الفصل الثالث

السباق إلى أرماجدون

القوى العظمى تُطلِق إشارة بدء برامج الصواريخ

في نهاية الحرب، تسيَّدت القوة الجوية والبحرية الأمريكية العالَم مثل كيان ضخم لا تُخْطِئه عين. كانت قاذفات القوات الجوية التابعة للجيش، بمساعدة البحرية الأمريكية، قد كسرت إرادة اليابان وأرغمتها على الاستسلام دون أن تطأ أراضيها قدمُ جندي أمريكي واحد. وكان ستالين يمتلك أقوى جيش في العالَم استطاع أن يسحق النازيين، لكنه لم يكن يمتلك أي قوة بحرية أو جوية يستطيع التحدث عنها، وكان يخشى أن تستخدم أمريكا القنبلة الذَّرِّيَّة لشنِّ حربٍ ضد بلاده، وكان في حاجة إلى أسلحة نووية وقاذفات بعيدة المدى، لكنه كان يعاني نقصًا شديدًا فيها، ورغب بشدة في كسر احتكار أمريكا للأسلحة النووية.

في سعيه إلى تحقيق هدفه، أظهَرَ ستالين طريقةَ التفكير الأحادية نفسها التي بنى من خلالها القاعدةَ الصناعية التي دعمت جيشه، وصرَّحَ قائلًا بعد إطلاق أُولى خططه الخَمسية في عام ١٩٢٨: «إن تباطؤ الخطوات يعني التخلُّف عن الآخرين، ومَن يتخلَّف يُهزَم. لا نريد أن نُهزَم. لا، لا نريد أن نكون مهزومين. إننا متخلِّفون عن رَكْب البلاد المتقدِّمة بخمسين أو مائة عام، ويجب أن نعوِّض هذا التأخُّر خلال عشر سنوات؛ إما أن ننجح أو يسحقونا.»1

لتعويض التأخُّر، قبل الحرب، اعتمَدَ ستالين بشدة على التجسُّس الصناعي، وعملت آمتورج — وهي منظمة تجارية في نيويورك — كواجهة للشرطة السرِّيَّة الروسية في هذا الصدد. ونظرًا لأن الاتحاد السوفييتي لم يكن يمتلك أي صناعة حديثة في البداية، لم تكن غالبًا العمليات التي أراد ستالين الكشف عنها سوى عمليات أساسية في حقيقة الأمر؛ إذ لم تكن تتضمَّن هذه العمليات أكثرَ من إنتاج عناصر كيميائية صناعية شائعة. وكانت العملياتُ المطلوبة متوافرةً للشراء مقابل الحصول على ترخيص، لكن موسكو كانت تعاني نقصًا في احتياطي العملة الصعبة؛ ووفَّرَ التجسُّس الصناعي تكلفةَ دفعِ رسومِ ترخيصٍ.

عندما حلَّتِ الحرب، قدَّمَ جواسيس ستالين في المجال الصناعي قاعدةً قوية له، استطاع من خلالها الكشف عن أسرار جهود بناء القنبلة الذَّرِّيَّة الأمريكية، واستحوذت الشرطة السرِّيَّة الروسية على حوالي عشرة آلاف صفحة من الوثائق الصناعية. ومع ذلك، عجز مدير البرنامج الذري الروسي، إيجور كرتشاتوف، عن الحصول على التمويل اللازم الذي يسمح له باتخاذ الخطوات الأولى المكلِّفة نحو بناء الأسلحة؛ فقد كانت احتمالات بناء قنبلة ذرِّيَّة غير مؤكَّدة على نحوٍ كبير أعاق تبرير توفير دعم مالي كبير.

في نهاية الحرب، أدرك كرتشاتوف ما يتعيَّن عليه فعله، فقد درس بعناية مجموعة التقارير القيِّمة المسروقة التي حصلت عليها الشرطة السرِّيَّة؛ لكنْ لم يكن لديه ما يفعله بهذه التقارير. ثم جاءت واقعتا هيروشيما وناجازاكي، اللتان سرعان ما زادتا المخاوف من الأسلحة النووية إلى أعلى المستويات، واستدعى ستالين المسئولين المختصين وقال: «أسألكم طلبًا واحدًا، أيُّها الرفاق. وَفِّروا لنا أسلحةً ذرِّيَّة في أقرب وقت ممكن. اصنعوا القنبلة؛ إنها ستزيح عنَّا خطرًا داهمًا.»

كان ستالين في حاجةٍ أيضًا إلى قاذفات بعيدة المدى، وكان مصمِّم الطائرات أندريه تبوليف يُجرِي أبحاثًا حول هذا الموضوع. وكما فعل كرتشاتوف، كان تبوليف يتابع أعماله من خلال نَسْخ التصميمات الأمريكية، لكنه كان يتفوَّق على كرتشاتوف بميزة أخرى؛ حيث كان يمتلك تحت يديه نماذج عديدة من قاذفات «بي-٢٩»، وهي أفضل قاذفاتٍ في العالم؛ فقد أُجبِرت إحدى قاذفات «بي-٢٩» على الهبوط قُرْبَ فلاديفوستوك في يوليو ١٩٤٤، وفي وقتٍ لاحق من ذلك العام، سقطت قاذفتان أخريان في أيدي السوفييت بالطريقة نفسها. وكانت طائرة مشابهة قد حملت القنبلتين الذريتين الأُولَيين، وكان نموذج تبوليف، «تي يو-٤»، يحمل أسلحةً مشابِهة أيضًا.

يشير المؤرِّخ ستيفن زالوجا قائلًا: «بَدَتْ قاذفةُ «بي-٢٩» كما لو كانت جسمًا قادمًا من المستقبل. كانت أبراج القذف آليةً ولم تكن مزوَّدةً بالقبة الزجاجية الواقية المعتادة، وكان يجري التحكُّم فيها عن بُعْد من محطات قذف مركزية، وكانت الطائرة تحتوي على نُظُم إلكترونية عديدة لا نظيرَ لها في الطائرات السوفييتية، بما في ذلك رادارات الملاحة. وعلى الرغم من أن مصمِّمي المحركات السوفييتية كانوا قد حاولوا تصميم شواحن توربينية لمحركات الطائرات، لم تبلغ أيٌّ منها في تعقيدها أو أدائها نُظُمَ جنرال إلكتريك في محركات «بي-٢٩».»2 وللتغلُّب على تلك الصعوبات، منح ستالين جهودَ تطوير «تي يو-٤» أعلى سلطة حكومية.

كان أول مفاعل يشيِّده كرتشاتوف، في رحلة سعيه لبناء قنبلة ذرِّيَّة، نموذجًا مكرَّرًا من تصميم أمريكي يرجع تاريخه إلى عام ١٩٤٤، باستثناء أن المفاعل الروسي كان يتطلَّب كمية أكبر من اليورانيوم لتعويض حجم شوائب مفاعل كرتشاتوف. وكانت قنبلة البلاتينيوم التي صمَّمَها تنطوي على مشكلة الانفجار الداخلي العويصة، وهي أن قلب القنبلة القابل للانشطار محاط بمواد شديدة الانفجار تنفجر على نحوٍ دقيق؛ ممَّا يُسفِر عن موجة كروية مفاجئة تضغط على قلب القنبلة وتؤدي إلى انفجارها في الداخل بدلًا من تفجيرها إلى الخارج. اعتمد كرتشاتوف هنا أيضًا على تجربة لوس ألاموس، وكرَّر تصميمه النهائي من السلاح «فات مان» الذي استُخدِم في ناجازاكي.

اعتمد السوفييت غالبًا، في دخولهم مجالَ الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، على نموذج «في-٢» كنقطة بداية. ولكن السوفييت هنا، فعلوا ما هو أكثر من مجرد استنساخ نماذج؛ ففي البداية، كانوا يبنون على جهود الألمان في إنتاج «في-٢» مرةً أخرى في نطاق المنطقة التي يحتلونها في ألمانيا. وبينما كانوا يفعلون ذلك، أقامت وزارة التسليح عددًا من مراكز الهندسة والتطوير بما يتيح لهم بناء صواريخ «في-٢» وإطلاقها على الأراضي السوفييتية أيضًا.

لم تستمر الجهود الألمانية عند نهاية الحرب. صارت بينامونده مهجورة، بعد الاستيلاء على الوثائق والمعدات الموجودة فيها؛ حيث كانت القوات الألمانية تدمِّر مرافقها الأساسية عمدًا أثناء تقهقرها. وكان نوردهاوزن — وهو موقع مركز إنتاج هانز كاملر، في وسط ألمانيا — يقع داخل المنطقة التي يسيطر عليها السوفييت. وبالإضافة إلى ذلك، واصَلَ المركز إنتاجَ صواريخ «في-٢» حتى وصلت القوات الأجنبية؛ ولكن هذه القوات كانت أمريكية، فاستولى الأمريكيون على كل ما في هذا المركز أيضًا. وظلت بعض المنشآت القليلة جاهزةً لاستخدام السوفييت، ونخصُّ بالذكر هنا مركزًا لاختبار المحركات في ليستن كان يقع في وسط ألمانيا أيضًا؛ لكنَّ الجيش الأمريكي تحفَّظَ على أهم العاملين في المركز، فضلًا عن معظم الوثائق ومكونات الصاروخ «في-٢» المتوافرة.

مع ذلك، لم تستولِ الولايات المتحدة على كل شيء، وكانت المستندات والمعدات القليلة المتبقية كافيةً لتلبية حاجات السوفييت. وفي حين كان أهم الأفراد في طريقهم إلى الولايات المتحدة، ظلَّ عدد كبير من الموظفين الأدنى مستوًى، يملكون معلومات قيِّمة، وإن كانت معلومات متناثرة هنا وهناك. وكانت لا تزال بعض الشركات تمارس نشاطها، بما في ذلك مصنعٌ في برلين بنى نُظُم تحكُّم صاروخية.

بالإضافة إلى ذلك، اختار واحد من كبار المديرين — يُدعَى هيلموت جروتروب — التعاوُن مع الروس، وكان يعمل نائبًا لإرنست شتاينهوف، الذي كان مسئولًا عن التوجيه والتحكم ونُظُم القياس عن بُعْد، وكان يستطيع بسهولة مصاحبة شتاينهوف بوصفه عضوًا في المجموعة التي شكَّلها الكولونيل هولجر توفتوي. لكن أراد جروتروب أن يبقى في ألمانيا، ولم يحب كثيرًا شروطَ الانضمام إلى مجموعة توفتوي، وهو ما جعله يقبل عرضًا من بوريس تشرتوك، أحد أعضاء اللجنة الفنية المشتركة في موسكو، الذي كان يحاول إعادة البدء في إنتاج الصاروخ «في-٢» في مركز نوردهاوزن. ولم يكن جروتروب شيوعيًّا بالتأكيد — ليس في ألمانيا النازية — لكنه بَدَا متقبِّلًا للأمر عندما عرض عليه السوفييت فرصةً ليس فقط للبقاء في بلاده، بل أيضًا لتولِّي دور قيادي في تطوير الصواريخ.

وضعت اللجنة هدفين مباشرين، هما إعادة بناء مجموعة كاملة من تصميمات إنتاج صواريخ «في-٢»، وإنتاج هذه الصواريخ من خلال خط إنتاج تجريبي؛ وسرعان ما كُلِّفَ جروتروب من جانب الألمان بمسئولية إدارة جميع برامج تطوير الصواريخ في منطقة النفوذ السوفييتي. بالإضافة إلى ذلك، في وقت مبكر يعود إلى سبتمبر ١٩٤٥، أُعِيدَت منصةُ اختباراتٍ في ليستن إلى العمل، في الوقت الذي بدأ فيه متخصِّص ألماني آخَر — يُدعَى يواخم آمفنباخ — في تدريب طواقم فالنتين جلشكو لاختبارات الصواريخ على إجراءات تشغيل محرك «في-٢». وبعد عام على ذلك، صارت التصميمات الهندسية اللازمة متوافرةً، بينما بنى المصنع التجريبي خمسة عشر نموذجًا كاملًا من الصاروخ «في-٢»، فضلًا عن مكونات خمسة عشر صاروخًا آخَر.

خلال عام ١٩٤٦، بدأت أيضًا الحكومة السوفييتية في إقامة المراكز الأوَّلية لبدء برنامج صواريخ محلي، وشُيِّد المركز الرئيسي «إن آي آي» في ضاحية كالينينجراد في موسكو، في موقع مصنع معدات مدفعية سابق. اقتضى تصميم المركز إقامةَ مصنعِ إنتاجٍ تجريبي ألماني، جرى نقله بالكامل، فضلًا عن مركزٍ هندسي، ومركزٍ للعلوم التطبيقية؛ مثل التوجيه وعلم ديناميكا الهواء. وكانت المجموعة الهندسية تتضمَّن أقسامًا عديدة تعمل على تطوير نماذج الصواريخ المختلفة، وكان سيرجي كوروليف يرأس القسم رقم ٣، الذي كان يتعامل مع تصميمات الصواريخ البعيدة المدى.

كانت ثمة مراكز أخرى تدعم مركز «إن آي آي-٨٨». وصار فالنتين جلشكو — الذي كان قد رأس أحد برامج شاراجا لتطوير الصواريخ أثناء الحرب في كازان — مديرًا لأحد المراكز الكبرى لتطوير المحركات في مدينة خيمكي، على بُعْد أميال قليلة من مركز «إن آي آي-٨٨». وطوَّرت مجموعات هندسية منفصلة نُظُم توجيه، ومعدات توجيه ببوصلات جيروسكوبية، ومعدات دعم أرضية لإطلاق الصواريخ؛ وكان مديرو هذه المجموعات جميعًا قد شاركوا في عمل اللجنة في ألمانيا، مثلما فعل جلشكو وكوروليف.

على الرغم من أن كوروليف كان مديرًا في المستوى الأوسط، فإنه سرعان ما لفت الانتباه إليه؛ فقاد جهود تشكيل فريق عمل، هو مجلس الرؤساء، الذي شمل أعضاؤه جلشكو فضلًا عن مديري أربع مجموعات هندسية أخرى. ويذكر أحد المشاركين، فلاديمير بارمن، أن «اجتماعات المجلس كانت تُجرى عادةً في مكتب التصميمات الذي كان مجالُ عمله موضوعَ المناقشة؛ إذا كانت المناقشة، على سبيل المثال، تدور حول المحركات، كانت المقابلة تُجرى في مكتب جلشكو. وكان كوروليف يُشرف على الاجتماعات ويرأسها دومًا». ولعب أعضاءُ هذا المجلس أدوارًا محورية في مشروعات الصواريخ والفضاء في السنوات العشرين التي أعقبَتْ ذلك.

استدعت الجهود الملحة بناء صواريخ «في-٢»، وكانت هذه الصواريخ قصيرةَ المدى وأصغر بكثير من أن تحمل القنبلة الذَّرِّيَّة، لكن مثلما كانت الحال مع نموذج تبوليف «تي يو-٤»، كان المفترض أن يعمل هذا المشروع على توسيع نطاقٍ ما كانت الصناعة السوفييتية تستطيع تنفيذه خلال السنوات الأولى في فترة ما بعد الحرب. وعلى الرغم من صعوبة الحصول على أجزاء ومواد كثيرة، اكتمل أول نماذج صواريخ «في-٢» المصنوعة في موسكو خلال عام ١٩٤٧، وتطلَّبَ إنتاجُ صواريخ «في-٢» لاحقًا إقامة ثمانية عشر مصنعًا، فضلًا عن خمسة وثلاثين مركزًا هندسيًّا وعلميًّا. على الجانب الآخر، كان فون براون في الولايات المتحدة يبني نماذج «في-٢» من المكونات المتوافرة، في ظل دعم صناعي محدود.

شمل عمل موسكو أيضًا زملاء جروتروب؛ ففي أكتوبر ١٩٤٦، أجرت القوات السوفييتية عملية تعبئة واسعة النطاق للألمان ذوي القدرات الفنية المرتفعة، الذين كانوا يعملون في منطقة النفوذ السوفييتي، وأرسلوهم إلى روسيا. وانقسم زملاء جروتروب إلى مجموعتين، إحداهما تصاحبه إلى مركز «إن آي آي-٨٨» قُرْبَ موسكو، بينما الثانية تتمركز في جزيرة جورودومليا في بحيرةٍ على مسافة ٢٠٠ ميل تقريبًا. وفي حين أقام جروتروب وعائلته في فيلا مكوَّنة من ستِّ غرف، وكان لديه سائق خاص، لم يَلْقَ الآخرون معامَلةً جيدة على هذا النحو.

