الفصل الرابع

منتصف خمسينيات القرن العشرين

المركبة الفضائية ما بين التخطيط والتصوُّر

أحسَنَ السوفييت استخدام جواسيسهم في بناء قنبلتهم النووية، وبعدها بعشر سنوات استعدَّتِ الولايات المتحدة لردِّ الصاع صاعين؛ حيث كان احتمال استخدام الصواريخ الباليستية العابرة للقارات قد أثار أفكارًا طموحة لاستخدام الفضاء كموقعٍ مثالي لإجراء عمليات الاستطلاع العسكرية. وكان بمقدور الأقمار الصناعية في مداراتها أن تخترق جدارَ السرِّيَّة في موسكو، بما يكشف عن استعداداتها للحرب. وكانت هذه الخطط غاية في السرِّيَّة، إلا أنه نظرًا للاهتمام العام القوي بالصواريخ الجديدة، فقد تسابَقَ عددٌ من الكتَّاب للتنبُّؤ بغزو الفضاء؛ وكان أحد أبرز هؤلاء ويلي لي، مؤلِّف كتاب «الصواريخ، والقذائف الصاروخية، ورحلات الفضاء».

في أحد الأيام في ربيع ١٩٥١، تناوَلَ لي الغداء مع روبرت كولز، رئيس مجلس إدارة مرصد هايدن في مانهاتن، وأشار لي إلى أن الاهتمام بالملاحة الفضائية يزداد بقوة في أوروبا؛ إذ كان قد عُقِدَ مؤتمرٌ دولي في باريس خلال شهر أكتوبر الماضي، اجتذَبَ أكثر من ألف شخص؛ ومع ذلك، لم يكن بين الحاضرين أحدٌ من الولايات المتحدة، وهو ما كان يعني أن الأمريكيين سيتعيَّن عليهم تنظيم مؤتمر مماثل. وأجاب كولز قائلًا: «لتفعل إذن، المرصد في خدمتك.»

شرع لي في الإعداد لمؤتمر عُقِد في يوم كولومبس، وكان حضور المؤتمر لمَنْ وُجِّهت إليهم الدعوة فقط؛ فقد أُرسِلت بعض الدعوات إلى صحفيين، وكان من بين الحاضرين صحفيون من مجلة «كوليرز»، وهي مجلة تبلغ قاعدةُ قرَّائها عشرة ملايين قارئ. وبعد أسبوعين من عقد المؤتمر، نشر مدير تحرير المجلة — جوردون ماننج — خبرًا قصيرًا حول مؤتمر قادم تعقده القوات الجوية في سان أنطونيو، حول الجوانب الطبية للرحلات الفضائية. وأرسل ماننج مساعدَ محرِّر، يُدعَى كورنيليس ريان، لتغطية المؤتمر وليرى إن كان الأمر يصلح لأن يصير خبرًا صحفيًّا قابلًا للنشر.

لم يكن ريان مهتمًّا بالفضاء، وإن كان صحفيًّا شديدَ التدقيق، مثلما اتضح من خلال كتابه «اليوم الأطول»، وخلال المؤتمر أُعجِب أيما إعجاب بفون براون، الذي استطاع من خلاله مهارته في الإقناع إقناعَ أدولف هتلر نفسه. عرض فون براون فكرته أثناء حفلات الكوكتيل، وعلى مائدة العشاء، ثم أثناء حفلات الكوكتيل التي أعقبت ذلك. وركَّزَت الفكرةُ على إنشاء محطة فضائية مأهولة، وصرَّحَ فون براون بإمكانية الانتهاء من هذه المحطة وتشغيلها بحلول عام ١٩٦٧.

كان مفهوم إنشاء هذه المحطات يعود إلى عام ١٨٩٧ على الأقل، عندما وصف كورد لاسفيتس — أحد مؤسسي قصص الخيال العلمي — المحطاتِ الفضائيةَ بأنها مفتاحُ السفر عبر الفضاء. وعدَّدَ هيرمان أوبيرت، في كتابه الذي صدر عام ١٩٢٣؛ «الصاروخ في عالم الفضاء بين الكواكب»، استخدامات المحطة الفضائية قائلًا:

من المتوقَّع أن تتمكَّن (المحطة الفضائية) من خلال معداتها الفعالة من رؤية تفاصيل دقيقة على الأرض. وبما أن المحطات الفضائية تستطيع — على افتراض أن السماء صافية — أن تحدِّد شعلةَ شمعةٍ ليلًا، وانعكاسَ ضوءٍ على سطح مرآة يدوية نهارًا؛ فمن المنتظر أن تستطيع الحفاظ على عمليات الاتصال بين البعثات ووطنها، وبين المستعمرات البعيدة ووطنها الأم، وبين السفن في البحار. ستستطيع هذه المحطات تحديدَ موضع كل جبل جليدي وإرسال رسائل تحذيرية إلى السفن. ولعله كان من الممكن تفادي كارثة سفينة تايتانك التي وقعت عام ١٩١٢ باستخدام تلك الوسيلة.

يمكن أيضًا استخدام محطة الرصد كمحطة تزوُّد بالوقود، ويمكن تخزين الهيدروجين والأكسجين — في حال حمايتهما من أثر الإشعاع الشمسي — لأيِّ فترة في حالتهما الصلبة. وإذا جرى توصيل كرة ضخمة من معدن الصوديوم، بعد تركيبها وملئها بالوقود في مدار المحطة، عن طريق صاروخ صغير متين التصميم يستمد الوقود من المحطة؛ فستكون لدينا مَرْكبة فعَّالة تستطيع بسهولة الطيران إلى كوكب آخَر.1

بعدها بست سنوات، في عام ١٩٢٩، وصف مهندس نمساوي كان يكتب باسم هيرمان نوردونج الشكلَ الذي من المحتمَل أن تكون عليه المحطة الفضائية. قدَّمَ نوردونج الشكلَ الكلاسيكي المتمثِّل في عجلة دوَّارة، تدور ببطء لتوفير جاذبية مصطنعة، مع وجود محبس هوائي عند مركز العجلة. ولتوفير طاقة كهربية، كانت المرايا الشمسية تركِّز ضوءَ الشمس على أنابيب الغلاية، لتشغيل نوع من المحرك البخاري.

انطلق فون براون من هذه الأفكار وطوَّرَها كثيرًا، وكان من المقرَّر أن يبلغ قُطْرُ محطة نوردونج الفضائية مائة قدم، بينما كانت محطة فون براون أكبر بمقدار مرتين ونصف، وقادرةً على حَمْل طاقم من ثمانين شخصًا، ويتضمَّن هذا الطاقم روَّادَ فضاء يباشرون تشغيل تليسكوب ضخم. وكان من المنتظر أن يدرس علماء الأرصاد الجوية، وهم ينظرون صوبَ الأرض، تكوينات السُّحُب وأنماطها، وأن يتنبئوا بحالة الطقس.

في سبيل تلبية احتياجات الحرب الباردة، أكَّدَ فون براون على استخدام المحطة لأغراض الاستطلاع العسكري. وصرَّحَ فون براون أيضًا بإمكانية استخدام المحطة كطائرة قاذفة تحلِّق على ارتفاعات شاهقة؛ حيث تُلقِي بالأسلحة النووية بدقةٍ بالغة. ولبناء هذه المحطة، طالَبَ فون براون ببناء أسطول من صواريخ نقلٍ مأهولة، يزن كلٌّ منها سبعة آلاف طن، وهو ما يعادل وزن خمسة صواريخ من طراز «في-٢». ولكن، كان من المنتظر أن تبلغ تكلفة البرنامج بأكمله — بما في ذلك الصواريخ والمحطة وكل شيء — ٤ مليارات دولار أمريكي؛ أيْ ضِعْف ميزانية مشروع «مانهاتن».

