعرض شريط فيديو لِقُبة أندوفر، بينما كان العلم الأمريكي يرفرف في المقدمة. تضمَّنَ المقطعُ تسجيلات أغنية «أمريكا الجميلة» ونشيد «الراية المُرصَّعة بالنجوم»، فضلًا عن مشهد لرئيس مجلس إدارة «إيه تي آند تي» — فردريك كابل — أثناء إلقائه بيانًا. التقطَ الفرنسيون هذا البثَّ بدقةٍ وردُّوا بالمثل، من خلال شريط للممثل إيف مونتو ومطرِبة وعازف جيتار. ظهرت عبارة «أول بثٍّ تليفزيوني من فرنسا» على الشاشات الأمريكية، بينما كان عازِف الجيتار غير المعروف والمرتبِك إلى حدٍّ ما يعزف على آلته الموسيقية هذه.

مع ذلك، أسفرت مشكلاتٌ فنية في جونهيلي عن تأخيرٍ على الجانب البريطاني. كان ريتشارد ديمبلبي — مذيع الأخبار البارز في «بي بي سي» — موجودًا، بَيْدَ أن الليل كان يمضي بتثاقُل ولم يكن يجد ما يقدِّمه. مع اقتراب منتصف الليل، أشار ديمبلبي قائلًا: «قلتُ هذا ستَّ مرات الليلةَ، لكنني سأقوله مجددًا. سنتلقَّى بثًّا مُصوَّرًا في المرة القادمة حتى لو أودى هذا بنا.» أخيرًا، بعد الساعة الواحدة صباحًا، ظهرَ وجه كابل للحظاتٍ، دون صوت.

لكن، بعدها بأيام قليلة، سار كل شيء على ما يرام. كانت شبكة «سي بي إس» تعرض فيلمًا في وقتٍ متأخر من الليل عندما ظهر تشارلز كولينجوود على الشاشة وقال: «نقطع هذا البرنامج. البريطانيون جاهزون لبثِّ برنامجٍ عبر تِلستار.» ثم مضوا يقدِّمون مشهدًا لغرفة التحكم في جونهيلي، بمديريها الفنيين. على هذا النحو الارتجالي العفويِّ، اتخَذَ العالَمُ أولى خطواته الكبرى نحو البثِّ التليفزيوني العالمي.

حظيت عملياتُ البثِّ باهتمام خاص لدى واشنطن؛ إذ كان الكونجرس على وشك تمرير قانون الأقمار الصناعية للاتصالات. قبل عامٍ مضى، قادَ الرئيس كينيدي بنفسه الجهود بإصدار بيانٍ سياسي. أعلن كينيدي في هذا البيان قائلًا: «أدعو جميع الشعوب إلى المشاركة في نظام الأقمار الصناعية للاتصالات.» مهيئًا الأجواء للمشاركة الفيدرالية في لحظةٍ كان الالتزام فيها واضحًا، بينما لم تكن القاعدة المؤسسية قد تحدَّدت بعدُ. أسَّس قانون عام ١٩٦٢ شركة «كومينيكيشن ستالايت»، المعروفة اختصارًا بشركة «كومسات»، التي وصفها المؤرِّخ والتر ماكدوجال بأنها «شركة مرخَّصة على غرار النوع الذي أسَّسه الأمراء الأوروبيون في عصر الدولة التجارية». كتبت مجلة «فورتشن» أن شركة «كومسات» لم يكن لديها في البداية «أي إدارة، أو أي منشآتٍ مادية، أو أي اتفاق حول ما يُقترح أن تقدِّمه، أو أي وكلاء، أو أي سجل أرباح أو احتمالٍ وشيكٍ بتحقيق أرباح». مع ذلك، كانت نية الكونجرس واضحةً؛ إذ كان من المقرر أن تراقب «كومسات» اتصالات الأقمار الصناعية الأمريكية وتسعى إلى تطويرها.

بالإضافة إلى ذلك، كان القانون يستهدف شركة «إيه تي آند تي» مباشَرةً، وهي شركة كبرى كانت مسئولة عن تشغيل الجانب الأعظم من نظام الهواتف على سبيل الاحتكار المُنظَّم. في عام ١٩٥٣، خطَّطَتِ الشركة لمدِّ كابل تحت البحر ينقل ستًّا وثلاثين محادَثةً تليفونية متزامِنة، وتعاملت مع الحكومة البريطانية مباشَرةً بدلًا من الاعتماد على وسيطٍ مثل وزارة الخارجية. كانت الشركة في أهبة استعدادها لبناء نظام الأقمار الصناعية للاتصالات الخاص بها وتشغيله، وكان لديها عرضٌ محدَّد يتضمن خمسين قمرًا من أقمار تِلستار لضمان أن يظل قمرٌ واحد على الأقل في مجال الرؤية دائمًا. لكن، لم تكن إدارة كينيدي تعتزم ترْكَ هذا الكيان الضخم يُقصِي منافِسِيه المُحتمَلين عن مضمار المنافسة. قال السيناتور الأمريكي إستس كفاوفر، الذي كان مهتمًّا بالمسألة عن كثب، إنَّ ترْكَ «إيه تي آند تي» تمضي في طريقها «لم يكن بالأمر اللائق مثلما لم يكن من اللائق تعريف الاقتصاد الحر مثل فيل يرقص بين الفِراخ، وهو يصيح قائلًا: «كلٌّ يبحث عن مصلحته».»

كان من بين أبرز هذه الشركات الصغيرة، أو «الفِراخ»، شركة «هيوز إيركرافت»، التي كان مديرها الهندسي هارولد روزن يغذِّي آمالَ وضْعِ نظامٍ يتخطَّى «تِلستار». كان نموذج «تِلستار» يتطلَّب أقمارًا صناعية تدور في مدار فضائي على ارتفاعاتٍ تصل إلى بضعة آلاف من الأميال، حيث تُكمِل دورة كاملة حول الأرض كل بضع ساعات. كان هذا الأسلوب يسير على خطى الأسلوب التدريجي الحَذِر لنظام بيل؛ إذ كانت هذه المدارات تقع في نطاق قدرة صواريخ الإطلاق فئة «ثور»، التي كان يتوقَّع مديرو النظام استخدامَها. لكن، نظرًا لأن أقمارهم الصناعية كانت ستتحرك عبر السماء، فإن النظام كان يتطلَّب تليسكوبات لاسلكية قابلة للتوجيه بالكامل في المحطات الأرضية، وهو ما كان يُعَدُّ أمرًا معقدًا ومكلِّفًا. كان هوائي أندوفر، على سبيل المثال، يزن ٣٧٠ طنًّا، وكان يجب أن يدور حول محور ليتمكَّن من تتبُّع أية مركبة فضائية عند عبورها السماء في أي اتجاه.

كان روزن يرغب في الإقدام على مخاطرة كبيرة بإطلاق مركبته الفضائية في مدار جيوتزامني، على ارتفاع ٢٢٣٠٠ ميلًا فوق خط الاستواء. كانت الأقمار ستستغرق أربعًا وعشرين ساعة عند ذلك الارتفاع للدوران حول الأرض، وستبدو كما لو كانت تحوم بلا حركة فوق مناطق معينة. قد تشير الهوائيات في المحطات الأرضية بصفة مستمرة في اتجاه ثابت لأحد الأقمار، وهو ما يجعل هذه التجهيزات أبسط وأقل تكلفةً بكثير. لم يكن روزن أيضًا في حاجة إلى عشرات المركبات المدارية التي كانت «إيه تي آند تي» تملكها؛ كانت كل مركبة مدارية جيوتزامنية تستطيع أن ترى في مجال رؤيتها نصفَ سطح الأرض تقريبًا، وكان في مقدورها الاتصال بمحطات أرضية يفصلها عنها ما يزيد على ١١ ألف ميل؛ كانت ثلاثة أقمار صناعية فقط من هذا النوع تكفي لتوفير شبكة عالمية كاملة.

كان الكاتِب العلمي آرثر سي كلارك قد اقترح هذا النظام في وقتٍ سابق يرجع إلى عام ١٩٤٥. في قفزة بارعة نحو المستقبل، رأى كلارك أن قدرةً مقدارها ١٢٠٠ وات في أجهزة الإرسال المحمولة عبر الفضاء كانت ستسمح «لقطوع مكافئة يبلغ قطرها قدمًا تقريبًا» بتلقِّي الإشارات على الأرض. كانت الطاقة الشمسية ستوفر مصدرًا للطاقة، على الرغم من أن الخلية الشمسية (التي هي، للمفارقة، أحد منتجات «بيل لابس») ظهرت بعدها بعقد، رأى أملًا في «التطورات الكهروضوئية». كان يرى الأقمار الصناعية للاتصالات في صورة محطاتٍ فضائية مأهولة، كلٌّ منها تضمُّ طاقمًا على متنها لاستبدال الصمامات المُفرَّغة عند تآكُلها.

على الرغم من أنَّ كلارك استلهم فكرته من الصاروخ «في-٢» الألماني، ومن خلفيته أيام الحرب كضابط رادار، كانت ورقته البحثية نوعًا من الاستشراف المستقبلي التأمُّلي على غرار هيرمان أوبيرت وقسطنطين تسيولكوفسكي. لكن، على عكس طبيعة تكهُّناتهما التي تقوم على التجربة والخطأ، أصابَ كلارك تمامًا عند توقُّع الاستخدام التجاري الأكثر أهميةً للفضاء، مع توفير تفاصيل فنية مبدئية. كان في مقدوره حتى الحصول على براءة اختراع لفكرته. على وجه التحديد، بينما كانت الرؤى الأخرى تكتب عن رحلاتٍ إلى الكواكب البعيدة، رأى كلارك أن مستقبل روَّاد الفضاء كان يتضمَّن مركبةً تحوم فوق موضعٍ واحد، ومن ثَمَّ لا تذهب فعليًّا إلى أي مكان.

مع ذلك، نُشِر مقال كلارك في مجلة «وايرلس وورلد»، وهي مجلة بريطانية غير مقروءة على نطاق واسع. لم يعلم جون بيرس، الذي كان يعمل في «بيل لابس»، عنها شيئًا إلا عندما كان قد قطع شوطًا طويلًا في دراساته. أعادَ كلارك عرض أفكاره في كتابه الأكثر مَبيعًا في عام ١٩٥٢، «استكشاف الفضاء»، بَيْدَ أن بيرس فاته هذا الكتاب، أيضًا. كان مزاجه في القراءة يميل أكثر إلى وقائع معهد مهندسي الإذاعة. لكن، لم يمضِ سوى أربعة عشر عامًا فقط حتى حدثت تطورات في مجالَي الإلكترونيات وعِلْم الصواريخ؛ ممَّا أتاح لرؤية كلارك أن تدخل حيز التنفيذ.

في صباحٍ غائم في أغسطس ١٩٥٩، انطلق الصاروخ «ثور-إيبُل» عاليًا من كيب كانافيرال، حاملًا مركبة فضائية زنة ١٤٢ رطلًا، وهي إكسبلورار ٦، إلى مدار مستطيل يتراوح ارتفاعه ما بين ١٥٧ و٢٦٤٠٠ ميل. لم تكن المركبة قمرًا صناعيًّا للاتصالات، بل كانت مهمتها تتضمَّن إجراءَ دراساتٍ مُفصَّلة حول الفضاء قُرْبَ الأرض، بما في ذلك بيئة الفضاء الإشعاعية. لكن، كانت المركبة تتضمن خلايا شمسية ودوائر إلكترونية صلبة تتسم بالكفاءة، وكان كلا المكوِّنين ضروريًّا في عمليات الاتصال. كان أقصى ارتفاع لها، وهو ٢٦٤٠٠ ميل، أعلى من المدار الجيوتزامني. وكان في مقدور صاروخ صغير يعمل بالوقود الصلب، يُطلَق في اللحظة الملائمة، الدوران في المدار وتحويل «إكسبلورار ٦» إلى قمر صناعي حقيقي يعمل على مدى أربع وعشرين ساعة.

كان نجاح المركبة مصدرَ تشجيعٍ بالغ لروزن، الذي كان يرسِّخ نموذجه بالفعل. قدَّمَ روزن المركبة إلى البنتاجون؛ فرفضوها. ثم خاطَبَ ناسا، فأبرمت معه عقدًا في أغسطس ١٩٦١، وأطلقت على المركبة اسم «سينكوم». على غرار إكو، كان من المقرَّر أن تثبت المركبة مبدأً لا أن تصبح رابطَ اتصالات فعليًّا. كان وزنها لا يزيد عن واحد وسبعين رطلًا، وكانت تشتمل على قناة هاتفية ثنائية الاتجاه. لكن، مرةً أخرى على غرار «إكو»، عزَّزَ المشروع من مشاركة ناسا في مجال اتصالات الأقمار الصناعية، مانحًا «هيوز إيركرافت» الوسائلَ للتنافُس مع «إيه تي آند تي» على أرضها.

انطلقَ قمر «سينكوم ١» أعلى الصاروخ «ثور-دلتا» في فبراير ١٩٦٣، وحلَّقَ على الارتفاع المخطَّط له. أدارَ مؤقِّت على متن القمر محركَ ذروة الارتفاع، وبعدها بعشرين ثانية انفجر خزان نيتروجين متسبِّبًا في تدمير القمر. انطلق «سينكوم ٢» في يوليو، ونجح في مهمته؛ إذ بلغ مداره المخطَّط له وجرى تشغيل معداته الإلكترونية بنجاح. ثم بعد ذلك بعام، أطلقت ناسا «سينكوم ٣» أعلى خط التاريخ الدولي، ليكون جاهزًا لتقديم خدمة مبدئية عبر المحيط الهادئ. وفي إطار هذا العالم التجاري المزدهر، وجَدَ مصمِّمو «سينكوم» أنفسَهم في خلافٍ مع شبكة «إن بي سي» التليفزيونية.

كان هذا القمر هو أول قمر جيوتزامني له القدرة على نقلِ بثٍّ تليفزيوني، وبلغ مدارًا فضائيًّا في الوقت المناسب لتغطية دورة الألعاب الأولمبية لعام ١٩٦٤، في بثٍّ مباشِر من طوكيو. على الرغم من ذلك، كانت «إن بي سي» قد حصلت على حقوق حصرية لهذه التغطية، وكانت تخطِّط لعرض شرائط فيديو منقولة عبر طائرة نفاثة، بينما تتولَّى جهاتٌ راعية مثل شركة «شيلتز بير» سداد النفقات. مارَسَ المسئولون الفيدراليون ضغوطًا على «إن بي سي»، وفي أعقاب مكالمة هاتفية من وكيل وزارة الخارجية أفيريل هاريمان، وافَقَ رئيسُ مجلس الإدارة ديفيد سارنوف على إذاعة خمس عشرة دقيقة يوميًّا من تغطية القمر الصناعي، في الساعة السابعة صباحًا.

لكن، لم يمضِ سوى بضعة أشهر فقط حتى ظهر التليفزيون الروتيني للبثِّ عبر المحيط. كانت البنية التحتية المؤسسية تتخذ شكلًا محددًا، بينما كانت شركة «كومسات» تستحوذ على حصةٍ مسيطرة في اتحاد شركات عالمي، أَلَا وهو المنظمة الدولية للاتصالات اللاسلكية عبر الأقمار الصناعية (إنتلسات). عندما استعدت إنتلسات لإطلاق أول أقمارها الصناعية التجارية، كنظير لقمر «تِلستار» الخاص بشركة «إن تي آند تي»، كانت «هيوز إيركرافت» قد حصلت على ما كان مطلوبًا، وهو قمر سينكوم معدَّل يشتمل على ٢٤٠ قناة هاتفية. في البداية، كانت هذه المركبة الفضائية وحدها توفِّر مكمِّلًا قيِّمًا للكابلات الخمسة للبثِّ عبر المحيط الأطلنطي التي كانت مستخدَمةً وقتَها، والتي لم تكن تتضمن جميعًا أكثر من ٤١٢ قناة. بلغ هذا القمر الصناعي، المُسمَّى «إيرلي بيرد»، محطتَه فوق الأطلنطي في أبريل ١٩٦٥.

بدأت تغطيته التليفزيونية على نحوٍ درامي هائل في ٣ مايو؛ حيث كان الجرَّاح مايكل ديباكي يُجرِي عملية جراحية في القلب، بينما كان الزملاء المبهورون في جنيف يراقبون ما يفعله بعناية. انضمَّ تشيت هنتلي من «إن بي سي» إلى ديمبلي من «بي بي سي». ضمت ندوةُ نقاشٍ، بعنوان «اجتماع مجلس مدينة العالَم»، رجالَ الدولة في نيويورك ولندن وباريس لإجراء مناقشة حول فيتنام. لاحقًا في مايو، أعلنت «إيه بي سي» أنها ستبثُّ عدةَ أحداث رياضية بثًّا مباشِرًا من أوروبا، بما في ذلك مسابقة الجائزة الكبرى في مدينة لومان.

أثبتَ قمر «إيرلي بيرد» نفسَه في الخدمات اليومية؛ مما أفسَحَ المجالَ أمام شركة «هيوز» لترسيخ نفسها باعتبارها الشركة الأولى على مستوى العالم في بناء الأقمار الصناعية للاتصالات. بالتعاون مع ناسا، بَنَتِ الشركةُ سلسلةً من الأقمار الصناعية للتكنولوجيا التطبيقية التي تولَّتِ اختبارَ أساليب تصميم جديدة وعرضها. نالت الهوائيات اهتمامًا خاصًّا. كان إيرلي بيرد والأقمار الأولى التي تلته ثابتةً في دورانها، وعلى الرغم من أن هوائيات الأقمار الصناعية كانت تدور في اتجاهاتٍ محددة، فإنها كانت تهدر كثيرًا من الطاقة المحدودة على متن القمر من خلال نقلها بلا جدوى في جميع الاتجاهات. اتضح أن الحل يكمن في هوائي «إلغاء الدوران»، الذي كان يشير في اتجاه ثابت إلى قارة محددة، بينما كان جسم المركبة الفضائية يواصِل الدوران لتحقيق التوازن. استخدمت ناسا هذه الهوائيات على متن القمرين «إيه تي إس-١» و«إيه تي إس-٣»، اللذين أُطلِقَا في عامَيْ ١٩٦٦ و١٩٦٧. دخلت هوائيات إلغاء الدوران الخدمة في عام ١٩٦٨، عندما بَنت شركة «تي آر دبليو» أقمار «إنتلسات ٣» الصناعية خلفًا للقمر «إيرلي بيرد».