خصَّصَ العاملون ضمن مجموعة جروتروب في موسكو غرفة واحدة للعائلة المكوَّنة من ثلاثة أفراد، وغرفتين للعائلة المكوَّنة من أربعة أفراد، وحصل خريجو الجامعات على غرفة إضافية. ولكن كان زملاء جروتروب أفضل حالًا من مهندسي كوروليف، الذين كانوا يعيشون في ثكنات عسكرية وخيام، وكان نصف طاقم عمل كوروليف على الأقل ضمن قائمة انتظار للحصول على غرفة لعائلاتهم. وفي جورودومليا، كان الوضع أكثر سوءًا. كانت الجزيرة تمتلك مرافق بحثية راقية، بما فيها نفق هوائي بسرعة ٥ ماخ، ومنصة اختباراتٍ صاروخية، ومختبر إلكترونيات؛ ولكنَّ الأوضاع المعيشية كانت مروعة.

كان العاملون يعيشون في أكواخ كريهة الرائحة، وأشارت إرمجارد — زوجة جروتروب — إلى أن هذه الأكواخ كانت مبنية من «ألواح خشبية غير مطلية ذات شقوق كبيرة، وكان يمكن كنس الغبار نحو الشقوق مباشَرةً؛ ولكن على الجانب الآخر، كان لا يمكن التخلُّص من الحشرات». وكانت مياه الصنبور غير صالحة للشرب؛ إذ كانت تحتوي على الأتربة، والأعشاب البحرية، وحيوانات بالغة الصِّغَر، وكان الأفراد ينقلون الماء من البحيرة، ولم يكن ثمة أي مرافق صرف صحي. وكان اللحم، إذا توافر، عبارة عن عظام غالبًا، وكانت الوجبات تعتمد بصورة كبيرة على حساء الكرنب. وكانت المواقد مصنوعة من الطين والأحجار، وخلال أيام الشتاء القارص وفي الليالي الطويلة في الشمال، كانت النوافذ نادرًا ما تُغلَق جيدًا، ولم تكن لدى الأطفال أحذية مناسبة.

وعودةً إلى ألمانيا، استخدم هؤلاء المهندسون والفنيون الصاروخ «في-٢» لمساعدة الروس في تعلُّم أمور الصواريخ. وفي مركز «إن آي آي-٨٨» وفي جورودومليا كان من المفترض أن يتجاوزوا نموذج «في-٢» بإجراء دراسات حول تصميم صواريخ أكثر تطورًا؛ ومع ذلك، لم يكن من المنتظر أن يشارك هؤلاء في التصميمات المفصلة لهذه الصواريخ، فضلًا عن بنائها وتطويرها. وكان الهدف الرئيسي من وجود الألمان أن يستغل الروسُ أفضلَ ما لديهم كي يطوروا لهم أفكارًا لخدمة الأغراض السوفييتية. ولم يطَّلِع هؤلاء على التطورات السوفييتية، ومع تقادُم خبراتهم وتضاؤلها أكثر فأكثر، كان الروس يَكِلون إليهم مهامَّ أكثر هامشيةً. ورحلت مجموعة مركز «إن آي آي-٨٨»، وفيهم جروتروب نفسه، عن موسكو إلى الفضاء الشاسع حول جورودومليا؛ وبعدها بسنوات قليلة، أعادهم سادتهم السوفييت إلى شرق ألمانيا.

على الرغم من ذلك، في ظل وجود زملاء جروتروب واستعدادهم للمساعدة، بَدَأ كوروليف في التخطيط جديًّا لإدخال تعديلات جوهرية على نموذج «في-٢»، حتى قبل أن تصبح الصواريخ الأولى التي بناها الألمان جاهزةً للإطلاق. وفي أوائل صيف ١٩٤٦، بينما كان زملاء جروتروب لا يزالون في ألمانيا، بدأ هؤلاء المهندسون في تقديم اقتراحات بإدخال تعديلات على الصاروخ «في-٢» بالاعتماد على تصميمات كانت قد وُضِعت في بينامونده؛ وبعد الاستقرار في روسيا، صرفوا انتباههم نهائيًّا عن الصاروخ «في-٢»، مقترحين تصميمَ صاروخٍ جديد تمامًا يتجاوز مداه مدى الصاروخ «في-٢» بمقدار ثلاث مرات.

بالنسبة إلى جروتروب، كان الطريق إلى الصواريخ البعيدة المدى يتطلَّب نفس الأفكار الجديدة المبتكرة التي كان نظراؤه الأمريكيون يطوِّرونها على نحو مستقل. وتصدَّرت قائمةَ رغبات جروتروب مجموعةٌ من المضخات التوربينية تستخدم أول أكسيد الهيدروجين، ويجري تشغيلها من خلال غازات غرف الاحتراق. وفي شركة «نورث أمريكان أفياشن»، صارت «دورة مولِّد الغاز» جزءًا من محرك صاروخ بولاي الذي تبلغ قوة دفعه ١٢٠ ألف رطل، وساهَمَ هذا التصميم في تقليل وزن الصاروخ. وإمعانًا في تقليل الوزن، تخلَّى صاروخُ جروتروب الجديد عن خزانات وقود الدفع الداخلية في الصاروخ «في-٢»؛ ممَّا سمح للطبقة الخارجية للصاروخ بتخزين الوقود مباشَرةً. وكان من المنتظر أن ينخفض الوزن على نحوٍ أكبر عن طريق فصل الرأس الحربية أثناء عملية الطيران، حيث سيتمكَّن جسمُ الصاروخ حينئذٍ من تجنُّب الحاجة إلى زخم الاندفاع عند الولوج مرةً أخرى إلى المجال الجوي. وكان من المنتظر أيضًا زيادة قوة الدفع داخل المحرك من خلال تعزيز معدل تدفُّق الوقود.

بينما كان جروتروب يواصِل تطويرَ هذه التصميمات خلال عامَيْ ١٩٤٧ و١٩٤٨، طوَّرَ كوروليف، الذي كان يعمل بصورة منفصلة، تصميمًا يحقِّق تحسنًا مشابهًا في تصميم هيكل خفيف الوزن لكنه لا يوفر قوةَ دفعٍ مماثلة. وعلى أية حال، كانت محركات كوروليف مستوحاة من جلشكو، الذي لم يكن مستعِدًّا للانتقال إلى مرحلة تصميم دورة مولِّد غاز، بل كان يفضِّل الاستمرار في استخدام أول أكسيد الهيدروجين المستخدم في الصاروخ «في-٢». ومن خلال حسم عمليات خفض الوزن على هذا النحو، كان من المنتظر أن يبلغ مدى هذا الصاروخ ستمائة كيلومترٍ؛ أيْ ضِعْف مدى الصاروخ «في-٢» إن لم يكن ثلاثةَ أضعاف مداه. ولكن الصاروخ كان لا يزال غير قادر على حمل قنبلة ذرِّيَّة. وعلى الرغم من أن هيكله الخفيف الوزن كان يمثِّل ميزة مهمة، فإن اعتماده على تكنولوجيا محرك «في-٢» كان يعني أن النموذج الجديد لم يكن يمثِّل إلا نصف خطوة فقط نحو المستقبل. وفي وقت مبكر يرجع إلى أبريل ١٩٤٧، قدَّمَ كوروليف فكرةَ تصميمٍ مبدئي إلى وزير التسليح أوستينوف، ودخل التصميم الجديد طوْرَ التطوير تحت اسم «آر-٢».

في تلك الأثناء، في خضم دراسات التصميم هذه، ظلَّتْ مسألةُ إطلاق بعض صواريخ «في-٢» التي كان يجري إنتاجها معلَّقةً. وكان الاتحاد السوفييتي في حاجةٍ إلى موقع اختبارات، وعثر المسئولون في وزارة أوستينوف على ضالَّتِهم قُرْبَ مدينة كابوستن يار، على مسافة خمسة وسبعين ميلًا شرقَ ستالينجراد، وكان ثمة خط سكة حديد يمر عبر الموقع، إلا أن المنطقة كانت مهجورة تمامًا لدرجة أنه لم تكن ثمة أيُّ مدينة أخرى قُرْبَ طريقها. وكتب أحد الأشخاص الذين زاروا الموقع واصفًا إياه: «سهول جرداء، لا حياةَ فيها، تهبُّ عليها رياح جافة تثير الأتربة المتراكمة وبقايا النباتات في كل مكان؛ وهي خالية تمامًا من الماء.» وكان يشيع وجود الجِمَال. وعاش العاملون في خيام، بينما اتخذ موظفو المشروع الأوفر حظًّا أماكنَ إقامةٍ لهم في عربات القطارات. وكان الأمن الصناعي في أدنى مستوياته؛ فلم يكن يعبأ إلا قليلون عندما كان أحدُ العمَّال يلقى حتفه من جرَّاء السقوط من سِقَالة مرتفعة، أو عندما كانت إحدى العوارض الصُّلب تنحلُّ وتقع على أحد عمَّال اللِّحام، وتقضي عليه.

أصبح لدى أوستينوف في ذلك الوقت دُفعتان من صواريخ «في-٢»، إحداهما من ألمانيا والأخرى من مركز «إن آي آي-٨٨»، وبدأت اختبارات الإطلاق في أكتوبر ١٩٤٧. كانت عملية الإطلاق الأولى مهمةً بما يكفي لجذب أنظار أوستينوف إلى كابوستن يار، وعندما ارتفع الصاروخ «في-٢» بنجاح إلى أعلى وهبط سالِمًا باتجاه أفقي، عانَقَ أوستينوف كوروليف عناقًا حارًّا وراقَصَه. وتذكر السيدة جروتروب أن المسئولين الكبار «قفزوا لأعلى ولأسفل مثل الأطفال الصغار، ثم أمسكوا بزجاجات الفودكا وثملوا تمامًا.» كان لدى أوستينوف ما يدعوه للاحتفال؛ فبعد عامين فقط من انتهاء الحرب، صار على وشك تحقيق إنجازٍ يضاهي الإنجازَ الألماني في مجال الصواريخ.

على الرغم من ذلك، اقترح كوروليف خططًا تتجاوز كثيرًا ما كان يستطيع بناءه وإطلاقه، وأُجرِيت تجربة الإطلاق الأولى لنموذج «آر-٢» التجريبي بعد ذلك بعامين، ولم يكن من المقرَّر إجراؤها حتى سبتمبر ١٩٤٩. لكن خلال أواخر عام ١٩٤٧ وعام ١٩٤٨، بدأ كوروليف يفكِّر بصورة متزايدة في صاروخٍ يبلغ مداه ٣٠٠٠ كيلومتر باسم «آر-٣»، في إطار عمل مكتب التصميمات الخاص به، وكجزء من العمل المكمِّل لمجموعة جروتروب. وكان من المنتظر أن يظل هذا الصاروخ مفتقرًا لإمكانية بلوغ المدى العابر للقارات، ولم يكن يستطيع إصابةَ أهداف في الولايات المتحدة، ولكنه كان دفعةً في توسيع نطاقِ ما يمكن أن يسعى كوروليف إلى تحقيقه.

مع استمرار الحرب الباردة، واصَلَ مصمِّم الطائرات أندريه تبوليف تقديمَ نماذج محسَّنة من الصاروخ «تي يو-٤» الذي يعمل باستخدام المكابس، المحاكي لقاذفة «بي-٢٩» الأمريكية. وبشَّرت النماذج الجديدة بآمادٍ أبعد، لكن سرعاتها البطيئة كانت تعرِّضها للإسقاط من قِبَل الصواريخ الاعتراضية النفَّاثة. وأثار هذا الأمر استياءَ ستالين، فدعا إلى عقد اجتماع في الكرملين في يوليو ١٩٤٩، وتحدَّث إيجور كرتشاتوف عن أبحاثه الأخيرة حول القنبلة الذَّرِّيَّة، التي لم يكن يفصلها عن أول اختبار ناجح سوى شهر واحد، وغطَّى تقريره على تقرير كوروليف، الذي لم يكن نموذج صاروخه «آر-٣» موجودًا إلا في صورة دراسات خاصة بالتصميم.

قال ستالين: «نريد سلامًا طويلًا، راسخًا. لكن تشرشل داعية حروبٍ من الطراز الأول، ويخاف ترومان من الأمة السوفييتية مثلما يخشى الشيطان رائحته النتنة. إنهم يهدِّدوننا بشنِّ حرب ذرِّيَّة، لكننا لسنا اليابان؛ لذا، أيُّها الرفيق كرتشاتوف، وأنت، أيُّها الرفيق أوستينوف، وأنت أيضًا (مستديرًا نحو كوروليف) يجب أن تسرعوا! هل ثمة أسئلة أخرى؟»3

في ديسمبر ١٩٤٩، استجاب كوروليف إلى أمر ستالين بتقديم اقتراح رسمي حول نموذج الصاروخ «آر-٣» بمدى ٣٠٠٠ كيلومتر. وصمَّمَ كوروليف النموذجَ كصاروخ من مرحلة واحدة، متفاديًا بذلك مشكلةَ تشغيل مرحلة ثانية. واعتمد كوروليف كذلك على دراسات أجراها جلشكو على نموذج محرك جديد، كان يطمح إلى تحقيق قوة دفع تبلغ ٢٦٠ ألف رطل، وهو ما كان خطوة جريئة حقًّا، تتجاوز مجال التصميم الذي كانت توفِّر فيه الخبرةُ المستقاة من نموذج الصاروخ «في-٢» دليلًا استرشاديًّا. وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن ثمة ما يضمن أن تتيح الوسائل المتوافرة إمكانيةَ تحويلِ هذا النموذج إلى صاروخ حقيقي جاهز للعمل.

على الرغم من ذلك، دخلت فرحة جديدة في عالم كوروليف الشخصي؛ إذ كان زواجه قد بدأ يفقد بريقه، خاصةً عندما دخلت حياتَه مطلَّقةٌ شابة وجميلة، تُدعَى نينا كوتنكوفا، وكانت تعمل لديه مترجِمةً، ووقعت في غرامه. وكانت زوجته، زينيا، تعيش في وسط مدينة موسكو، بينما كان كوروليف يقيم في شقة قُرْبَ عمله، خارج المدينة، في المبنى الذي كانت شقة نينا تقع فيه. وفي عام ١٩٤٨ طلَّقَ كوروليف زينيا التي شعرت بحنق شديد حيال ذلك، ثم تزوَّجَ نينا في العام التالي.

شهد شهر أبريل من عام ١٩٥٠ لحظةً مشرقة في حياة كوروليف المهنية؛ إذ حصل كوروليف على ترقيةٍ. وكان فريق التصميم الذي يُشرف عليه تحت اسم القسم ٣، يعمل ضمن القسم الهندسي في مركز «إن آي آي-٨٨». أصبح كوروليف مديرًا للقسم كله؛ حيث أصبح مسئولًا عن الصواريخ على اختلاف مداها. ومع تقدُّم العام، أطلق مشروعين جديدين كانا سيتولَّيان بناء أول صاروخين في بلاده قادرَين على حمل رءوس نووية، وهما «آر-١١» و«آر-٥».

كان السبب في مشروع «آر-١١» حالة الاستياء التي انتشرت بين المسئولين في الجيش حيال الصاروخ «في-٢»، ثم الصاروخ «آر-٢» الذي ظهر بعده؛ فكلا الصاروخين كان في حاجةٍ إلى التزوُّد بالأكسجين السائل، وهو وقود سريع التطايُر وربما يصعب توفيره أثناء العمليات الحربية. وعلى عكس القذائف المدفعية التي يجري تحميلها بالوقود ثم تُترَك في وضع استعداد لإطلاقها، لم يكن من الممكن تزويد الصاروخ «في-٢» أو الصاروخ «آر-٢» بالوقود مسبقًا ثم تركه على المنصة لأَجَلٍ زمني غير محدَّد، انتظارًا للإطلاق. وكان ضمن فريق كوروليف اختصاصيٌّ في مجال الصواريخ، يُدعَى ألكسي إيزاييف، كان يتابع تجاربَ الألمان وقتَ الحرب حول استخدام حمض النيتريك كمادة مؤكسِدة؛ ومثلما حدث في مختبر الدفع النفاث في كاليفورنيا، بشَّرَ هذا الأسلوب بإمكانية توفير أنواعِ وقودٍ قابلةٍ للتخزين، ونجح أول محرك صمَّمَه إيزاييف باستخدام هذا النوع من الوقود في اختبارات الإطلاق التي أُجرِيت خلال شهر أغسطس من عام ١٩٥٠. واتخذ الصاروخ الذي استخدم حمض النيتريك — الصاروخ «آر-١١» — شكلَ صاروخٍ بعيد المدى على غرار الصاروخ «كوربورال». أطلَقَ حلف الناتو على هذا الصاروخ اسم «سكود»، وهو الذي صار يُستخدَم على نطاقٍ واسع في حروب العالَم الثالث، بما في ذلك حرب الخليج عام ١٩٩١، التي أطلقت خلالها العراق بقيادة صدام حسين صواريخَ «كروز» مرةً تلو الأخرى على مدينة تل أبيب.