كان من المفترض أن تُستخدَم المحطة الفضائية بمجرد الانتهاء منها واكتمالها كنقطة تجميع لبرنامج استكشافي طموح، وكان سيجري إرسال طاقم في رحلة مبدئية تدور حول القمر، لالتقاط صور لجانبه البعيد غير المرئي. وفي وقتٍ لاحق، ربما بحلول عام ١٩٧٧، حمل أسطولٌ مؤلَّف من ثلاثة صواريخ طاقمًا من خمسين شخصًا إلى باي أوف ديو؛ حيث ظلوا في الفضاء لمدة ستة أسابيع كانوا يتنقَّلون خلالها على نطاق واسع في مَرْكبات متحركة. وفي نهاية الأمر، ربما لم يحدث إلا بعد قرن من الزمان أن نقلت بعثةٌ فضائية أكثر جرأةً روَّادَ فضاءٍ إلى كوكب المريخ.

بنهاية الأمسية، كان فون براون قد ظفر بتابِع آخَر هو ريان، الذي صار يعتقد الآن أن الرحلات الفضائية المأهولة لم تكن ممكنةً فحسب، بل وشيكة أيضًا؛ وعند عودته إلى نيويورك، أقنع ريان ماننج بأن الأمر لا يستحِقُّ مقالًا واحدًا فقط، بل سلسلةً مطوَّلةً من المقالات قد تمتدُّ إلى ثمانية أعدادٍ من المجلة. دعا ماننج فون براون للمجيء إلى مانهاتن لإجراء مقابلات ومناقشات، بالمشاركة مع عدة خبراء آخَرين، وكان من بين هؤلاء الخبراء ويلي لي، ورائد الفضاء فريد ويبل من هارفرد، الذي كان يعرف الكثير عن القمر وكوكب المريخ، وهاينز هابر، الخبير في القوات الجوية في مجال طب الفضاء الناشئ.

اهتمت مجلة «كوليرز» كثيرًا — عند إعدادها لمقالاتها — بالحصول على أفضل الرسومات الملونة الممكنة، وكان من بين فناني المجلة تشيسلي بونستل، الذي أسسَّ مجالَ فنِّ الفضاء من خلال عرض تصوُّرات متخيَّلة للكواكب عند رصدها عن قُرْبٍ من الأقمار الصناعية القريبة. وأعَدَّ فون براون تصميماتٍ ورسوماتٍ هندسية للصواريخ والمركبات الفضائية، استخدمها بونستل والفنانون الآخَرون في وضع رسوم ملائمة في مقاله، ولم يقدِّموا الرسومات في صورتها النهائية إلا بعد تلقِّي تصويبات فون براون وتعليقاته عليها.

ظهرت السلسلة الأولى من المقالات في مارس ١٩٥٢، وكانت صورة الغلاف عبارة عن صاروخ نقل لحظةَ مغادَرة الغلاف الجوي، فوقَ المحيط الهادئ. وكان عنوان الغلاف يقول: «قريبًا، سيغزو الإنسانُ القمرَ»، ويليه عنوان فرعي يقول: «كبار العلماء يشرحون السبيل إلى ذلك في ١٥ صفحة مدهشة». وداخل العدد، أشارت مقالة افتتاحية إلى حتمية غزو الإنسان للفضاء، وقدَّمت «تحذيرًا عاجلًا بأن الولايات المتحدة يجب أن تبدأ على الفور في وضع برنامج تطوير طويل المدى لضمان «التفوق الفضائي» للغرب.»

ظهرت سلسلة المقالات بينما كان ويلي لي يُصدِر طبعات جديدة ومحدَّثة من كتابه «الصواريخ، والقذائف الصاروخية، ورحلات الفضاء». بالإضافة إلى ذلك، خلال عام ١٩٥١ نشر آرثر سي كلارك كتاب «استكشاف الفضاء»، الذي وقع عليه الاختيار من جانب نادي كتاب الشهر. لكن، رسمت مقالات مجلة «كوليرز» المسار. وفي أواخر ١٩٥٢، نشرت مجلة «تايم» خبر الغلاف حول أفكار فون براون. ثم دخل والت ديزني في دائرة الأحداث؛ حيث هاتَفَ لي من مكتبه في بربانك بكاليفورنيا، وكان ديزني يبني مدينة ديزني لاند، وهي مدينة ملاهٍ في أناهايم، وكان من المنتظر أن يعلن عنها من خلال عرض برنامج تليفزيوني أسبوعي يحمل هذا الاسم على شبكة «إيه بي سي». وبمساعدة فون براون، أنتج ديزني فيلم «الإنسان في الفضاء»، وهو فيلم روائي مدة عرضه ساعة واحدة، بدأ العرض في أكتوبر ١٩٥٤، وأُعيد عرضه مراتٍ ومرات، وأشارت الهيئات المختصة بتقدير حجم الجمهور إلى أن عدد المشاهدين بلغ اثنين وأربعين مليون شخص.

ظهر تأثير سيناريو فون براون بقوة خلال العقود التي أعقبت ذلك؛ حيث حددت مجلة «كوليرز» جدولَ أعمال ناسا للرحلات الفضائية المأهولة. وترددت كثيرًا أصداء برامج الصواريخ المأهولة في مشروعات ناسا وخططها، وكان من بين تلك البرامج — على سبيل المثال — الصاروخ «ساتورن ٥»، ومشروع بناء مركبة فضائية وعمليات الإنزال المأهولة على سطح القمر، ومشروع بناء محطة فضائية كبرى وإطلاق مركبة فضائية إلى المريخ لاحقًا. ومع ذلك، بالنظر إلى جانب مهم فيها، سرعان ما صارت المحطة الفضائية — التي كانت جوهر الأمر برمَّته — مسألةً عفا عليها الدهر.

تأصَّلَ مفهوم المحطة الفضائية في كتابات أوبيرت ونوردونج، في وقتٍ كانت التكنولوجيا المفيدة الوحيدة في مجال الإلكترونيات هي الراديو. ركَّز هذا المفهوم على الرؤية القائلة بأنه ما دام الفضاء يفتح المجال أمام أنشطة مفيدة مثل عمليات الاستطلاع والرصد الجوي والاتصالات وعلم الفلك، فإن هذه الأنشطة جميعها سوف تعتمد على رواد الفضاء في تنفيذها؛ ومن ثَمَّ، كان من المنطقي أن يعيش رواد الفضاء معًا في المحطات الفضائية، التي كان تصميمها يركِّز بالضرورة على تحقيق راحتهم.

في حقيقة الأمر، كانت استخدامات الفضاء ستعتمد بصورةٍ كاملة تقريبًا على المركبات الفضائية غير المأهولة؛ حيث يلعب رواد الفضاء أدوارًا هامشية فقط. ولم يتوقع فون براون هذا، وكان على أتمِّ الاستعداد لتصور قمر صناعي مجهَّز غير مأهول؛ «محطة فضائية صغيرة»، تحمل كاميرا تليفزيونية فضلًا عن قرد صغير، لاختبار الآثار الطبية للأشعة الكونية وانعدام الوزن. ولكن، لم تكن هذه سوى بداية، وكانت الجهود الحقيقية تتمحور حول المحطة الفضائية، بمَن عليها من طاقم عدده ثمانون شخصًا يعملون بكل جدٍّ.