بلغت «إنتلسات» هدفَها في التغطية العالمية خلال عام ١٩٦٩. بحلول ذلك الوقت، كان لدى «إنتلسات» ثلاث مركبات فضائية تحلِّق فوق المحيط الأطلنطي وثلاث فوق المحيط الهادئ. كانت ثمة مركبة سابعة، فوق المحيط الهندي، تربط بين لندن وطوكيو في منتصف العام، وبها اكتملَ النظام الأساسي. كانت مركبتها الفضائية عبارة عن نماذج مُحدَّثة من «سينكوم» و«إيرلي بيرد»، لكن مع تزايُد الطلب وانخفاض الأسعار، صار معلومًا للجميع أن الأقمار الصناعية الأكبر حجمًا باتت ضرورةً، واستجابت «هيوز» بسلسلة «إنتلسات ٤». كان كلٌّ من هذه الأقمار الصناعية يتضمَّن أربعة آلاف دائرة هاتفية، بينما ارتفع هذا العدد في النسخة الأحدث من هذه الأقمار إلى ستة آلاف دائرة هاتفية. لم تكن صواريخ التعزيز فئة «ثور» فعَّالة بما يكفي لإطلاق هذه الأقمار، التي كانت تتطلَّب الصاروخ «أطلس-سينتاور»، أحد أكبر صواريخ ناسا على الإطلاق. بعدها بعقد، اتضح أن أقمار «إنتلسات ٤» هي الأخرى لم تكن ملائمة؛ ممَّا أفسَحَ المجالَ أمام أقمار «إنتلسات ٥»، التي كانت تتضمَّن اثني عشر ألف دائرة، وهو ما يزيد خمسين مرة عمَّا في القمر «إيرلي بيرد».

مضى اتحاد شركات «إنتلسات» من قوة إلى قوة. في البداية، في عام ١٩٦٥، كان الاتحاد يضم خمسًا وأربعين دولة، ثم تضاعَفَ الرقم خلال عقد. شملت قائمةُ الأعضاء أعداءً ألِدَّاء، مثل إسرائيل ومصر، والهند وباكستان. كما كان يضم بؤساء الأرض: بنجلاديش، وهايتي، وكثيرًا من الدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى. كانت «إنتلسات» تخدم جنوب أفريقيا أيضًا، على الرغم من أن هذه الدولة كانت في طريقها إلى أن تصبح منبوذة دوليًّا. داخل هذا الاتحاد، كانت ثمة مائة دولة تتعاون في مجال الفضاء، عامًا بعد عام، وتحقِّق أموالًا من وراء ذلك. كان هذا الأداء يتناقض بشدة مع مجال الرحلات المأهولة، الذي تباهى ببعثة «أبولُّو-سويوز» في عام ١٩٧٥، التي رُوِّج لها كثيرًا. كان قد تمخَّضَ عن هذا أيضًا تعاونٌ في مجال الفضاء بين القوتين العُظميين، وإنْ كان ذلك لفترة وجيزة وبتكلفة هائلة.

كان السوفييت، من جانبهم، يسيِّرون الأمورَ على طريقتهم؛ كانت مواردهم تشمل قطاعًا كبيرًا من الدائرة القطبية، ونظرًا لوقوع معظم أراضي الدولة في منطقة شمالية مرتفعة، كانت فكرة إطلاق أي قمر صناعي جيوتزامني تنطوي على عوارٍ كبير؛ فعند إطلاق القمر فوق خط الاستواء، كان يتعيَّن على أي هوائي روسي التوجُّه نحو القمر بزاوية منخفضة تكاد تلامِس سطح الأرض؛ وهو ما كان يؤدِّي إلى حدوث تداخُل لاسلكي مع الإشارات التي يلتقطها القمر. رأت موسكو أن الحل هو استخدام مدار مستطيل مثل مدار «إكسبلورار ٦»، الذي كانت زاويته تنحرف بشدة نحو الشمال. حتى في المناطق القطبية، كان في إمكان أي هوائي التوجُّه نحو المركبة الفضائية من خلال الإشارة في وضع مستقيم تقريبًا إلى أعلى.

انطلق أول قمر صناعي للاتصالات من هذا النوع، وهو قمر «مولنيا» (أي البَرْق)، إلى مدار فضائي بعد أسبوعين من «إيرلي بيرد»، مستغرِقًا فترة اثنتي عشرة ساعة. قضى القمر معظم هذه الفترة في الفضاء قُرْبَ حدِّ الارتفاع الأقصى، لم يكن ثابتًا في مكانه في السماء، بل كان يتحرك ببطء لمدة ساعاتٍ في المرة الواحدة، وكان يرسل إشاراتٍ دون انقطاع لفترة طويلة بمعدل مرتين يوميًّا. صار قمر «مولنيا» القمر القياسي المستخدَم في الاتحاد السوفييتي، مُكمِّلًا بذلك استخدامات أقمار «إنتلسات». كانت هذه الأقمار تمثِّل أيضًا أولَ نظامٍ للأقمار الصناعية للاتصالات المحلية في العالَم.

في حقيقة الأمر، بينما كانت «إنتلسات» توفر روابط اتصال دولية، كانت هذه الأقمار الصناعية تقدم وعدًا هائلًا في عدد من الدول التي كانت تجمع بين المساحات الكبيرة وضعف وسائل الاتصال عن بُعْد. في تلك الدول، كان في مقدور مركبة فضائية أن تتجاوز العملية المكلِّفة والطويلة لبناء روابط الموجات المتناهية الصِّغَر وشبكات الكابلات المتحدة المحور، كما في الولايات المتحدة وأوروبا. وجدت دول العالم الثالث في هذه الإمكانية جاذبية لا تُقاوم، وأخذت إندونيسيا بزمام المبادرة. كانت إندونيسيا إحدى الدول الأكثر كثافة سكانيَّة في العالم، لكنها كانت تضمُّ جُزرًا كبيرة، ومناطق جبلية ومناطق مغطاة بالغابات الكثيفة، وكانت تضم أدغال بورنيو. أطلقت ناسا قمر «بالابا» الإندونيسي في عام ١٩٧٦، ثم وسَّعَتْ إندونيسيا نطاقَ التغطية لاحقًا ليشمل الفلبين وماليزيا وتايلاند وسنغافورة.

اتخذت دول أخرى تدابير مشابهة، مثل قمر «برازيلسات»، وقمر «إنسات» الهندي، وقمر «موريلوس» المكسيكي. كان لدى كندا نظامها المحلي الخاص بها بالفعل، وهو «آنيك»، ثم تبعتها أستراليا بقمر «أوسات». بالإضافة إلى ذلك، شكَّلَتِ اثنتان وعشرون دولة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط مجموعة إقليمية، هي منظمة الاتصالات الفضائية العربية (عَرَبسات). ضمَّتِ المنظمة ضمن أعضائها منظمة التحرير الفلسطينية، وأصرَّتْ إدارتها على مقاطَعة شركاتٍ مثل «هيوز» التي كانت تمارس أعمالًا مع إسرائيل. لكن، لم تمانع شركة «آيروسباسيال» الفرنسية، وبَنَت مركبة عربسات الفضائية التي دخلت الخدمة كما كان مقررًا.

في الولايات المتحدة، بدأ التشغيل المحلي من خلال التليفزيون الكَبْلي. كان التليفزيون الكَبْلي يعود إلى عام ١٩٤٩، حيث قدَّمَ خدماتٍ إلى المناطق الريفية التي كانت الإشارات التليفزيونية فيها ضعيفة، أو كانت التلال المرتفعة فيها تعوق تلقِّي الإشارات في الوديان بالأسفل. كان هوائي كبير موضوع أعلى جبل يلتقط إشاراتٍ واضحة من المدن البعيدة، بينما كان الكابل ينقلها إلى المشتركين؛ ومن ثَمَّ، لم يكن الكابل يمثِّل أكثرَ من قطاعٍ صغير في السوق الإجمالية لمشاهدي التليفزيون، التي كانت تعمل من خلال شبكاتٍ محلية لم تكن تنتج برامجها.

ثم في عام ١٩٧٢، أعلنت هيئة الاتصالات الفيدرالية عن سياسة جديدة فتحت الباب أمام خدمة أقمار صناعية محلية. استجابت «آر سي إيه» من خلال قمر «ساتكوم ١»، الذي بلغ مدارًا فضائيًّا في عام ١٩٧٥، وشرع مجموعة من المستثمرين في استخدامه على الفور في نقل أفلام هوليوود إلى خدمات الكابلات في البلاد، كنوع جديد من شبكات التليفزيون المدفوعة الخدمة. أثبتت هذه القناة، المسمَّاة «هوم بوكس أوفيس»، شعبيتها الهائلة وهيأت الأجواء لتطوير التليفزيون الكَبْلي كصناعة جديدة مهمة. سرعان ما تبعتها قنواتٌ أخرى، مثل «سينماكس»، «شوتايم»، «موفي تشانيل». كان الأطفال يشاهدون قناة «ديزني» و«ديسكفري» و«نيكلوديون». أطلق تيد تيرنر شبكة «سي إن إن»، وبالنسبة إلى المهتمين بمتابعة الأنباء الصحيحة، كانت «سي-سبان» تقدِّم تغطيةً كاملة للكونجرس. أخذت «إسبن» بزمام المبادرة بين قنوات الخدمات الرياضية. وكان المشاهدون يتابعون «ويذر تشانيل» و«فايننشيال نيوز نتوورك»، أو يشاهدون مادونا على «إم تي في».

ظلَّ هذا القدر الهائل من البرامج الجديدة متاحًا مجانًا لفترة من الوقت، لأي شخص لديه جهاز استقبال ملائم. اشترطت «كومسات» لفترةٍ وجودَ تليسكوبات لاسلكية بارتفاع مائة قدم في محطاتها الأرضية، بَيْدَ أن زيادة القدرة الكهربائية في الأقمار الصناعية الجديدة كانت تعني أن المشاهدين في المنازل يستطيعون التقاط إشارات تلك الأقمار من خلال هوائيات شبيهة بالأطباق، كان عرضها لا يزيد عن عشر أقدام أو اثنتي عشرة قدمًا. لم تكن هذه هي «القطوع المكافئة الصغيرة التي يبلغ قطرها قدمًا تقريبًا» بحسب تصوُّر كلارك في عام ١٩٤٥، بَيْدَ أنها أثبتت أنها من حيث التكلفة المادية كانت في متناول ما يصل إلى مليوني شخص من قاطني المنازل. مع انتشار أطباق الأقمار الصناعية في باحات المنازل، خاصةً في المناطق الريفية، اتجهت شركات الكابلات إلى تشفير إشاراتها، أملًا في أن ينفق مشاهدوها حوالي ٤٠٠ دولار أمريكي مقابل شراء جهاز فك تشفير ثم دفع رسم شهري. أدى هذا إلى ظهور صناعة جديدة، تشتمل على شرائح كمبيوتر مقرصنة تستطيع فك شفرة الرموز على نحو غير قانوني؛ ومن ثَمَّ، استطاع الناس مواصلة توجيه أجهزة الهوائي لديهم ومشاهدة البرامج دون أي تكلفة.

برز البنتاجون أيضًا كمستخدم رئيسي في مجال الاتصالات عبر الأقمار الصناعية؛ إذ دخلَ المجال وسط صخب هائل في منتصف عام ١٩٦٦، مع إطلاق «تايتان ٣» سبع مركباتٍ فضائية أوَّلية في عملية إطلاق واحدة، لتليها ثماني مركباتٍ أخرى بعدها بأشهر قليلة. كانت المركبات توفِّر قنوات آمِنة لإرسال الإشارات على نحوٍ ثبُتَت فعاليته أكثر كثيرًا من النُّظم السابقة، التي كانت تستخدم موجات لاسلكية قصيرة غير فعَّالة. من خلال السماح للقادة بالإلمام بما يحتاجون إلى معرفته، أضحت هذه المركبات الفضائية مُكمِّلًا لأقمار الاستطلاع الصناعية على غرار «ديسكفرر».

كانت مركبة «ديسكفرر» الفضائية بمنزلة «أدوات إنزال في وحدات تخزين»؛ كانت تحمل الفيلم المُحمَّض في كبسولاتٍ قابلة للاسترجاع تشبه وحدات التخزين وتُسقِطها عبر الجو ليجري استرجاعها عن طريق طائرة. جرى الكشف إعلاميًّا عن البعثات الثماني والثلاثين الأولى، لكن في وقتٍ مبكر من عام ١٩٦٢ توارى البرنامج وغاب عن الظهور الإعلامي. مع ذلك، لم يختفِ البرنامج كليةً؛ ظلت شركة «لوكهيد» تبني المراحل العليا لصاروخ «أجينا» بحمولاتها، وواصلت طواقمها الأرضية إطلاق تلك المراحل على متن صواريخ «ثور» التي جرى إطلاقها من قاعدة فاندنبِرج التابعة للقوات الجوية، وواصَلَتْ وكالة الاستخبارات المركزية إدارة البرنامج تحت اسم «كورونا».

كانت الصور الفوتوغرافية، التي كانت على درجة عالية من السرِّيَّة، تحمل اسم «كيهول». كانت أقمار «ديسكفرر» السبعة والثلاثون الأولى قد استخدمت ثلاثة أنواع متتابعة من الكاميرات، التي صار يُطلَق عليها الآن أسماء «كيه إتش-١» وصولًا إلى «كيه إتش-٣». كانت جميع الكاميرات تلتقط صورًا فوتوغرافية للأرض في الأسفل بمساحاتٍ واسعة وطويلة؛ ممَّا أحدَثَ تتابُعًا من المشاهد البانورامية باستخدام حامل عدسة يُجرِي مسحًا من جانب إلى جانب بدلًا من النظر إلى أسفل مباشَرةً. بالإضافة إلى ذلك، كانت جميع الكاميرات تُجرِي عمليةَ تعويض للحركة الكبيرة، للحيلولة دون أن تؤدِّي حركة الأرض — التي كانت تتحرك بسرعة خمسة أميال في الثانية — إلى تشوُّش الصور المُلتقَطة.

كانت كاميرتا «كيه إتش-١» و«كيه إتش-٢» متشابهتين للغاية؛ إذ كانت تقتضيان تحليق المركبة الفضائية على ارتفاع محدَّد سلفًا، وإنْ لم يحدث ذلك، كانت الصور تبدأ في التشوُّش. تبيَّنَ أنه من الصعب تحقيق هذه الدقة في الارتفاعات، وعلى الرغم من أن الكاميرا كانت مصمَّمة بدقة عشرين إلى خمس وعشرين قدمًا، كانت في أفضل حالاتها لا تحقِّق سوى دقة خمس وثلاثين إلى أربعين قدمًا؛ من الواضح أن النظام كانت تعوزه القدرة على توفير تعويض لحركة الصورة في نطاق عدد من الارتفاعات المدارية. أُجري هذا التحسين في كاميرا «كيه إتش-٣»، التي انطلقت للمرة الأولى على متن «ديسكفرر ٢٩» في أغسطس ١٩٦١؛ كانت الكاميرا تشمل أيضًا عدسة ذات فتحة أكبر؛ ممَّا كان يسمح باستخدام الأفلام الشديدة الدقة. وبذلك، حسَّنَتْ «كيه إتش-٣» الدقةَ حتى عشر أقدام.

اشتملت «ديسكفرر ٣٨» على كاميرا «كيه إتش-٤»، باسم «ميورال». كانت الكاميرا تعادل كاميرتَيْ «كيه إتش-٣»، إحداهما تشير إلى الأمام، والأخرى تشير إلى الخلف. عندما كانت المركبة الفضائية تحلِّق نحو هدفٍ ما، كانت الكاميرات تصوِّره من زاويتين مختلفتين، وعند النظر إلى الهدف من خلال منظار مجسم، كانت الصور تظهر ثلاثية الأبعاد. ثم خلال عام ١٩٦٣، اشتمل نظام «كيه إتش-٤ إيه» على وحدات التخزين المزدوجة. كانت كل مركبة إذن تحلِّق في مدار فضائي لمدة تصل إلى أسبوعين، مرسِلةً الفيلم على دفعتين. حُمِلت «كيه إتش-٤ إيه» على متن البعثة رقم ٦٩ للمرة الأولى، في أواخر أغسطس، وسرعان ما صارت هي الكاميرا القياسية. بدءًا من منتصف عام ١٩٦٤، استخدمت وكالة الاستخبارات المركزية هذه الكاميرا بانتظام في رحلة واحدة على الأقل شهريًّا.

بالإضافة إلى ذلك، وسَّع برنامج «كورونا» نطاقه من خلال سلسلة من الرحلات التي وضعت خرائط تخطيطٍ جيوديسية، حدَّدت فيها أهدافًا بدقة بالنسبة إلى علامات قياسية معروفة. كان هذا الأسلوب يسعى إلى تناول موضوعاتٍ مثل معرفة موقع موسكو، بطريقة تسمح بتوجيه رحلة صاروخ باليستي بعيد المدى بناءً على هذه المعلومات. أسفَرَ البرنامج المعروف باسم «أرجون» عن نتائج متوسطة القيمة، على الرغم من أن برنامج «كورونا» إجمالًا قدَّمَ بياناتٍ جيوديسية بالغة القيمة. مع ذلك، كان لأرجون استخداماته الخاصة. بنى الجيش كاميرته الخاصة لرسم الخرائط، وهي كاميرا «كيه إتش-٥»، واستخدمت ناسا هذه الكاميرا عريضة الزاوية لرسم خريطة للقمر.

كان برنامج «كورونا» يرعى أيضًا برنامجًا فرعيًّا آخَر يُسمَّى «لانيارد»؛ كانت أقماره الصناعية تحمل كاميرا عالية الدقة، هي «كيه إتش-٦»، كانت تهدف إلى التقاط صور قريبة لمواقع صواريخ مضادة للصواريخ الباليستية قُرْبَ تالين في إستونيا. تبيَّنَ أن الصواريخ محل الاهتمام كانت من النوع المضاد للطائرات، على الرغم من أن «لانيارد» لم يفصح عن هذا. في حقيقة الأمر، لم يرسل هذا البرنامج صورًا ذات قيمة كبيرة، لكنه قدَّمَ صورًا واضحة للغاية، وأمل مسئولو وكالة الاستخبارات المركزية أن يصير «لانيارد» نظامًا لالتقاط الصور القريبة لإكمال برنامج «كورونا» الرئيسي، الذي كان يلتقط صورًا بانورامية.

لكن، كانت القوات الجوية لديها برنامجها الخاص في الاستطلاع الفضائي، وابتكرت كاميرتها ومركبتها الفضائية الخاصة؛ «كيه إتش-٧» و«جامبت». حلَّقَتْ مركبة «جامبت» الفضائية، وهي عبارة عن قمر صناعي ذي وحدتَيْ تخزين، للمرة الأولى في يوليو ١٩٦٣، وسرعان ما التقط صورًا قريبة حقًّا، حيث حلَّقَ على ارتفاع منخفض إلى ما دون مائة ميل. سجَّلَتْ رحلتان من رحلاته رقمين قياسيين في الارتفاع المنخفض، عند خمسة وسبعين ميلًا وستة وسبعين ميلًا، وبدقة بلغت ثماني عشرة بوصة. بالنسبة إلى القوات الجوية، أثبتت مناورة «جامبت» نجاحًا باهرًا؛ تفوَّقَ على «لانيارد» في الأداء، وبعد ثلاث رحلاتٍ فقط لقمر وكالة الاستخبارات المركزية المنافِس هذا، كانت جميعها خلال عام ١٩٦٣، ألغت وكالة الاستخبارات المركزية ذلك البرنامج.