ظهَرَ الصاروخ «آر-٥» في صورته النهائية خلال عام ١٩٥٢، عندما بَدَا أن الصاروخ «آر-٣»، الذي يبلغ مداه ٣٠٠٠ كيلومتر، لا يزال أمامه شوط طويل من التطوير. وكان من المنتظر أن يحقِّق الصاروخ «آر-٥»، الذي بلغ مداه ١٢٠٠ كيلومتر، ضِعْفَ مدى الصاروخ «آر-٢» وأربعة أضعاف الصاروخ «في-٢». وتحقَّقَ ذلك من خلال محركٍ صمَّمَه جلشكو مثَّلَ شكل التطوير النهائي في تكنولوجيا الصاروخ «في-٢»؛ ولكنه كان أول صاروخٍ بعيد المدى يمتلك قدرات استراتيجية؛ حيث كان يستطيع الانطلاق من أراضٍ سوفييتية لتوجيه ضربة نووية ضد قواعد جوية أمريكية في إيطاليا وغرب ألمانيا.

استمرت مشكلة «آر-٣» المؤرِّقة، الذي كانت محركاته تمثِّل مسألةً خلافية صميمة. حاوَلَ جلشكو تطويرَ تكنولوجيا «في-٢» لبناء محرك بقوة دفع ٢٦٠ ألف رطل، لكن خلال عامَيْ ١٩٥٠ و١٩٥١ توالَتْ حوادثُ انفجار النماذج التجريبية على نحوٍ متكرر، ولم يكن هذا الأمر جديدًا في حد ذاته، لكن ما كان مُقلِقًا حقًّا هو أن القدرات اللازمة في المحرك كانت تتجاوز أحدث ما توصَّلَ إليه عِلْم المعادن. لم يستطع المحرك تحمُّل الحرارة والاهتزاز المصاحبَين لقوة دفعه، ولم يكن ثمة أيُّ احتمالات قريبة لتحقيق تطوُّرات في علم المعادن يمكن من خلالها التغلب على تلك الصعوبات.

بالنسبة إلى جلشكو وكوروليف، كان الأمر أشبه بالعودة إلى المربع رقم واحد مجددًا. وجد كوروليف أملًا في التجارب الجديدة لألكسي إيزاييف، التي كانت تبشر فيما يبدو بتصميم محرك بقوة دفع ١٤٠ ألف رطل. وعلى إثر ذلك، صمَّمَ كوروليف الصاروخ «آر-٣ إيه»، وهو نموذج معدَّل من نموذج الصاروخ «آر-٢» يمكن من خلاله اختبار عناصر تصميم الصاروخ «آر-٣». واستفاد كوروليف أيضًا من نطاق تخصُّصه المهني الواسع بإثارة سؤالٍ بعيد الأثر: هل يتعيَّن بالضرورة أن تكون الصواريخ البعيدة المدى من طراز «كروز» التي تحلِّق في الغلاف الجوي، بدلًا من الاعتماد على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات؟ كان كوروليف يعرف أن القوات الجوية الأمريكية تستثمر معظم أموالها في الصاروخ «نافاهو» الذي يعتمد على المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي؛ فطلب من مصمِّميه أن يبحثوا إذا كان تصميمُ صاروخٍ مشابِه يعتمد على محركاتٍ نفاثة ذات دفع هوائي من شأنه أن يخدم احتياجات البلاد على نحوٍ أفضل أم لا. وكان الصاروخ «نافاهو» لا يزال بعيدًا كل البُعْد عن مرحلة اختبارات الطيران، ولم يكن كوروليف مستعِدًّا بأي حال من الأحوال لمحاكاة تصميمه، على غرار ما فعله تبوليف مع القاذفة «بي-٢٩». ولكن، كان لدى كوروليف اعتقاد راسخ تمامًا في أن شركة «نورث أمريكان أفياشن» في سبيلها إلى تقديم نموذج مبتكر حقًّا.

خلال عام ١٩٥٢، حقَّقَتْ تجارب جلكشو تقدمًا ملحوظًا. لم يكن جلشكو يفضل استخدام محركات متعددة ذات قوة دفع متواضعة في الصاروخ «آر-٣»؛ حيث كان تعدد المحركات يعني مزيدًا من فرص الفشل، وكانت فرص الفشل تتمثَّل تحديدًا في المضخات التوربينية، التي ظلت تعتمد على أول أكسيد الهيدروجين، على غرار الصاروخ «في-٢». ومع ذلك، لم يكن ثمة ما يستوجب قانونًا أن تكون لكل غرفةِ دفعٍ مجموعةُ المضخات الخاصة بها، ورأى جلشكو إمكانية بناء محركات ذات قوة دفع هائلة حقيقية، بالحصول على مجموعة واحدة من المضخات التوربينية تغذي عدة غرف دفع بالوقود.

كان هذا الأسلوب رائعًا للغاية؛ حيث عالَجَ المشكلات الراهنة معالجةً دقيقة. وكان من الممكن زيادة حجم المضخات التوربينية وقدرتها؛ لأن تلك التصميمات كانت أمرًا يمكن تحقيقه. وكان من الممكن أيضًا تصغير كل غرفةِ دفْعٍ بما يكفي لتحمُّل الحرارة والاهتزاز دون أن تتجاوز حدودَ ما هو متاح في تكنولوجيا اللِّحام وعلم المعادن. ومع تبلور تصميم جلشكو الجديد، رأى كوروليف إمكانية استخدام هذا الأسلوب في إنقاذ الصاروخ «آر-٣»، بل الأفضل من ذلك أنه كان يمكنه تجاوز نموذج الصاروخ «آر-٣» واقتراح نموذج صاروخ باليستي عابر للقارات، قادر على إصابة أهداف في الولايات المتحدة.

في تلك الأثناء فقط، في نهاية عام ١٩٥٢، كان الوضع الاستراتيجي السوفييتي ضعيفًا على نحو بالغ، وكانت الحرب الجوية في كوريا قد أثبتَتْ أن القاذفة «بي-٢٩»، التي كان الأمريكيون يستخدمونها بصورة روتينية، لا تستطيع تفادي إسقاطها من قِبَل مقاتلات نفاثة إلا إذا كانت ترافقها طائرات نفاثة. وفي ضوء ذلك، شرعت القيادة الجوية الاستراتيجية سريعًا في إجراء عملية إحلال للقاذفات «بي-٢٩»، واستخدمت بدلًا منها قاذفات نفاثة ذات إمكانيات مرتفعة. ولكن قوة القاذفات في موسكو كانت تتألَّف بصورة كاملة تقريبًا من القاذفات «بي-٢٩»، في صورة القاذفات «تي يو-٤». وكان ستالين قد طلب من تبوليف بناء قاذفة نفاثة بعيدة المدى، بَيْدَ أن المحركات التي كان من المفترض أن يستخدمها تستهلك كميات وقود أكثر بكثير من نظيراتها الأمريكية؛ وأقصى ما استطاع تبوليف تقديمه هو قاذفة ذات محركات توربينية الدفع، تُدعَى «تي يو-٩٥». وافَقَ ستالين على هذه القاذفة، لكنه كان لا يزال يريد طائرة نفاثة، فانتقل إلى صهر تبوليف؛ فلاديمير مياسشتشيف. شرع هذا المصمِّم الكبير في بناء قاذفة نفاثة ذات أربعة محركات، أطلق عليها حلف الناتو اسم بيزون، ولكنه لم يستطع التغلُّب على مشكلة المحرك، وكان مدى القاذفة التي صمَّمها لا يكفي لمهاجمة أهداف في الولايات المتحدة.

في نوفمبر ١٩٥٢، فجَّرَ العلماء الأمريكيون القنبلة الهيدروجينية الأولى، وهو ما أسفر عن موجات انفجارية أكثر بمقدار ألف مرة ممَّا تمخضت عنه قنبلة هيروشيما. وفي فبراير ١٩٥٣، قبل ثلاثة أسابيع من وفاته، وقَّعَ ستالين أمرًا يكلِّف فيه مركز «إن آي آي-٨٨» بتطوير صاروخ عابر للقارات، وكان السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل الصاروخ سيكون من نوع «كروز»، أم سيكون صاروخًا باليستيًّا؟ وفي شهر أبريل من ذلك العام، عدَّلَ مجلس الوزراء على المستوى الوزاري أمرَ ستالين بسحب برنامج صواريخ «كروز» من مركز «إن آي آي-٨٨» ونقلها إلى شركات صناعة الطائرات.

تنافَسَ مركزان في مجال تصميم طائرات، أولهما يرأسه مياسشتشيف والآخَر يرأسه سيميون لافوتشكن، على بناء صاروخ يعتمد على محرك نفاث ذي دفع هوائي، وكان كلا المركزين من المراكز القوية ذات الكفاءة. ظفرَ مياسشتشيف برضاء ستالين الشخصي، وقاد جهود التطوير الخاصة بالقاذفة النفاثة التي كان يطوِّرها، بينما تولَّى لافوتشكن مشروعَ صواريخ مضادة للطائرات نزولًا على أمر مباشِر من ستالين، وركَّزَ كوروليف جهودَه في تلك الأثناء لتطوير صواريخ بعيدة المدى. كان كوروليف يملك الورقة الرابحة؛ حيث أصبح في مقدوره الآن اقتراح استخدام محرك جلشكو الجديد لبناء صاروخ باليستي حقيقي عابر للقارات؛ وفي حقيقة الأمر، صنَعَ ما هو أكثر من ذلك؛ فقد أوصى أن تتوقَّف الحكومة عن دعم الصاروخ «آر-٣»، الذي لم يكن يستطيع بلوغ الولايات المتحدة، والانتقال مباشَرةً إلى تطوير قدرات صواريخ عابرة للقارات.

ذهب كوروليف إلى اجتماع في الكرملين للنقاش حول الصاروخ «آر-٣»، وتوقَّعَ المسئولون أن يمضي قُدمًا في عملية التطوير، ثم يستخدم تكنولوجيا الصاروخ «آر-٣» كأساس لبناء صاروخ باليستي بعيد المدى، وهو ما كان سيمثِّل استمرارًا للأسلوب التدريجي الحَذِر الذي كان قد أدَّى إلى سلسلة الصواريخ ابتداءً من «في-٢» مرورًا ﺑ «آر-٢» ثم «آر-٥»، مع تفادي أخطاء مثل التي وقعت مع محرك جلشكو الأوَّلي في الصاروخ «آر-٣». لكن كوروليف رأى شيئًا آخَر؛ فقال في شجاعةٍ موجِّهًا حديثَه إلى مستمعيه: «ظهر تصميم جديد، ولن يلبِّي تصميمُ الصاروخ «آر-٣»، الذي يبلغ مداه ثلاثة آلاف كيلومتر، حاجاتنا على المدى البعيد؛ لذا، توصَّلنا بالإجماع إلى النتيجة الراسخة التي تقول بأن ثمة فرصة لتجاوُز الصاروخ «آر-٣»، وبدء العمل على نموذج صاروخ عابر للقارات.»4

يقول المؤرِّخ عاصف صديقي إن «جميع مَن كان حاضرًا في هذا الاجتماع أصابته صدمة»؛ فقد كانوا ينتظرون في شغف خروج الصاروخ «آر-٣» إلى الوجود، على الرغم من أنه كان موجودًا فقط على الورق، وتوجَّسوا جميعًا خيفةً من خطوة كوروليف الجريئة. قُوبِل كوروليف بمعارضة قوية، وعارَضَه الوزير فياتشسلاف ماليشيف معارَضةً شديدة. كان ماليشيف مسئولًا، في ضوء منصبه الوزاري، عن برنامج الأسلحة النووية، وكان يعلم أن كوروليف مهتمٌّ بالرحلات الفضائية، وهو ما كان ينظر إليه باعتباره خيالًا جامحًا، واتهمه بعقد الآمال على بناء صاروخ إطلاق فضائي معدوم الفائدة من الناحية العسكرية. وأصرَّ ماليشيف على أن يواصل كوروليف إجراءَ التجارب على «آر-٣».

قال كوروليف: «أرفضُ ذلك. لا قِبَلَ للدولة بالتدخُّل في هذا الشأن.»

أجاب ماليشيف قائلًا: «حقًّا؟ الأشخاص ليسوا معصومين من الاستبدال، ويمكن العثور على أشخاص غيرهم.»

كان أوستينوف — وليس ماليشيف — مسئولًا عن برنامج الصواريخ الاستراتيجية، وكان أوستينوف يفضِّل خطة كوروليف ولو بشيءٍ من الحذر على الأقل، ولم يكن يملك السلطةَ اللازمة لقبول خطة كوروليف مباشَرةً كأساس للسياسة العامة، لكنه استطاع تشكيلَ لجنةِ استعراضٍ لفحص الأمر وبحثه.

في المستويات العليا داخل الحكومة، يُعتبَر انعقاد هذه اللجان ضربًا من الفن، وعندما تُشكَّل هذه اللجان كما ينبغي، فإنها كانت تتضمن أعضاءً لا غبارَ على سُمعتهم ويتمتعون بسلطات واسعة، وتتطابق وجهاتُ نظرهم مع رئيس اللجنة. ووقَعَ اختيارُ أوستينوف على كونستانتين رودنيف — أحد نواب وزير الدفاع الذي كان قد رأس مركز «إن آي آي-٨٨» — رئيسًا للجنة، وكان يعرف كوروليف جيدًا، ومن زملائه في اللجنة المارشال ميتروفان ندلين، قائد سلاح المدفعية، الذي كان يدعم أيضًا اقتراح كوروليف.

استدعى هذا الصاروخ الباليستي البعيد المدى وجودَ قلب مركزي يجري تشغيله من خلال محرك جلشكو مكوَّن من أربع غرفِ دفعٍ، تولِّد قوةَ دفع ١٧٠ ألف رطل؛ وكان من المفترض أن يُربَط أربعة من الصواريخ المعزِّزة حول القلب، كلٌّ منها يحتوي على وقود، ومُزوَّد بمحرك مشابه؛ وكان من المفترض تشغيل محركات جميع الصواريخ في منصة الإطلاق؛ ممَّا يعمل على تفادي مشكلات الإشعال أثناء الطيران. وكانت قوة الدفع الإجمالية، التي بلغت ٩٠٠ ألف رطل، لا تُقارَن بقوةِ دفعِ أكبرِ الصواريخ السوفييتية التي انطلقت حتى ذلك الحين، التي تبلغ ١٠٠ ألف رطل، ويمثِّلها الصاروخ «آر-٥». وكان من المنتظر أن تنفصل الصواريخ المعزِّزة بعد عملية الإطلاق؛ ممَّا يجعل الصاروخ الرئيسي يواصِل الانطلاق حاملًا رأسه الحربية النووية.

أفادت الدراسات التي أُجرِيت على «آر-٣» من المشاركة المباشِرة لأهم علماء الرياضيات في البلاد، وهو مستيسلاف كلديش. مَثُل كلديش أمام لجنة أوستينوف وأكَّدَ على أن تحليلاته أثبتَتْ أن تصميم كوروليف سليم؛ وتوفَّر مزيدٌ من الدعم من جلشكو، الذي أشار إلى إمكانية بناء مجموعة المحركات التي صمَّمها من خلال الاعتماد على الممارسات الهندسية القائمة. وأصدرت هذه اللجنة تقريرَها الذي جاء في صالح كوروليف، ونجح أوستينوف في تحقيق هدفه. وفي ٢٠ مايو ١٩٥٤، تلقَّى موافَقةً نهائية على البدء في تطوير الصاروخ الباليستي البعيد المدى الذي صمَّمَه كوروليف.

أُطلِق على الصاروخ اسم «آر-٧»، على الرغم من أن الآخَرين أطلقوا عليه «سميوركا» (رقم ٧). ولكنه لم يكن الصاروخ الوحيد العابر للقارات؛ حيث واصَلَ مياسشتشيف ولافوتشكن مشروعَيْ صاروخَيْ «كروز» اللذين يعملان باستخدام المحرك النفاث ذي الدفع الهوائي. وكان من المقرر أن يتنافس المصمِّمون الثلاثة؛ بحيث إذا تخاذَلَ أحدهم، يمضي الآخَران قدمًا؛ إذ كانت موسكو عازمةً على إحراز النجاح.

ما الذي كانت تفعله الولايات المتحدة في تلك الأثناء؟ أسرعت الولايات المتحدة بتسريح عدد كبير من أفراد الجيش بعد الحرب، مع خفض ميزانية الدفاع إلى ١٤٫٤ مليار دولار أمريكي في عام ١٩٤٩. وكانت برلين هي محل اهتمام الحرب الباردة، وتوقَّعَ ستالين أن يحتفظ بشرق ألمانيا، وأن يجعل من أوروبا الشرقية منطقة عازلة، ويفرض الحكم الشيوعي على هذه البلاد على الرغم ممَّا يلاقيه من معارضة واسعة، ويصد أيَّ تهديد بالغزو من جانب الغرب. وكان الجيش الذي جهَّزَه ستالين يشكِّل تهديدًا هجوميًّا قويًّا؛ حيث كان أكبر بكثير مما ينبغي لتنفيذ هذه المهام، وأشار وزير الخارجية الأمريكي، جورج مارشال، إلى أن السوفييت كانوا يمتلكون أكثر من ٢٦٠ كتيبة نَشِطة، بينما كانت قوات الاحتياط الأمريكية تتألَّف من «كتيبة ونصف كتيبة في أنحاء الولايات المتحدة بأسرها».