لكن، في حين كان برنامج فون براون الطموح لإرسال محطة فضائية مأهولة يظهر على أغلفة المجلات وفي التليفزيون، كانت ثمة جهود عديدة أقل صَخبًا تضع الأساس لإطلاق مركبات فضائية غير مأهولة؛ ففي القوات الجوية، برزت شركة «راند» بعد الحرب مباشَرةً بوصفها مركزًا مهمًّا للنشاط البحثي. تأسس هذا المركز البحثي في أواخر عام ١٩٤٥، ثم سرعان ما شرع في إصدار التقارير السرِّيَّة التي كان لها أبلغ التأثير. وفي مايو ١٩٤٦، بعد بضعة أشهر فقط من تصريح فانفار بوش بأن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات أمرٌ مستحيل، رأى مجموعة من الباحثين في شركة «راند» أن من الممكن أن تنجح صواريخ أكثر قوةً من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات في إطلاق أقمار صناعية.

ركَّز التقرير، الذي صدر تحت عنوان «التصميم الأوَّلي لمركبة فضاء تجريبية تدور حول العالم»، على احتمال الدوران حول مدار فضائي بحمولة معداتٍ زنة ٥٠٠ رطل. وكان من المنتظر أن تكون هذه المركبة الفضائية أصغر كثيرًا، سواءٌ أكانت تتعلَّق بالرحلات الفضائية المأهولة أم بطائرة تحمل قنبلة ذرِّيَّة، وهو ما أثار السؤال حول طبيعة استخداماتها، التي كان من بينها استخدامات غير عسكرية مثل الاتصالات ورصد أنماط تشكُّل السحب، والبحوث الطبية البيولوجية في ظل انعدام الجاذبية. بالإضافة إلى ذلك، أشار لويس ريدنور — الذي صار كبير علماء القوات الجوية لاحقًا — إلى أن الصور التليفزيونية الضبابية ربما تكون ذات قيمة عسكرية، قائلًا: «إنَّ تحديد نقاط التصادم للقنابل التي نلقيها ورصد الأحوال الجوية فوق أراضي العدو ربما يكونان أهمَّ نوعين من عمليات الرصد التي يمكن إجراؤها من خلال الأقمار الصناعية.»

قدَّم عالم آخَر، يُدعَى ديفيد جريجز، نبوءةً تستحق الإشارة إليها بشيء من التفصيل، وهي كالآتي:
على الرغم من أن الكرة البلورية غائمة لا تُفصح عن شيء، فإنه يبدو أن ثمة أمرين واضحين:
  • (١)

    من المتوقَّع أن يصير نموذجُ القمر الصناعي المجهَّز بالمعدات اللازمة إحدى أقوى الأدوات العلمية في القرن العشرين.

  • (٢)

    سيكون صنْعُ قمر صناعي من قِبَل الولايات المتحدة بمنزلة إنجاز يؤدِّي إلى إشعال خيال الإنسانية، وربما يُسفِر عن تداعياتٍ في العالم مماثلةٍ لتداعيات انفجار القنبلة الذَّرِّيَّة.

سيُعترَف بالدولة التي تحقِّق إنجازاتٍ مهمة في مجال رحلات الفضاء باعتبارها رائدةَ العالم في الأساليب العسكرية والعلمية. ولكي نتصوَّر هذا الأثر على العالم، يمكن للمرء أن يتخيَّل حجمَ الامتعاض والإعجاب الذي سيُثار هنا إذا اكتشفَتِ الولايات المتحدة فجأةً أن دولة أخرى نجحَتْ في إطلاق قمر صناعي إلى الفضاء.2

على غرار ما حدث مع نموذج «إم إكس-٧٧٤» لشركة «كونفير»، سرعان ما خبت جذوة هذا الاهتمام المبكر بالمركبات الفضائية. وفي أواخر عام ١٩٤٨، أشار وزير الدفاع جيمس فورستال إلى برنامج قمر صناعي أرضي، بَيْدَ أنه أضاف أن تصريحه جاء بناءً على توصية بأن «الجهود الحالية في هذا المجال يجب أن تقتصر على الدراسات والتصميمات الخاصة بالمكونات». وفي مؤسسة «راند»، تواصلت الدراسات حول الأقمار الصناعية، وفي أكتوبر ١٩٥٠ أصدر باحث آخَر، يُدعى بول كتشكميتي، تقريرًا أثار سؤالًا غاية في الأهمية، أَلَا وهو: إذا أردنا أن نطلق قمرًا صناعيًّا كهذا، فهل سيدعنا السوفييت نفعل ذلك؟

أدرك كتشكميتي أن عمليات الاستطلاع ستوفِّر أساسًا قويًّا لإطلاق برنامج أقمار صناعية، وشدَّدَ على أن موسكو ستنظر إلى الكاميرات التي تدور في الأفلاك الفضائية باعتبارها مصدر تهديد كبير: «إنَّ الخوف من اختراق السرِّيَّة خوفٌ دائم ومستمر، ومن المتوقع على الأرجح أن تثير صورةٌ مأخوذة للعالم الخارجي وهي تخترق حُجب أسرار السوفييت كثيرًا من القلق.» واتضح هذا الموقف بالفعل في مجال الطيران التجاري؛ فقد كانت معظم الدول تمنح شركات الطيران حقوقَ الطيران في أجوائها، بينما لم يكن السوفييت يسمحون بذلك.

إذا أطلقت الولايات المتحدة قمرًا صناعيًّا فوق الاتحاد السوفييتي، فربما يعتبر الكرملين الأمرَ ضربًا من العدوان، وربما يردُّ ستالين على ذلك بعمليات عسكرية، مُرْسِلًا قوات أو مهددًا باستخدام القوة ضد الدول المجاورة التي توفر قواعد عسكرية للقوات الجوية الأمريكية؛ ومن ثمَّ، قبل إطلاق هذه الأقمار، يجب أن تثبت الولايات المتحدة أولًا الحقَّ القانوني في التحليق فوق الأجواء الأجنبية، وهو حقٌّ يرقى إلى «حرية الفضاء»، ويشبه حرية أعالي البحار. يسمح هذا الحق للمركبات الفضائية بالتحليق فوق الدول الأخرى دون الحصول على تصريح منها.

يختتم كتشكميتي حديثه قائلًا: «ربما يتمثَّل أفضل طريق في تقليص مخاطر الإجراءات المضادة في إطلاق قمر صناعي تجريبي في مدار استوائي.» سيصبح حجم المركبة الفضائية صغيرًا نظرًا لأنها لن تحمل أي كاميرات، وستتفادى المرورَ بالأراضي السوفييتية الشاسعة، وهو ما سيجعلها تلتزم بالاتجاه الشمالي في مدارها. ومن خلال مواصلة البحوث ذات الأهداف العلمية بدلًا من الأهداف العسكرية، ربما ينطلق القمر الصناعي فوق عدد من الدول دون أن يثير ذلك استياءَ تلك الدول أو تذمُّرها؛ وسيساعد هذا الأمر في ترسيخ حرية الفضاء باعتبارها مبدأً قانونيًّا، وهو ما سيوفر الغطاء للأقمار الصناعية التي ستُستخدَم في مهام الاستطلاع اللاحقة.

مثلما برهنت الأحداث، وقع صِدامٌ شديد بين السعي نحو حرية الفضاء والإصرار على تحقيق الريادة في إطلاق مركبات فضائية تدور في مداراتٍ فضائية؛ فربما تنجح مركبة كتشكميتي الفضائية العلمية في إرساء هذا المبدأ القانوني، لكن لا أحدَ ينكر أنه في حال إطلاق روسيا أول قمر صناعي من هذا النوع، فإنها سترسِّخ على الفور هذا المبدأ بلا منازع. وفي ضوء السرِّيَّة التامة المطلوبة لأغراض الأمن السوفييتي، ربما يُضعِف هذا الإنجاز من أمن البلاد، حتى مع الظفر بشهرة عالمية، وهو أمرٌ كان من المتوقع حدوثه في الواقع على الرغم من أن تلك الأحداث استغرقت أكثر من عقد من الزمن حتى تحدث بصورتها هذه.