أدخلت «جامبت» أيضًا اتجاهًا جديدًا نحو المركبات الفضائية الأكبر حجمًا وصواريخ التعزيز الأكثر قوةً. كانت برامج «كورونا» و«أرجون» و«لانيارد» جميعها تستخدم نماذج متنوعة من صواريخ «ثور-أجينا»، بَيْدَ أن «جامبت» استخدمت في البداية نموذج «أطلس-أجينا»؛ ثم في منتصف عام ١٩٦٦، دخل الصاروخ «تايتان ٢» الخدمةَ، وبدأ في إطلاق نموذج جديد من «جامبت» كان يحمل كاميرا محسَّنة، «كيه إتش-٨». في الوقت نفسه، كانت مركبة «كورونا» القياسية تتلقى اللمسات النهائية لكن مع نظام كاميرات آخَر، وهو «كيه إتش-٤ بي»؛ استخدم هذا النظام نماذج جديدة من الكاميرات يزيد فيها مستوى الدقة من عشرة إلى خمس أقدام، وذلك بدلًا من الكاميرات السابقة طراز «كيه إتش-٣». حُمِلت كاميرا «كيه إتش-٤ بي» على متن البعثة رقم ١٢٠ للمرة الأولى في سبتمبر ١٩٦٧، ومن خلال عملها إلى جانب مركبات «جامبت» الجديدة، واصلت مركبات «كورونا» هذه الطيران حتى عام ١٩٧٢.

ما الذي كانت تعرضه الكاميرات؟ كانت الكاميرات تصوِّر جميع مجمَّعات إطلاق الصواريخ الباليستية السوفييتية، متتبعةً الصواريخ الموجودة بالفعل فضلًا عن الصواريخ الجديدة خلال عمليات التطوير والنشر. على وجه التحديد، اكتشفت الكاميرات ورصدت مرارًا وتكرارًا مركزًا كبيرًا في بليستسك، قُرْبَ مدينة أرخانجيلسك الشمالية. كان مركز بليستسك متخصصًا في أقمار الاستطلاع الصناعية وغيرها من المركبات الفضائية العسكرية الأخرى. كان المركز يمثِّل في ذروة نشاطه أكثر من نصف جميع عمليات الإطلاق الفضائي في العالم بأسره، بينما كان موقع تيوراتام يحل في المرتبة الثانية بفارقٍ كبير، ثم يليهما موقعا كيب كانافيرال وفاندنبِرج بفارقٍ كبير.

كان «كورونا» أيضًا أول مَنْ يرصد سفرودفنسك، وهو موقع الإنشاء الرئيسي لغواصات الصواريخ الباليستية، وهو ما أتاحَ رصد إطلاق أنواع جديدة من الغواصات، وتتبُّعها حتى تجهيزها للاستخدام. تمكَّنَتْ وكالة الاستخبارات المركزية أيضًا من رصد التوسُّع السريع في المركبات البحرية السطحية. ساعدت التغطية الخاصة بمصانع الطائرات والقواعد الجوية في إطلاع المحللين أولًا بأول على آخِر المستجدات في القاذفات والمقاتلات، بينما سمحت التغطيات الأخرى لخبراء الجيش بالتعرف على طبيعة قوات الدبابات التي كان النيتو سيواجهها في حال غزا السوفييت أوروبا.

كشفت الصور الفوتوغرافية التي التقطها برنامج «كورونا» عن بناء مواقع صواريخ حقيقية مضادة للصواريخ الباليستية قُرب موسكو وليننجراد، فضلًا عن محطات رادار كانت تدعمها. رصدت صورٌ أخرى بطارياتٍ مضادة للطائرات ومكَّنَتِ القيادة الجوية الاستراتيجية من العثور على مساراتٍ لقاذفاتها تتفادى هذه الصواريخ. في مجال رسم الخرائط الجيوديسية، كان برنامج «كورونا» مكمِّلًا لبرنامج «أرجون» وصار المصدر الرئيسي للبيانات في الخرائط العسكرية لوكالة رسم الخرائط الدفاعية التابعة لوزارة الدفاع.

في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، كان السوفييت قد تمكَّنوا من خداع الأمريكيين فيما يتعلق بقوتهم الجوية، واستطاعوا أن يثيروا الفزع في واشنطن حول «فجوة قاذفات» مزعومة، فقط بإطلاق الطائرة نفسها مرتين في عرض جوي. على النقيض من ذلك، اشتمل تقرير استخباراتي في عام ١٩٦٨ على العبارة الصريحة: «لم تُقَمْ مجمَّعاتٍ جديدة للصواريخ الباليستية البعيدة المدى في الاتحاد السوفييتي خلال العام المنصرم.» في وقت مبكر يرجع إلى عام ١٩٦٤، كانت «كورونا» قد التقطت صورًا لجميع المجمَّعات الخمسة والعشرين التي كانت موجودة آنذاك، وإذا كان ثمة أي مجمَّعات جديدة، كانت «كورونا» سترصدها.

خاطبَ ليندون جونسون أحد الحشود في عام ١٩٦٧ قائلًا: «لم أكن لأرغب في أن يُستشهَد بكلامي حول هذا الموضوع. لقد أنفقنا ما يتراوح بين ٣٥ مليار و٤٠ مليار دولار أمريكي على برنامج الفضاء. وإذا لم يكن قد تمخضَ عنه شيءٌ سوى المعرفة التي اكتسبناها من التصوير الفوتوغرافي في الفضاء، فإن هذا سَيُساوي عشر مرات تكلفة البرنامج بالكامل. ولأننا نعرف الليلةَ عددَ الصواريخ التي يمتلكها العدو، ومثلما اتضح، كانت تخميناتنا مجاوزة كثيرًا لما عليه الحال في حقيقة الأمر. كنا نتخذ تدابير ما كان يجب أن نتخذها من الأساس. كنا نبني أشياءَ ما كان يجب أن نبنيها. كنا نضمر مخاوف ما كان يجب أن نضمرها.» يشير المحلِّل جيفري ريتشلسون إلى الاستطلاع الفضائي بوصفه «أحد أكثر التطورات التكنولوجية العسكرية أهميةً في القرن العشرين وربما في التاريخ كله؛ في الواقع، ربما لا يفوق تأثيرَه على الشئون الدولية في فترة ما بعد الحرب سوى القنبلة الذَّرِّيَّة. لعبَ القمر الصناعي للاستطلاع الفوتوغرافي دورًا هائلًا في تحقيق التوازن في العلاقة بين القوتين العُظميين، وذلك من خلال تهدئة المخاوف حيال الأسلحة التي كانت القوة العظمى الأخرى تمتلكها والفصل في مدى كون العمل العسكري وشيكًا.»1

بالإضافة إلى ذلك، بنت وكالة الاستخبارات المركزية مركبة متطورة على غرار وحدات التخزين المزوَّدة بأدوات إنزال، عُرِفت بأسماءٍ مختلفة مثل «هكسجون» و«بيج بيرد» و«كيه إتش-٩». انطلقت المركبة الأولى في يونيو ١٩٧١، وسرعان ما أحالت برنامج «كورونا» إلى التقاعد، حَالَّةً محلَّ مركبته الفضائية بالكامل في عام ١٩٧٢. مع ذلك، كانت المركبات ذات وحدات التخزين المزوَّدة بأدوات إنزال محدودة. بالإضافة إلى ضرورة الاسترجاع الفعلي لأفلامها، كان الأمر يستغرق شهرًا حتى تصل الصور من القمر الصناعي إلى مكتب أحد محلِّلي الصور. أظهرت حرب الأيام الستة في عام ١٩٦٧، التي تفوَّقَتْ فيها إسرائيل على أعدائها، أن صراعًا كبيرًا كان من الممكن أن يبدأ وينتهي بينما كان أحد الأفلام من مركبة فضائية في طريقه إلى واشنطن.

كانت الاستخبارات الفوتوغرافية في الوقت الفعلي هي الحل، بَيْدَ أن الأسلوب البديهي، وهو التليفزيون، كانت تُعوزه الدقة العالية التي كانت وكالة الاستخبارات المركزية في حاجةٍ إليها. ثم في عام ١٩٧٠، ابتكر عالما الفيزياء ويليام بويل وجورج سميث، من «بيل لابس»، جهازَ إقران الشحنات؛ استطاع الجهاز أن يحلَّ محل الفيلم الفوتوغرافي مع التقاط الضوء بكفاءة أكبر عشرين مرة. وبوصفه جهازًا إلكترونيًّا، كان يرسل الصور على هيئة تدفُّقات من وحدات البت، على نحو متوافِق تمامًا مع عملية الإرسال في الوقت الفعلي، ومع معالجة باستخدام الكمبيوتر التي كان في مقدورها عرض التفاصيل الدقيقة. الأهم من ذلك أن قمرًا يشتمل على جهاز لإقران الشحنات يستطيع البقاء في الفضاء إلى أجل غير محدد تقريبًا، حيث لم يكن يستخدم أي أفلام، ومن ثَمَّ لم يكن لينفد أبدًا.

سُمِّي القمر الصناعي الاستطلاعي الذي انبثق عن ذلك «كينان»؛ كان نظامه البصري، «كيه إتش-١١»، يتضمن تليسكوبًا قطره تسعون بوصة. انطلق القمر الأول في ديسمبر ١٩٧٦ وظلَّ مستخدمًا لمدة عامين، بينما ظلَّتِ الأقمار التالية مستخدَمةً لمدة عشر سنوات. بلغت الدقة ست بوصات، وأظهرت مجموعة من الصور المسرَّبة لإحدى ترسانات السفن في البحر الأسود ما كان يعنيه ذلك. كانت المركبة الفضائية على مسافة خمسمائة ميل، ومع ذلك كادت الصور أن تقترب لتُظهِر الكابلات على الرافعات في رصيف الإرساء. بالإضافة إلى ذلك، كان الجمع بين الأجهزة البصرية الكبيرة العالية الدقة وأجهزة إقران الشحنات مفيدًا للغاية لروَّاد الفضاء؛ إذ كان يوفِّر أساسًا فنيًّا لمرصد هابل الفضائي.

مثَّلَتْ أقمار الأرصاد الجوية نوعًا مختلفًا من الاستطلاع؛ فلم تكن تحتاج إلى كاميراتٍ فوتوغرافية متطورة أو استرجاع للأفلام؛ إذ كان في مقدور كاميرا تليفزيونية بسيطة عرض الكثير. أثارت أول كاميرا تليفزيونية من هذا النوع، وهي «تيروس ١» في عام ١٩٦٠، جلبة هائلة بين علماء الأرصاد، حتى على الرغم من أنها لم تبقَ حتى موسم الأعاصير. على حدِّ تعبير أحد المديرين، أوضحت صورها أن «غطاء الأرض من السحب كان منظمًا للغاية على نطاق واسع، كما وُجِدَ أن تكوينات السحب المتماسكة تمتد إلى ما يزيد عن آلاف الأميال، وكانت ترتبط بتكويناتٍ أخرى ذات أبعاد مماثلة». فضلًا عن ذلك، كانت تكوينات السحب هذه تتماثل مع نُظُم الطقس الرئيسية، بما في ذلك الجبهات ومناطق الضغط المنخفض التي كانت تتسبَّب في هبوب العواصف وهطول الأمطار. بَدَا الأمر كما لو أن الغلاف الجوي كان يستخدم السحب لرسم خرائطه المناخية.

انطلق «تيروس ٣» في منتصف عام ١٩٦١ وتتبع خمسة أعاصير في خريف ذلك العام. قدَّمَ دعمًا قيِّمًا إلى أرصاد الطائرات في تتبع إعصار كارلا المُدمِّر، الذي أودى بحياة ستة وأربعين شخصًا على طول ساحل الخليج. صارت «تيروس ٣» أيضًا أول مركبة فضائية تكتشف إعصارًا؛ حيث حددت موقع إعصار إستر قبل يومين من اكتشاف التحقيقات الصحفية التقليدية لوجوده. بالإضافة إلى ذلك، ساعدت الصور المأخوذة بواسطة الأقمار الصناعية في تحديد قوة الرياح من خلال الإشارة إلى درجة تنظيم سحب الإعصار، في تشكيلاتٍ حلزونية.

ساعدت هذه المركبات الفضائية أيضًا الغواصات في تتبع مسار الثلوج في الممرات المائية الصالحة للملاحة. في أوائل ربيع عام ١٩٦٢، رصدت «تيروس ٤» أكثر من مرة كتلة الثلوج في خليج سانت لورانس، التي كانت تحيط بجزيرة الأمير إدوارد لكنها تراجعت تدريجيًّا، وهو ما حقَّقَ آمالَ هيرمان أوبيرت، الذي كان قد كتب في عام ١٩٢٣ أن الأرصاد الفضائية «سترصد كلَّ جبل جليدي وتحذِّر السفن».

مع ذلك، كان استخدام مركبات «تيروس» الأولى محدودًا لا يرقى ليكون نظامًا جاهزًا للعمل. كانت المركبات على شكل طبلة، تدور بسرعة عشرة دورات في الدقيقة تقريبًا لتحقيق التوازن. لسوء الحظ، لم تكن متوازنة بدرجة كبيرة؛ إذ كانت تميل إلى توجيه الكاميرا نحو اتجاه وحيد، ثابت بالنسبة إلى النجوم. وفي معظم الوقت، كانت تتجه بعيدًا عن الأرض، نحو ظُلمة الفضاء؛ ونتيجةً لذلك، كانت كل مركبة من مركبات «تيروس» ترصد ما لا يزيد تقريبًا عن خُمْس سطح الأرض يوميًّا. لكن، لم تقف ناسا مكتوفةَ الأيدي حيال ذلك؛ كانت تمتلك برنامج «نيمبس»، وهو برنامج جيل ثانٍ، كانت مركبته الفضائية تتجه باستمرار إلى أسفل. كان من المقرَّر أن يدخل «نيمبس» الخدمة كنظام جاهز للعمل، يتكفَّل بشرائه ودفع تكلفته مكتب الأرصاد الجوية.

كان مكتب الأرصاد الجوية ضعيفًا (كان يتلقَّى قدرًا قليلًا من الدعم من الكيان الأم التابع له، وهو وزارة التجارة)، وكانت ناسا تقترب من ذروة القوة. لكن، استاء مسئولو مكتب الأرصاد الجوية عندما تخلَّفَ «نيمبس» عن الجدول الزمني الموضوع له. كان من المخطَّط أساسًا أن يجري إطلاقه في عام ١٩٦١، بَيْدَ أن الشركة المتعاقدة، «جنرال إلكتريك»، واجهت مشكلاتٍ خطيرة فيما يتعلَّق بنظام التحكم في الوضع، وهو ما أثار احتمال أن تتوقَّف ناسا عن إطلاق أقمار «تيروس»، بينما يظل «نيمبس» على الأرض ثم تضيف تكاليفه إلى الميزانية الهزيلة لمكتب الأرصاد الجوية.

لم يكن مكتب الأرصاد الجوية في حد ذاته يمتلك النفوذ الذي يخوِّل له فعل أي شيء حيال ذلك الأمر، لكن وزارة الدفاع اتفقت مع مكتب الأرصاد الجوية في توجُّسه من أن ناسا ربما تتخلَّى عن أقمار «تيروس» المفيدة سعيًا وراء «نيمبس» الأكفأ فنيًّا، وعرضت تدخُّلها من خلال نظام منافِس لأقمار الأرصاد الجوية. استطاع المكتب، مسلَّحًا بهذا الدعم، الوقوف في وجه ناسا القوية، معلنًا في سبتمبر ١٩٦٣ تخليه عن «نيمبس». كان المكتب في حاجةٍ إلى المزيد من المركبات الفضائية فئة «تيروس»، وكذلك إلى صوتٍ مكافئ لصوت ناسا.

اكتسبت اعتراضات المكتب مزيدًا من القوة في عام ١٩٦٤، وعلى الرغم من بلوغ «نيمبس ١» مدارًا فضائيًّا في أغسطس، توقَّفَ البرنامج بعد أقل من شهر من إطلاقه. لكن، في تلك الأثناء، كانت شركة «آر سي إيه» المصمِّمة لمركبات «تيروس» جاهزة بتعديلاتها. أدخلت الشركة تعديلًا عبارة عن كاميرا تليفزيونية سريعة يمكنها التقاط صور واضحة بينما تشير إلى جانب المركبة الفضائية عند دورانها؛ ومن ثمَّ، كان أي قمر من أقمار «تيروس» ينطلق في مساره المداري كما لو كان عجلة، ملتقطًا صوره في اللحظات التي تكون الكاميرا متجهة إلى أسفل مباشَرةً. بالإضافة إلى ذلك، كان في إمكان المركبة الفضائية التحليق في مدار قطبي؛ ومن ثَمَّ تجمع بين الصور الموجَّهة صوبَ الأرض والتغطية العالمية الكاملة. التقطَ أول قمر يؤدي هذه المهمة، وهو «تيروس ٩»، ٤٨٠ صورة للأرض المُضاءة بضوء الشمس خلال أربع وعشرين ساعة في فبراير ١٩٦٥. عند تجميع هذه الأجزاء معًا فيما يشبه الفسيفساء، كانت الصور تغطي العالم كله باستثناء القارة القطبية الجنوبية.

بعد ذلك بعام، دخل نظام جاهز للعمل — يستخدم قمرين صناعيين مماثلين — الخدمةَ بعد ذلك بعام لحساب مكتب الأرصاد الجوية. كان أحد هذين القمرين يستخدم نظام الإرسال التلقائي للصور، وهو ما كان يسمح للمحطات الأرضية الصغيرة باستقبال الصور عند الطلب، باستخدام هوائي بسيط ومسجِّل فاكس تجاري. كان نظام الإرسال التلقائي للصور قد أثبَتَ قيمتَه في رحلات طيران تجريبية على متن «تيروس ٨» و«نيمبس ١». ساهَمَ النظام في جعل الأرصاد الجوية عبر الأقمار الصناعية في متناول معظم دول العالم. في غضون سنواتٍ قليلة، كان ثمة أكثر من أربعمائة محطة عاملة من هذا النوع، في أكثر من أربعين دولة.

أدخلت المركبات الفضائية التالية لذلك أسلوب التصوير بالأشعة تحت الحمراء، وهو ما سمحَ بتصوير الأرض ليلًا؛ ففي حين كانت الصور القياسية تعتمد على ضوء الشمس المنعكس، كانت نُظُم الأشعة تحت الحمراء ترصد الأطوال الموجية الطويلة المنبعثة من الأرض والبحر والسُّحب بسبب حرارتها. أظهرت هذه الصور تشكيلات السحب بوضوح؛ ومن ثَمَّ قدَّمت تغطيةً حقيقية على مدار الساعة. كان في مقدور قمرين من ذلك الطراز، في مدارين قطبيين، إرسال مشاهد مُجمَّعة للعالم بأسره، كل ست ساعات.

جدَّدَ هذا الإنجازُ الأملَ في وضع توقعاتٍ طويلة المدى. قبل عام ١٩٤٠، كتبَ عالِم الأرصاد كارل جوستاف روسبي، في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، معادلاتٍ لتوقُّع حركة الموجات الجوية، التي يغطي نطاقها نصف الكرة الأرضية، والتي تؤثر على طقس العالم. اعتمدَ زميله جيروم نامياس على أبحاثه في وضع أول توقعات الأرصاد لخمسة أيام قادمة. أدى نقص بيانات الطقس عالميًّا إلى اتسام هذه التوقعات بأنها جزافية في أفضل الأحوال، بَيْدَ أن خدمات الأقمار الصناعية العاملة حسَّنَتْ من دقتها.