كان ترومان يسعى إلى حفظ التوازن بين القوات من خلال تصنيع القنبلة الذَّرِّيَّة، والاحتفاظ بها كعامل توازن. وخلال عام ١٩٤٩، فجَّرَ كرتشاتوف قنبلته الخاصة وقوَّضَ تلك السياسة أيضًا. وفي الوقت نفسه، سقطت الصين في يد الشيوعيين الموجودين فيها، وهي الواقعة التي أثارت شبح استحواذِ قوةٍ عالمية على أسلحة نووية، تتلقى تسليحها من الصناعة السوفييتية التي كانت قد هزمت هتلر، وتستعين بقوات الاحتياط غير المحدودة للقوى البشرية الصينية.

كان رد فعل ترومان المبدئي هو ترسيخ ميزته النووية؛ فوافَقَ على خطط التوسُّع في إمدادات اليورانيوم والبلوتونيوم اللذين يدخلان في صناعة القنابل النووية، وزاد معدل إنتاج القنابل الذرِّيَّة، وأطلق برنامجًا كبيرًا لبناء القنبلة الهيدروجينية. وفي أبريل ١٩٥٠، صدَّقَ على ورقة سياسة عامة وضَعَها مجلسُ الأمن القومي تُعرَف باسم «إن إس سي-٦٨»، ونصَّتِ الورقة على أن الولايات المتحدة ستكرِّس ما يصل إلى ٢٠ في المائة من ناتجها القومي الإجمالي لصالح الأغراض العسكرية، وستقاوم أيَّ تهديدٍ شيوعي في أي مكان في العالم.

بعد ذلك بشهرين، اندلعت الحرب الكورية؛ ممَّا زاد من ضرورة إنتاج القنابل النووية إلى أقصى درجة، ووصل مخزون القنابل النووية في الولايات المتحدة — الذي بلغ ٥٦ قنبلة ذرِّيَّة في عام ١٩٤٨ — إلى ٣٠٠ قنبلة نووية في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، ثم وصل إلى ٨٣٢ قنبلة نووية بعد ذلك بعامين. وزاد كثيرًا نشاطُ القيادة الجوية الاستراتيجية التي كانت تنتج هذه القنابل. ونظرًا لأن الدفاعات الجوية السوفييتية كانت ضعيفةً، كانت القاذفة «بي-٣٦» تُعتبَر قاذفة لا تُقهَر، على الرغم من أنها كانت تعمل عن طريق المكابس وكانت بطيئة الحركة نسبيًّا. بالإضافة إلى ذلك، اشترَتِ القوات الجوية أكثر من ألفَيْ قاذفة نفاثة طراز «بي-٤٧»؛ وفي ظل إمكانية تزويد القاذفات «بي-٤٧» بالوقود أثناء تحليقها، أمكن زيادة مداها كيفما اتَّفق. وفي عام ١٩٥٢، انطلقت القاذفة «بي-٥٢» في أول رحلة لها، وسادت مجالَ القذف الاستراتيجي لمدة عقود، حتى وضعت الحرب الباردة أوزارَها أخيرًا.

في ظل هذا التركيز الهائل على القوة الجوية، لم يطرأ سوى تغيير طفيف على خطوة أمريكا الأولى نحو الصواريخ البعيدة المدى؛ وحدث ذلك في مدينة هانتسفيل في ألاباما، وهي مدينة زراعية صغيرة تشتهر بنبات البقلة، والقطن، والناموس. وبالقرب من المدينة، كان الجيش الأمريكي قد بنى ترسانة حربية لتصنيع الغازات السامة والأسلحة الكيماوية. وبعد الحرب، شاركت إدارة التسليح في الجيش في عمليات الإنتاج والتطوير في هذه الترسانة، وكانت إدارة التسليح في حاجة إلى مركز صواريخ، وبَدَتْ منشآت هانتسفيل — المعروفة باسم ترسانة «ردستون» — موقعًا جذابًا. وعلى أي حال، إذا كان سكان المدينة الطيبون قد استطاعوا التكيُّف مع إنتاج غاز الفوسجين وغاز الخردل، فربما لن يعترضوا إذن على هذه الصواريخ، خاصةً إذا كان البديل هو جمع القطن مقابل دولار أمريكي واحد لكل مائة رطل. وكان كثير من المواطنين يعيشون في أحياءٍ فقيرة — حي بوجرتاون للبيض، وحي هانيهول للسود — ولم تكن سوق العمل المحلية كبيرةً بما يكفي.

فتح مركز صواريخ إدارة التسليح الجديد أبوابه في يونيو ١٩٤٩، وكانت المهام الأولى للمركز تتمثل في تطوير صواريخ حربية: صاروخ «كوربورال» من إنتاج مختبر الدفع النفاث، وهو صاروخ وقود صلب يُسمَّى «أونست جون»، وسلسلة صواريخ «نايكي» المضادة للطائرات التي كان يجري إنتاجها بموجب عقد مع شركة «بيل لابس». وسرعان ما صدَّقَ سكرتير الجيش على انتقال فيرنر فون براون وزملائه المخضرمين — الذين كانوا يمرون بحالةٍ من فتور الهمة في فورت بليس منذ نهاية الحرب — في بينامونده إلى «ردستون». ووصلوا إلى «ردستون» في أبريل ١٩٥٠، ثم أُثِير سؤال حول أوجه الاستفادة بهم المحتمَلة، وكانت الإجابة هي إمكانية الاستعانة بهم في البحوث المستمرة على النماذج الصاروخية الممكنة التي تنبني على الصاروخ «في-٢»، والتي كانت تجريها شركة جنرال إلكتريك منذ عام ١٩٤٦، دون أن تحقِّق تقدمًا ملموسًا. وبفضل فون براون، اكتسب هذا النموذج الصاروخي بالفعل اهتمامًا كبيرًا، وهو الاهتمام الذي تُرجِم إلى صاروخٍ باسم «ردستون».

كان من المتوقع أن يحمل الصاروخ «ردستون» رأسًا حربية نووية، بَيْدَ أن مداه الذي كان يبلغ مائتَيْ ميل جعله لا يزيد عن مجرد نموذج مطوَّر للصاروخ «في-٢». وكان محرك الصاروخ «ردستون» عبارة عن محرك قديم مستعمَل في القوات الجوية، وهو محرك بقوة ٧٥ ألف رطل كان ويليام بولاي قد صمَّمَه في شركة «نورث أمريكان أفياشن» لاستخدامه في صاروخه «نافاهو»، ثم توقَّفَ عن تطويره عندما تزايدت متطلبات دفع الصاروخ. وعندما بحثت إدارة التسليح في الجيش عن شركةٍ لبناء الصاروخ «ردستون»، اكتشف المسئولون في الإدارة أن شركات صناعة الطائرات لم تكن مهتمة؛ فقد كان المديرون التنفيذيون في هذه الشركات يعتقدون، عن حقٍّ، أن الجيش لن يواصِل طريقَه في تطوير صواريخ الوقود السائل الكبيرة حتى النهاية، ولن يقدِّم عقودًا جديدة. وحصلت شركة «كرايسلر» على العقد، وهي إحدى شركات السيارات الثلاث الكبرى التي تولت تطوير ردستون باعتباره مهمة إنتاج بسيطة.

كان من المنتظر أن يصبح الصاروخ «ردستون» جاهزًا عندما تحتاج إليه البلاد، ليس للأغراض الحربية بل لإطلاق أول قمر صناعي أمريكي في عام ١٩٥٨، ولإرسال أول رائد فضاء أمريكي، وهو آلان شبارد، إلى الفضاء في عام ١٩٦١. وبالإضافة إلى ذلك، ساعَدَ تطوير صاروخ «ردستون» في إبقاء فون براون وزملائه منشغلين سنوات عديدة، بينما كانوا ينتظرون فرصةَ قيادةِ الجهود داخل البلاد للصعود إلى الفضاء. ومع ذلك، كانت أهمية الصاروخ تتضاءل عند مقارنتها بقاذفات القوات الجوية.

figure
الصواريخ الأمريكية في فترة ما بعد الحرب: الصاروخ «في-٢» من تصميم شركة «دبليو إيه سي كوربورال»، الصاروخ «إيروبي»، الصاروخ «فايكنج»، الصاروخ «كوربورال»، الصاروخ «ردستون» (دان جوتيه).

كانت هذه القاذفات في حقيقة الأمر هي موضوع التفاوت الرئيسي بين تباطؤ القوات الجوية في دخول مجال الصواريخ البعيدة المدى وحماس السوفييت إلى بنائها في أقرب وقتٍ ممكن. بالنسبة إلى ستالين ومساعديه المقرَّبين، كانت أهم مشكلة استراتيجية تكمن في العثور على طريقةٍ لتوجيه ضربة إلى الولايات المتحدة، وكانوا يخصِّصون اعتماداتٍ ماليةً هائلة لصالح أي مشروعات تخدم تلك الأغراض، مثل القاذفات النفاثة، وصواريخ «كروز» التي تعتمد على المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي، والصواريخ الباليستية العابرة للقارات التي هي من تصميم كوروليف. ولم يكن الأمر على هذا القدر من الأهمية بالنسبة إلى القوات الجوية؛ إذ كانت البلاد تمتلك ما تحتاج إليه في القيادة الجوية الاستراتيجية. وكانت هذه المواقف المتعارضة تشبه ما كانت عليه الأوضاع عام ١٩٤٣، عندما أجبرَتْ قاذفات قوات الحلفاء ذات التكنولوجيا البسيطة هتلر على المجازفة باستخدام الطائرات الاعتراضية النفاثة والصواريخ الألمانية.

غازلت القوات الجوية لفترة قصيرة شركة «كونفير» لتطوير صواريخ «إم إكس-٧٧٤»، لكنها مع ذلك لم تواصل سعيها في المشروع. وظلت مؤسسة «راند» — وهي مركز بحثي يقع مقره في لوس أنجلوس — تضع هذا المجال نصب عينيها. وفي ديسمبر ١٩٥٠، أشارت مؤسسة «راند» في أحد تقاريرها إلى أن تصميم صواريخ بعيدة المدى صار أمرًا غير بعيد المنال؛ وبعدها بشهر، منحت القوات الجوية شركة «كونفير» عقدًا لإجراء دراسة جديدة، داعيةً شارلي بوسار وزملاءه إلى إعادة تقييم نموذج الصاروخ الباليستي البعيد المدى الذي كان قد وضع تصميمه في وقتٍ سابق. وفي أغسطس ١٩٥١، أطلق بوسار على الصاروخ اسم «أطلس»، على غرار اسم الشركة الأم لشركة «كونفير»؛ شركة «أطلس كوربوريشن».

كان حجم الصاروخ هائلًا؛ فوزنه كان ٦٧٠ ألف رطل وارتفاعه ١٦٠ قدمًا، وكان يستخدم سبعة محركات جديدة من محركات بولاي بقدرة ١٢٠ ألف رطل. وهكذا، كان حجم الصاروخ «أطلس» غايةً في الضخامة؛ ممَّا جعله أساسًا لإجراء مزيد من الدراسات أكثر من كونه نموذجًا يصلح كسلاح عملي. ومع ذلك، كان علامة فارقة؛ فهذه كانت المرة الأولى التي تمتلك فيها القوات الجوية تصميمَ صاروخٍ يتخطَّى مداه خمسةَ آلاف ميل، وهو هدف كان في مقدور القوات الجوية أن تمضي قُدمًا نحو تحقيقه باستخدام محركات الصواريخ التي كان يجري تطويرها بالفعل.

لم يُصدَّق على مشروع الصاروخ «نافاهو» مثلما حدث مع الصاروخ «ردستون»، لكنه كان لا يزال في مرحلة البحث والتطوير. ومع ذلك، كان تطوير الصاروخ «أطلس» يجري على مستوًى أدنى في الدراسات الهندسية، وهو ما كان يعني أنه يتعيَّن توفير مصادر تمويل لمحركات الصواريخ بأساليب غير ذلك، عُرِفت باسم إعادة توجيه نشاط التمويل. وشُرِح مفهوم عملية إعادة توجيه نشاطِ التمويل على نحوٍ ملائم بأنها عملية الاستحواذ على الأموال التي كانت مخصَّصة لتمويل أحد الأنشطة وتوجيهها إلى نشاط آخَر. وتولَّى مراقَبةَ عمليات التمويل المقدِّم إدوارد هول، الذي كان مسئولًا عن أنشطة تطوير الصواريخ في القوات الجوية انطلاقًا من قاعدة رايت-باترسون التابعة للقوات الجوية. يتذكر المقدِّم هول تلك الأوقات قائلًا: «واجهنا صعوبات جمَّة في تمويل مشروع الصاروخ «أطلس». صار مشروع الصاروخ «نافاهو» بندًا في الميزانية منذ وقت مبكر جدًّا، حيث تولَّيْنا تمويله. وكانت أنشطةُ التطوير التي تُجرَى على الصواريخ لصالح الصاروخ «أطلس»، وكذلك تلك الأنشطة التي تُجرَى لتطوير الصاروخ «نافاهو» التي صارت تُستخدَم في مشروع الصاروخ «أطلس»؛ تقع جميعًا في إطار برنامج تطوير الصاروخ نافاهو.»5

أدرك هول سريعًا أن محركات «أطلس» كانت ستختلف عن محركات «نافاهو»؛ فمحركات «نافاهو» كانت تستطيع حرْقَ الكحول، الذي كان يُستخدَم في الصاروخ «في-٢». وكان الكحول يتميز بسهولة امتزاجه مع الماء؛ ممَّا يعمل على تخفيض درجة الحرارة في غرفة الاحتراق ويسهِّل عملية تبريدها؛ ولكنَّ خواص التبريد في المحرك الذي بلغت قوة دفعه ١٢٠ ألف رطل كانت قد تحسَّنَتْ بما يكفي لحرق الكحول بكامل قدرته تقريبًا. وخلال عام ١٩٥٢، أظهرت الدراسات إمكانية تعديل هذا المحرك بحيث يتمكَّن من حرق وقود آخَر غير مخفَّف، أَلَا وهو الكيروسين. وكان من المتوَّقع أن استخدام الكيروسين سيؤدِّي إلى توليد طاقة أكبر من الكحول، وكان هول يعلم أن «أطلس» سيحتاج إلى هذه الطاقة للوصول إلى هذا المدى الذي وصل إليه.

عثر هول على فرصته في خططٍ لتصميم صاروخ «نافاهو» متطوِّر، وهو ما كان يتطلَّب مستوى أداء أعلى في صواريخه. كان سام هوفمان يدير مشروعَ الصواريخ في شركة «نورث أمريكان»، ويتذكر هول قائلًا: «اتصلتُ به هاتفيًّا. كنا كثيرين على الهاتف. قلنا: «سام، نريدك أن تصمِّم محرك وقود هيدروكربوني؛ إذ نريد أن نتوقف عن استخدام الكحول كوقود.» صُدِم سام، وكانت لديه أسباب وجيهة لذلك؛ إذ كان الوقود الهيدروكربوني عبارة عن مجموعة من العناصر المتعارضة التي لا يدري المرء حقًّا طبيعةَ الآثار التي ستنجم عنها. وشعر سام بالاستياء، وأخبرنا بذلك؛ فقلنا: «يجب أن تصمِّم هذا المحرك، نريد محركًا بقوة دفع ١٢٠ ألف رطل».»

«مرت أسابيع عديدة قبل أن يُدرَج الصاروخ «نافاهو» ضمن الميزانية، وأخبرنا سام أننا نقدِّر تمامًا ما قامت به شركة «نورث أمريكان» من جهودٍ في تطوير المحرك الذي بلغت قوة دفعه ٧٥ ألف رطل؛ لكنْ إذا لم تقبل شركته تطوير المحرك الهيدروكربوني الذي تصل قوة دفعه إلى ١٢٠ ألف رطل، فسنضطر إلى إسناد الأمر إلى شركة أخرى. ثم رضخ سام ووافَقَ مضطرًّا.» وفي يناير ١٩٥٣ أطلقَ برنامجًا باسم برنامج تطوير محركات الصواريخ، لحل المشكلات التي قد تنشأ عند التحوُّل من استخدام الكحول إلى الكيروسين كوقود في محرك «نافاهو».

كان وقود الكيروسين التقليدي المستخدَم في القوات الجوية هو الوقود النفاث؛ «جيه بي-٤»، إلا أن مواصفاته كانت تسمح بتنوع كبير في الكثافة، وهو ما كان سيؤدي إلى اختلافات غير مقبولة في وزن صاروخٍ مزوَّد بوقود، تجري فيه عمليةُ التزويد بالوقود وفقًا للحجم. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت عمليات الإطلاق التي أُجرِيت من منصات الاختبارات باستخدام الوقود «جيه بي-٤»، أن الوقود يمكن أن يتسبب في انسداد ممرات تبريد المحرك الرفيعة برواسب لزجة أو بالكربون؛ ممَّا يؤدي إلى إتلاف المحرك. ويرجع السبب في ذلك إلى المكونات الموجودة في الوقود التي لم تتسبَّب في أي مشكلات في المحركات النفاثة، لكنْ صار يتعيَّن الآن التخلص منها بعناية. وأثبتَ الوقود الناتج؛ «آر بي-١»، الخالي من الملوثات الذي يتميَّز بكثافته الثابتة، أنه وقود ذو مواصفاتٍ خاصة.