في تلك الأثناء، بينما كانت مؤسسة «راند» تُجري الأبحاث وتُصدر التقارير في تؤدة، كان ثمة عدد كبير من العلماء المدنيين يعدُّون العدة لإطلاق قمر صناعي بجهودهم الخاصة. وفي إحدى الأمسيات في أبريل ١٩٥٠، استضاف جيمس فان ألين — وهو العقل المدبر للصاروخ «إيروبي» التجريبي — مجموعةً من الأصدقاء في منزله في سيلفر سبرينج، ميريلاند. وكان الضيف الرئيسي في اللقاء هو سيدني تشابمان من جامعة أكسفورد، الذي كان خبيرًا رائدًا في سلوك الغلاف الجوي. وكان من بين الضيوف الآخرين لويد بركنر، مدير مختبر بروكهيفن الوطني، وفريد سينجر، عالِم فيزيائي شاب من جامعة ميريلاند.

دار الحديث خلال هذا الاجتماع حول إمكانية تنسيق جهود العلماء في عدد من الدول للمُضيِّ قُدمًا في أبحاثهم حول طبقات الجو العليا. وكان الجميع يعرف أن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية كانت قد وضعت برنامجين متناسقين باسم السنوات القطبية الدولية؛ كان ذلك في عامَيْ ١٨٨٢ و١٩٣٢، وهو ما دعَّمَ بصورة هائلة الفهمَ العلمي لمنطقة القطب الشمالي. كان بركنر صاحب تاريخ طويل في استكشاف المناطق القطبية؛ حيث شارك في أنشطة عام ١٩٣٢، وكان يرى أن الوقت قد حان لعقد لقاء سنة قطبية ثالثة في عام ١٩٥٧ أو ١٩٥٨، بعد مرور رُبْع قرن على اللقاء الأخير. وأبدى العلماء الآخَرون حماسَهم للأمر.

عقدت منظمة متعددة الجنسيات، هي المجلس الدولي للاتحادات العلمية، منتدًى ليتولى إجراء الترتيبات الضرورية، وظلَّ بركنر يترقَّى بسرعة داخل المنظمة، ثم سرعان ما صار رئيسًا لها. قدَّمَ بركنر وتشابمان مقترحًا إلى إحدى اللجان الفرعية المنبثقة عن المنظمة، واستطاعوا تحويل تأييد أعضاء اللجنة إلى موافَقة كاملِ أعضاء المجلس الدولي للاتحادات العلمية. وفي حقيقة الأمر، مع التوسُّع في مناقشة الموضوعات ذات الاهتمام، رأى تشابمان أن اسم العام القطبي لم يَعُدْ مناسبًا، واقترح اسم العام الجيوفيزيائي الدولي. وكان مقرَّرًا أن تستمر أنشطةُ اللقاء ثمانية عشر شهرًا، من منتصف عام ١٩٥٧ وحتى عام ١٩٥٨ بالكامل، وهي فترة تتزامن مع ذروة النشاط الشمسي والعديد من عمليات الخسوف. ومع مرور الوقت، ضمَّ اللقاء ما يقرب من ستة آلاف مشارك من ست وستين دولة.

شكَّلَ المجلس الدولي للاتحادات العلمية لجنةً خاصة تحمل اسم «آي جي واي»، كان تشابمان رئيسها وبركنر نائب الرئيس. وفي واشنطن، سرعان ما علمت الأكاديمية الوطنية للعلوم بالأمر. وكانت الأكاديمية الوطنية للعلوم هي المنظمة العضو الممثِّلة لأمريكا في المجلس الدولي للاتحادات العلمية، وشكَّلَتْ لجنةً فرعية خاصة بها؛ وكان رئيسُ اللجنة، جوزيف كابلان، قد نظَّمَ في عام ١٩٥١ مؤتمرًا في سان أنطونيو حول طب الفضاء، وأسهَمَ بكتاباتٍ في سلسة مقالات مجلة «كوليرز».

في عام ١٩٥١، اجتمع عدد من جمعيات الصواريخ على المستوى القومي وشكَّل الاتحادَ الدولي للملاحة الفلكية. وفي مؤتمره الذي عُقِد عام ١٩٥٣ في زيورخ، قدَّمَ فريد سينجر المقترح غير السري الأول لنموذج مبدئي لمركبة فضائية علمية، وأثناء حديثه مع اثنين من الاختصاصيين البريطانيين، هما فال كليفر وآرثر سي كلارك، أطلق سينجر على المركبة اسم «ماوس» (وهو الأحرف الأولى لمصطلحٍ إنجليزي يعني «قمر صناعي غير مأهول محدود الدوران حول الأرض»). ولم يكن مفترضًا أن يستقلَّ جرذٌ هذا القمرَ الصناعي، فضلًا أيضًا عن قرد من شمال الهند، لكن كان من المتوقَّع أن يبلغ وزن القمر مائة رطل، وأن يحمل مجموعةً قيِّمةً من المعدات. وأثناء حديثه في ندوة لاحقة في مرصد هايدن في مايو ١٩٥٤، شدَّدَ سينجر على أن ماوس أصبح «قريب المنال الآن، ويجب بناؤه؛ بل يمكن بناؤه — أو على الأقل الشروع في بنائه — بفضل المرافق الفنية المتوافرة الآن».

كان رئيس الاتحاد الدولي للملاحة الفلكية، فريدريك ديورانت، طيَّارًا بحريًّا سابقًا وخبيرًا في الصواريخ، وعلم أن طيَّارًا زميلًا، وهو القائد جورج هوفر، كان يعمل في ذلك الوقت في مكتب الأبحاث البحرية، ويرغب في إطلاق قمر صناعي على غرار «ماوس». وفي أواخر شهر يونيو، هاتَفَ ديورانت فون براون قائلًا: «دار حديث مشوِّق للغاية بيني وبين رجل في مكتب الأبحاث البحرية، يريد إطلاق مركبة فضائية. هل ترغب في لقائه؟» جاء فون براون مهرولًا، وبعدها بيومين التقى هوفر وديورانت، وحضر سينجر وويبل هذا اللقاء أيضًا.

قال هوفر: «يتحدَّث الجميع عن قمر صناعي فضائي، لكن لا أحدَ يفعل شيئًا حيال ذلك، وأودُّ أن أدفع عجلةَ الأمور إلى الأمام من خلال إطلاق قمر صناعي إلى مدار فضائي يُحمَل عن طريق مجموعة من الصواريخ المتوافرة.» وكانت لدى فون براون، الذي كان دومًا يمد يده بالعون، خطةٌ لتنفيذ ذلك؛ فقد ظلَّ يفكِّر لبعض الوقت كيف أن وضع مجموعة من صواريخ الوقود الصلب الصغيرة المضادة للطائرات أعلى الصاروخ «ردستون» يمكن أن يوفِّر الدفعَ اللازم لإطلاق قمر صناعي في مدار فضائي. وشدَّدَ هوفر على إمكانية تركيب منطاد قابل للنفخ يتراوح وزنه ما بين خمسة وسبعة أرطال. لم يحمل القمر الصناعي أيَّ معدات، ولا حتى جهازَ إرسال لاسلكي، لكنه كان سيظهر في السماء مثل نجم جديد، منطلقًا ناحية الغرب أثناء تحليقه في مداره. وأكَّدَ ويبل، عالِم الفلك، للمجموعة أن هذا النجم سيكون ساطعًا حقًّا، ويمكنه التحليق لأعلى عن طريق تركيب الصواريخ الموجودة أعلى أحد الصواريخ المعزِّزة الموجودة.