مع اختراق مجال الأرصاد الجوية من ارتفاع بضعة مئاتٍ من الأميال، بَدَا واضحًا أن الخطوة التالية ستتمثل في تقديم أرصاد من مدارات جيوتزامنية. مع ذلك، كانت متطلبات علم الأرصاد الجوية تختلف عن متطلبات الاتصال. لم يكن في مقدور مركبة فضائية متزامنة مع الأرض، تحوم فوق خط الاستواء، رصد المناطق القطبية؛ وتسبَّبَ هذا في بعض المشكلات في الخدمة التليفزيونية والهاتفية؛ نظرًا لأن الطلب كله كان متركزًا فعليًّا في خطوط العرض المعتدلة المناخ، بعيدًا جدًّا عن القطبين، حيث كانت تعيش شعوب العالم. لكن، كان لمنطقتَي القطب الشمالي والقطب الجنوبي تأثيرٌ مهمٌّ في حالة الجو المناخية، ومن ثَمَّ كان من المهم رصد هاتين المنطقتين عن قُرْبٍ. بالإضافة إلى ذلك، في ظل استخدام نظام الإرسال التلقائي للصور، حظي خبراءُ توقُّعات حالة الطقس في جميع أنحاء العالم بميزة المحطات الأرضية البسيطة وغير المكلِّفة. لم تكن المدارات الجيوتزامنية لتضيف مزيدًا من التحسين إلى هذه العملية.

بناءً على ذلك، وعلى عكس التحول القوي نحو المدارات الجيوتزامنية من قِبَل خبراء الاتصالات، استغرقت هذه الخطوة فترةً أطول بكثير بالنسبة إلى علماء الأرصاد الجوية. دعمًا لهذا الاتجاه، لجأت ناسا في عام ١٩٦٦ إلى تركيب كاميرا أبيض وأسود في القمر «إيه تي إس-١» الجيوتزامني، ووضعت كاميرا ألوان في القمر «إيه تي إس-٣» بعدها بعام. في البداية، كان علماء الأرصاد الجوية يرغبون في معرفة ما قد يرونه جديدًا، وبالفعل شاهدوا الكثير. رصد القمر «إيه تي إس-١» أحد نصفَي الكرة الأرضية كاملًا؛ حيث عرضت مجموعة من الصور ستةَ أعاصير متزامنة وعواصف مماثلة، خمس عواصف منها في المحيط الهادئ وعاصفة في منطقة الكاريبي. قال فرنر سيومي من جامعة ويسكونسن، الذي صمَّمَ هذه الكاميرا، في تعقيب على هذا الأمر: «هنا، يتحرك الطقس وليس القمر الصناعي.» يسَّرَتِ الصور المُرسَلة بانتظام من هذه الأقمار، التي ظلت ثابتةً في مكانها على ارتفاعاتٍ شاهقة، من متابَعة تطوُّر العواصف الكبرى وتبدُّدها. باستخدام صور الفواصل الزمنية، أعَدَّ علماء مثل سيومي أفلامًا — بعضها ملوَّن — تعرض الدورةَ الكاملة للأعاصير وغيرها من أنماط الطقس الأخرى.

استغرق الأمر سنواتٍ عديدة لتطوير نظامٍ جاهزٍ للتشغيل؛ نظرًا لما واجَهَه من تأجيلاتٍ وسط قرارات خفض ميزانية ناسا في أوائل السبعينيات من القرن العشرين. على الرغم من ذلك، أبرمت ناسا عقدًا مع شركة «فورد إيروسبيس» لبناء نموذجين أولَيْن، فيما عُرِف ببرنامج أقمار الأرصاد الجوية المتزامنة. بلغ هذان القمران مدارًا فضائيًّا في عامَيْ ١٩٧٤ و١٩٧٥.

في تلك الأثناء، في عام ١٩٧٠، أُدمِجَ مكتب الأرصاد الجوية في مؤسسة كبيرة، وهي الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي، ضمن وزارة التجارة. كانت الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي قد أطلقت اسمها على نوع جديد من المركبات الفضائية المدارية القطبية التي حلَّتْ محلَّ أقمار «تيروس» الأولى، حيث كانت تدور حول الأرض على ارتفاعاتٍ تصل إلى ألف ميل. تولت الوكالة أيضًا مسئولية المركبات الفضائية المدارية الجيوتزامنية، حيث قسَّمت العقدَين بين شركتَيْ «فورد إيروسبيس» و«هيوز». كانت هذه السلسلة المستمرة من الأقمار الصناعية — فيما عُرِف ببرنامج القمر الصناعي البيئي التشغيلي الثابت بالنسبة إلى الأرض — ترصد أنصافًا كاملة للكرة الأرضية في ضوء الشمس وفي الأشعة تحت الحمراء، وتلتقط صورًا كل ثلاثين دقيقة. ساهَمَ الدمجُ بين الأقمار الصناعية البيئية التشغيلية الثابتة بالنسبة إلى الأرض وأقمار الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي في بلورة الأرصاد الجوية في صورتها النهائية. ثم، بدأت صور الأرصاد الجوية المأخوذة في الفضاء تظهر في الصحف اليومية، حيث كانت الخطوط الساحلية وحدود الدول تُحدَّد بواسطة الكمبيوتر.

أظهرت هذه الصور ما هو أكثر من مجرد تكوينات السحب؛ فقد عرضت كتلًا جليدية في الجبال، وتيارات محيطية مثل تيار الخليج، وسلوك الجليد في المناطق القطبية، ومن ثَمَّ كانت توفر بياناتٍ ذات أهمية كبرى في مجال دراسة الموارد المائية، وعلم دراسة المحيطات، وعلم دراسة الجليد. ظهرت تطوُّرات أخرى من خلال التصوير الفوتوغرافي الجوي في مجال الأشعة تحت الحمراء، وباستخدام أجهزة المسح والأفلام الملوَّنة الحساسة للأطوال الموجية المناسبة، اكتشف الباحثون أنهم يستطيعون وضع خرائط لمناطق الغابات والمساحات الخضراء والأراضي الزراعية، وكذلك تحديد حالة الأشجار والمحاصيل وإذا كانت مصابة بأمراض أم لا. كانت الصور المُلتقطة بالأشعة تحت الحمراء تقدِّم أيضًا تفاصيل جديدة حول الخرائط الجيولوجية، تتضح فيها خطوطُ الصدوع والتشكيلات الصخرية الكبرى.

كان ويليام بيكورا، مدير وكالة المسح الجيولوجي الأمريكية، من أوائل المؤيدين لاستخدام الأقمار الصناعية في إجراء تلك الأرصاد الجوية. حصل على دعم قوي من وزارة الداخلية، الكيان الأم للوكالة؛ ممَّا دفع ناسا إلى اتخاذ خطواتٍ فعلية. كان برنامج «نيمبس» بمنزلة نقطة انطلاق، حيث كانت أقماره الصناعية تعمل كمنصات اختبار للمعدات الجديدة. في عام ١٩٦٩، حوَّلَتْ ناسا تركيز هذا البرنامج من الأحوال الجوية إلى مجال الأرصاد الأرضية الجديد.

انطلق نموذج جديد مُجهَّز جيدًا من قمر «نيمبس»، أُطلِق عليه لاحقًا «لاندسات ١»، إلى مدار قطبي في منتصف عام ١٩٧٢. شهدت السنوات الاثنتي عشرة التي أعقبت ذلك إطلاقَ أربعِ مركبات فضائية من هذا الطراز، وخلال منتصف الثمانينات من القرن العشرين، اقترب برنامج «لاندسات» من وضع التشغيل الفعلي، وعهدت إدارة ريجان بالبرنامج إلى «إيوسات»، وهي شركة تجارية كانت تمثل مشروعًا مشتركًا بين شركتَيْ «هيوز» و«آر سي إيه». بالإضافة إلى ذلك، انضمت فرنسا إلى السباق من خلال نظامها التجاري الخاص المُسمَّى القمر الصناعي الفرنسي لرصد الأرض («سبوت»)، مُطلِقةً أول أقمارها الصناعية في عام ١٩٨٦.

التقط روَّاد الفضاء في محطة «سكايلاب» صورًا مماثلة في غضون أشهر قليلة، في حين كانت أقمار «لاندسات» و«سبوت» ترسل صورًا عامًا بعد عام. استطاعت هذه الأقمار أن ترصد علاماتٍ تشير إلى ظاهرة الاحتباس الحراري، منها: ارتفاع مناسيب الأنهار الجليدية في ألاسكا، وتصدُّع الجروف الجليدية مكوِّنةً جبالًا جليدية هائلة. كذلك، قدَّمَتِ الصورُ المُلتقطة عبر هذه الأقمار بياناتٍ حول عدد من الموضوعات البيئية، مثل زحف الصحراء الكبرى جنوبًا، وتجرُّف الغابات المطيرة في حوض الأمازون. اسُتخدِمت أيضًا صور «لاندسات» في الولايات المتحدة الجيدة التخطيط، حيث دعمت عمليات المسح الخاصة باستعمال الأراضي وحجم الأراضي الرطبة.

اتسمت التحوُّلات التي تعقَّبَتْها تلك الصور بالبطء في كثير من الأحيان؛ إذ كان يمكن أن تحتفظ أحيانًا مجموعةٌ واحدة من الصور الجيدة بقيمتها لسنواتٍ عديدة. بالإضافة إلى ذلك، كانت الطائرات تستطيع إجراء عمليات مسح مُحدثة؛ لذلك، كانت مركبات «لاندسات» قليلةَ العدد وتُطلَق على فتراتٍ متباعِدة؛ إذ لم تكن ثمة حاجة إلى عمليات إطلاقٍ سريعة. لكن، كان الطلب كبيرًا على الصور. في البداية، أتاحت وكالة المسح الجيولوجي الأمريكية الصور من خلال مكتبها في مدينة سيو فولز بولاية داكوتا الجنوبية، ثم أضفت «إيوسات» مزيدًا من الراحة والسهولة في توفير الخدمة من خلال عَرْضِها في مركزٍ قُرْبَ واشنطن العاصمة، مع توفير جميع الخبراء اللازمين.

في ظل هذه الاستخدامات، شكَّلَتِ الأقمار غير المأهولة لناسا وغيرها من الوكالات الأخرى تعارُضًا حادًّا مع «أبولُّو». نشأ برنامج أبولُّو وسط مخاوف من التفوق السوفييتي، لكنَّ الولايات المتحدة استطاعت من خلال ريادته في مجالات الاتصالات والطقس والأرصاد الأرضية أن تبرهن على حقيقة التفوق الأمريكي. بالإضافة إلى ذلك، كان «أبولُّو» يختلف عن هذه الاستخدامات إلى حدٍّ ما تمامًا كما يختلف موكب ملكي عن طريق سريع مُنشَأ حديثًا. كانت عمليات الهبوط على سطح القمر أحداثًا يُعجَب المرء بها عن بُعْدٍ دون أن يلمس لها أثرًا مباشرًا في حياته؛ أمَّا الخدمات الجديدة من تليفزيون وشبكات هاتف وتوقعات للأرصاد، فقد استفادَ منها الجميع. وفي حين أبهر «أبولُّو» دول العالم الثالث، ساعدت الأقمار الصناعية الجديدة في منح شعوب هذه الدول ميزات العالم الأول؛ فالتليفزيون والهاتف صارا مطلبًا جماعيًّا، بينما دخلت خدمات الأرصاد الجوية مجتمعاتٍ كانت تؤمن بالمأثورات الشعبية.

دفعت هذه الفرص أيضًا أوروبا إلى الاتجاه بقوة نحو الفضاء. لم تكن الدول الأوروبية، التي تحتمي تحت المظلة النووية الأمريكية، بحاجةٍ كبيرة إلى الاستطلاع الاستراتيجي، ولم تكن تستهويها أيضًا البعثات المأهولة؛ لكنَّ علوم الفضاء والطقس والاتصالات والأرصاد الأرضية كانت أمورًا مختلفة تمامًا. تضمَّنَتْ برامج الفضاء الأوروبية الأولى حمولاتٍ أوروبية على متن صواريخ تعزيز أمريكية، كان أولها قمر «آريال ١» البريطاني الذي انطلق في أبريل ١٩٦٢ على متن صاروخ طراز «ثور-دلتا» مزيَّنًا بالعَلَمَين الأمريكي والبريطاني؛ بَيْدَ أنه لم يمضِ وقت طويل حتى شرع الأوروبيون في بناء مركبات إطلاقٍ خاصة بهم.

لاحت نقطة انطلاق أوَّلية من أمل بريطانيا، خلال فترة ما بعد الحرب، في الاحتفاظ بدورها الذي دامَ قرونًا كقوة عظمى؛ فطوَّرَتْ هذه الدولة أسلحتها النووية وقاذفاتها النفاثة، ومضت تبني غواصات «بولاريس». بالإضافة إلى ذلك، في عام ١٩٥٤، شرع أعضاء حزب المحافظين بقيادة السير ونستون تشرشل في العمل على صاروخ باليستي متوسط المدى باسم «بلو ستريك». لكن بحلول عام ١٩٦٠، صار البرنامج مكلِّفًا للغاية، وتراجَعَ كثيرًا عددُ الأصوات المؤيِّدة له. وسط صيحات حزب العمال المعارِضة، قرَّرَ رئيسُ الوزراء هارولد ماكميلان إلغاءَ البرنامج.

لكن، عاد «بلو ستريك» إلى الحياة في يناير ١٩٦١ عقب اجتماع بين ماكميلان والرئيس الفرنسي شارل ديجول. كان ديجول مغرمًا بالشراكات العابرة للقنال الإنجليزي؛ إذ كان سرعان ما سيصدق على التعاون البريطاني الفرنسي الذي كان سيتمخَّض عن بناء طائرة الكونكورد التي تفوق سرعتها سرعة الصوت. عقب ذلك الاجتماع، أدرك ديجول أن أوروبا تستطيع أن تصبح قوة ثالثة في مجال الفضاء. اتخذ السير بيتر ثورنيكروفت، وزير الطيران البريطاني، مبادرة إنشاء منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية (الإلدو)؛ بعدها بعامٍ، انضمت جميع الدول الكبرى في أوروبا الغربية بهدف بناء صاروخ أوروبا ذي المراحل الثلاث، وتقرَّرَ أن يكون الصاروخ «بلو ستريك» البريطاني هو صاروخ المرحلة الأولى، بينما ساهمت فرنسا وألمانيا الغربية بصاروخَي المرحلتين الثانية والثالثة على التوالي. كذلك، تولَّتْ إيطاليا بناء الأقمار الصناعية الأولى.

figure
مركبة فضائية غير مأهولة: (أ) قمر «تيروس» للأرصاد الجوية، (ب) «لاندسات» للدراسات البيئي، (ﺟ) منظر مقطعي لقمر الاتصالات «إنتلسات ٤-بي»، (د) «إنتلسات ٥» (دون ديكسون).

في تلك الأثناء، كان عالِما الفيزياء، الإيطالي إدواردو أمالدي والفرنسي بيير أوجيه، بصدد اتخاذ مبادرة مشابهة في مجال علوم الفضاء. لعبَ كلاهما دورًا فاعلًا في تأسيس المركز الأوروبي للأبحاث النووية (سيرن) في عام ١٩٥٤، وكانا يسعيان نحو تعاون مماثل في مجال الفضاء. حصلا على دعم كبير من نظير بريطاني لهما، وهو السير هاري ماسي، ثم في فبراير ١٩٦٠، التقى ممثلون من ثماني دول بصفةٍ غير رسمية في مسكن أوجيه في باريس، واتفقوا على المضي قدمًا؛ تمخَّض ذلك في يونيو عام ١٩٦٢ عن تأسيس المنظمة الأوروبية لأبحاث الفضاء (إسرو).

بنت المنظمة الأوروبية لأبحاث الفضاء مركزًا لتطوير المركبات الفضائية بالقرب من أمستردام ومركز تحكم في دارمشتادت، فضلًا عن منطقة صواريخ تجريبية في شمال السويد. لكن، تحمَّلَتْ هذه المنظمة أعباءً أكثر من طاقتها الفعلية في مشروعَيْها الكبيرين الأوَّلين، وهما قمر صناعي فلكي وبعثة إلى أحد المذنَّبات. تراجَعَ إيقاع العمل في المشروعين خلال فترة الستينيات من القرن العشرين وسط حالة كبيرة من التذمر؛ لأن فرنسا حصلت على حصة غير متكافئة من العقود. انتهى المطاف بأن صار التليسكوب المداري في حاجة ماسة إلى مساعدة ناسا قبل انطلاقه أخيرًا في عام ١٩٧٨ باسم قمر «إكسبلورار» الدولي لدراسة الأشعة فوق البنفسجية. حقَّقَ مسبار المذنَّب نجاحًا أقل في البداية. لم يتبلور فعليًّا حتى عام ١٩٨٠، عندما ظهر في شكل بعثة جوتو إلى مذنَّب هالي.

تباطأت أيضًا وتيرة العمل في منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية. كان برنامج «أوروبا» التابع لها يهدف إلى بناء صاروخ يمكنه إطلاق حمولة طن إلى مدار طوله ٣٠٠ ميل، وهو ما كان سيمنحه قوة الصاروخ «ثور-أجينا». استغرَقَ الصاروخ «ثور» عامًا فقط للانتقال من مرحلة توقيع العقد إلى مرحلة أن صار صاروخًا حقيقيًّا على منصة الإطلاق، ومنح مشروع «بلو ستريك» برنامج «أوروبا» ميزة مبكرة على منافسيه؛ لكن، لم يكن لبرنامج «أوروبا» شركة متعاقدة مناظِرة لشركة «دوجلاس إيركرافت»، لها سلطة الإدارة الكاملة، بل كانت كل دولة مساهمة مسئولة عن جزئها الخاص. على الرغم من ذلك، انطلق «بلو ستريك» بنجاح في الاختبارات، وهو ما منح الناسَ أملًا.

بناءً على ذلك، في عام ١٩٦٦ قررت هيئةُ تنسيقٍ ممثَّلةً في مؤتمر الفضاء الأوروبي تطويرَ «أوروبا» ليصير مركبةً في وسعها نقل حمولة مائتَيْ كيلوجرام إلى مدار جيوتزامني (أي، متزامن مع الأرض). كانت هذه الإمكانية لا تزال مقتصرة على صواريخ «ثور»، لكن الشيء الوحيد الذي انطلق إلى مدار فضائي كان الميزانية؛ إذ تخطَّتِ الميزانية القيمةَ التقديرية الأوَّلية، وهي ٧٠ مليون جنيه إسترليني، بنسبة ٣٥٠ في المائة. بدايةً من عام ١٩٦٨، أجرَتْ منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية سبع محاولات إطلاقٍ ناجحة، بَيْدَ أنها فشلت في إطلاق النماذج المبكرة والحديثة من «أوروبا». فرضَ صاروخ المرحلة الثالثة صعوبةً من نوع خاص؛ حيث إنه تعرَّضَ لحوادث خلال محاولات الإطلاق الثلاث، وهي على التوالي: توقُّفه عن العمل قبل الوقت المحدد، وفشله في التشغيل، وتعرُّضه لانقطاعٍ كهربائي. على غرار ما حدث مع الصاروخ «إن-١» لموسكو، صبَّتْ هذه الحوادث في مصلحة القادة السياسيين الذين كانوا يرغبون في بدء العمل من جديد. في مايو ١٩٧٣، قرَّر مديرو منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية إلغاء المشروع.