حقَّق محرك «أطلس» الذي جرى تطويره ضمن برنامج تطوير محركات الصواريخ، والذي استُخدِم في البداية ضمن محركات «نافاهو»، قوةَ دفع أكبر مما كان يريدها هول؛ حيث بلغت قوة دفعه ١٣٥ ألف رطل. وخلال السنوات القليلة التي أعقبت ذلك، صار هذا المحرك لا يُستخدَم فقط في الصاروخ «أطلس»، بل في معظم صواريخ الوقود السائل الأمريكية الكبيرة الأخرى. ولكن حتى ذلك الوقت، لم يكن الصاروخ «أطلس» النموذجَ الذي قد تتطلَّع القوات الجوية إلى شرائه.

وفقًا للتصميم الأصلي للمحرك عام ١٩٥١، فإنه يستطيع حمل رأس حربية زنة ٨٠٠٠ رطل. وخلال عام ١٩٥٢، قلَّصت القوات الجوية الوزن المتوقَّع إلى ٣٠٠٠ رطل، ومن ثَمَّ أدَّت إلى خفض الوزن المتوقع لهذا الصاروخ وتكلفته المحتمَلة على نحو مقبول. ولكنْ، ظلَّتْ هناك نقطةٌ عالقة، وهي دقة الصاروخ.

كان طيارو القاذفات المتمرسون في القوات الجوية يستطيعون إلقاء قنابل ذرِّيَّة على مسافة ١٥٠٠ قدم من هدف محدد، عند استخدام أجهزة تصويب قنابل رادارية جيدة لتوجيه ضربات ليلًا من ارتفاعات شاهقة، لإصابة أهداف أسفل منها مباشَرةً. وكان البنتاجون يرى أن الصاروخ «أطلس» يستطيع أيضًا إنجاز هذه المهمة طوال رحلته إلى موسكو، وكانت هذه الدقة تماثل ضرب كرة جولف مسافة ميل وإسقاطها في الحفرة تمامًا، دون أن تتدحرج أو تقفز. وكان من المفترض أن يؤدي «أطلس» تلك المهمة من خلال عملية تحكم آلي كاملة، ولكنْ لم يستطع «أطلس» تحقيقَ هذا المطلب، وإن لم يكن بالمعنى الكامل للكلمة؛ فقد كان الصاروخ «أطلس» يخطئ الهدف بمسافة أميال؛ ممَّا يجعله بلا جدوى كسلاح حقيقي.

في ١ نوفمبر ١٩٥٢، انفجرت القنبلة الهيدروجينية الأولى في جزيرة إنيوتوك في المحيط الهادئ، وقال أحد المراقبين: «كان الانفجار هائلًا؛ فقد بَدَا كما لو أنه يسدُّ الأفق بالكامل، وكنت أقف على مسافة ثلاثين ميلًا.» وأشار مصمِّم الأسلحة تيودور تايلور إلى الانفجار بأنه «انفجارٌ هائل وغاشِم للغاية، كما لو كانت جميع الأمور قد خرجت عن نطاق السيطرة. وبلغت الحرارة المراقبين، ظلَّتْ جاثمةً طويلًا، لا لثوانٍ بل لدقائق». وأسفر الانفجار عن شظايا زنة عشرة ميجا طن، مقارَنةً بثلاثة عشر كيلوطنًّا في هيروشيما؛ فقد تمخض هذا الانفجار العاصف في عام ١٩٤٥ عن كرة نار قُطْرها ثُلث ميل. أما في إنيوتوك، فقد اتسع قُطْرُ كرة النار كثيرًا وبسرعة هائلة للغاية؛ ممَّا أخاف المراقبين الذين كانوا يقفون على مسافة بعيدة، وصارت الكرة تتمدد حتى تجاوَزَ قُطْرها ثلاثة أميال. وأفضى الانفجار إلى طمس معالم جزيرة بأكملها، مخلِّفًا فوهة بعمق مائتَيْ قدم ويزيد عرضها عن ميل.

كانت هذه القنبلة أثقل وزنًا بكثير من أن تصلح سلاحًا، وفي غضون شهرين توصَّلَ مصمِّمَا أسلحة رائدَيْن، هما جون فون نيومان وإدوارد تلر، إلى إمكانية إنتاج قنابل هيدروجينية خفيفة الوزن. وفي أوساط ضباط القوات الجوية الواسعي الاطلاع، مثَّلَ هذا الرأي حلًّا فوريًّا لمشكلة التوجيه؛ فربما كان الصاروخ «أطلس» يخطئ هدفه، مسلحًا بهذه القنبلة الهيدروجينية، بمقدار عدة أميال، ولكنه لا يزال يدمر هدفه من خلال الأسلوب البسيط المتمثل في تدمير كل شيء بين الهدف ومكان سقوط القنبلة. ولكن، حتى يتطوَّر مشروع الصاروخ «أطلس» إلى برنامج كبير، كان المسئولون في حاجة إلى معلومات حول الحجم والوزن والقوة التفجيرية للقنابل الهيدروجينية التي كان إنجازها سيتحقَّق على الأرجح خلال الأعوام القليلة القادمة.

كان تيودور فون كارمان يرأس المجلس الاستشاري العلمي التابع للقوات الجوية، وشكَّلَ لجنةً لبحث هذه المسائل، وعيَّنَ نيومان — الذي كان أحد أهم الرياضيين في العالم — رئيسًا للجنة. كان فون نيومان هو الرجل الذي اخترع البرمجة الحاسوبية، وكان رائدًا في مجال إجراء العمليات الحسابية الصعبة اللازمة لصنع قنبلة البلاتينيوم الأولى، وكان أول مَن يستخدم أجهزةَ الكمبيوتر الأولى في إجراء العمليات الحسابية، ثم انتقل إلى معالجة العمليات الحسابية الشديدة التعقيد التي كانت القنبلة الهيدروجينية تتطلبها. وكان من بين زملائه في اللجنة مجموعةٌ من مصمِّمي القنابل المتميِّزين؛ أمثال: هانز بيته، وجورج كستياكوسكي، وإدوارد تيلر الذي كان قد اخترع القنبلة الهيدروجينية، ونوريس برادبري الذي كان وقتها مديرَ مختبر «لوس ألاموس» النووي.

اكتسب هذا العمل أهميةً جديدة في أغسطس ١٩٥٣، عندما فجَّرَ السوفييت قنبلتَهم الجديدة، الأمر الذي نتجت عنه شظايا انفجار بلغت أربعمائة كيلوطن. واعتمدت هذه القنبلة على تجارب الفيزيائي أندريه ساكاروف، الذي أثبَتَ كيف يمكن لكمية قليلة من المادة النووية الحرارية، المضمَّنة في قنبلة ذرِّيَّة، إطلاق كميةٍ هائلة من النيوترونات تعمل على تعزيز عملية الانفجار على نحوٍ بالغ، من خلال التسبُّب في انشطار المزيد من ذرات اليورانيوم أو البلوتونيوم. ونظرًا لأن اسم ساكاروف مشتق من «ساكار» (أيْ «سكر»)، أطلقَ زملاء ساكاروف على عملية الانشطار اسم عملية «التسكير» لأنها كانت تجعل قنابلهم أكثر قبولًا وملاءمةً.

درس العلماء الأمريكيون الغبارَ النووي الناتج من اختبار الانفجار النووي لهذه القنبلة، ونجحوا في تحديد آثار الانفجار، وفي إعادة بناء المكونات الرئيسية في تصميمها؛ وخلُصوا إلى أن القنبلة كانت بمنزلة تقدُّم هائل على القنابل السوفييتية السابقة، على الرغم من كونها ليست قنبلة هيدروجينية حقيقية. بالإضافة إلى ذلك، كانت استخبارات القوات الجوية قد علمت بشأن الدراسات السوفييتية في مجال الصواريخ البعيدة المدى. وبالنظر إلى هذين التطورين معًا، فإنهما كانا يشيران حتمًا إلى احتمال شروع موسكو في بناء صواريخها الكبيرة قريبًا.

كانت لجنة فون نيومان قد توصَّلَتْ مؤخرًا إلى أن الرءوس الحربية في الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الموجَّهة، التي تزن ٣٠٠٠ رطل، من شأنها أن تولِّد انفجارًا زنة ٥٠٠ كيلوطن. وفي سبتمبر، أضاف مركز الأسلحة الخاصة التابع للقوات الجوية تقريره الخاص، مؤكِّدًا على أن القنابل التي يتولَّد عنها هذا الأثر لن يزيد وزنها عن ١٥٠٠ رطل؛ ومن ثَمَّ، كان يمكن إنتاج الصاروخ «أطلس» بما لا يزيد عن ٢٤٠ ألف رطل، وهو ما يكاد يعادل تقريبًا ثلث الوزن المقترح في تصميم عام ١٩٥١.

كان هذا التطور إنجازًا كبيرًا، غيَّرَ من جميع التوقعات المستقبلية لعلم الصواريخ وللصواريخ الباليستية العابرة للقارات. وبالإضافة إلى ذلك، تحقَّق هذا الإنجاز في وقتٍ كانت فيه إدارةُ آيزنهاور المنتخَبة حديثًا تتبنَّى سياسةً دفاعية تُسمَّى «النظرة الجديدة»، التي كان من شأنها أن تعزِّز اعتمادَ البلاد على الأسلحة النووية. وعلى الرغم من ذلك، لم يفضِ احتمال إنتاج قنابل خفيفة الوزن وقوية إلى الموافَقة الفورية على إطلاق برنامج كبير جديد في مجال الصواريخ الاستراتيجية؛ إذ كانت سياسة النظرة الجديدة تسعى إلى خفض الميزانية وإلغاء البرامج القائمة إنْ أمكن، لا إلى إطلاق برامج جديدة. ولكن، كان من شأن هذا الاحتمال بالطبع أن يبرِّر النظرَ بعين جديدة إلى المشروعات الحالية في الدولة.

كان لدى قائد القوات الجوية هارولد تالبوت مساعدٌ خاصٌّ يُدعَى تريفور جاردنر، وكان يتولى مسئوليات واسعة في مجالَي البحث والتطوير؛ ونجح جاردنر في أن يصنع له اسمًا بوصفه مديرًا للمشروعات الفنية في إحدى الخدمات العسكرية التي برز معظم قادتها بوصفهم قادة عمليات في الحرب. وكان الصِّدَام الثقافي حتميًّا؛ حيث لم يرحِّب هؤلاء الجنرالات كثيرًا بفكرة تلقِّي أوامر من مدني حديث العهد بالشئون العسكرية. كذلك، لم تساعد شخصية جاردنر كثيرًا في إنجاح الأمر؛ إذ وصفه آخرون بأنه «ذكي، حادُّ الطبع، سريع الغضب، بارد المشاعر، ثقيل الظِّل، مشكوك في أصله». مع ذلك، فقد حظي جاردنر بدعم تالبوت القوي؛ وعلى الرغم من أن الجنرالات كانوا يفضِّلون القنابل، أراد جاردنر أن يمضي قُدمًا في تطوير الصواريخ.

مرةً أخرى، تبلور تأييده لهذه السياسة بصورة أساسية في تشكيل لجنة استعراض عليا، هي مجموعة تقييم الصواريخ الاستراتيجية، سمَّاها جاردنر لجنة «تي بوت». عيَّنَ جاردنر فون نيومان مرةً أخرى رئيسًا للَّجنة، وضمَّ إليها كستياكوسكي، ثم أضاف إليه مجموعة مدهشة من عناصر موهوبة من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا وشركة «هيوز إيركرافت» و«بيل لابس» ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وعلى حد قول جاردنر: «كان الهدف هو إعداد تقرير يبدو غاية في الإلحاح والأهمية بما لا يتيح مجالًا للاستخفاف به.» التقى أفراد المجموعة خلال خريف وشتاء عام ١٩٥٣ وعام ١٩٥٤، وركَّزوا بصفة أساسية على الصاروخين «نافاهو» و«أطلس». وعلى غرار لجنة الاستعراض التي شكَّلَها ديمتري أوستينوف، وكانت تباشِر أعمالها في موسكو في نفس الوقت تحديدًا؛ كانت لجنة «تي بوت» تبحث الفوائد المترتبة على اتخاذ خطوة جريئة نحو تصميم صاروخ باليستي عابر للقارات، آخِذةً في الاعتبار أن الصاروخ «كروز» الذي يعمل بالمحرك النفاث ذي الدفع الهوائي ربما يمثِّل بديلًا مقنعًا.

لم يكن جاردنر يشعر بحماس كبير تجاه الصاروخ «نافاهو»، لكنه كان متحمسًا تجاه الصاروخ «أطلس»، ودعم تقرير فون نيومان، الذي صدر في فبراير ١٩٥٤، وجهتَيِ النظر هاتين بقوةٍ. ومما زاد من القوة الإقناعية للتقرير اعتمادُه على بحوث مؤسسة راند، التي كان لتوصياتها ثقلٌ وأهمية.

في ذلك الوقت تحديدًا، في أوائل عام ١٩٥٤، لم يكن تصميم الصاروخ «نافاهو» قد اكتمل بعدُ، وكانت شركة «نورث أمريكان» تطوِّر محركات الصاروخ لتوفير الدفع المبدئي له، بينما كانت شركة «رايت إيرونوتيكال كوربوريشن» تبني النماذج التجريبية من المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي. وكان ثمة نظام توجيه أيضًا قيد التطوير للصاروخ «نافاهو». بالإضافة إلى ذلك، كانت شركة «نورث أمريكان» قد بنت طائرةً أخرى بلا طيَّار، هي الطائرة «إكس-١٠»، التي اعتمدت على المحركات التوربينية؛ وكان لدى الشركة الشكلُ التفصيلي للصاروخ «نافاهو» المُزمَع إنتاجه، وكانت ستجري اختبارات على الصاروخ لاختبار ديناميكا الهواء عند سرعات تفوق سرعة الصوت.

على الرغم من ذلك، ذكرت لجنة «تي بوت» أنه «لم يكن من المنتظر في ذلك الوقت أن يستفيد برنامج الصاروخ «نافاهو» من محاولة واسعة للإسراع من إيقاع العمل في البرنامج ككلٍّ». وأوصت اللجنة بأن تختار القواتُ الجوية شركةً أخرى لضمان توفير «محركات نفاثة ذات دفع هوائي بأداءٍ وكفاءةٍ ملائمَيْن»، ودعت إلى اتخاذ «قرار فوري» فيما يتعلَّق باختيار شركةٍ تتولَّى بناء «مكونات توجيه نافاهو المعقدة». وكان من المفترض أن يمضي الصاروخ «كروز» قدمًا، لكنه لم يكن ليدخل مرحلة تطوير جادة إلا في حال تراجُع أهمية الصاروخ «أطلس».

فيما يتعلق بالصاروخ «أطلس»، واجهت مجموعة فون نيومان مأزقًا؛ إذ كان من المفترض أن تتمكَّن اللجنة من التوصية بمواصلة العمل في البرنامج مباشَرةً، بدعوة شركة «كونفير» إلى بناء الصاروخ؛ ولكنْ، على الرغم من أن شركة «كونفير» كانت من كبرى الشركات العاملة في مجال بناء القاذفات، فقد كانت تنقصها الكفاءة اللازمة لتولِّي بناء صاروخ باليستي عابر للقارات، وكان ثمة مهندسون كثيرون في الشركة، لكنها كانت في حاجةٍ إلى مواهب علمية كالتي جلبها ويليام بولاي إلى «نورث أمريكان». وكانت أوجه المقارَنة بين الشركتين مُعبِّرة للغاية. وحتى في ظل توافُر هذه المواهب، كان الصاروخ «نافاهو» الذي كانت شركة «كونفير» تطوره متوافرًا فقط في صورة مكونات تجريبية، بينما بَدَتْ عمليةُ إطلاقِ نموذجٍ كامل إلى الفضاء مسألةً ستستغرق سنوات. ومع ذلك، كانت متطلبات الصاروخ «نافاهو» أبسط منذ البداية مقارَنةً بمتطلبات الصاروخ «أطلس»، وهو ما جعل القوات الجوية تسعى إلى تطويره. كيف إذن كانت ستنجح شركة «كونفير» الأقل كفاءةً من الناحية الفنية في بناء الصاروخ «أطلس» الأكثر تعقيدًا؟

لم يُخْفِ التقرير شيئًا: «في حين أن كثيرًا من الفضل يرجع إلى شركة «كونفير» بسبب تجاربها الرائدة، ثمة قناعة راسخة لدى اللجنة بضرورة إجراء عملية إعادة تنظيم جذرية للمشروع — وهو ما يتجاوز إطار عمل شركة «كونفير» — إذا كان الهدف هو الحصول على مركبة مفيدة للأغراض العسكرية خلال فترة زمنية معقولة.» طالَبَ التقرير بإجراء سلسلة جديدة من الدراسات التصميمية «تستند إلى العلم الأساسي على نحو ملائم»، كما طالَبَ التقرير أيضًا باختيار إدارة جديدة، واقترح أن تناط إليها مسئولية توجيه المشروع بالكامل. ووضع التقرير بعد ذلك مجموعةً من التوصيات المحددة: «ترى اللجنة أنه في الوقت الحالي لا يمكن تسريع إيقاع العمل في المشروع على نحوٍ فعَّال من خلال توفير مصادر تمويل ضخمة، والتجميد المبكر لعمليات التصميم، وتخطيط الإنتاج. ومع ذلك، تتوقَّع اللجنة أن المجموعة الجديدة المُشار إليها أعلاه ستصبح في غضون عامٍ واحد في وضْعٍ يُمكِّنها من تقديم توصية تفصيلية بوضع برنامج موسَّع مُعاد توجيهه، يتضمن جداول زمنية أكثر تقاربًا، وهو ما سيتطلب على الأرجح زيادة الدعم المالي وإيلاء المشروع أولويةً مرتفعةً.»6

استجابةً إلى الإنجاز الذي تحقَّق في تصميم الأسلحة النووية، أشار التقرير على وجه خاص إلى المسافات المسموح بها في إخطاء الهدف، أو بلغة القوات الجوية، احتمال الخطأ الدائري: «يجب تقليل قيمة احتمال الخطأ الدائري في المعدات العسكرية من الارتفاع الحالي (١٥٠٠ قدم) إلى ميلين، وربما ثلاثة أميال بحرية على الأقل.» وكان من المفترض بذلك أن تخلِّف الرأس الحربية في الصاروخ «أطلس» آثارًا انفجارية تصل إلى نصف ميجا طن.