اتفق الحاضرون على أن هذا الجهد المتواضع سيكون ذا قيمة، وصرَّحَ رئيس مكتب الأبحاث البحرية بإجراء المزيد من المناقشات. ثم في سبتمبر ١٩٥٤، قرَّرَ سينجر إقناعَ بركنر بالموافقة على إجراء عمليات إطلاق الأقمار الصناعية في لجنة «آي جي واي». وكان بركنر متشكِّكًا؛ إذ كان يعلم أن سينجر شاب طائش، لكنه قرَّرَ الرجوع إلى مجموعة من المستشارين وبحَثَ الأمر.

عشية أحد لقاءات اللجنة التابعة للمجلس الدولي للاتحادات العلمية في روما، دعا بركنر هؤلاء المستشارين للاجتماع في غرفته في فندق ماجيستك؛ وكان سينجر موجودًا، وكذلك جوزيف كابلان، رئيس لجنة «آي جي واي» المنبثقة عن الأكاديمية الوطنية للعلوم. ومثلما أشار أحد المشاركين، فقد كان عليهم بحث مسألةَ واقعيةِ الحديث حول الأقمار الصناعية أم أنها مجرد «قناعة إيمانية» مثلما كان سيشير إليها السير إسحاق نيوتن في القرن السابع عشر. وعلى الرغم من عبارات التحذير، تحمَّسَ أعضاء اللجنة للفكرة، وعندما أشار أحد الأعضاء إلى أن البطاريات الإلكترونية قد تتحطم عند انعدام الوزن، ضرَبَ آخَر بقبضة يده بقوةٍ وصاح قائلًا: «إذن، سنحصل على بطاريات لا تتحطم!» استمرت الجلسة ستَّ ساعات واختُتِمت بالتأييد الجماعي لفكرة الأقمار الصناعية للجنة «آي جي واي». وبعدها بأيام قليلة، صدَّقَتْ لجنة المجلس الدولي للاتحادات العلمية على المقترح.

ثم جاء دور كابلان في تولي مقاليد القيادة؛ فبعدها بأشهر قليلة، في يناير ١٩٥٥، شكَّلَ لجنةً مختصة بالصواريخ، تتضمَّن لجنةً فرعية للأقمار الصناعية، وكان من بين أعضاء اللجنة الفرعية ميلتون روزن، رئيس برنامج صاروخ «فايكنج». وكان روزن قد درس مقترح فون براون الرسمي، المسمَّى مشروع المركبة المدارية، وكان يعلم بإمكانية تقديم مقترح أفضل. وقبل ذلك بأشهر قليلة، كان الجنرال شريفر في القوات الجوية قد طلب منه أن يقدِّم مقترحًا لنموذج متطور من الصاروخ «فايكنج» لاستخدامه في اختبارات الإطلاق التجريبية للصواريخ ذات المقدمة المخروطية، وكان روزن يعلم أن هذا النموذج المحسَّن من الصاروخ «فايكنج» يمكن أن يصير صاروخًا معزِّزًا أفضل من الصاروخ «ردستون» المعدَّل الخاص بالجيش.

كان الصاروخ «فايكنج» التقليدي يستخدم محركًا من إنتاج شركة «ريأكشن موتورز»، الذي تجاوزت قوة دفعه ٢١ ألف رطل في اختبارات الإطلاق الأخيرة. ولم يكن هذا كافيًا، إلا أن شركة «جنرال إلكتريك»، وهي شركة رائدة في مجال بناء المحركات النفاثة في الطائرات، كان لديها محرك صاروخي قيد التطوير من المنتظر أن تصل قوة دفعه إلى ٢٧ ألف رطل. وبالإضافة إلى ذلك، اقترحت شركة «إيروجت جنرال»، التي تولَّتْ بناءَ نموذج الصاروخ «إيروبي»، نموذجًا محدَّثًا من الصاروخ باسم «إيروبي-إتش آي» يزيد مستوى الارتفاع المتحقق من ٧٥ إلى ١٥٠ ميلًا. وكان روزن قد اقترح وضع محرك «جنرال إلكتريك» في الصاروخ «فايكنج»، ووضع محرك «إيروبي-إتش آي» أعلاه ليكون صاروخَ المرحلة الثانية، ويُستخدَم هذا الصاروخ الثنائي المرحلة في إطلاق المقدمات المخروطية. وصرَّحَ أنه في حال إضافة مرحلة ثالثة يقودها صاروخُ وقودٍ صلب، سيصير من الممكن إطلاق قمر صناعي إلى الفضاء.

تطلَّبَ هذا القمر الصناعي بدوره إدخالَ تحسينات بصفة أساسية على منطاد فون براون البسيط؛ إذ كان من المنتظر أن يبلغ وزن القمر الصناعي ثلاثين رطلًا، وأن يحمل معدات فضلًا عن جهاز إرسال لاسلكي، وهو ما يجعله بالفعل نموذجًا مصغَّرًا من القمر «ماوس» الصناعي. بالإضافة إلى ذلك، كانت جهود تطوير الصاروخ «فايكنج» قد طوَّرَتْ نظامًا عالي الجودة واستخدمته في تتبُّع الإشارات واستقبالها من الصواريخ التجريبية الأولى، كما استُخدِم نموذج جديد باسم «مينيتراك» لخدمة جهود تطوير القمر الصناعي.

في مارس صدَّقَتْ لجنة «آي جي واي» التنفيذية التابعة للأكاديمية الوطنية للعلوم على قرار إطلاق قمر صناعي، مشيرةً إلى أن مشروع المركبة المدارية أو الصاروخ «فايكنج» سيخدمان هذا الغرض. أرسل كابلان رسائل إلى دتليف برونك، رئيس الأكاديمية، وإلى آلان ووترمان، مدير مؤسسة العلوم الوطنية، الذي كان يعمل عن كثب مع برونك في عمليات إعداد «آي جي واي».

كانت الأكاديمية الوطنية للعلوم، التي باشرت أعمالها منذ عام ١٨٦٣، عبارة عن جمعية مكوَّنة من صفوة العلماء في البلاد، وكان بعضهم يرى عضوية الأكاديمية خطوةً في طريق الحصول على جائزة نوبل. وكانت مؤسسة العلوم الوطنية، التي باشرت أعمالها منذ عام ١٩٥٠ فقط، لديها ميزانية متواضِعة تقدِّم من خلالها مِنَحًا بحثية إلى الباحثين في الجامعات، لكنْ لم تكن أيٌّ من المؤسستين لديها الموارد المالية اللازمة لإطلاق قمر صناعي إلى الفضاء؛ ومن ثَمَّ، لم يكن الأمر في مقدرة أي جهة أخرى سوى وزارة الدفاع.

التقى ووترمان وبرونك بوزير الدفاع تشارلز ويلسون، واقترحا عليه إطلاق مركبة في مدار فضائي باسم الأكاديمية، وهو ما كان ترتيبًا بعيدًا كلَّ البُعْد عن المجال العسكري، مثلما كان بعيدًا عن مؤسسة نوبل نفسها. أحال ويلسون الموضوع إلى مساعده لشئون البحث والتطوير. وفي ذلك الوقت تحديدًا، في ربيع عام ١٩٥٥، كان كوارلز منشغلًا كثيرًا بعمليات الاستطلاع الاستراتيجي.