كان ضعف منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية وعجزها يأتي على النقيض تمامًا من نجاح فرنسا، التي نفَّذَتْ برنامجًا وطنيًّا مستقلًّا؛ انطوى هذا البرنامج على ما هو أكثر مما كان ينشده ديجول من مجدٍ؛ إذ قدَّمَ ميزاتٍ حقيقية، خاصةً في مجال الاتصالات عن بُعْد. يتحدَّث المؤرِّخ والتر ماكدوجال عن صديقٍ شاهَدَ «أبولُّو ١١» أثناء هبوطها على سطح القمر في عام ١٩٦٩ مع أسرة من المزارعين في جنوب فرنسا. أعلن المذيع التليفزيوني أن الرئيس نيكسون كان على وشك التحدث إلى روَّاد الفضاء، ونادت سيدة بحماسٍ على الأسرة لمشاهدة الحدث قائلةً: «انظروا! سيجري اتصالًا هاتفيًّا بالقمر، ولا نستطيع نحن أن نحصل حتى على خط تليفون للاتصال بباريس!»

كان ديجول، مثل نظرائه البريطانيين، لديه اهتمام قوي بامتلاك قوة ضاربة استراتيجية، وفي عام ١٩٦٥ بنى أيضًا أسلحة نووية وطائرات نفاثة متطورة وغواصات نووية. كذلك، في عام ١٩٦٥ حمل الصاروخ «ديامو» (أي «الماس») ذو المراحل الثلاث قمرًا صناعيًّا صغيرًا إلى مدار فضائي، لتصبح فرنسا بذلك ثالث دولة تدخل عصر الفضاء بمساعدة صاروخ تعزيز من تطويرها. بلغت قوة دفع هذا الصاروخ ٦٢ ألف رطل، وهي قوة متواضعة للغاية في حقيقة الأمر، وهو ما وضع «ديامو» في فئةٍ واحدة مع «جوبيتر-سي»، بل إن الصاروخ «في-٢» كان أيضًا بنفس القدرة تقريبًا. مع ذلك، أوضح «ديامو» أن فرنسا استطاعت أن تنجز ما كان بالنسبة إلى منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية مجردَ أمل ترجو تحقيقه.

انطلق هذا الصاروخ من موقع في الصحراء الجزائرية، صدرت الأوامر إلى باريس بإخلائه بنهاية عام ١٩٦٦. نقلت الحكومة اهتمامها إلى جويانا الفرنسية على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية، التي لم تكن مستعمرةً بل كانت «إدارةً» تابعةً قانونًا إلى فرنسا نفسها؛ كانت معروفة أكثر بأنها موقع جزيرة الشيطان. هنا قضى ألفريد دريفوس، الذي أُدِين بتهمة الحنث باليمين، أربع سنوات قبل أن يتمكَّن مؤيدوه من إطلاق سراحه. كان السجناء الآخرون يعرجون عُرَاة في أصفادٍ تقيِّد أرجلهم، أو يعيشون في زنزاناتٍ قديمة يبلغ اتساعها قَدَمَيْن؛ كانوا يتعرَّضون أيضًا إلى الحمى الصفراء، والملاريا، والحُرَّاس الساديين. كان أسوءهم على الإطلاق يُعدَم على المِقْصَلة ويُلقى إلى أسماك القرش.

أغلقت فرنسا السجون في عام ١٩٤٦، وظلت الدولة بدائيةً على الرغم من ذلك في ظل الأدغال الكثيفة والرطوبة الخانقة، فضلًا عن نمور الجاجوار والتماسيح وأسماك البيرانا. كان أحفاد العبيد يعيشون في الأحراش، يتحدثون لغةً تتألَّف من ٣٤٠ كلمة فقط، لكن الموقع كان مثاليًّا لعمليات الإطلاق الفضائي؛ لم تكن المنطقة تضم مساحاتٍ شاسعة من المياه المفتوحة إلى الشمال والشرق، لكن وقوعها على خط الاستواء وفَّرَ للصواريخ الميزة الكاملة لدوران الأرض، وهو ما كان يوفِّر سرعةَ دوران شرقًا تصل إلى ما يربو على ١٠٠٠ ميل في الساعة، بينما لا يزال صاروخ التعزيز منصوبًا على منصة إطلاقه. جذب هذا «المركز الفضائي الجوياني»، بموقعه المتمركز في كورو، شمال العاصمة كاين، مجموعةً متنوعةً من العُمَّال من البرازيل وجزيرة مارتينيك وجزر كاريبية أخرى وما يزيد على عشرات الدول الأخرى. بدأ المركز العمل بالصواريخ التجريبية في عام ١٩٦٩، وبدأ في إطلاق ديامانت إلى مدار فضائي خلال عام ١٩٧٠.

سرعان ما أوضحَ مشروعٌ فرنسي ألماني مشترك لتطوير قمر صناعي للاتصالات، باسم «سيمفوني»، أن على أوروبا مضاعَفة جهودها في هذا المجال. يرجع المشروع إلى عام ١٩٦٧، كمبادرة مستقلة عن منظمة أبحاث الفضاء الأوروبية. كان مصمِّمو الصاروخ يأملون في إطلاق القمر باستخدام صاروخ «أوروبا»، وعندما تأكَّدَتِ استحالة ذلك، لجئوا إلى ناسا. لم تُبْدِ ناسا اعتراضًا على ذلك، شريطةَ ألَّا يتنافس «سيمفوني» مع مركبة إنتلسات الفضائية. لم يكن مقرَّرًا أن يعمل الصاروخ على نطاق تجاري.

لم تكن أوروبا تملك خيارًا آخَر سوى القبول، على الرغم من أن هذا الأمر كان يثير الازدراء حقًّا من وجهة نظر الفرنسيين الأبيِّين. يتذكَّر فردريك دي ألست، أحد مسئولي الفضاء الرُّوَّاد في فرنسا قائلًا: «لم يكن من المفترض أن نظل نعتمد على أحدٍ في خدمات الإطلاق؛ كانت المسألة مسألة سيادة بوضوح.»

مع وجود فرنسا في الصدارة، عقد القادة الأوربيون سلسلةً من المؤتمرات العالية المستوى أفضَتْ إلى إعادة هيكلة كاملة لبرنامج الفضاء بحلول عام ١٩٧٥. اختفت منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية ومنظمة أبحاث الفضاء الأوروبية من الوجود، مفسحتين الطريق لوكالة الفضاء الأوروبية الجديدة ذات النفوذ الأكبر. بدأت منظمة أبحاث الفضاء الأوروبية بدايةً متواضِعةً — لكنها مهمة — في علم الفضاء؛ حيث طوَّرَتْ سبعة أقمار صناعية انطلقت إلى مدار فضائي على متن صواريخ تعزيز ناسا في الفترة بين عامَيْ ١٩٦٨ و١٩٧٢، لكن وكالة الفضاء الأوروبية اتخذت قرارًا حاسمًا بالاتجاه إلى التطبيقات.

كان لدى فرنسا مشروعها الخاص باسم «متيوسات»، وهو قمر صناعي للأحوال الجوية. تولَّتْ وكالة الفضاء الأوروبية المشروعَ وأضفَتْ عليه طابعًا أوروبيًّا. كذلك، ورثت الوكالة الجديدة مشروعَ اتصالاتٍ جديدًا مهمًّا؛ القمر الصناعي التجريبي المداري، في ظل وجود مهمتَيْ متابَعةٍ في الأفق القريب، أَلَا وهما القمر الصناعي الأوروبي للاتصالات الجاهز للعمل، فضلًا عن نموذج معدَّل للخدمة البحرية باسم «ماريكس». في عام ١٩٧٨، بلغ القمر الصناعي التجريبي المداري مدارًا فضائيًّا، مرةً أخرى من خلال ناسا، وحمل قناة «سكاي»، وهي أول وصلة إرسال تليفزيوني أوروبي مدفوع الأجر.

بالإضافة إلى ذلك، قدَّمَتْ وكالة الفضاء الأوروبية دعمًا قويًّا لجهود تطوير صاروخ تعزيز جديد ينهي اعتمادها على صواريخ الإطلاق الأمريكية ويجعل الأمريكيين يتنافسون معهم في الصفقة. لكن، ما كان المشاركون في المشروع هذه المرة لينأوا عن مبدأ التعددية الثقافية المقبول سياسيًّا في منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية. بدلًا من ذلك، اتخذ الصاروخ الجديد صورة مشروع فرنسي باسم «آريان»، الذي كان يرفع العلم الفرنسي بألوانه الثلاثة حرفيًّا. كان صاروخا المرحلتين الأولى والثانية يعملان بوقود قابل للتخزين، وكان صاروخ المرحلة الثالثة مزوَّدًا بالهيدروجين والأكسجين؛ ومن ثَمَّ سعى «آريان» إلى تخطي صواريخ تعزيز «ثور» لمضاهاة قوة الرفع الخاصة بالصاروخ «أطلس-سينتاور»، حاملًا طنًّا كاملًا إلى مدار جيوتزامني.

اتضح أيضًا من قرارات أوروبا أن وكالة الفضاء الأوروبية كانت تسعى إلى التعاون مع برنامج ناسا للمكوك الفضائي، وأنها ستنتظر حتى ينحسر نشاطه. في متابَعةٍ لتعهُّدٍ في عام ١٩٧٣ من قِبَل منظمة أبحاث الفضاء الأوروبية، صدَّقت وكالة الفضاء الأوروبية على مبادرة ألمانية باسم «سبيسلاب»، سيجري من خلالها إنشاء مركز بحوث مداري لوضعه في مخزن البضائع بالمكوك الفضائي. لم تكن مبادرة سبيسلاب مثل «سكايلاب»؛ فلم تكن محطةً فضائية حُرَّة التحليق؛ إذ كانت ستعتمد على المكوك الفضائي لتوفير الطاقة الكهربية ومعدات الطواقم. عكست المبادرة قدرًا معينًا من المقايضة الصعبة؛ فمن خلال التصديق على مشروع غرب ألمانيا «سبيسلاب» فضلًا عن مشروع «ماريكس» البريطاني إلى حدٍّ كبير، ظفرت وكالة الفضاء الأوروبية بموافقة هاتين الدولتين (ألمانيا وبريطانيا) على مشروع «آريان» الفرنسي. بالإضافة إلى ذلك، كان مشروع «سبيسلاب» يمثِّل خدعةً ماكرة ربما تستطيع أوروبا من خلالها استقلال المكوك الفضائي والاستفادة من فرصه، إذا كانت ثمة أيُّ فرص، بينما تنأى بنفسها عن المشاركة في تكلفة تطويره الباهظة.

لكن وكالة الفضاء الأوروبية كانت مستعدة أيضًا لتحدي المكوك الفضائي. كان مسئولو ناسا يتوقعون بطلاقة أن مركبة الإطلاق القابلة لإعادة الاستخدام هذه ستخدم جميع العملاء وستخفِّض تكلفة السفر إلى الفضاء؛ ممَّا يجعل صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام مرة واحدة مثل «ثور» و«أطلس» و«تايتان» صواريخ عفا عليها الزمن. لم تكن هذه الوكالة لتترك الأمر للمصادفة، عن طريق توفير سوق حرَّة تسمح لمستخدميها بالانتقاء بين مجموعة متنوعة من الصواريخ؛ بدلًا من ذلك، بمجرد أن يصبح الصاروخ جاهزًا للعمل ويسير الجدول الزمني للرحلات وفق السرعة المطلوبة، كان من المقرَّر أن تتوقَّف ناسا عن إنتاج الصواريخ القابلة للاستخدام مرةً واحدة، وتنتقل كليةً إلى المكوك الفضائي، واضِعةً بذلك كلَّ البيض لديها في سلة واحدة. كان الالتزام نحو «آريان» بمنزلة توقُّع فشل هذه الاستراتيجية، وأن العالم سيظل بحاجة إلى الصواريخ القابلة للاستخدام مرةً واحدة، وأن أوروبا عزمت على استخدامها حتى إنْ لم تكن ناسا ستستخدمها. عندما انطلق «آريان» للمرة الأولى بنجاح باهر، قبل أعياد الكريسماس مباشَرةً في عام ١٩٧٩، أعلن رسميًّا أن أوروبا تمارس دورها في الفضاء على نحوٍ جديٍّ، وأنها على استعدادٍ لمنافسة الأمريكيين على الأرض التي يختارونها.

figure
صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام مرةً واحدة في عام ١٩٨٠: الصواريخ «دلتا»، و«أطلس-سينتاور»، و«تايتان ٣» الأمريكية؛ الصاروخ «آريان» الأوروبي؛ الصاروخ «مولنيا» السوفييتي (دان جوتييه).

على الرغم من ذلك، ظلت الولايات المتحدة الأمريكية بلا منافس في مجال مهم آخر، وهو استكشاف الكواكب. برز مختبر الدفع النفَّاث باعتباره المركز الرئيسي على مستوى العالم، بينما كان مديره ويليام بكرينج يؤدي دوره في قيادة المركز وإدارته. وُلِدَ بكرينج في قرية صيدٍ صغيرة في نيوزلندا، حيث صار من الشخصيات المشهورة محليًّا من خلال صنع راديو بلوري يلتقط الموسيقى من أستراليا. التحق بالمدرسة الثانوية في العاصمة ولينجتون، ثم في عام ١٩٢٩ دعاه عمٌّ ثري في لوس أنجلوس للقدوم إليها، حيث التحق بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. حصل على دكتوراه في الفيزياء في عام ١٩٣٦، وكان ضمن دفعته جون بيرس ودين وولدريدج، وظلَّ بها حتى صار أستاذًا في الهندسة الكهربية. سرعان ما صار يقضي وقتًا متزايدًا في مختبر الدفع النفاث الناشئ، حيث أصبح رائدًا في مجال القياس عن بُعْد. كان آخِر صفٍّ درَّسَ له في الجامعة هو صف عام ١٩٥٠، حيث تولَّى قيادة مختبر الدفع النفاث بعد ذلك بأربع سنوات.

كان المختبر الذي كان يرأسه آنذاك ينتمي رسميًّا إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، لكنه كان يشبه ترسانات الجيش مثل «ردستون» أو «بيكاتني»، وكان سبب وجوده يتمحور حول الصواريخ الحربية، متمثِّلةً في الصاروخ «كوربورال» وصاروخ الوقود الصلب «سيرجنت» لاحقًا، وهو ما كان جزءًا من نمط كانت الجامعات الكبرى تفتخر بموجبه بأداء دورها في الحرب الباردة، كالحال عندما برهن كلٌّ من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة كاليفورنيا في بيركلي وجامعة شيكاجو على ريادتها في الحرب العالمية الثانية. لكن، عندما تولَّى بكرينج زمامَ الأمور في عام ١٩٥٤، أقنع لي دوبريدج، رئيس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، بالموافَقة على أن يصبح الصاروخ «سيرجنت» آخِر صاروخ عسكري كبير لمختبر الدفع النفَّاث. بدلًا من ذلك، وجَّهَ بكرينج اهتمامَه إلى نُظُم التوجيه، ثم إلى الفضاء.

اتضحت أولى فرصه المبكرة من خلال فيرنر فون براون، عندما طوَّرَ مختبرُ الدفع النفَّاث نظامَ توجيه قصوري راديوي لصاروخه «جوبيتر» الباليستي المتوسط المدى. كان فون براون يبني أيضًا الصاروخ «جوبيتر-سي» لإجراء اختباراتٍ على المقدمات المخروطية. روَّجَ مختبر الدفع النفَّاث لصواريخ وقود صلب صغيرة في المراحل العليا، فضلًا عن نظام تتبُّع وقياسٍ عن بُعْد. ثم انطلقت «سبوتنيك» وحصل فون براون على تصريح لاستخدام «جوبيتر-سي» في إطلاق أقمار صناعية. بنى مختبر الدفع النفَّاث أول هذه الأقمار، «إكسبلورار ١»، فضلًا عمَّا تلاها من نماذج مبكرة، مع التوسع في شبكة التتبع. بعد ذلك، أصبح لمختبر الدفع النفَّاث دورٌ كبير في الفضاء.

كان المختبر لا يزال غير معروف على نطاق كبير. عندما نشرت صحيفة «إجزامينر» في لوس أنجلوس خبرًا بعنوان «القمر الصناعي لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا يدور حول الأرض»، أشارت «نيوزويك» إلى أن «كاليفورنيا وجدت ملاكًا محليًّا». كان من المقرَّر أن يقدم مختبر الدفع النفَّاث مزيدًا من الإسهامات في ظل دعم فون براون. خصَّصَتْ وكالةُ المشروعات البحثية المتقدمة التابعة للبنتاجون القمرَ لتليسكوبٍ لاسلكي يبلغ ارتفاعه ٨٥ قدمًا قُرْبَ جولدستون دراي ليك في صحراء موهافي، كنواة لشبكة الفضاء السحيق التي كان مقرَّرًا أن تتولَّى تتبُّع البعثات القمرية والكوكبية في البلاد. عندما حصل فون براون على تصريح لإطلاق مركبتَيْ سَبْرٍ صغيرتين إلى الفضاء بين الكواكب، تقدَّمَ مختبرُ الدفع النفَّاث مرةً أخرى بصواريخ المراحل العليا، ونُظُم التتبُّع، والمركبات الفضائية نفسها. انطلقت ثانيتهم، «بايونير ٤»، في مارس ١٩٥٩، وصارت المركبة الأمريكية الأولى التي تخرج عن نطاق جاذبية الأرض وتدخل في مدار شمسي.

بحلول ذلك الوقت، كان مختبر الدفع النفَّاث قد خرج من عباءة الجيش ليصبح جزءًا من ناسا. قاد بكرينج الجهودَ في سبيل وضع برنامج طموح للرحلات غير المأهولة إلى القمر، وعطارد، والمريخ؛ وهو ما كان يتفق مع رؤية كبار مديري ناسا أمثال كيث جلينان وآيب سلفرستاين، اللذين كانا قد بدآ في التخطيط بجدية لإرسال بعثاتٍ قمرية مأهولة خلال ذلك العام. في أواخر عام ١٩٥٩، حصل مختبر الدفع النفَّاث على الموافقة على بناء «رينجر»، وهي سلسلة من المركبات الفضائية القمرية التي كانت ستنطلق على متن الصاروخ «أطلس-أجينا». كان من المقرَّر أن تحتوي هذه المركبات على ألواح شمسية وهوائي ذي طول موجي قصير متجه باستمرار صوب الأرض، على الرغم من إمكانية اعتماد مركبات السَّبْر القمرية على البطاريات وهوائياتٍ ذات طول موجي كبير؛ والسبب في ذلك أن هذه الخواص كانت أساسية بالنسبة إلى البعثات الكوكبية. ومن اللافت للنظر أن بكرينج كانت له نظرة استشرافية، ودائمًا ما كان يتطلَّع إلى الأمام.