منح تقرير لجنة «تي بوت» أساسًا لجاردنر لاتخاذ خطوات عملية، ولكي يمضي مشروع «أطلس» قدمًا، ويظفر بالأولوية اللازمة، كان يحتاج إلى دعم من رئاسة الأركان ومجلس الأمن القومي والرئيس؛ ولكنْ، في خضم الأحداث الأخيرة، صار من المحتمل التصديق على توصيات التقرير سريعًا والعمل في برنامج الصاروخ «أطلس» بأقصى سرعة.

في أبريل ١٩٥٠، بعد أشهر قليلة من اختبار أول قنبلة ذرِّيَّة سوفييتية، كانت وكالة الاستخبارات المركزية قد قدَّمَتْ تقريرًا مفاده أن مائتَيْ قنبلة ذرِّيَّة قادرة على هزيمة الولايات المتحدة في أي حرب، وأن موسكو ربما تمتلك هذا العدد من القنابل «في الوقت ما بين منتصف عام ١٩٥٤ ونهاية عام ١٩٥٥»؛ وهو ما جعل عام ١٩٥٤ عامًا خطِرًا. وفي مايو ١٩٥٠، أشار كيرتس لوماي، رئيس القيادة الجوية الاستراتيجية، إلى عام ١٩٥٤ باعتباره «العام الحاسم الذي يجب أن نكون مستعِدِّين فيه لمضاهاة القوة العسكرية الكاملة للاتحاد السوفييتي والرد عليها بفاعلية». وبالفعل، حلَّ العام الخطر على البلاد، وزادت القنبلة السوفييتية القوية التي جرى اختبارها بنجاحٍ في أغسطس ١٩٥٣ من خطورة التحذير من عام ١٩٥٣.

كان ثمة خطر إضافي يتمثَّل في تطوير الصواريخ؛ ففي مارس ١٩٥٣، انطلق للمرة الأولى الصاروخ «آر-٥»، الذي بلغ مداه الأوَّليُّ ألفَ كيلومتر. ونصَّتْ مسوَّدةُ تقريرِ لجنة «تي بوت» — مشيرةً إلى أن «المعلومات الاستخبارية جرى تقديمها إلى اللجنة» — على أن «معظم الأعضاء يعتقدون أن الروس ربما يسبقوننا كثيرًا في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات». وكان الروس يبنون أيضًا قاذفات جديدة؛ فقد انطلق نموذج «بيزون»، الذي يعمل باستخدام محرك نفاث، في رحلته الأولى في يناير ١٩٥٣. وبالإضافة إلى ذلك، كان أندريه تبوليف قد ظفَرَ بموافَقة ستالين على بناء أسطولٍ من القاذفات «تي يو-٩٥» ذات المحركات التوربينية، التي يكفي مداها لتوجيه ضربة إلى الولايات المتحدة.

حذَّرَ تقريرٌ لوكالة الاستخبارات المركزية في منتصف عام ١٩٥٣ من أن «الولايات المتحدة تخسر، إن لم تكن قد خسرت بالفعل، حصانتَها المتواجِدة منذ حينٍ، في هجومٍ يشلُّ قدراتها، وتخسر معه ميزتها الاستراتيجية الهائلة في قدرتها على إجراء عملياتِ نشْرِ القوات الواسعة النطاق والمدبَّرة عادةً، التي أجرتها بعدَ يومِ بدء العملية». وأضاف تقرير متابعة، في فبراير ١٩٥٤، أن السوفييت قد يتمكَّنون في غضون ثلاث سنوات من نشر خمسمائة قاذفة «تي يو-٩٥»؛ ومن ثَمَّ، إذا قامت الحرب، فمن المنتظر أن تحارب أمريكا بأسلحة متوافرة فعليًّا.

عند مراجعة قرارات السياسة في ذلك الوقت، يجد المرء مواقفَ كارثيةً تتعارض مع المنطق الحديث كثيرًا؛ على سبيل المثال: عند إعداد تقرير مجلس الأمن القومي الصادر عام ١٩٥٠، الذي صار يُعرَف باسم «إن إس سي-٦٨»، كان المستشار الرئاسي بول نيتشه قد كتب أن نظام ستالين «يُحرِّكه اعتقادٌ أخرق جديد، يتعارض مع اعتقادنا، ويسعى إلى فرض سلطته المطلقة على بقية دول العالم». وفي إطار مطالَبته بتطوير «سريع ومستدام للقوة السياسية والاقتصادية والعسكرية للعالم الحر»، أكَّدَ نيتشه على أن «اعتبارات الميزانية يجب أن تَلِي في أهميتها الحقيقةَ الجلية التي تتمثَّل في أن استقلالنا كأمةٍ ربما يكون معرَّضًا للخطر».7

لم يكن هذا خطابًا للسيناتور جو ماكارثي، بل كان وثيقةً توجيهيةً رصينة أُعِدَّت بناءً على طلب الرئيس. وبالمثل، في مذكرة لآيزنهاور بعنوان «سياسة الأمن القومي الأساسية» (إن إس سي-١٦٢ / ٦)، نصَّ مخطِّطو سياسة النظرة الجديدة بوضوح على أنه «في حالة وقوع اعتداءات، ستبحث الولايات المتحدة مسألة توفير الأسلحة النووية لاستخدامها مثل الأسلحة الأخرى». وتحدَّثَ وزيرُ الخارجية جون فوستر دالاس، مخاطبًا مجلس العلاقات الخارجية في أوائل عام ١٩٥٤، عن هذه السياسة باعتبارها تمثِّل «قوةً انتقامية كاسحة»، تستطيع أمريكا من خلالها «الردَّ بقوةٍ في الأماكن وبالطرق التي تختارها».

ثمة ما يدفعنا إلى النظر إلى هذه العبارات باعتبارها تعكس ذعْرَ رجالٍ خائفين يخلطون في سرعة بالغة بين ستالين الانتهازي إلى حدٍّ لا يعرف الرحمة، وبين هتلر العدواني إلى حد التهوُّر. لكننا نتبنَّى هذه الرؤية من منطلق مرور ثلاثين عامًا على التعايش أعقبَتْ أزمةَ الصواريخ الكوبية في عام ١٩٦٢؛ عقود تفادى خلالها قادة القوتين العظميين الوعيدَ والتهديدَ، بينما أحجمَتْ كلٌّ منهما عن تحدِّي المصالح الرئيسية للأخرى. وكان على صانعي السياسات في خمسينيات القرن العشرين بحث قدراتِ موسكو، بغضِّ النظر عن نواياها المعلَنة، وكانوا يعرفون أن الحرب الباردة قد خرجت عن إطار سوء الفهم الدبلوماسي. وعاش صانعو السياسات في ظل القناعة المذهلة بأنهم إذا أخطئوا، فقد تُقوَّض أسسُ الأمة.

بشَّرَ نجاح الأمريكيين في تصميم قنبلة هيدروجينية بإمكانية وضْعِ نظامِ ردعٍ فعَّال، وهو ما بدا واضحًا على نحو كبير خلال شهرَيْ مارس وأبريل من عام ١٩٥٤؛ إذ انفجرت عدة أنواع مختلفة من القنابل في بيكيني في جزر مارشال. وكان الاختبار الذي تم في عام ١٩٥٢، باسم مايك، قد استخدم ديوتريوم مُسَالًا، كان أكثر برودةً بكثير من الأكسجين المسَال وأكثر صعوبةً في تناوله؛ وقد استخدمه مصمِّمو الاختبارات لأنه ساهَمَ في تبسيط فيزياء الأسلحة. وصارت القنابل الجديدة تستخدم ليثيوم الدِّتَريد، وهو مسحوق جاف يشبه الملح، يمكن تخزينه لفترات غير محدودة.

تم تفجير أول قنبلة تجريبية، وهي قنبلة «برافو»، في ١ مارس ١٩٥٤؛ وكانت قد صُمِّمت بحيث تخلِّف آثارَ تفجيرٍ زنة ٥ ميجا طن، لكنَّ الباحثين في لوس ألاموس كانوا قد أخفقوا في اكتشاف تفاعل نووي رئيسي في الليثيوم كان من شأنه أن يزيد من القدرة التفجيرية للقنبلة؛ ومن ثَمَّ خرجت «برافو» عن السيطرة، وأسفرت عن آثار تفجيرية زنة خمسة عشر ميجا طنًّا؛ أيْ أكثر حتى من الآثار التفجيرية التي خلَّفَها اختبار مايك. كما خرج سلاح مشابِه آخَر، وهو «روميو»، عن السيطرة للسبب نفسه، وبلغت آثاره التفجيرية أحد عشر ميجا طنًّا. وأشار هذا التفاعل غير المتوقَّع وقتَها إلى أن الرءوس الحربية المستقبلية يمكن أن تكون أصغر بكثير من المتوقَّع، وهو ما يقلِّص من الدقة المطلوبة في الصاروخ «أطلس»، ويجعله أكثر جاذبيةً. وأظهرت عملية تفجير تجريبية أخرى في بيكيني، من خلال قنبلة «نكتار»، أن إنتاج قنبلة خفيفة الوزن مسألةٌ غير بعيدة المنال؛ حيث لم تكن هذه القنبلة تزن إلا ٦٥٢٠ رطلًا، ولكنها مع ذلك خلَّفَتْ آثارًا تفجيرية بلغت ١٫٦٩ ميجا طن.

كان من بين مناصري الصاروخ «أطلس» — إلى جانب جاردنر وتالبوت — الجنرال توماس وايت نائب رئيس الأركان، ودونالد كوارلس مساعد وزير الدفاع للبحث والتطوير. وجديرٌ بالذكر أن كوارلس كان قد انضمَّ إلى البنتاجون قادمًا من «بيل لابس»، وكانت خلفيته تشبه خلفية جاردنر؛ ومن ثَمَّ، كان هو وتالبوت في وضعٍ يسمح لهما بالظفر بدعم وزير الدفاع، تشارلز ويلسون، الذي سيسعى فيما بعدُ إلى الحصول على موافقة من مجلس الأمن القومي. وفي تلك الأثناء، حصل جاردنر ووايت على الموافقات اللازمة من جنرالات القوات الجوية، ومن هؤلاء ناثان تويننج، رئيس هيئة أركان القوات الجوية وعضو هيئة الأركان المشتركة.

ألقى وايت بالكرة في ملعب هيئة أركان القوات الجوية، التي كانت مسئولةً عن إصدار توصيات بالموافقة على البرامج الجديدة. وعلى حد تعبير أحد المراقبين، أخبر وايت أعضاءَ هيئة الأركان أن «الصواريخ الباليستية ستظل موجودةً لفترة طويلة، ومن الأفضل بالنسبة إلى الهيئة إدراكُ هذه الحقيقة والتعامل معها». وفي ١٤ مايو، بعد الحصول على موافَقةٍ من وزير الدفاع ويلسون، أعطى وايت الصاروخ «أطلس ١-إيه» الأولوية القصوى لدى البنتاجون، وأصدر أمرًا بتسريع الجدول الزمني للبرنامج «إلى أقصى مدًى تسمح به التكنولوجيا». وصرَّحَ جاردنر، الذي كان تالبوت قد جعله ممثِّله المباشِر في التعامُل مع الأمور المتعلقة بالصاروخ «أطلس»، قائلًا: عنى ذلك ضرورة «بذل أقصى مجهود ممكن دون وضع حدود للتمويل».

لكنْ، إذا لم تستطع «كونفير» إدارةَ هذا البرنامج، فمَن هي الشركة التي ستتولاه إذن؟ كان تقرير لجنة «تي بوت» قد طالَبَ بتأسيس «هيئة تنمية إدارية» تضع «عملية التوجيه الفني الكلية في أيدي مجموعةٍ من العلماء والمهندسين أصحاب الكفاءات الاستثنائية؛ ممَّن يستطيعون وضْعَ نُظُم تحليلية، والإشراف على المراحل البحثية، والتحكُّم بصورة كاملة في المراحل التجريبية وتوريد المعدات في البرنامج». وكان مشروع «مانهاتن» قد بنى بالفعل مركزًا للريادة الفنية في لوس ألاموس، وأراد جاردنر تأسيسَ مركز مماثِل لمشروع الصاروخ «أطلس».

كان ينقص مركز التطوير التابع للقوات الجوية؛ قاعدة «رايت-باترسون» الجوية، الكفاءات اللازمة. وكانت المشكلة الأولى تتمثَّل في التجهيزات الإلكترونية، وربما كانت «بيل لابس» أو «آر سي إيه» أو «آي بي إم» ملائِمةً لتوفير تلك التجهيزات. ولكنْ كان من المتوقَّع أن يرغب رؤساء هذه الشركات في التنافُس للحصول على عقودِ مشروعِ الصاروخ «أطلس»؛ ممَّا يعرِّضهم إلى شكلٍ من تضارُب المصالح، إذا كانوا سيتولَّوْن أيضًا إدارةَ مشروعِ الصاروخ «أطلس» ككلٍّ. وهو تضارُب ربما ينشأ من الإغراء المتمثِّل في اتخاذ قرارات على مستوى البرنامج، بطرق قد تؤدِّي إلى توفير فرص أعمال أكثر لصالح الشركة الأم.

واصَلَ جاردنر بناءَ مركزٍ على غرار مركز «لوس ألاموس» من خلال الاستعانة بجهود اثنين من أعضاء لجنة «تي بوت»، هما سايمون رامو ودين وولدريدج. كان هذان العالِمان قد صنعا اسميهما في شركة «هيوز إيركرافت» من خلال قيادة القوات الجوية نحو مجالٍ جديدٍ من الإلكترونيات، عن طريق بناء نُظُم رادارية للتحكُّم في الإطلاق، صارت تجهيزاتٍ ثابتةً في الطائرات الاعتراضية الأولى في تاريخ البلاد. وشرع العالِمان في بناء نظام توجيه إلكتروني، مترجمين نجاحَ النظام إلى عقدٍ مع شركة «فالكون» لصناعة صواريخ جو جو. ثم في عام ١٩٥٠، حقَّقَا نجاحًا ساحقًا بالتغلُّب على نحو عشرين شركة متنافسة في الفوز بعقد كبير لتصميم نظام ملاحة وتحكُّم في الإطلاق، وهو النظام الذي كان من المنتظر أن يُستخدَم في مقاتلات «إف-١٠٢» التي تفوق سرعتها سرعة الصوت؛ وأشارت مجلة «فورتشن» إلى أن هذا العقد منح شركة «هيوز» «احتكارًا حقيقيًّا لتوفير متطلبات القوات الجوية من الأجهزة الإلكترونية المتطورة».