كان الجنرال كيرتس لوماي، رئيس القيادة الجوية الاستراتيجية، متحمسًا بشدة لبذل مزيد من الجهد في هذا المجال، وكان على طواقم طيَّاري القاذفات أن يكونوا مستعِدين للطيران إلى منطقة الهجوم، واحتاجوا إلى صور مُلتقَطة بالرادار للأهداف فضلًا عن معلومات حول الدفاعات الجوية السوفييتية. وكان يعلم أن عمليات التحليق الجوي بغرض الاستطلاع تُعتبَر من الناحية القانونية عملًا عدائيًّا حربيًّا، وكان ترومان قد حظرها لهذا السبب؛ ولكنَّ لوماي تحايَلَ على هذا الحظر بإرسال القاذفة «بي-٤٥» إلى بريطانيا؛ إذ كانت القوات الجوية الملكية قد استخدمت هذه القاذفات في التحليق فوق الأراضي السوفييتية، وأطلعت القيادة الجوية الاستراتيجية على نتائج عملياتها. وبحلول عام ١٩٥٤، كان لوماي يقود طائرةً بنفسه بغرض الاستطلاع، بتصريحٍ من آيزنهاور، وظلَّ لفترة لا يعثر إلا على دفاعات جوية ضعيفة حقًّا، وتحدَّثَ عن هذا الأمر لاحقًا بقوله: «كنَّا نقود جميع طائرات الاستطلاع المملوكة للقيادة الجوية الاستراتيجية فوق فلاديفوستوك في ذروة الظهيرة.» وكانت فلاديفوستوك قاعدةَ موسكو البحرية الرئيسية في المحيط الهادئ.

بالإضافة إلى استهداف المعلومات، أراد محلِّلو البنتاجون على نحوٍ مُلِحٍّ التعرُّفَ على حالة الاستعدادات السوفييتية للحرب، وكان الاختبار النووي الذي جرى عام ١٩٥٣، الذي أسفر عن آثار انفجارية بلغت ٤٠٠ كيلوطن، قد فاجَأَ الجميع، بينما وصلت أخبار مقلقة من هيلموت جروتروب وزملائه، الذين كان معظمهم قد عاد إلى ألمانيا بين عامَيْ ١٩٥١ و١٩٥٣. وكان السوفييت قد أخفوا عنهم البحوث التي أجراها كوروليف وأشخاص آخرون من الروس، لكنهم طلبوا منهم إجراءَ دراساتٍ مفصَّلة حول الصواريخ البعيدة المدى؛ واستنتج الخبراء الأمريكيون بسهولة، عند التحقيق مع هؤلاء العائدين، أن موسكو كانت تعِدُّ العُدَّة لبناء صواريخ بعيدة المدى اعتمادًا على قدراتها الذاتية.

كان ووترمان وبرونك عضوين في لجنة استشارية علمية رئاسية، وكان ووترمان يشغل منصب نائب رئيس اللجنة، وهو لي دوبريدج، رئيس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. وفي مارس ١٩٥٤ التقى آيزنهاور بأعضاء هذه اللجنة ونبَّهَهم إلى خشيته من وقوع هجوم مفاجئ، على غرار هجوم بيرل هاربر، يؤدِّي إلى تدمير مدن بأكملها وليس مجرد سفن حربية. وكانت وكالة الاستخبارات المركزية قد أصدرت تقريرها لعام ١٩٥٤، الذي توقَّعَتْ فيه أن تمتلك موسكو عام ١٩٥٧ خمسمائة قاذفة قنابل طراز «تي يو-٩٥» تعمل بالمحركات المروحية التوربينية؛ وكانت أولى الخطوات التي اتخذها دوبريدج في سبيل ذلك تستهدف تشكيلَ لجنةٍ رفيعةِ المستوى، باسم لجنة القدرات التكنولوجية (تي سي بي)، وهي لجنة كان من شأنها التوصية بسياساتٍ جديدة لتفادي هذا الخطر.

في غضون أسابيع، زادت أحداثٌ جديدة من حجم التهديد؛ ففي الأول من مايو، عرضت القوات الجوية الروسية قاذفتها النفاثة الجديدة بيزون في عرض جوي عام، وكانت مفاجأةً أخرى أن تصنع موسكو قاذفةً نفاثة سوفييتية، وأثار الأمر قلقًا بالغًا؛ لأنه لم يعرف أحدٌ بأمر هذه الطائرة حتى عرضها الكرملين في عرضٍ عام. وبعدها بأسبوع، توغَّلَتْ إحدى طائرات لوماي طراز «بي-٤٧» في الاتحاد السوفييتي في مهمة استطلاعية ورصدتها طائرة اعتراضية نفاثة طراز «ميج-١٧». واستطاعت طائرة «بي-٤٧» الهروب بعد إصابتها بتسرُّب في خزان الوقود، ونجحت في العودة إلى إنجلترا. لكن الفكرة اتضحت؛ فقد أصبحَتِ الطائرات النفاثة لأمريكا نفسها في خطرٍ الآن.

كان أحد الحلول يتمحور حول الصاروخ «أطلس»، الذي صارت له أولوية قصوى خلال شهر مايو نفسه؛ ولكنْ، كان من الواضح أن الأمر يتطلَّب التزامًا أقوى تجاه الاستطلاع. ولم يكن لوماي يعمل في هذا المجال بصورة دائمة، وهو ما كان وضعًا غير مقبول بالنسبة إلى آيزنهاور. كان الأمر يعني أن القوات الجوية ستتحكَّم في الأصول المستخدَمة في قياس التهديد السوفييتي، فضلًا عن حجم القوة التي سترد بها على أي تهديد، وهو ما زاد من احتمالات تحريف جنرالات القوات الجوية من تقديراتهم الاستخباراتية بما يدعم مطالبهم للحصول على أسلحةٍ جديدة. وكان آيك يرغب في إجراء عمليات استطلاعية في إطار مؤسسة لم يكن في استطاعة لوماي التحكُّم فيها، أَلَا وهي وكالة الاستخبارات المركزية.

تبلورت اللجنة الجديدة المتمثلة في لجنة القدرات التكنولوجية في منتصف عام ١٩٥٤؛ إذ عيَّنَ آيزنهاور جيمس كيليان — رئيس معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — رئيسًا للجنة، وضمَّتِ اللجنةُ لجنةً فرعية، باسم مشروع ٣، تختص بالوسائل الفنية في المراقبة والإشراف. وكان من بين مَن عملوا في هذه اللجنة الفرعية كليرنس كيلي جونسون من شركة «لوكهيد»، وهي إحدى أهم شركات تصميم الطائرات في البلاد؛ وكانت شركته، «سكانك وُوركس»، قد صمَّمَتْ وبَنَتْ أولَ طائرة مقاتلة نفاثة فعَّالة في أمريكا، «بي-٨٠»، خلال عامَيْ ١٩٤٣ و١٩٤٤. وآنذاك، في أعقاب الحرب الكورية، كان جونسون يطوِّر طائرة «إف-١٠٤»، التي بلغت ٢ ماخ. وفي وقتٍ سابقٍ من هذا العام، كان جونسون قد أعَدَّ تصميم طائرة استطلاع وروَّجَ لها لدى القوات الجوية، دون أي نجاح.