لكن، كانت ثقافة المختبر لا تزال منصبَّة على كونه مركزًا للصواريخ الحربية، وكان الفشل في الرحلات التجريبية أمرًا مقبولًا لأن جولاتٍ أخرى ستتوافر لإجراء عمليات إطلاقٍ مستقبلية؛ ونتيجةً لذلك، صارت مركبات «رينجر» بمنزلة التدريب الذي تعلَّمَ من خلاله مختبرُ الدفع النفَّاث كيفيةَ بناء مركباتٍ فضائية ناجحة. انطلقت المهمتان الأُولَيان خلال عام ١٩٦١ لكنهما لم تبرحا المدارات الأرضية المنخفضة؛ إذ لم تتمكَّن صواريخ المرحلة الثانية في «أجينا» من تشغيل محركاتها الرئيسية. كانت المسئولية تقع على عاتق «لوكهيد» والقوات الجوية، مصمِّمَيْ «أجينا»، بَيْدَ أن المشكلات التالية أُلقِيت بأكملها على أعتاب بكرينج.

انطلقت مركبة «رينجر ٣» في يناير ١٩٦٢. أجبَرَ عطلٌ في نظام التوجيه الرئيسي في «أطلس» طاقمَ المركبة على الانتقال إلى نظام بديل ذي مستوى دقةٍ أقل، وهو ما كان يعني أن المركبة الفضائية ستصبح على مسافة ٢٠ ألف ميل من القمر. مع ذلك، كانت لا تزال هناك فرصة لتجربة هذه المركبة في الفضاء السحيق، وحقَّقَ المراقِبون الأرضيون نجاحًا فعليًّا أثناء إجراء تصحيحٍ في منتصف المسار. كانت هذه هي المرة الأولى التي كان أحدهم قد صحَّحَ مسارًا قمريًّا بإطلاق صاروخ على متن المركبة. عندما حاوَلَ هؤلاء المراقبون ضبْطَ مركبة السَّبْر بحيث تشير إلى القمر وتنقل صورًا تليفزيونية، تعطَّلَ الكمبيوتر الموجود على متنها؛ ممَّا جعلها معدومة الفائدة.

كانت «رينجر ٤»، في أبريل، مدعاةً لمزيد من خيبة الأمل. في هذه المرة، انطلق الصاروخ «أطلس-أجينا» على نحو دقيق؛ وهو ما كان سيجعل «رينجر ٤» تصل القمر دون إجراء تصحيح في منتصف المسار؛ بَيْدَ أن ساعة الكمبيوتر الرئيسية تعطَّلَتْ؛ ممَّا جعلها غير قادرة على تنفيذ سلسلة عملياتٍ مؤقتة تضمَّنَتْ نشْرَ الألواح الشمسية والهوائي ذي الطول الموجي القصير الموجودين بالمركبة. لم تستطع المركبة أيضًا قبول الأوامر الواردة من الأرض وتنفيذها؛ قال أحد مسئولي ناسا تأسُّفًا: «كلُّ ما نملك مركبة بلهاء ترسل إشارة لاسلكية.» بعدها بثلاثة أيام، بلغت المركبة الجانب المظلم من القمر بثباتٍ تام. كانت أول مركبة أمريكية تبلغ فعليًّا القمرَ، بَيْدَ أنه في عام ١٩٦٢ لم يكن هذا وحده كافيًا.

أسفرت «رينجر ٥»، في أكتوبر، عن النتيجة نفسها تقريبًا؛ فبعد مرور ساعة على رحلتها، أدَّى عطلٌ في الدائرة الكهربية إلى فصل المركبة عن مصدر الطاقة المتمثِّل في الألواح الشمسية، مخلِّفًا بطارية صغيرة فقط على متنها. مع ذلك، حاوَلَ مديرو المشروع إجراءَ تصحيحٍ في منتصف المسار، كاختبارٍ هندسي. قبل أن تتمكَّن المركبة الفضائية من تنفيذ المناورات اللازمة، أدَّى عطلٌ آخَر في الدائرة الكهربية إلى القضاء على المركبة برمَّتها. كان من المقرَّر أن تلتقط المركبة بعض الصور الجيدة لسطح القمر؛ إذ مرَّت عبر القمر على مسافة لا تزيد عن ٤٥٠ ميلًا؛ بَيْدَ أنها في ذلك الوقت كانت قد توقَّفَتْ تمامًا.

كان وقع هذه المحاولات الفاشلة شديدًا على المختبر. كان طاقم بكرينج يتألَّف من مجموعة أشخاص مفرطي الحماس؛ على حدِّ تعبير جيمس فان ألن: «لديهم «روح» رائعة؛ ومن ثَمَّ، كان الأمر شبه مهين بالنسبة إليهم. كان الأمر مثل جنود البحرية.» على وجه التحديد، أجروا تغييراتٍ هائلة في مختبر الدفع النفاث، محوِّلين إياه من مركزٍ للصواريخ إلى مختبرٍ مهمتُه تتمركز حول الإلكترونيات. شملت محاولات «رينجر» الفاشلة مجموعةَ الدوائر الكهربائية الكاملة على متن المركبة، وهو ما كان أمرًا مُقلِقًا للغاية. أصدرت لجنةُ فحصٍ تقريرًا لاذعًا، مشيرةً إلى أسلوب المختبر باعتباره أسلوبَ «أَطلِقْ ثم تَمَنَّ».

استبدل بكرينج كبارَ مديري البرنامج وأصدر الأوامر بإيقاف نشاطه لمدةٍ تجاوزت العام، وفي الوقت نفسه، منح صلاحياتٍ إضافيةً إلى مدير المشروع الجديد، هاريس «باد» شورميير، والتزم التزامًا هائلًا بالاختبارات ومراقَبة الجودة والاهتمام بالتفاصيل. أُجرِيت على متن المركبة عمليةُ إعادةِ تصميمٍ كبرى، ركَّزَتْ على البساطة والكفاءة. أخيرًا، في يناير ١٩٦٤، كان الجميع مستعِدًّا مرةً أخرى للمحاولة مجددًا مع «رينجر ٦».

figure
مركبة «رينجر» الفضائية القمرية (دون ديكسون).

ساعَدَ الصاروخ «أطلس-أجينا» الموجود على متن المركبة في إطلاقها في مسارٍ جيد، ثم أُجرِيت مناوَرةُ منتصفِ مسار جيدة وانطلقت المركبة نحو هدفها. قبل دقائق من ملامسة السطح، ازدادت حرارة الكاميرات التليفزيونية على متن المركبة، ثم جاءت الكلمات الصادمة لأحد المعلِّقين: «لا يوجد أي إشارة على صورة فيديو كامل.» أرسل المراقبون الأرضيون أوامر، لكن دون جدوى. تسبَّبَ تقوُّس كهربي كبير خلال عملية الإطلاق في إتلاف مصدر الطاقة العالي الفولتيَّة؛ وعلى إثر ذلك، تحطَّمَتِ المركبة قُرْبَ بحر السكون، وهي المرة السادسة التي تفشل فيها عملية الإطلاق ضمن محاولاتٍ كثيرة.

واجَهَ المختبر صعوباتٍ جمَّة من جرَّاء ذلك؛ أمر روبرت سيمانز من ناسا بإجراء تحقيق عالي المستوى، انتقَدَ مختبرَ الدفع النفاث و«رينجر» نقدًا لاذعًا. في كابيتول هيل، عقد عضو الكونجرس جوزيف كارث جلسةَ استماع. مرةً أخرى، دفع البعضُ ثمنَ ذلك في بسادينا بخسارة وظائفهم، عندما استجابَ بكرينج إلى الضغوط التي مُورِست عليه بتعيين نائب مدير جديد، ومنحه مسئوليةَ الإشراف على الأنشطة الفنية والإدارية اليومية، مع منحه حريةَ التصرُّف. في نيو جيرسي، حيث كانت «آر سي إيه» تبني كاميرات تليفزيونية، وضعَ المديرون إجراءاتٍ مشدَّدةً للتعامُل مع المشكلات، مع تخصيص عددٍ إضافي من الأشخاص لإتمام المهمة. كان ثمة فهم واضح بأن فشل الرحلة التالية قد يعني إلغاء البرنامج برمَّته، وهو ما كان ينطوي على عواقب وخيمة لمختبر الدفع النفاث.

لكن، أبلت «رينجر ٧» بلاءً حسنًا لا تشوبه شائبة، ناقلةً صورًا على مدار رحلتها أثناء إجرائها هبوطًا فجائيًّا على شكل بجعة في بحر السُّحب. قال المُعلِّق: «ممتاز … ممتاز … إشارات حتى النهاية.» «هبوط!» مع الانتهاء المفاجئ لحالة التوتر التي كان عليها الجميع، تعالَتِ الصيحات من جانب الصحفيين والموظفين على حدٍّ سواء، وبعضهم انخرط في البكاء. قال أحد كبار المديرين: «تملَّكني شعورٌ قوي أعجزني عن الكلام، وذلك شعورٌ لا يعتريني كثيرًا. ولكن، بالنسبة إلى مَنْ عايشوا رينجر لفترة طويلة للغاية، كان للحدث بُعْدٌ روحيٌّ.»

كانت هذه نقطة تحوُّل لمختبر الدفع النفاث وبرنامج استكشاف القمر والكواكب على حدٍّ سواء. أشار المؤرِّخ كلايتون كوبس إلى أن «مشكلات المختبر لم تكن تكمن في التصميم بقدر ما كانت تكمن في إجراءات ضبط الدقة وضمان الجودة اللازمة للمركبة الفضائية، التي كان يجب أن تعمل على نحوٍ مثالي تقريبًا في كل مرة. كان الأساس يتعلق بالتفاصيل، والنظافة الكاملة، والاختبار الشامل، والمتابعة الصارمة لضمان تصحيح كل خطأ بدلًا من قبوله والتسليم به جدلًا. بعد «رينجر»، صار مختبر الدفع النفاث مؤسسة مختلفة».2

تحقَّقَ هذا النجاح في يوليو ١٩٦٤. انطلقت مركبتا «رينجر» أخريان في مستهل عام ١٩٦٥، أرسلت أولاهما صورًا إلى تليفزيون الشبكة مباشَرةً. رأى مشاهدو البلاد الصورَ التي أرسلتها المركبة للفوهة «ألفونسوس» في الصباح الباكر عبر التليفزيون، أعلى كلمات «مباشِر من القمر». كان مختبر الدفع النفاث منهمِكًا بالفعل في مهمةٍ أكثر صعوبةً، وهي إجراء هبوطٍ سلس على سطح القمر عن طريق التحكم الآلي بالكامل. كان المختبر قد تعاقَدَ مع شركة «هيوز إيركرافت» لبناء «سرفيور»، المركبة المنوط بها تنفيذ تلك المهمة، بَيْدَ أن «هيوز» كانت قد واجهت مشكلاتٍ في عملية التطوير، التي كان المختبر على دراية كاملة بها. منح بكرينج شركته المتعاقدة كثيرًا من الدعم، وأظهر أن الدروس المستفادة في مختبر الدفع النفاث يمكن نقلها إلى أعمال صناعية.

لم تستطع «سرفيور» أن تكون أول مركبة تهبط على سطح القمر بالتحكم الآلي الكامل. وصل السوفييت إلى هناك في فبراير ١٩٦٦ من خلال مركبة «لونا ٩»، التي أرسلت لقطاتٍ متلفزة للمناطق المحيطة بها على سطح القمر. جاءت على إثرها «سرفيور ١» في يونيو، وخلال العام ونصف العام التالي، حقَّقَ هذا البرنامج نجاحاتٍ في ست محاولاتٍ إضافية، منحَتْ لقطاتُها البانورامية للقمر روَّادَ «أبولُّو» رؤيةً مسبقة لما يمكن أن يتوقَّعوا رؤيته.

بالإضافة إلى ذلك، بنى مختبر الدفع النفاث سلسلةً من المركبات الفضائية باسم «مارينر»، كنماذج معدَّلة على غرار «رينجر»، انطلقت إلى الكواكب القريبة. لاقى كوكب عطارد، وهو هدفٌ روسي منذ وقتٍ مبكر يعود إلى عام ١٩٦١، اهتمامًا مشابهًا لدى بكرينج. على الرغم من عمليات الرصد الفلكي التي استمرت لقرون، لم يعرف العلماء شيئًا تقريبًا عن الكوكب؛ إذ كان ثمة غطاء من السحب الكثيفة التي لا تنقشع أبدًا، تخفي سطحه وطبقة الجو السفلى فيه دومًا. نظرًا لأن هذا الكوكب يقع في مواجهة الشمس تمامًا، كان من المنطقي اعتباره عالَمًا من درجات الحرارة الشديدة الارتفاع للغاية؛ لكن، حتى ذلك لم يكن مؤكَّدًا. رأى بعض المتخصصين أن السحب الساطعة كانت تعكس كثيرًا من ضوء الشمس حتى إن سطح الكوكب كان باردًا في حقيقة الأمر. ذهبت توقعاتٌ أخرى إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ اقترح عالِم الفلك فِريد هويل أن الكوكب مغطًّى «بمحيطاتٍ من النفط. من المحتمَل أن عطارد ينعم بما يتجاوز أحلام أثرى أثرياء أباطرة النفط في تكساس.»

خلال صيف عام ١٩٦٢، أطلقت ناسا مركبتَيْ سَبْر إلى ذلك الكوكب، أَمَلًا في أن إحداهما على الأقل قد تنجح في الهبوط على سطحه. مرَّتِ المركبة التي بلغت عطارد، وهي «مارينر ٢»، على الكوكب في منتصف ديسمبر، لتكون بذلك أول رحلة ناجحة إلى كوكب آخَر. لم تحمل المركبة أي كاميرات، بَيْدَ أن أجهزة قياس مستوى الإشعاع للأشعة تحت الحمراء والموجات المتناهية الصِّغَر أتاحت لها وسيلة قياس درجات الحرارة في عطارد. تبيَّنَ أن درجات الحرارة مرتفعة حقًّا، حيث بلغت درجة حرارة السطح ٨٠٠ درجة فهرنهايت، وهي درجة حرارة مرتفعة للغاية بما يكفي لصهر الرصاص. بالإضافة إلى ذلك، كانت درجات الحرارة على سطح الكوكب بنفس هذا الارتفاع تقريبًا أثناء الليل؛ مما يشير إلى أن الكوكب به غلاف جوي كثيف وسميك للغاية يمكنه الاحتفاظ بالحرارة ونقل قدرٍ هائلٍ منها.

باختراق «مارينر ٢» لسحب عطارد، انتهت فترة التوقعات غير الأكيدة وغير الواضحة، حيث بدأ علماء الكواكب ينظرون إلى هذا الكوكب باعتباره عالَمًا مرَّ بأحوال سيئة في وقتٍ مبكر جدًّا. كان في مثل حجم الأرض تقريبًا، لكن كوكبنا كان به محيط من المياه، بينما كان عطارد يختنق تحت غلاف جوي من ثاني أكسيد الكربون في ظل ضغطٍ جوي سطحي يزيد مئات المرات عن ضغط السطحي لكوكب الأرض. حضَّ هذا الأمرُ العلماءَ على اعتقاد أن العالَمَين قد تشكَّلَا في البداية كتوأم حقيقي، وهو ما كان يعني أن الأرض كانت تحتوي حتمًا على مكون مكمِّل من ثاني أكسيد الكربون مثلما في عطارد، بينما كان عطارد يمتلك مصدرًا رئيسيًّا من المياه. مع ذلك، لم يكن من الصعب فهم كيف اتخذ كلٌّ من الكوكبَين هذا المسار المختلف في تطوُّره.

توافَرَ دليلٌ مهم من الجيولوجيا الأرضية مباشَرةً. كان علماء الجيولوجيا يعلمون أن الأرض تحتوي على كمياتٍ هائلة من ثاني أكسيد الكربون، لا كغاز في الغلاف الجوي، بل في صورة صخور جيرية وكربونية. كانت التفاعلات الكيميائية، التي تحدث في المحيطات، قد استخلصت الغاز من الغلاف الجوي وأدت إلى تكوُّن الصخور. مع ذلك، يمكن فهم عطارد من خلال افتراض أن الكوكب لم يصل قطُّ إلى مستوى البرودة الذي من شأنه أن يؤدِّي إلى تكثُّف المياه الموجودة على سطحه. نظرًا لغياب المحيطات، كان ثاني أكسيد الكربون يخترق الغلاف الجوي لكوكب عطارد دون قيود، وهو ما كان ينجم عنه ظاهرة الاحتباس الحراري، حيث يسمح لأشعة الشمس باختراق سطح عطارد مع احتجاز الحرارة عن السطح على النحو الذي تنتج عنه تلك المعدلات المفزعة في درجات الحرارة.

لكن ماذا حدث للماء؟ البخار الساخن نَشِط جدًّا كيميائيًّا؛ ومن ثَمَّ فمن الممكن أن يتفاعل مع أول أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الجوي، ومع الصخور ذات الأسطح الساخنة، مؤكسدًا كلَيْهما. بالإضافة إلى ذلك، من الممكن أن تقسِّم الأشعة فوق البنفسجية الصادرة عن الشمس جزيئات الماء، فتؤدي إلى إطلاق الأكسجين لمزيدٍ من التفاعلات من هذا النوع، في حين يكوِّن جزيء الهيدروجين جزيئاتٍ خفيفة الوزن تهرب إلى الفضاء، مُخلِّفةً عالَمًا جافًّا من القحل والحرارة الخانقة.

ربما كانت الأرض ستفقد محيطاتها على نحوٍ مشابه نوعًا ما، بَيْدَ أن غلافها الجوي كان يحظى بخواصٍ وقائية يفتقر إليها عطارد؛ إذ كانت الأرض تحتوي على طبقة ستراتوسفير باردة كانت بمنزلة حاجز يُبقِي بخارَ الماء في ارتفاعاتٍ منخفضة. بالإضافة إلى ذلك، ترجع نشأة الحياة إلى فترة مبكرة في تاريخ الأرض؛ ممَّا أدى إلى غلافٍ جوي غني بالأكسجين، ومن هذا الأكسجين تشكَّلَتْ طبقة الأوزون، الذي حالَ دون وصول معظم الأشعة فوق البنفسجية عن طريق امتصاصها. اعتمد مصير العالَمَيْن، عالم الأرض وعالم عطارد، على هذه الفروق الدقيقة.