لكن، لم تكن شركة «هيوز إيركرافت» إلا امتدادًا لهوارد هيوز، مالكها الذي صار غريب الأطوار على نحوٍ متزايد؛ وكان يتخذ قرارات تنفيذية غير سليمة أو لا يتخذ أيَّ قرارات على الإطلاق، وكان يختفي مدة أسابيع متتالية ويترك الأمور تتداعى؛ وعندما يعاوِد الظهور، كان يستمر في تجاهل الأمور العاجلة بينما كان ينغمس في أمور تافهة مثل مبيعات قِطَع الحلوى في ماكينات بيع الحلوى التي تملكها الشركة. وكان مساعده المؤتمَن، نواه ديتريش — الذي شغل الفراغ التنفيذي الذي خلَّفه هيوز — شخصًا مبتذلًا متطفلًا. وكانت ثمة عمليةُ شراءٍ من الممكن أن تُحدِث تجديدًا حقيقيًّا في قيادة الشركة، وتلقَّى هوارد هيوز عرضًا مغريًا من شركة «لوكهيد»، لكنه تعهَّدَ بألَّا يبيع الشركةَ على الإطلاق. وكان رامو وولدريدج يشغلان منصبَ نائب رئيس بالشركة، لكنْ فاضَ بهما الكيلُ فاستقالا.

أنشأ رامو وولدريدج شركةً جديدة في مكتبٍ من غرفة واحدة صار محلَّ حلاقة لاحقًا، وكان المكتب يحتوي على مائدة وهاتف وآلة كاتبة مستأجرة وسكرتيرة؛ ثم سرعان ما حصلَا على دعمٍ ماليٍّ من شركة «طومسون بروداكتس»، وهي شركة كائنة في كليفلاند مختصة في قطع غيار السيارات وكانت تسعى إلى تنويع محفظتها الاستثمارية. بالإضافة إلى ذلك، كان تريفور جاردنر يعرف رامو منذ عام ١٩٣٨، عندما كانا يعيشان في شقة واحدة أثناء فترة عملهما في شركة «جنرال إلكتريك»، وأشادَ كثيرًا بالإنجازات التي حقَّقَها هو وولدريدج في شركة «هيوز». وفي غضون أيام من بدء أعمال الشركة، وقَّعَتْ شركة «رامو وولدريدج كوربوريشن» عقدًا لتوفير الدعم الفني للجنة «تي بوت»، ثم سرعان ما حقَّقَتِ الشركةُ أرباحًا بصورة مفاجئة.

استغرق الأمر سنوات عديدة قبل أن تندمج الشركة رسميًّا مع شركة «طومسون» وتُنشئ شركة «تي آر دبليو». ولكن، بدعم من جاردنر، سارت شركةُ «رامو وولدريدج» في مسارِ نموٍّ سريع. وبالإضافة إلى ذلك، اجتذبت الشركة مجموعةً من المديرين الموهوبين الذين تفوَّقوا بعد ذلك على المديرين في شركة ويليام بولاي في توفير احتياطي من القيادات المستقبلية؛ وانضمَّ إليهم جيمس فلتشر، الذي كان زميلًا لهم في «هيوز» وصار مدير وكالة ناسا فيما بعدُ؛ كما رحل لويس دان، مدير مختبر الدفع النفاث، عن المختبر لينضمَّ إليهم. وشملت قائمة المنضمين إلى الشركة ريتشارد ديلاور الذي صار وكيل وزارة الدفاع، وجورج مولر الذي أدار برنامج «أبولُّو» المأهول للهبوط على سطح القمر، وروبن متلر الذي أشرف في النهاية على جميع برامج الدفاع والفضاء في شركة «تي آر دبليو»، وألبرت ويلان الذي صار لاحقًا رئيس مجلس إدارة شركة «هيوز إيركرافت» المعاد تنظيمها.

صارت شركة «آر-دبليو» مصدرًا لتوفير الموظفين الفنيين إلى مكتب المشروعات التابع للقوات الجوية الذي صار يُشرف على تطوير صاروخ «أطلس»، وصارت تقدِّم أيضًا توجيهًا فنيًّا للشركات القائمة على برامج التطوير المختلفة، بما في ذلك شركة «كونفير» التي صارت تبني هذه الصواريخ تحت إشراف دقيق. وبحلول عام ١٩٥٧، صارت شركة «آر-دبليو» تنسِّق أعمال ٢٢٠ شركة من الشركات التي تقدِّم هذه الخدمات؛ وكان هذا دليلًا واضحًا على أن مشروع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات كان حقًّا مشروعًا صعبًا للغاية يتجاوز قدرات أيِّ شركةِ طائرات، حتى في ظل التمويل الوفير من البنتاجون. وتطلَّبَ مشروعُ إنتاجِ الصواريخ الباليستية العابرة للقارات حشْدَ جانبٍ كبير من قدرات صناعة الطيران والإلكترونيات في أمريكا.

مع تطوُّر أعمال شركة «آر-دبليو» خلال عام ١٩٥٤، تطوَّرت أيضًا إدارة القوات الجوية؛ فقد اقترح جاردنر أن يقود جنرال كبيرٌ جهودَ التطوير، لكن جيمس ماكورماك — وهو الرجل الذي كان يفكر فيه لتكليفه بهذه المهمة — كان يعاني من نوبة قلبية، ثم سرعان ما تقاعَدَ من الخدمة؛ فانتقلت المهمة بدلًا من ذلك إلى نائبه، العميد برنارد شريفر، الذي كان يحمل نجمةً واحدة، وتولَّى مسئوليةَ هذا المشروع ذي الأولوية القصوى، وبدأ في إرسال التقارير إلى الجنرال وايت، الذي كان يحمل أربعَ نجوم وكان ملاصقًا لرئيس الأركان.

كان شريفر قد انضمَّ إلى السلاح الجوي التابع للجيش كقائد طائرة قاذفة خلال ثلاثينيات القرن العشرين؛ ونظرًا لهذه الخبرة بالإضافة إلى درجةٍ في الهندسة من جامعة «تكساس إيه آند إم»، ظفَرَ بمنصب في «رايت فيلد»، الذي سرعان ما صار مركزَ تطويرٍ مشهورًا. وأرسلت القوات الجوية شريفر إلى ستانفورد، حيث حصل على ماجستير في الهندسة الميكانيكية في عام ١٩٤٢، وقضى فترة الحرب في منطقة المحيط الهادئ؛ حيث كان يقود طائرات قاذفة طراز «بي-١٧» في مهمات قتالية، لكن دراساته في مجال الهندسة أهَّلَتْه للحصول على مقعد في البنتاجون؛ حيث تمكَّنَ من إقامة علاقات بين القوات الجوية والمجتمع العلمي.

سرعان ما جذبت الصواريخ اهتمامَ شريفر بعد الحرب، وحلَّتْ لحظةٌ فارقة في أبريل ١٩٥٣، عندما أخبره إدوارد تيلر وجون فون نيومان رسميًّا بأن صنع قنابل هيدروجينية خفيفة الوزن صار أمرًا ممكنًا. وانضمَّ بعد ذلك إلى الجنرال وايت للمشيرين على فون كارمان بعقد اللجنة المنبثقة عن المجلس الاستشاري العلمي، التي وضعت الخطوط العريضة للإنجاز الذي تحقَّقَ في مجال الطاقة الحرارية النووية. وكان من بين كلماته المفضَّلة هذه الكلمات الثلاث: «العمل»، «الديناميكية»، «القدرة». وقال ذات مرة: «أكره أن أُقرَّ بالهزيمة في أيِّ شيء.» كما لو كان ذلك أمرًا طبيعيًّا تمامًا. وجاء بطريقة غير مباشرة لتولِّي مسئولية مشروع «أطلس»، فيما قال جنرال آخَر: «لم نعيِّنه؛ بل كان هذا مكانَ بِيني الطبيعي. لم نكن نعرف أي شخص آخَر يستطيع تولِّي الأمر؛ لذا لم يكن أمامنا إلا أن وافقنا وجاء بِيني وتولَّى المسئولية.»

في منتصف عام ١٩٥٤ ذهب إلى لوس أنجلوس لإقامة مكتب مشروعات خاص به، سمَّاه قسم التطوير الغربي، وكان من المقصود أن يكون اسمًا غامضًا. وأُقِيم المكتب في موقع مدرسة دينية سابقة في إنجلوود، بالقرب من شركة «آر-دبليو»، وكان موظفوه من القوات الجوية، إلا أنهم كانوا يرتدون ملابس مدنية لتفادي لفت الأنظار. وكانت إحدى مهامه الأساسية تتمثَّل في اختيار الشركات المتعاقدة، وهو أمرٌ سيثبت فيه شريفر أنه مثل سيرجي كوروليف من حيث التشبُّث برأيه حتى في وجه كبار المسئولين.

كان هذا المسئول هو هارولد تالبوت، قائد القوات الجوية، أحدُ المعيَّنِين من قِبَل الرئيس، ومدنيٌّ تخطَّى جميع الجنرالات. وكان شريفر قد منح أحد العقود لشركة معينة، ونجحت إحدى الشركات المنافسة الخاسِرة في إقناع تالبوت بتغيير القرار ومنح العقد لها بدلًا من ذلك. ولسوء الحظ، رأى رامو وشريفر أن الشركة لم تكن تتمتع إلا بكفاءة محدودة؛ ومع ذلك، التقى تالبوت بهذين الرجلين، داعيًا جاردنر إلى الاجتماع، وأخبر شريفر عمَّا كان يريد.

رفض شريفر، ودعمه في ذلك رامو وجاردنر؛ ومثلما يتذكَّر رامو: «نظر تالبوت بامتعاض، ثم ثارت ثائرته. كان من المخيف أن تراه يفقد صوابه ويستشيط غضبًا إلى هذا الحد، فقد صاح في وجه شريفر — وقد ارتسمت على وجهه نظرة قبيحة — قائلًا: «قبل أن ينتهي هذا الاجتماع، أيُّها الجنرال، سيكون ثمة كولونيل جديد في القوات الجوية».»

ظل شريفر هادئًا، وأجاب: «لا يمكنني قبول هذا الأمر؛ لأن لديَّ أمرًا سابقًا وأهمَّ. وعندما كُلِّفتُ بهذه المهمة، وُجِّهت إليَّ الأوامرُ بإدارة هذا البرنامج بحيث يتوافر في أقرب وقتٍ ممكن صاروخٌ باليستي عابر للقارات.» ثم سأل إن كان تالبوت يمانع في إصدار أمر جديد، يكون كتابيًّا، لخفض أولوية التوجيه السابق.

يواصِل رامو متذكرًا: «اختفت الحُمرة من وجه تالبوت، ثم شحبَ وجهه. لم يتفوَّه بأي تعليق وبدأ يحدِّق في المائدة، وهو ينقر عليها بعنف بواسطة قلم رصاص، ويحاول أن يستجمع شتات نفسه. وفي لحظات قليلة، عاد وجهه إلى طبيعته؛ وبكلماتٍ مقتضبة للغاية قال إن قرار إرساء العقد سيظل كما هو. وبذلك، يكون شريفر قد نجح في اختبار مهم؛ لو استسلم، لَكان سيحتفظ بوظيفته لكنه كان سيفقد السيطرةَ على المشروع؛ وصار الآن مسيطرًا على المشروع سيطرةً كاملة.»8 وهكذا، فقد احتفظ بوظيفته ورُتبته أيضًا.

كان شريفر يحتاج إلى هذا العناد لمواجهة التحديات الفنية، التي لم تكن مسبوقة في شدتها. وكانت عملية التوجيه غاية في الصعوبة؛ ففي أكتوبر ١٩٥٤ توقَّعَتْ هيئةُ الطاقة الذَّرِّيَّة أن القنابل التي تزن ما بين ١٥٠٠ و١٧٠٠ رطل قد تُخلِّف آثارًا انفجارية تصل إلى ميجا طن كامل؛ ونجح «أطلس» بذلك في تقليص شرط مسافة إخطاء الهدف لتصل إلى خمسة أميال بحرية. ولكن إذا كان الصاروخ «أطلس» سيستخدم تكنولوجيا «في-٢» في عملية التوجيه، فسيخطئ «أطلس» في إصابة موسكو بمقدار ١٥٠ ميلًا، وهو ما كان أسوأ خمسمائة مرة من خطأ إصابة قاذفة مقداره ١٥٠٠ قدم.

كان من الممكن أن يقل هذا الفرق الهائل في مستوى الدقة المطلوبة قليلًا، إذا كان تقرير لجنة «تي بوت» قد خفَّفَ من صرامة شرط مسافة إخطاء الهدف ليصبح ٣٠٠٠ أو ٤٠٠٠ قدم بدلًا من ١٥٠٠ قدم؛ إذ يتساوى كلا الهدفين، مسافة ١٥٠٠ قدم ومسافة ٤٠٠٠ قدم، في كونهما غير قابلين للتحقيق، وهو ما كان سيُؤجِّل تنفيذ مشروع الصاروخ «أطلس» لسنوات طويلة قادمة. وبَدَا أن هدف خمسة أميال قدم أكثر قابليةً للتحقيق، وهو ما منح المصمِّمين هدفًا جديرًا بالسعي إلى تحقيقه. ومع ذلك، في عام ١٩٥٤ كان هذا الهدف يشكِّل موضوعًا للبحث أكثر من كونه هدفًا يستطيع أي شخص تحقيقه.

لماذا لم تكن عملية التوجيه دقيقة؟ اعتمدت عملية التوجيه على بوصلات التوجيه الجيروسكوبية، التي كانت تتضمن عجلة تدور بسرعةٍ وزنها عدة أرطال، وكان يتعيَّن أن تكون حركةُ الأجزاء المكوِّنة للعجلة على نفس المستوى من السرعة، وكانت هذه الأجزاء تنقل قوى الحركة إلى العجلة؛ ممَّا يجعلها تنحرف عن اتجاهها الصحيح. وللتخلص من هذه القوى، كان لا بد من البحث عن طريقةٍ لتركيب عجلة بوصلة جيروسكوبية باستخدام تروس بينية دقيقة، كالتروس الموجودة في ساعة المِعصم؛ وقد تولَّى تشارلز ستارك درابر، أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، هذا الأمرَ.

أحاط درابر بَوصلة التوجيه الجيروسكوبية الثقيلة بعبوةٍ، وجعل هذه العبوة المحكمة الغلق تطفو داخل سائل سميك القوام، وكانت البوصلة موضوعةً داخل العبوة على حامل متحرك حال دون انحرافها عن مسارها. كان من الممكن أن يحوِّل هذا الأمر البوصلةَ إلى أداةٍ معدومةِ الفائدة، غير أن السائل جعل العبوة تطفو، ومن ثَمَّ تدعم وزن البوصلة؛ ومن ثم استطاعَتِ البوصلة الدورانَ على محامل رفيعة، لا تحملها، وكانت غايةً في الحساسية.

كان درابر قد استخدم هذه البوصلات الجيروسكوبية الطافية أثناء الحرب، في نظام ثابت للتحكم في الإطلاق. ولتحقيق متطلبات الدقة اللازمة في الصاروخ «أطلس»، كان عليه أن يتخلَّص من جميع مصادر الخطأ بعناية؛ وكان يتعيَّن تسخين السائل، بحيث يتمدد قليلًا ويصبح أقلَّ قابليةً للطفو، لتقليص وزن العبوة المُحمَّل على التروس إلى صفر. وبالإضافة إلى ذلك، تطلَّبَتِ البوصلات المناسبة إيلاءَ قدرٍ أكبر من الاهتمام لعملية التخلُّص من الغبار.

نشرت مجلة «تايم»، مشيرةً إلى مصنع صواريخ «فالكون»، قائلةً: «لا يُسمَح بوجود أي ذرة غبار؛ فالهواء يتجدَّد عن طريق مراوح وفلاتر كلَّ تسع دقائق، ويُراعَى الحفاظ على ضغط هواءٍ إيجابي داخل المبنى بحيث يصدر أيُّ تسرُّب هوائي إلى الخارج، لا إلى الداخل. ولا يُسمَح للمهندسين في غرفة التصميمات بتمزيق ورق أو استخدام ممحاة (فكلاهما يُصدِر غبارًا)، ويتعيَّن على جميع الموظفين ارتداء معاطف من النايلون».9 ولم يكن يُسمَح للنساء بوضع أي مساحيق أثناء العمل، وكان يتعيَّن على الأشخاص الذين يعانون من حروق شمسية مصحوبة بتقشُّر في الجلد البقاء خارج الغرفة النظيفة.

بالإضافة إلى ذلك، كان أي نظام توجيه في حاجة إلى كمبيوتر، لتلقِّي الإشارات من وحدات بوصلة التوجيه وتحويلها إلى قياسات دقيقة للمَوْضع والسرعة. وكان أي كمبيوتر تناظري سَيَفِي بالغرض، من خلال معالجة الإشارات مباشَرةً؛ إذ كان يمكن تفادي استخدام كمبيوتر رقمي، وهو أمرٌ كان يحتاج في عام ١٩٥٤ إلى كمية كبيرة من دوائر الأنابيب المفرغة. ومع ذلك، ظلَّ السؤال هو: هل يجب بقاء الكمبيوتر على الأرض أم يتعيَّن وَضْعه على متن مَرْكبة؟

كان وضع جهاز الكمبيوتر في قاعدة أرضية يعني أنه سيظل ثقيلَ الوزن ودقيقًا، بمنأًى عن الاهتزازات والضوضاء الهائلة التي تحدث في الصاروخ. ولكن، كان من المفترض أن يتبادل الكمبيوتر البيانات مع الصاروخ أثناء تحليقه باستخدام حلقة اتصال لاسلكية، وهو ما كان يتطلَّب ما وصفه شريفر بأنه «محطة أرضية هائلة عرضة للهجوم». أما وضع جهاز الكمبيوتر على متن الصاروخ، فكان يتطلَّب أن يكون خفيفَ الوزن ومتينًا، وهو ما لن يجعل ثمة حاجة إلى حلقة اتصالٍ لاسلكية ومحطة أرضية؛ ممَّا سيوفر في الواقع نظامَ توجيهٍ قائمًا بذاته، غير معرَّض للتعطُّل أو الانقطاع.