على الرغم من ذلك، تلقَّى جونسون تشجيعًا قويًّا من تريفور جاردنر، وكان هو وجاردنر قد عرضَا نموذجَ طائرة الاستطلاع الجديدة على لجنة مشروع ٣ في محاولةٍ جديدةٍ لترويجها، وكان رئيس اللجنة الفرعية، إدوين لاند، قد اخترع كاميرا بولاريود وهو رئيس شركة «بولاريود كوربوريشن». وكان في مقدور جونسون إنجاز أي شيء بسرعة إذا اضطرَّ إلى ذلك؛ فقد بنى نموذج «بي-٨٠» الأول من لا شيء في غضون ١٤٣ يومًا فقط، وها هو يَعِدُ بالانتهاء من طائرة التجسس التي كان يصمِّمها وإجراء طيران تجريبي في غضون ثمانية عشر شهرًا من توقيع العقد. قدَّمَ لاند وكيليان مقترحَ جونسون إلى آيك وأقنعاه بقبوله. وتماشيًا مع ميل وكالة الاستخبارات المركزية لإطلاق أسماءٍ غامضة لا تُفصح عن الكثير، أُطلِق على الطائرة الجديدة اسم «يوتيليتي-٢».

كان الشخص المسئول في وكالة الاستخبارات المركزية عن تولي أمور «يو-٢» من البداية هو ريتشارد بِسل، وكان شخصًا طويل القامة ونحيل الجسم؛ ممَّا جعله يبدو مثل شخص أرستقراطي، وكان يمتلك خلفية تجعله أهلًا لذلك؛ فقد درس في جامعة جروتون وجامعة ييل وكلية لندن للاقتصاد. ونظرًا لما كان يتسم به من لطفِ القول والأدبِ غير المتكلَّف، فضلًا عن تفضيله ارتداء حلَّاتٍ من ثلاث قطع؛ كان يتمتع بصلاتٍ اجتماعية واسعة، وهي ميزة كانت كفيلة وحدها أن تحقِّق له الترقِّي في مسيرته المهنية. ولكنَّ أهم ما ميَّزه كان عقله؛ فقد درَّسَ الاقتصاد في جامعة ييل، وكان من بين طلابه ماكجورج باندي، الذي صار مستشارَ الأمن القومي لدى جون فتزيجرالد كينيدي. وفي أعقاب الحرب، قاد جهودَ مشروعِ مارشال التي ساهمَتْ في إعادة تعمير أوروبا، ووصفه المؤرِّخ توماس باورز بأنه شخصٌ «يتمتع بالوضوح والذاكرة القوية والثقة بالنفس، التي لم يكن يُعرِب عنها إلا قليلًا، حتى إن السؤال الوحيد ذا الصلة الذي كان يطرحه عن أي نظام هو التساؤل عمَّا إذا كان قد نجح أم لا. وكان شغوفًا أيما شغف بالتفاصيل، وبمجرد أن يقرِّر الإلمام بطريقة عمل أي شيء، كان ينكبُّ على العمل ويأخذ الأمر على عاتقه الخاص.»3

كان قد مضى على بِسل في وكالة الاستخبارات المركزية أقل من عام عندما أخبره مديره، آلان دلاس، ذات صباحٍ قرارَ توليه رئاسة برنامج الطائرة «يو-٢». وفي ظهيرة ذلك اليوم، التقى بِسل بمجموعة من أفراد القوات الجوية في مكتب جاردنر في البنتاجون، وتحدَّثَ بِسل عن هذا اللقاء لاحقًا قائلًا: «سرعان ما اتضح أنه على الرغم من اتخاذ قرار على أعلى مستوًى، لم تكن ثمة خطط دقيقة لتنفيذ أي شيء. وعندما أُثيرت مسألة التمويل، نظر الجميع في اتجاهي.» وافَقَ بِسل على تخصيص ٢٢ مليون دولار أمريكي من خلال صندوق تفويضي كان دلاس يديره، وهو ما سيسمح بالمضي قدمًا في المشروع دون موافقة الكونجرس عليه، أو حتى دون أن يدرك وجود هذا البرنامج.

ظلَّتِ القوات الجوية تباشِر هذا المشروع عن كثبٍ؛ حيث كانت توفر المحركات وتدرِّب طياريها، وكانت تُخفِي هوية هؤلاء الطيَّارين عن طريق نقلهم خارج الخدمة إلى وكالة المخابرات المركزية، وإكسابهم هوياتٍ جديدةً كمدنيين يعملون بها في «لوكهيد». بالإضافة إلى ذلك، حصل لوماي على نماذج طائرات طراز «يو-٢»، وإن ظلت إدارة المشروع تقع بالكامل ضمن اختصاصات بِسل الحصرية. وأسَّسَ فريق بِسل مكتبًا منفصلًا عن بقية مكاتب وكالة الاستخبارات المركزية، تولَّى كتابةَ عقوده والاحتفاظ بسجلاته المالية والاضطلاع بالأمور الإدارية والأمنية. وكان الفريق يتألف من سبعة أفراد من بينهم ضابط أمن، وحافَظَ بِسل على أن تكون عمليات الاتصال سرِّيَّة، حتى إن دالاس نفسه لم يكن يستطيع الاطلاع على سجلاتها.

بالإضافة إلى ذلك، منح بِسل جونسون سلطاتٍ واسعة، وكانا يجريان معظم الأعمال عبر الهاتف، مرةً واحدة شهريًّا، وكان جونسون يقدِّم تقريرًا عن سير العمل من خمس أو ست صفحات. ولكن، داخل وكالة الاستخبارات كان هذا العدد من الصفحات يصل إلى وثيقة هائلة الحجم. وكانت الأنشطة الأخرى ذات الحساسية المشابهة، مثل خطط اغتيال فيدل كاسترو، تعتمد بالكامل على المحادثات الشفهية، مع عدم وجود أي شيءٍ مكتوب.

في منتصف شهر فبراير من عام ١٩٥٥، أصدرت لجنة كيليان بالكامل تقريرها، بعنوان «مواجهة التهديد بهجوم مفاجئ»، وأشار كيليان إلى أن أحد مساعدي الرئيس «نسَّقَ بعناية جميع الخطط اللازمة لتقديم التقرير وجعلنا جميعًا نجري تدريبًا على تقديمه». ثم انتقل إلى الحديث عن جلسة لمجلس الأمن القومي، عُقِدت في البيت الأبيض نفسه.

أشار التقرير قائلًا: «إننا نتمتع بميزة هجومية لكننا معرَّضون لهجوم مفاجئ (كُتبِت هذه العبارة بالأحرف المائلة في نص التقرير الأصلي على سبيل التأكيد). ونظرًا لأننا عرضة لهذا الهجوم، فربما يغري الأمر السوفييت بمحاولة شنِّ هجومٍ فعلي.» وكانت البلاد في حاجة إلى أجهزة رادار لإطلاق تحذيراتٍ مبكرة من اقتراب قاذفاتٍ سوفييتية. بالإضافة إلى ذلك، أضاف التقرير قائلًا: «نظامنا الدفاعي غير مؤهَّل، ومن ثَمَّ فإن القيادة الجوية الاستراتيجية تعاني ضعفًا قد يجعلها غير قادرة على التعامل مع الأمر.» وإلى حين أن تتمكَّن البلاد من علاج أوجه القصور هذه، ستكون مكشوفةً أمام قاعدة بيرل هاربر النووية.