كان المريخ عالَمًا آخَر؛ إذ كان النظر إليه عند أقرب موضع مثل النظر إلى كرة محيطها قدم واحدة على مسافة ميلين، ومع ذلك ربما كانت أفضلُ المناظير لترسم ملامح الكوكب على نحوٍ مفصَّل، عارِضةً تضاريس صغيرة يبلغ محيطها نحو عشرين ميلًا. تسبَّبَتْ حركات الغلاف الجوي للأرض، المسئولة عن تلألؤ النجوم، في فشل كل محاولات التصوير الفوتوغرافي؛ حيث أعطت صورًا ضبابية. مع ذلك، كانت ثمة أوقات يلتقط علماء الفلك، بالنظر مليًّا عبر المكبرات، لحظاتِ سكونٍ نادرةً للغلاف الجوي؛ ممَّا كان يسمح لهم برؤية بعض هذه التفاصيل. بعد ذلك، كانوا يرسمون رسومًا تخطيطية بسرعة، مدركين أن ظروف المشاهدة سرعان ما ستئول إلى الأسوأ؛ وبهذه الطريقة نجح العلماء في رسم خرائط كوكب المريخ.

أظهرت الخرائط مناطقَ خفيفة الألوان وأخرى داكنة الألوان تحمل أسماءً غريبة وعجيبة كما لو أننا بصدد حُلم: «تريفيوم تشارونتس»، «فاثونتس»، «إريدانيا». فماذا كانت تلك الأسماء؟ تضمَّنَت الخرائط أيضًا علاماتٍ خطِّية تُظهِر القنوات المشهورة، التي تحمل أسماءً مثل «ديوترونيلس» (النيل المزدوج). هل كانت تمثِّل أيَّ تضاريس جغرافية أم لم تكن سوى أشياءَ تراها العين والعقل اللذان يعملان في حدود الرؤية؟ ماذا كان «سوليس لاكوس» (بحيرة الشمس)؟ لماذا صار «سيرتس ميدجور» أكثر عَتْمًا على نحوٍ لافتٍ للنظر في عام ١٩٥٤؟ هل كانت ثمة رمال في الجزيرة العربية أو ماء في نهر الفرات؟

في محاولة مبدئية للعثور على إجابات، أجرت مركبة «مارينر ٤» التابعة لمختبر الدفع النفاث رحلةً في يوليو ١٩٦٥، مرَّت خلالها بالكوكب. كانت الرحلة تتطلَّب كاملَ العناية مثلما في «رينجر»، ولهذا السبب كان على متن المركبة نموذج مقياس ضوئي للأشعة فوق البنفسجية. كان المقياس الحقيقي عرضة للتقوُّس الكهربي من جرَّاء فرق الجهد المرتفع؛ ومن ثَمَّ تعيَّن تركه على الأرض، ومع ذلك لم يستطع مصمِّمو «مارينر» فصل الجهاز ببساطة، وبدلًا من ذلك ركَّبوا نموذجًا مماثِلًا بنفس الوزن، وصقلوه لمنح درجة الانعكاس نفسها، وأعَدُّوه بحيث يستخدم التيار الكهربي نفسه.

جاءت الصور التي التُقطت خلال تلك البعثة كمفاجأة غير سارة بالنسبة إلى أولئك الذين كانوا يأملون في وجود حياة على سطح المريخ. أظهرت الصور وجودَ فوهاتٍ وسطَ مسطحات تشبه تمامًا المسطحات الموجودة على سطح القمر، وتبيَّنَ أن الغلاف الجوي في المريخ رقيق، وأن الضغط أقل من واحد في المائة من الضغط السطحي للأرض. ترسَّخَتْ هذه النظرة عن المريخ في عام ١٩٦٩، مع إطلاق الصاروخ «أطلس-سينتاور» المركبتين «مارينر ٦» و«مارينر ٧»، وهما مركبتا متابَعةٍ. صوَّرت المركبتان الكوكب عن بُعْدٍ، وأرسلتا صورًا غاية في الوضوح لم تستطع حتى التليسكوبات الأرضية الحصول عليها، ثم اقتربتا للحصول على لقطاتٍ أقرب، وأظهرت هذه اللقطات مزيدًا من الفوهات.

لكن، ما رصدته هذه المركبات الفضائية الثلاث معًا لم يكن سوى جزءٍ صغير من السطح. أرسل مختبر الدفع النفاث، في خضم سعيه لإجراء مسح كامل، المركبةَ «مارينر ٩» إلى المريخ في عام ١٩٧١ وزوَّدَها بصاروخ ارتكاسي كابح بحيث يمكنها الانطلاق في مدار. أملَ مخطِّطو البعثة في تتبُّع تغيُّرٍ موسمي؛ إذ عندما كان يحل الربيع على خطوط العرض الجنوبية، يبدأ الغطاء القطبي الجنوبي في الانكماش وتزحف موجة من الظلام شمالًا، بسرعة عشرين ميلًا في اليوم الواحد؛ إلا أن المريخ كان يتعرَّض أيضًا لعواصف ترابية موسمية شديدة، وعندما وصلت «مارينر ٩» في شهر نوفمبر ذاك، كان الكوكب محجوبًا في الغمام من أقصى قطبَيْه إلى أدناهما. كانت هذه العاصفة التي اجتاحت المريخ هي أسوأ ما شهده روَّاد الفضاء على مدى قرن من رصد الكوكب؛ كانت العاصفة شديدة وعاتية عند مستوى سطح الأرض، وتلقَّتْ مركبةُ سَبْر سوفييتية أسوأ آثارها. أملًا في التفوق على الأمريكيين، أرسلت موسكو مركبة فضائية للهبوط على سطح المريخ، غير أن المركبة أرسلت إشاراتٍ لمدة عشرين ثانية فقط قبل أن تُوقِفها الرياح العاتية والغبار العاصف.

لكن، مع انقشاع الغبار تراءى عالَمٌ جديد ورائع. على الرغم من أن قطر المريخ يعادل نصف قطر الأرض أو عطارد، ظهرت براكين وأودية على سطح المريخ أكبر بكثير من البراكين والأودية الموجودة على الأرض، وظهر أيضًا صدع «وادي مارينر» السحيق، الذي كان يزيد عمقه عن عمق جراند كانيون (أي الأخدود العظيم) بمقدار أربع أو خمس مرات، ويزيد عرضه بمقدار ثماني مرات، وكان الصدع طويلًا بما يكفي لتغطية مساحة الولايات المتحدة بالكامل. كما كشفت الصور عن وجود قمة أوليمبوس البركانية، التي كانت ضخمة بما يكفي لأن يرصدها روَّاد الفضاء من الأرض؛ هذه القمة كانت محاطة بمنحدراتٍ صخرية طويلة، وبلغَ عرضها ٣٧٥ ميلًا، وهو عرضٌ يكفي لأن تمتد لتشمل المساحة من لوس أنجلوس إلى سان فرانسيسكو. بلغَ ارتفاع القمة ٨٦٥٠٠ قدم، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف ارتفاع مونا كيا، أعلى جبل على الأرض. كان ثمة بركان منخفض، وهو بركان ألبا باتيرا، يمتد لمسافة ألف ميل، في حين كانت الحمم البراكنية (اللافا) في بعض المواضع تتدفَّق لمسافة ٤٠٠ ميل، وهي المسافة من نيويورك إلى كليفلاند.

ما هي القوى الهائلة التي أفضت إلى هذه الأبعاد الضخمة؟ أثارت سهولة حركة الحمم البركانية (اللافا) في المريخ قليلًا من الدهشة بين الجيولوجيين؛ إذ كانوا على علم بتدفقاتٍ أظهرت سيولة مماثلة. أما الأودية والبراكين، فكانتا مسألة أخرى، وقدَّمَتِ الصور الفوتوغرافية دليلًا على ذلك؛ لم يتعرَّض المريخ لتكوُّن صفائح تكتونية. كانت قشرة الأرض عبارة عن مجموعة من الصفائح الكبرى، التي كانت تعلو كتلًا صخرية متحركة في الغشاء الداخلي، بَيْدَ أن قشرة المريخ كانت في صورة كتلة متصلة وحيدة. ربما حاولت الحركات التكتونية كسرها، ربما كان «وادي مارينر» يمثِّل محاوَلةً غير ناجحة لشق القشرة إلى صفيحتين؛ لكنْ، مع تماسُك القشرة جيدًا وثباتها، تمكَّنَتْ براكين مثل أوليمبوس أن تتدفَّق إلى ارتفاعاتٍ شاهقة فعلًا.

كانت هذه البراكين تستمد الحمم البركانية المنصهرة (الماجما) من مصادر عميقة لم تكن تتغيَّر في مواضعها. سمحت القشرة غير المتحركة بتراكُم الحمم البركانية المنصهرة (الماجما)، ولم يؤدِّ ذلك إلى تكوُّن أوليمبوس فحسب، وإنما أيضًا أرسيا مونس المساوي له في الارتفاع؛ ومن قمة أيهما، كان يمكن للمرء أن يرى بوضوح انحناء الكوكب. كانت براكين هاواي مماثلة لذلك؛ فقد تحرَّكَ قاع المحيط الهادئ، نظرًا للصفائح التكتونية، مارًّا بمصدر الماجما؛ ومن ثَمَّ أدَّى هذا المصدر إلى تكوين سلسلة من الجبال البحرية خلال مائة مليون سنة بدلًا من جبل عظيم واحد.

بحلول عام ١٩٧١، كان برنامج استكشاف الكواكب قد تجاوز ما استطاع مختبر الدفع النفاث التعامل معه بمفرده. في ذلك الوقت، كان مركز لانجلي للبحوث التابع لناسا منهمكًا في البرنامج، وكانت الشركة المتعاقدة، «مارتن ماريتا»، تبني مركبة «فايكنج» الفضائية، التي كانت ستهبط على سطح المريخ. تضمَّنَ البرنامج مركبات مدارية أيضًا، مجهَّزةً بكاميرات أفضل من تلك الموجودة في «مارينر ٩». عندما وصلت مركبتا «فايكنج» المداريتين إلى المريخ في منتصف عام ١٩٧٦، اكتشفتا دليلًا على وجود مياه.

ظهر في إحدى صور «مارينر ٩» قاع نهر جافٍ طوله ٣٥٠ ميلًا، وهو نهر ملتوٍ وله روافد؛ وهكذا، أثبتَتْ «فايكنج» أن الماء كان يتدفَّق على نطاق واسع في فترة من الفترات، مكوِّنًا فياضات سريعة الجريان. في بعض المواضع، كانت هذه المجاري الواسعة والضحلة تصادف فوهة كبيرة وتتدفق حولها، مشكِّلةً جزرًا صغيرة أكبر من مانهاتن. جفَّ معظم الماء منذ فترة طويلة، مخلِّفًا عالَمًا جافًّا يحتوي على ثاني أكسيد كربون مُجمَّد في الأطراف القطبية. مع ذلك، كان المريخ في فترة ازدهاره يشبه الأرض على نحوٍ فاق ما توقَّعَه الآخَرون.

لم يكن ثمة مشاهِدون أمام شاشات التليفزيون يشاهدون اللحظة التي حطَّت فيها مركبة «فايكنج» على السطح، في الصباح الباكر يوم ٢٠ يوليو؛ كان على المرء أن يكون موجودًا في أحد مراكز ناسا، ربما في مختبر الدفع النفاث نفسه، كما أن المركبة لم تبثَّ صورَها بسرعة وبأكملها. بدلًا من ذلك، كان المرء يرصد ما يحدث بينما يتولَّى ماسحٌ ضوئي إضافةَ كل صورة على هيئة مجموعة من الخطوط الرأسية، من اليسار إلى اليمين. في غضون دقائق من حدوث الهبوط وملامسة المركبة للسطح، كانت «فايكنج» جاهزة لعرض أول صورة لها، ومع تبلور الصورة ووضوحها، كشفَتْ عن مشهد رملي تنتشر الصخور على سطحه في أنحاءٍ متفرقة، أرض صحراوية متسعة ومنبسطة ذات كثبان. كان الأفق يظهر على مسافة ميلين فقط. وردت الصور الملونة بعد ذلك، حيث أظهرت مشهدًا مريخيًّا ذا لون بُني داكن مائل إلى الصفرة، وكانت السماء ذات لون أحمر وردي، من جرَّاء الغبار العالق. أظهرت صورٌ لاحقة غروب الشمس في المريخ، حيث كانت الصخور تصطبغ بلون قرمزي في ضوء الوهج الآفِل.

بحثت مركبتا الهبوط أيضًا عن أي أثر على وجود حياة باستخدام مختبراتٍ كيميائية آلية؛ حيث عرَّضَتْ عيناتٍ من التربة إلى الرطوبة وأضافت أسمدة. أسفرت تجربتان عن نتائج أشارت إلى وجود مواد كيميائية نَشِطة في التربة، بَيْدَ أنها كانت نتائج يصعب ربطها بوجود حياة. سعى اختبار ثالث، وهو اختبار التحلل الحراري، إلى معرفة ما إذا كانت ثمة ميكروبات ستنمو استجابةً إلى الأسمدة، فأسفر الاختبار عن علامة مثيرة على وجود حياة؛ إذ أشارت النتائج إلى احتمال تطوُّر ما يصل إلى بضع مئاتٍ من الخلايا الحية. بحثت تجربة رابعة، وهي تجربة استُخدِم فيها جهاز كروموتوغرافيا الغاز (أو الاستشراب الغازي) المتصلة بمطياف الكتلة، عن مركباتٍ عضوية موجودة سلفًا من خلال الأسلوب البسيط المتمثِّل في تسخين التربة بشدة والبحث عن الآثار الكيميائية لتلك المركبات. كان الجهاز حسَّاسًا بما يكفي للكشف عن مركباتٍ عضوية عند مستوى جزءٍ في المليار، وهو تركيزٌ أقل بمقدار ألف مرة عن تركيز تلك المركبات في التربة الصحراوية في الأرض؛ لكنْ لم يُسفِر هذا الجهاز عن شيء.

هل كانت ثمة حياة على المريخ؟ أشار نورمان هورويتز، رئيس قسم الأحياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، إلى أن «جهاز التحلل الحراري قد صُمِّم بدقة بالغة بحيث يتخلَّص من المصادر غير البيولوجية للمركبات العضوية». وجديرٌ بالذكر أن نتائج الجهاز، التي جاءت متوافِقة مع فكرة وجود حياة على سطح المريخ، تتعلَّق بمستوياتٍ أقل من تلك التي استطاع جهاز كروموتوغرافيا الغاز المتصلة بمطياف الكتلة اكتشافها. مع ذلك، كان ثمة رأي سائد بين العلماء القائمين على المشروع، وهو أن جهاز كروموتوغرافيا الغاز المتصلة بمطياف الكتلة هو الجهاز الجدير بالثقة. عندما عَلِمَ جيرالد سوفن — كبير العلماء — بنتائج الجهاز، قال: «تلك نهاية القصة. لا وجودَ للمركبات العضوية على سطح المريخ، لا وجودَ للحياة على سطح المريخ.» (كان من المعروف أن عددًا صغيرًا من الصخور قد سقط من المريخ إلى الأرض في صورة نيازك، وأشارت دراساتٌ أُجرِيت على إحدى هذه الصخور، ونُشِرت في مجلة «ساينس» في أغسطس ١٩٩٦، إلى وجود حفرياتٍ مِجهرية ربما كانت قد نشأت عن ميكروبات، عندما كان المريخ لا يزال كوكبًا ناشئًا. مع ذلك، لا تزال النتائج المنشورة مُلتبسة وغامضة. تشير مجلة «ساينس» إلى تلك النتائج باعتبارها «دليلًا — لا برهانًا — على وجود حياة قديمة على سطح المريخ. استمالَ هذا الرأي العلماءَ وأثار شكوكهم، بَيْدَ أن أحدًا لم يقتنع به تمام الاقتناع».)

لم يكن هناك بالتأكيد ما يدعم الآمال المبكرة، التي كانت قد أثارت قدرًا كبيرًا من الجدل السريع المتزايد لتفسير الآثار الداكنة في المريخ، بما فيها الآثار الداكنة في «سيرتس» في عام ١٩٥٤. بدلًا من ذلك، اتضح أن تلك الآثار لم تكن فيما يبدو تُعزَى إلى ما هو أكثر من الغبار المثار بفِعل الرياح. في حقيقة الأمر، نظرًا لأن الرياح تنشر المركبات العضوية على نطاق واسع، ونظرًا لأن هذه المركبات العضوية توجد في النيازك وتتحمل آثار اصطدامها بالسطح، بدا أن الأشعة فوق البنفسجية للشمس أتلفت هذه المركبات العضوية عند وصولها؛ إذن فالأمر لم يكن يقتصر على عدم وجود مركبات عضوية على المريخ فحسب، وإنما أيضًا على عدم سماح الكوكب بوجودها على الإطلاق.

بينما كان مركز لانجلي التابع لناسا يمضي قُدمًا في «فايكنج»، كان مختبر الدفع النفاث يبحث عن عوالم جديدة يستكشفها، وكان قد اكتشف وسيلة جديدة لبلوغ تلك العوالم. في تلك الأثناء، كانت ناسا تستخدم أقوى صاروخ في البلاد، وهو الصاروخ «تايتان ٣-سينتاور». استُخدِم هذا الصاروخ في إطلاق «فايكنج»، وكان يتسم بقوة دفع تتيح له بلوغَ كوكب المشتري فضلًا عن الكواكب الخارجية الأبعد من ذلك، لكنْ كان من المتوقَّع أن تستغرق هذه البعثات وقتًا طويلًا: ستة عشر عامًا إلى أورانوس، وثلاثين عامًا إلى نبتون. على حدِّ تعبير هومر ستيوارت، رئيس مكتب التخطيط المتطور في مختبر الدفع النفاث: «يبدو أن إدارة المشكلات المتعلقة بتنظيم وتنفيذ مهمة مباشِرة تستغرق ثلاثين عامًا إلى نبتون (التي كانت مصدرًا لكثير من الملل من جانب المشاركين) جسيمةٌ بما يكفي لردع أكثر المستكشفين إصرارًا وعزمًا عن مواصلة الطريق.»

استند الأسلوب الجديد إلى حقيقة أنه عندما تنطلق مركبة فضائية مارة بأحد الكواكب، فقد تؤدِّي جاذبية الكوكب — بالإضافة إلى حركته حول الشمس — إلى انحراف المركبة عن مسارها ومنحها مزيدًا من الطاقة. عندما انطلقت «مارينر ٤» مارة بالمريخ، على سبيل المثال، فاقت سرعتها ثلاثة آلاف قدم في الثانية، كان من الممكن أن تزيد السرعة لأكثر من ذلك في حالة كوكب المشتري؛ لأنه أكبر الكواكب، وكان من شأن ذلك أن يؤدي إلى التعزيز بصاروخ مرحلة إضافي، مجانًا تمامًا، وتقليل زمن الرحلة إلى نبتون إلى ثمانية أعوام.