وفَّرَ نظامُ التوجيه اللاسلكي نظامًا مؤقتًا؛ حيث كان أسهل في إنشائه. إلا أن درابر أيَّدَ بقوة الاعتمادَ على الأسلوب الثاني، وهو التوجيه بالقصور الذاتي، وأعارته القوات الجوية قاذفة طراز «بي-٢٩». وفي عام ١٩٤٩ بدأ في إجراء عمليات إطلاق تجريبية من قاعدةٍ قُرْبَ بوسطن، وكان طاقم الإطلاق يقف على مقربة بينما كانت الأجهزة تُجرِي عمليةَ التوجيه. وأظهرَتْ رحلاتُ الطيران التي أُجرِيت لمسافة ١٨٠٠ ميل، خلال عام ١٩٥٥، أخطاءً طفيفة في إصابة الهدف بما لا يزيد عن ميلين. وكان وزن الأجهزة على متن الصواريخ ٢٧٠٠ رطل، لكنها أثبتَتْ إلى حدٍّ كبير ما يمكن تنفيذه. بالإضافة إلى ذلك، استغلَّ درابر كونه أستاذًا جامعيًّا في تكوين «مافيا توجيه» من طلابه السابقين، الذين اتفقوا على أن أسلوبه هو الأفضل، وارتقى كثيرون من هؤلاء الطلاب إلى مناصب عليا ومؤثِّرة، وكان من بينهم الضابط المسئول عن التوجيه لدى شريفر؛ المقدِّم بول بلاسنجيم.

كانت عملية التوجيه تمثِّل مشكلة رئيسية، وكانت ثمة مشكلة أخرى تتمثَّل في معاوَدة الولوج إلى المجال الجوي؛ إذ كان من المفترض أن تدخل الرأس الحربية المجال الجوي بسرعة ١٦ ألف ميل في الساعة، عقب رحلتها الباليستية، وكان يجب أن تحافظ على مسارها لبلوغ هدفها دون أن تحترق عن آخِرها مثل النيزك. وفي وقتٍ مبكر يعود إلى عام ١٩٥٣، أثبَتَ خبيران في مجال ديناميكا الهواء — هما جوليان ألين وألفريد إجرز — من خلال الرياضيات أن المقدِّمة المخروطية للصاروخ يمكن أن تتفادى الاحتراق الكامل إذا كان تصميمُها غير مستدق الطرف. وكان هذا الاكتشاف مفاجئًا؛ إذ كانت ثمة رؤية شائعة في ذلك الوقت تنادي بأن تكون التصميمات المخروطية لمقدمات الصواريخ مستدقة الطرف للغاية، بما يشبه الأشكال الإبرية الدقيقة الرأس للمقاتلات النفاثة الحديثة. ولكن، لم تكن ثمة حاجة إلى الشكل المستدق الطرف في الرأس الحربية؛ حيث لم تكن في حاجةٍ إلا إلى درع حراري، ومن خلال هذا الدرع كان الصاروخ سيعاوِد الولوج إلى المجال الجوي مخترقًا إياه بسلاسةٍ مثلما يسير قطارُ بضائع على قضبان حديدية، وسيعمل الهواء المضغوط الذي يتجمَّع أمام مقدمة الصاروخ غير المستدقة الطرف، كغطاءٍ عازل وسيَحُول دون وصول كثيرٍ من الحرارة إلى جسم الصاروخ.

مع ذلك، لم تكن هذه إلا بداية فقط، وكان الباحثون في حاجة إلى إجراء تجارب تحاكي عملية معاوَدة الولوج إلى المجال الجوي مباشَرةً في مختبراتهم. وفي جامعة كورنيل، قاد عالِم الفيزياء آرثر كانتروويتز جهود التطوير باستخدام جهاز بسيط اسمه الأنبوب الصدمي؛ وهو يتألَّف من غرفة ممتلئة بمادة متفجرة عبارة عن مزيج من الهيدروجين والأكسجين، ويفصلها عن غرفة مجاورة غشاءٌ معدني رفيع، ولها مقدمة مخروطية صغيرة مفرَّغة من الهواء. وكان إشعال المزيج يؤدِّي إلى تفجير الغشاء؛ وهو ما يؤدِّي إلى إرسال دفعة من الغاز عبر الصاروخ بالسرعات ودرجات الحرارة الفعلية عند عملية معاوَدة الولوج إلى المجال الجوي. ولم يكن تدفُّق الغاز يستمر أكثر من واحد على ألف من الثانية، لكن الأجهزة ذات السرعات العالية كانت تُجرِي القياسات الملائِمة، وهي قياسات تحدِّد الظروف التي كانت الرأس الحربية تواجهها.

سعَتِ اختباراتٌ أخرى إلى إثبات أن المقدمات المخروطية للصواريخ كانت تستطيع في حقيقة الأمر تحمُّل هذه الظروف. وفي عدد من أبسط التجارب، وضع الباحثون نماذجَهم الصاروخية وسطَ عادمِ أحد الصواريخ. ولم تكن هذه الصواريخ ساخنةً بما يكفي، وكان ثمة أسلوب أفضل يعتمد على أداة جديدة، هي النفق القوسي، وهذا النفق عبارة عن نفقٍ هوائي تفوق سرعته سرعة الصوت؛ حيث يمر تدفُّق الهواء العالي السرعة خلال قوس كهربي مشتعل، تكفي شدةُ تيارِه لإضاءة مدينة بأكملها. وكانت درجة حرارة الهواء تصل إلى ١٤ ألف درجة فهرنهايت؛ حيث كان الهواء يتسبَّب في اندفاعِ عينات المواد الموجودة بسرعة.

لمعرفة المزيد، رتَّبَ الكولونيل إدوارد هول عمليات إطلاق تجريبية على متن صاروخ وقود صلب جديد، هو «إكس-١٧»، وكان هول قد انضمَّ إلى فريق شريفر بوصفه ضابطَ دفعٍ، واتفق مع شركة «لوكهيد» على بناء الصواريخ. كانت هذه الصواريخ ثلاثية المراحل، يدفع صاروخُ المرحلة الأولى الصواريخَ إلى ارتفاع يتجاوز طبقةَ الغلاف الجوي، وبعد ذلك — بينما تكون الصواريخ في طريقها للهبوط — ينطلق صاروخا المرحلتين الثانية والثالثة؛ ممَّا يزيد من سرعة المقدمة المخروطية إلى أقصى سرعةٍ ممكنة.

أدَّتْ هذه التجارب إلى تطوير نماذج أوَّلية أدَّتْ بدورها إلى تصميم المقدمة المخروطية في صورة قطعة صلبة من النحاس، كان من المنتظر أن تمتص الحرارة دون أن تنصهر. لكنَّ هذه الدروع الحرارية كانت ثقيلةَ الوزن؛ ممَّا حدا بجورج ساتن — وهو فيزيائي في شركة جنرال إلكتريك — إلى وضع أسلوب أفضل. وللمفارقة، فقد اقترح ساتن أن تحترق المقدمة المخروطية مثل النيزك، لكن على نحوٍ خاضعٍ للسيطرة، وبدلًا من النحاس، استُخدِمت طبقةٌ خفيفةُ الوزن من البلاستيك المقوَّى لتغطية الرأس الحربية. وكان من المنتظر أن يحترق السطح الخارجي ويتبخر خلال عملية معاوَدة الولوج إلى الغلاف الجوي، حاملًا الحرارة بعيدًا بدلًا من امتصاصها، بينما تشكِّل الأبخرة الناتجة طبقةً واقية باردة. وصارت هذه المقدمات المخروطية «الانفصالية» هي النوع القياسي المستخدَم في تصميم مقدمات الصواريخ.

ظلَّ شريفر يراقب هذه التطورات عن كثب، واتخذ قرارات مهمة بصفةٍ شخصيةٍ في الجمعة السوداء؛ وكان هذا يحدث مرةً واحدة شهريًّا، عندما كان أعضاء الفريق يقدِّمون عروضًا حول مشروعاتٍ محددة ويعرفون بوضوح مَن كانوا يتخلَّفون عن الرَّكْب، وهو أمر كان يُثير في كثيرٍ من الأحيان الغضاضة والألم في نفوس البعض. وفي حال وجود موضوعٍ يستدعي اتخاذ قرار بشأنه، كان شريفر — الذي قرأ التقارير ذات الصلة — يَدَع الآخَرين يُدْلُون بدَلْوِهم ثم يُصدِر قراره؛ فقد كانت لديه سلطةٌ تناسِب مسئوليته، ولم يتوانَ في استخدامها.

ولإحراز تقدُّم بأقصى سرعة، لم يلتزم شريفر وجاردنر بالممارسات المعتادة في منح عقود «أطلس» الكبرى لشركات محددة؛ فقد كان من المنتظر أن تفضي هذه الممارسات إلى اختيار «نورث أمريكان أفايشن» باعتبارها الشركة الحصرية التي تفوز بعقود محركات الصواريخ، وهو ما بَدَا مثل وضع البيض كله في سلةٍ واحدة. وفي وقت مبكر يرجع إلى أغسطس ١٩٥٤، في ظل شكوك اللجنة الاستشارية العلمية، سعى شريفر نحو الاستعانة بشركة «إيروجت جنرال» كشركة أخرى بديلة.

كانت الممارسات الجديدة، المعروفة باسم التطوير المتوازي، تعتمد على خبرة سابقة في مجال تطوير الأسلحة النووية، وكانت هذه الممارسات تتَّخِذ إجراءاتٍ احترازية ضد أي تأخير من جانب أية شركة متعاقدة، مع تشجيع المنافسة بين الشركات المتعاقدة التي قد تسهم في الإسراع من إيقاع تنفيذ الأعمال. واختار شريفر أيضًا شركاتٍ لتنفيذ مكونات كبرى أخرى في المشروع؛ فاختيرت شركتا «جنرال إلكتريك» و«بيل لابس» لتصميم نظام التوجيه اللاسلكي، وشركة «إيه سي سبارك بلاج» ومجموعة أخرى من الهيئات — من بينها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — لتصميم نظام توجيه بالقصور الذاتي، وشركتا «جنرال إلكتريك» و«أفكو إيفريت» لتصميم مقدمات الصواريخ المخروطية، و«بوروز آند رمينجتون راند» لتوفير الكمبيوتر الذي كان سيعالج الإشارات.

كان منتقدو هذا الأسلوب ينظرون إليه باعتباره تكرارًا فيه إهدارٌ للموارد، لكن شريفر كان يعلم أن الهدر الحقيقي كان سيحدث في حال اعتماد «أطلس» على شركة متعاقدة واحدة لإنتاج عنصر مهم واحد، ثم تأخَّرَتِ الشركة في مواعيد التسليم. وإذا حدث ذلك، فربما كان سيتوقَّف البرنامج بأسره إلى حين حلِّ هذه المشكلة. أما عملية التطوير المتوازي، فضمنت وجودَ شركةٍ متعاقدة ثانية ربما تقدِّم مواعيد تسليم أقرب؛ كما أن النُّظُم التي تطرحها أيٌّ من الشركتين قابلةٌ للتبادُل حيث يمكن إحلال إحداها محلَّ الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، كان التطوير المتوازي سيوسِّع من قاعدة الشركات المؤهَّلة لتنفيذ مشروعات صواريخ مستقبلية، وهو ما سيدفع نمو صناعتها.

خلال عام ١٩٥٥، بلغت ممارسة أسلوب التطوير المتوازي ذورتَها من خلال الموافقة على مشروع ثانٍ كامل لتصميم صواريخ باليستية عابرة للقارات، وهو مشروع «تايتان». فازت شركة «مارتن» — التي تولَّتْ بناءَ صاروخ «فايكنج» — بالعقد؛ ممَّا وضعها على قدم المساواة مع شركة «كونفير»، واشتركت نفس الشركات المتعاقدة الأساسية التي كانت تبني النُّظُم الرئيسية في الصاروخ «أطلس» في بناء النُّظُم الرئيسية في الصاروخ «تايتان» أيضًا. وقسَّمَ شريفر هذه الشركات إلى مجموعتين، بحيث تتولَّى كلُّ مجموعة منهما أحدَ مشروعَي الصواريخ الباليستية العابرة للقارات:

أطلس تايتان
الإطار الخارجي كونفير مارتن
نظام التوجيه اللاسلكي جنرال إلكتريك بيل لابس
نظام التوجيه بالقصور الذاتي إيه سي سبارك بلاج أمريكان بوش أرما معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
محركات الصاروخ نورث أمريكان إيروجت جنرال
المقدمة المخروطية جنرال إلكتريك أفكو إيفريت
الكمبيوتر بوروز رمينجتون راند

وهكذا، خلال عامَيْ ١٩٥٤ و١٩٥٥، كان السوفييت والولايات المتحدة قد بدآ سباقًا نحو الهاوية، في سعيهما إلى بناء الصواريخ العابرة للقارات التي يمكنها أن تدمِّر العالَم. كانت موسكو تمتلك صاروخَي «كروز» يعملان بمحرك نفاث ذي دفع هوائي، وهو ثمار جهود مياسشتشيف ولافوتشكن، فضلًا عن صاروخ كوروليف الباليستي العابر للقارات؛ «آر-٧». في حين كانت الولايات المتحدة تمتلك مشروعَيْ صواريخ باليستية عابرة للقارات، فضلًا عن الصاروخ «نافاهو» الذي كان يعمل بمحرك نفاث ذي دفع هوائي. وبدأ كلا البلدين في إجراء اختبارات إطلاق مبدئية لصواريخ «كروز»، ثم ما لبثا أن توقَّفَا عن إجراء التجارب عليها، عندما صار واضحًا أن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات ستنجح.

بالإضافة إلى ذلك، كان ثمة بعض أوجه التشابه بين التصميمات الأساسية للصاروخين «أطلس» و«آر-٧»، التي تجعلهما يبدوان كما لو كانا نموذجَين يجري تطوريهما بالتوازي؛ فكلا الصاروخين مصمَّمٌ بأسلوب «المرحلة ونصف المرحلة»، وجميع المحركات تدور عند الإطلاق. وكلاهما يتضمَّن مَرْكبةً أساسية ذات محرك واحد، تحوطها محركات إضافية معزِّزة تسقط أثناء التحليق. وكان كلا الصاروخين يستخدم محركات جديدة تعمل بالكيروسين، وهو ما مثَّلَ بالنسبة إلى كلا البلدين النموذجَ الأول من محركات الصواريخ الكبيرة التي تخلَّتْ عن استخدام الكحول كوقود، والذي يرجع تاريخ استخدامه إلى نموذج الصاروخ «في-٢». وحصل المشروعان على الموافقة في مايو ١٩٥٤، وبعدها بثلاث سنوات، كان من المنتظر أن تُجرَى أولى اختبارات الإطلاق للصاروخين «أطلس» و«آر-٧» بفارق أسابيع قليلة أحدهما عن الآخَر. وبعد عمليات إطلاق أوَّلية فاشلة، انطلَقَ كلا الصاروخين بنجاحٍ في عام ١٩٥٧.

كانت ثمة أوجه اختلاف أيضًا على الرغم من ذلك، ولعل أبرزها أن كوروليف لم ينتظر تحقيقَ تقدُّم في مجال الطاقة الحرارية النووية في بلاده، ومضى قُدمًا بأسرع ما أمكنه، ولم يكن من قبيل المصادفة أن الصاروخ «آر-٧» الذي يحتوي على خمسة محركات كان يشبه نموذج الصاروخ «أطلس»، المصمَّم عام ١٩٥١، الذي كان يحتوي على سبعة محركات. كان تصميم الصاروخ «أطلس» الجديد متواضِعًا في حقيقة الأمر؛ فهو عبارة عن صاروخ مكوَّن من ثلاثة محركات تزن إجمالًا ٢٤٠ ألف رطل، وفقًا لأحد تصميمات النموذج الموضوعة في أواخر عام ١٩٥٤. وكان وزن الصاروخ «آر-٧» أثقلَ بمقدار مرتين ونصف. بالإضافة إلى ذلك، سعى كوروليف إلى وضع خطة تطوير أكثر طموحًا تقوم على فكرة إطلاق الصاروخ «آر-٧» أولًا بمفرده وبكامل مداه، ثم استخدام الصاروخ لإطلاق أقمار صناعية؛ وترتَّبَتْ آثارٌ مهمة على أوجه الاختلاف هذه بين الصاروخين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