كان ثمة المزيد من النتائج؛ عندما أجرى المحلِّل جاري فلاندرو بمختبر الدفع النفاث دراساتٍ على هذه البعثات باستخدام الصاروخ «جوبيتر»، وجدَ أن الكواكب الأبعد كانت على وشك الانتظام في اصطفافٍ نادر؛ ومن ثَمَّ، كان يمكن لمركبة فضائية واحدة أن تمر بجميع الكواكب الكبرى — المشتري وزُحل وأورانوس ونِبتون — خلال تسعة أعوام فقط! كان كلُّ التقاء كوكبي يضيف طاقةً؛ ممَّا يؤدي إلى زيادة سرعة المركبة الفضائية وصولًا إلى الكوكب التالي. بالإضافة إلى ذلك، كانت تواريخ الإطلاق — التي تقع في غضون بضع سنواتٍ مستقبلًا — ملائِمةً تمامًا. كانت بعيدة بما يكفي للسماح بالتخطيط والإعداد المتأنِّيَيْن، وقريبة بما يكفي لجعلها جديرةً بالتنفيذ. كان المنجِّمون قد أشاروا قبل زمن طويل إلى أن الاصطفافات الكوكبية تتحكَّم في أحوال الأفراد، وهذا الاصطفاف من شأنه أن يؤثر بالتأكيد على مستقبل مختبر الدفع النفاث. كانت الفرصة جيدة جدًّا بما يَحُول دون تفويتها.

بدأت بحوث فلاندرو في عام ١٩٦٥، ثم تبعتها دراساتٌ أخرى، وفي ظل رغبة بكرينج المعهودة في التوسُّع، اقترح بكرينج مشروعَ بناء أسطول مركبات، مركبتان منهما تأخذان مسار المشتري – زُحل – بلوتو، وتأخذ مركبتان أخريان مسار المشتري – أورانوس – نبتون. لكن، بينما كانت التقديرات المتعلقة بحركة الكواكب ملائمةً، لم تكن التوقُّعات المتعلقة بالميزانية كذلك؛ فقد اقتُرِحَت هذه الخطة التي كانت تتكلَّف ٧٥٠ مليون دولار أمريكي في الوقت الذي كانت ناسا تواجِه أزمةَ الاستقطاعات في الاعتمادات في حقبة ما بعد «أبولُّو». كان على بكرينج الاستقرار على مركبتين بدلًا من أربعٍ، وألا يمضي لأبعد من زُحل. اتخذ البرنامج الجديد اسم «فوياجر».

على الرغم من ذلك، تقدَّمَتْ ناسا بمشروعين داعِمين؛ كان أحدهما قد انبثق عن شراكة محدودة بين مركز إيمز للأبحاث التابع لناسا، وشركة «تي آر دبليو» التي كانت قد واصلت بعثات «بايونير» في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين. استكشفت المركبات من «بايونير ٦» إلى «بايونير ٩» فضاء ما بين الكواكب، بينما بلغت مركبتا «بايونير ١٠» و«بايونير ١١» المشتري، وبالإضافة إلى ذلك، تولَّتْ «بايونير ١١» مهمة توظيف أسلوب الجاذبية المساعِدة للانطلاق إلى زُحل. كانت البعثات، التي انطلقت في عامَيْ ١٩٧٢ و١٩٧٣، بمنزلة رحلات استكشافية. كان المشتري على وجه الخصوص يتميَّز بمجال مغناطيسي قوي، يحتجز طبقةً من الإشعاع القوي تستطيع تدمير معدات المركبة، وكانت حلقات كوكب زُحل تحتوي على أعدادٍ هائلة من الأجسام الصلبة الصغيرة التي كان من الممكن أن تتسبَّب في تدمير أي مركبةِ سَبْر تقترب أكثر ممَّا ينبغي.

بالنسبة إلى كلٍّ من «بايونير ١١» ومركبات «فوياجر» الفضائية، كان من المفترض أن يستتبع الاستخدام الناجح للجاذبية المساعدة بدوره توجيهًا دقيقًا عند الالتقاء بكوكب المشتري؛ حيث كان من المنتظر أن يصبح هذا الكوكب بمنزلة مقلاع، يُطلِق المركبة الفضائية قَدمًا في اتجاه كوكب زحل بدقة عالية. لاختبار هذه الفرضية، أجرى مختبر الدفع النفاث تجربة عملية باستخدام مركبة منفصلة، وهي «مارينر ١٠»؛ استعانت المركبة بكوكب فينوس للاندفاع باتجاه كوكب عطارد. في حقيقة الأمر، كان مدارها بعد فينوس يسمح لها بالانطلاق مرورًا بعطارد ثلاث مرات، بينما كانت الكاميرات والمعدات الأخرى تعمل.

كانت التفاصيل التي ظهرت في تليسكوبات علماء الفلك بشأن عُطارد، وهو الكوكب الأقرب إلى الشمس، أقل ممَّا ظهرت بشأن المريخ. التقطت «مارينر ١٠» صورًا لمعظم أجزاء عطارد بمستوًى عالٍ من الدقة، كاشِفةً عن عالَم مليء بالفوهات على نحوٍ أشبه كثيرًا بالقمر، وقدَّمَتِ الصورُ أيضًا دليلًا على آثار الاصطدام العنيفة للغاية التي شكَّلَتْ تضاريسه؛ أسفَرَ أحد تلك الاصطدامات عن تشكيل حوض عظيم باسم «كالوريس». على الجانب الآخَر من عطارد، على الجهة المقابلة لكالوريس، كانت ثمة قطعة لافتة للنظر من الأراضي المنبعجة؛ أشار دونالد جولت، أحد علماء ناسا، إلى أن الاصطدام قد أسفر عن موجاتٍ زلزالية شديدة التقت عند هذه الوجهة المقابلة، مُحدِثةً هذا الانبعاج في صورة زلزال هزَّ الكوكب بأسره.

مع اقتراب موعد إطلاق «فوياجر»، أُرجِئَت العملية مؤقتًا. كان من المقرَّر في حقيقة الأمر أن تنطلق المركبة الفضائية الأولى إلى المشتري وزُحل فقط، لكنَّ مسئولي ناسا قرَّروا أن المركبة الثانية ربما تنطلق إلى أورانوس ونبتون مرورًا بزحل؛ وعليه، فقد اعتلت هاتان المركبتان صاروخَيْهما طراز «تايتان ٣-سينتاور»، في شهرَيْ أغسطس وسبتمبر من عام ١٩٧٧؛ حيث انطلقتا في مهمتين طموحتين وربما مثمرتين كما لم يشهد أحدنا في حياته. ساعدتهما سرعة انطلاقهما العالية في المرور بمدار القمر في أقل من اثنتي عشرة ساعة، حيث قطعتا مسافة كانت تستغرق أيامًا من منظور روَّاد «أبولُّو». وبينما عبرت المركبتان المسافة الأكبر بكثير، التي تبلغ نصف مليار ميل بما يساوي المسافة إلى كوكب المشتري، مضى ثلاثة علماء من كاليفورنيا — هم: ستان بيل، وبات كاسن، وراي رينولدز — قدمًا في استعداداتهم.

figure
المركبة «فوياجر»: ذراعٌ طويل إلى اليسار يحمل مقياسَ مغناطيسية. يوجد مصدر الطاقة في الركن الأيسر السفلي، في حين توجد المعدات في الركن الأيمن العلوي (دون ديكسون).

تضمَّنَ عملهم دراساتٍ رياضية لنظام المشتري وأقماره الرئيسية، التي كانت تمثِّل صورةً مصغَّرة من النظام الشمسي في حد ذاته. كان القمر «كاليستو» — وهو الأبعد من كوكب المشتري — في مثل حجم عطارد، بينما كان القمر «جانيميد» أكبر حجمًا، وكلاهما كان يؤثر على حركة الآخَر. كان زمن الدورة المدارية للقمر «أوروبا» يقترب من ضِعف زمن الدورة المدارية للقمر الأقرب، بينما كان زمن الدورة المدارية للقمر «جانيميد» يعادل ضِعف زمن الدورة المدارية للقمر «أوروبا». بالإضافة إلى ذلك، عملَ القمر «أيو» — وهو القمر الأقرب — بمنزلة مولِّد كهربائي عند دورانه ضمن المجال المغناطيسي للمشتري، ولَّدَ تيارًا كهربيًّا مرَّ عبر الفضاء وصولًا إلى هذا الكوكب، بلغت شدة التيار ثلاثة ملايين أمبير وبلغت قدرته مليارَيْ كيلو وات. كان هؤلاء العلماء يتوقَّعون أكثر من ذلك.

يدور القمر «أيو» بالقرب من المشتري مثلما يدور قمرنا حول الأرض، وتزيد كتلة المشتري عن كتلة الأرض بمقدار ثلاثمائة مرة؛ ومن ثَمَّ، فإن آثار الجاذبية الشديدة للمشتري هائلةٌ بالفعل. تؤدي جاذبية القمر إلى حدوث ظاهرة المد والجزر في محيطاتنا، بينما تؤدي جاذبية المشتري إلى موجات من المد والجزر في جسم «أيو» نفسه؛ ممَّا يؤدِّي إلى انبعاجه بما هو أقرب إلى شكل كرة القدم. رأى بيل وكاسن ورينولدز أن تأثير أوروبا مجتمِعًا مع موجات المد والجزر الخاصة بالمشتري سيؤدِّي إلى انبعاج «أيو» وانثنائه مثل كرة مطاطية يعتصرها المرءُ في يديه.

كان «أيو» أكبر قليلًا من القمر، وإذا تُرِك لحاله دون ممارسة أي تأثيرات خارجية عليه، فمن المفترض أن يكون ميتًا جيولوجيًّا، بسطح مليء بالفوهات. لكن، هذا الانبعاج ولَّدَ حرارةً، واقترح الباحثون أن «أيو» ربما انصهَرَ بالكامل، فيما عدا طبقة صلبة رفيعة. كتبَ الباحثون: «ربما كان «أيو» أشد الأجسام الأرضية حرارةً في النظام الشمسي.» وأضافوا أنه «ربما تحدث به أنشطة بركانية سطحية ومتكررة ومنتشرة». نُشِرَت ورقتهم البحثية في مجلة «ساينس» تحت عنوان «انصهار القمر الأقرب بفِعْل انحسارِ موجات المد والجزر»، في يناير ١٩٧٩. نشرَ رئيس تحرير المجلة، فيليب آبلسن، الورقةَ البحثية في عدد ٢ مارس، بينما كانت «فوياجر ١» على وشك الانطلاق مرورًا بالمشتري بعدها بثلاثة أيام فقط.

كانت هذه المركبة الفضائية تلتقط الصور الفوتوغرافية على مسافاتٍ بعيدة لمدة أسابيع، ومع اقتراب لحظة الالتقاء، زيدت عمليةُ التقاطِ الصور على نحو هائل. أشار برادفورد سميث، الذي كان يرأس مجموعة من علماء التصوير، إلى هذه الفترات قائلًا: «الأمر قد يبدو غير مهني، بَيْدَ أن كثيرًا من الأشخاص كانوا يقفون في منطقة فريق التصوير بأفواهٍ فاغرة يشاهدون الصور وهي تتوالى.»

كان العاملون مهتمين على نحوٍ خاص بالبقعة الحمراء الكبرى، وهي عاصفة في الغلاف الجوي للمشتري تهبُّ منذ ما يزيد على ثلاثمائة عام، ويمكنها ابتلاع الأرض بسهولة. تضمَّنَتِ الصور الملونة القريبة أشكالًا بيضاوية لعواصف أصغر، إحداها بيضاء مرقَّطة، والأخرى بلون أزرق فاتح. كان يدور حولها مجال هائل من الدوامات والحلقات بالألوان الأحمر والأبيض والقرمزي والبرتقالي والبُني الفاتح والرمادي. كانت المشاهد المُلتقطة تشبه الفن التجريدي، وقال أحدهم: «هل أنتم متأكدون أن فان جوخ لم يرسم ذلك؟»

أظهر «أيو»، الذي لم يكن يظهر في أفضل التليسكوبات كأكثر من بقعة ضوءٍ، ألوانًا زاهية عن قُرْبٍ، ومع تزايد وضوح الصور، قال أحدهم: «كنت أعلم أنها ستكون مختلفة عما رأيناه عن قُرْبٍ. لكنْ، كي يتوقع المرء شيئًا كهذا، فالأمر كان يتطلَّب منظورًا سماويًّا. هذا غير معقول!» ظهر «أيو» زاهيًا باللونين الأحمر والبرتقالي؛ بالنسبة إلى براد سميث، بدا مثل البيتزا. في واقع الأمر، كان لونه الحقيقي زيتونيًّا شاحبًا. كانت درجات الألوان الزاهية تُعزَى إلى قلة التوازن اللوني في الصور المُعالَجة الأولى، مثلما يبدو وجهٌ باللون الأخضر على شاشة التليفزيون. مع ذلك، بَدَا الباباروني في هذه البيتزا حقيقيًّا بما يكفي، وكان هذا عبارة عن براكين.

بعد ثلاثة أيام من الالتقاء، رصدت ليندا مورابيتو، مهندسة في مختبر الدفع النفاث، أول انفجار بركاني. كانت تفحص لقطةً لقمر «أيو» في طور الهلال، يظهر فيها جانبُه الليلي، ولاحظَتْ عمودًا هائلًا من الدخان يظهر ظله على صفحة السماء السوداء، وقُرْبَ المنحنى الداخلي للهلال، توهَّجَ بشدةٍ عمود دخان آخَر أثناء ارتفاعه من الشفق والتحامه مع الشمس الساطعة. اتضح أن «أيو» يحتوي على ثمانية براكين نَشِطة على الأقل، معظمها استمرت ثورته بقوة لمدة أربعة أشهر لاحقة عندما حلَّقَتْ «فوياجر ٢» مارَّةً بالكوكب لإلقاء نظرة أخرى. في الواقع، كان «أيو» هو أكثر الأجرام الموجودة في النظام الشمسي من حيث نشاطه الجيولوجي، بل إنه يفوق الأرض في نشاطه الجيولوجي، وتوجد لدى مختبر الدفع النفاث الصورُ التي تُثبِت ذلك. عند أقرب نقطة التقاءٍ، لم يَعُدْ «أيو» يبدو مثل قرص؛ حيث ملأَتْ أجزاءٌ من سطحه مجالَ الرؤية بالكامل. بلغت دقة أفضل الصور بضع مئاتٍ من الياردات. أظهرت بعض الصور تدفُّقاتٍ حديثة للكبريت الأصفر، في حين أظهرت صور أخرى البراكين نفسها، بما في ذلك بيليه، وهو أكبرها على الإطلاق. ظهر البركان على هيئة حدوة حصان على سطح «أيو»، وبلغَ طوله ستمائة ميل، وبلغَ ارتفاع عمود الحمم البركانية التي أطلقها ١٧٥ ميلًا تقريبًا؛ لم يكن ثمة أي كوكب آخَر يضاهيه في هذا الشأن.

خلال عام ١٩٧٩ نفسه عندما اقتربت مركبتا «فوياجر» الفضائيتان من المشتري، بلغ «بايونير ١١» كوكب زُحل وانطلق بأمان مارًّا بالكوكب. اتبعت مركبتا «فوياجر» نفسَ المسار الذي حلَّقَتْ فيه مركبةُ «بايونير ١١»، حيث بلغتا هذا الكوكب في نوفمبر ١٩٨٠ وفي أغسطس ١٩٨١. هنا ظهرت حلقات الكوكب، التي وصفها عالِم الفيزياء فيليب موريسون بأنها «كل ما اكتُشِفَ عن طريق التليسكوب، وهي أكثر الأمور دلالةً بالنسبة إلى معظم الأشخاص». التقطت مركبتا «فوياجر» صورًا دقيقة التفاصيل، فضلًا عن الظِّل الهائل الساقط عليها من قِبَل الهيكل الرئيسي لكوكب زُحل، وبلغ عرض هذا الظِّل سبعين ألف ميل.

كان الأمل كله منصبًّا حينئذٍ على «فوياجر ٢»، التي كان من المنتظر أن تواصِل الرحلة إلى الكواكب الأبعد؛ فقد تفادت المركبة بالكاد العطلَ الذي كان على وشك أن يلحق بها، حيث كان الجهاز الرئيسي لتلقي الإشارات اللاسلكية قد تعطَّلَ في عام ١٩٧٨. كانت تحتوي على جهاز بديل، بَيْدَ أن أحد المكثِّفات قد تعطَّلَ أيضًا في الجهاز البديل. لم تتمكَّن هذه المركبة إذن من تلقِّي أوامر إلا عند تردُّد واحد بعينه. لم تستطع التعامُل مع تأثيرات دوبلر الطفيفة التي كان يُحدِثها دوران الأرض في الطول الموجي لأجهزة الإرسال الأرضية. تتبَّعَ اختصاصيو مختبر الدفع النفاث بعنايةٍ التباينات التي تحدث في جهاز الإرسال، والتي من شأنها أن تسمح بتمرير الأوامر ووصولها إلى الوجهة المقصودة، وظلَّتْ وصلةُ الاتصالات الأساسية مفتوحةً.

فيما وراء زُحل، مضت كل مركبة من المركبتين في مسارها المستقل. حلَّقَتْ «فوياجر ١» مارَّةً بهذا الكوكب في مسارٍ ساعَدَ في تقديم أفضل الأرصاد، غير أنه أهدر فرصة الذهاب إلى عوالم أبعد. أما «فوياجر ٢»، فاقتربت من زُحل في مسار مختلف، ثم واصلت طريقها إلى أورانوس. لم يكن هذان هما الطريقين اللذين افترقا في غابة صفراء مثلما أشار الشاعر روبرت فروست في قصيدته، لكن هنا أيضًا كان اختيار الطريق يصنع الفَرْقَ الكبير. التزمت «فوياجر ٢» بجدولها الزمني تمام الالتزام، حيث وصلت أورانوس في يناير ١٩٨٦. مرَّتْ بنبتون، أبعد كواكب النظام الشمسي، في أغسطس ١٩٨٩ وواصلَتْ عملها ببراعة.

من هذا المنظور الأبعد، فقدت الشمس نفسها ضخامتها، فلم تكن تزيد في السماء عن كونها أكثر النجوم توهُّجًا. كان الحزام الشمسي يقع إلى الأمام، حيث كان التأثير المادي للشمس يفسح المجال للتأثير المادي لفضاء ما بين النجوم. هنا تصطدم الرياح الشمسية، وهي عبارة عن تدفُّق سريع للجزيئات من الشمس إلى الخارج، مع تيار من غاز قليل الكثافة يتدفَّق بين النجوم. مع ذلك، واصلت مركبتا «فوياجر» نشاطهما، وخلال عام ١٩٩٢ تلقَّتا إشارات لاسلكية من الحزام الشمسي، وهو ما يبعد كثيرًا عن النظام الشمسي. انطلقت المركبتان نحوه، كما لو أن الإشارات تلوِّح لهما بالاقتراب؛ اقتربَتْ هاتان المركبتان من فضاء ما بين النجوم، مثل ملَّاحَيْن سافَرَا بعيدًا عن أراضيهما، حيث خرجتا عن مجال الشمس لتَلِجَا إلى الآفاق غير المحدودة للمجرة. مضت المركبتان في اتجاه هذا الأفق اللامتناهي مثل قاربَين صغيرين للغاية، يحملان بضائع الأمل والشجاعة والإبداع والرغبة في الاستكشاف التي تحدو الإنسان في سَعْيه نحو الفضاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