لكن، رأى فريق كيليان أيضًا أن المبادرات الجديدة، لا سيَّما ما يخص الصاروخ «أطلس» الباليستي العابر للقارات، تعزِّز على الأرجح موقفَ الولايات المتحدة. ودعا فريق كيليان إلى تقديم مبادرات جديدة على نفس المنوال، مع وضع عملية جمع المعلومات الاستخباراتية على رأس قائمة الأولويات. وفي القسم الذي كتبه إدوين لاند في التقرير، كتب لاند قائلًا: «يجب أن نجد وسائل لزيادة الحقائق الثابتة والمؤكدة التي نبني عليها تقديراتنا الاستخباراتية، من أجل تقديم تحذير استراتيجي أفضل، والحد من عنصر المفاجأة في الهجوم المتوقَّع، وتقليل خطر المبالغة الجسيمة أو الاستخفاف الشديد بهذا التهديد.» ولتحقيق هذا، سيتعيَّن على وكالة الاستخبارات المركزية «التوسُّع في استخدام ما توصَّل إليه العلم والتكنولوجيا من نتائج».4

كان من المقرر أن تساعد الطائرة «يو-٢» في ذلك، لكنها لم تكن أكثر من نظام مؤقت فقط؛ إذ كان من المفترض أن تعبر أراضي الاتحاد السوفييتي بأكملها على ارتفاع ٧٠ ألف قدم؛ أيْ أعلى بكثير من مدى تحليق الطائرات الاعتراضية أو الصواريخ المضادة للطائرات، لكن بما لا يتجاوز مرمى الرادار. وكانت وجهة النظر السائدة داخل وكالة الاستخبارات المركزية أنه في غضون عام أو اثنين من بداية تحليق هذه الطائرات فوق الأراضي السوفييتية، ستكون لدى موسكو رادارات تستطيع تتبُّع طائرات «يو-٢» على نحو فعَّال، وسيتمكَّن قادةُ الاتحاد السوفييتي إذن من إطلاق احتجاجاتٍ دبلوماسية استنادًا إلى أدلة؛ وهو ما سيولِّد ما يكفي من الضغط السياسي لإيقاف تلك المهمات.

أما فيما يتعلَّق بعمليات الاستطلاع باستخدام الأقمار الصناعية، فكانت مسألةً أخرى، واستطاعت شركة راند، من خلال قدرتها المعتادة على الاستشراف، أن تُرسي أسسًا مهمة من خلال دراساتٍ سرِّيَّة. وفي أبريل ١٩٥١، أصدر باحثو المؤسسة تقريرَين جديدين؛ «فائدة القمر الصناعي في الاستطلاع»، و«بحث في جدوى الاستطلاع الجوي باستخدام قمر صناعي». ثم أجرت المؤسسة دراسةً كبرى بعنوان «إفادة المشروع» تحت رعاية وكالة الاستخبارات المركزية، وصدرت تقاريرها الفائقة السرِّيَّة في ١ مارس ١٩٥٤، في اليوم نفسه الذي أُجرِي فيه اختبار القنبلة الهيدروجينية «برافو». وكانت الدراسات مفصَّلة في حقيقة الأمر؛ حيث بلغ حجم الملخص وحده، الذي كان يحمل عنوان «تحليل إمكانات أسلوب استطلاعٍ غير تقليدي»، مجلدين.

تضمَّنت موضوعات النقاش الرئيسية الحديثَ عن أساليب لنقل صور إلى المحطات الأرضية، وكان أحد الأساليب، التي جرى بحثها في «آر سي إيه»، يتضمَّن استخدامَ كاميرا تليفزيونية، كانت تُخزَّن صورها على شريط فيديو، وعندما تحلق المركبة الفضائية فوق محطة أرضية، كانت ترسل محتويات الشريط باستخدام وصلة لاسلكية.

بشَّرَ أسلوبٌ آخَر، جرَتْ دراسته في شركة «إيستمان كوداك»، ومختبرات «سي بي إس»، و«فيلكو»؛ بتقديم تفاصيل أدق من خلال استخدام كاميرا فوتوغرافية. وكان من المفترض أن يمر الفيلم في الكاميرا عبر معالج سطحي لتحميض الأفلام، ثم يمر الفيلم المحمَّض عبر ماسح ضوئي، يلتقط كلَّ صورةٍ على نحو ما يحدث في الصور السلكية، في صورة مجموعة متتابعة من الخطوط المتقاربة في مسافاتها؛ ثم تُخزَّن البيانات الناتجة على شريطٍ يجري نقل محتواه لاحقًا.

لم يكن أيٌّ من هذه الاختبارات في مثل بساطة القمر الصناعي «ماوس» الذي طوَّرَه فريد سينجر، أو منطاد فون براون الذي يدور في مدار فضائي. كانت هذه عبارة عن تصميماتٍ مفصَّلة لمختبرات تصوير آلية تستطيع أن تحقِّق من خلال تكنولوجيا الإلكترونيات ما كان فون براون يعتقد أنه سيتطلَّب وجودَ روَّاد فضاء على متن محطته الفضائية، وكانت القوات الجوية مستعدة لاتخاذ خطواتٍ سريعة. وفي منتصف مارس ١٩٥٥، بعد شهر واحد من إصدار لجنة كيليان تقريرها، أصدر مركز تطوير قاعدة «رايت» الجوية إعلان احتياجات التشغيل العامة رقم ٨٠، الذي طالَبَ الشركات بتقديم عروضٍ لتصميم «نظام سلاح أقمار استطلاع صناعية استراتيجية»، يحمل اسم «دبليو إس-١١٧إل». وبمرور الوقت، انضمَّ مشروعُ تصميم القمر الصناعي إلى إمبراطورية ريتشارد بِسل الآخذة في الاتساع، لكن على الرغم من أن المشروع كان لا يزال قيدَ التطوير، فإنه ظلَّ مشروعًا تابعًا للقوات الجوية.

بعد وقتٍ غير طويل من إعلان احتياجات التشغيل العامة رقم ٨٠، تقدَّمَ دتليف برونك وآلان ووترمان إلى وزير الدفاع ويلسون بمقترح لتصميم قمر صناعي يجري الإعلان عنه خلال السنة الجيوفيزيائية الدولية. وفي الواقع، لم يكن برونك ووترمان مفكِّرَين ساذجَين يدخلان عالَم المنافع الدنيوية كما قد يخطئ البعض الظن بهما، بل كان كلٌّ منهما مستشارًا رئاسيًّا بفضل مؤهلاته. ولكن عندما أحال ويلسون الموضوع إلى مساعده كوارلز، لم يكن الأمر اختيارًا مباشرًا بين المركبة المدارية والصاروخ «فايكنج». وظلَّ «دبليو إس-١١٧إل» متواريًا في خلفية الأحداث، في حين تصدَّرَتِ المتطلباتُ اللازمة لتصميمه المشهدَ، خاصةً أن قمر «آي جي واي» كان سيلبِّي تلك الاحتياجات من خلال ترسيخ مبدأ حرية الفضاء، باسم العلم الذي يُسعَى إليه من أجل خدمة الإنسانية جمعاء، وهو ما كان يعني احتمالية إطلاق أقمار صناعية أخرى لصالح وكالة الاستخبارات المركزية.

هل كان فون براون يستطيع تحقيق ذلك؟ لم يكن ثمة سبيل قطُّ إلى تحقيق ذلك؛ فمشروع قمره الصناعي كان محكومًا عليه أن يحمل مرجعيةً عسكريةً خاصة بالجيش في جميع جوانبه؛ فالمركز الذي كان سيصمِّم فيه المشروعَ هو «ردستون آرسنال»، وهو مصنع الكيماويات الحربي الذي صار مصنعًا للصواريخ العسكرية بعد ذلك. والصاروخ المعزِّز، «ردستون»، الذي كان سيستعين به هو سلاحٌ قائم بذاته، قادرٌ على حمل القنبلة الذَّرِّيَّة. وإزاء هذه الخلفية العسكرية الصرفة، لم تكن «آي جي واي» ستمثِّل إلا ساترًا رقيقًا، وكان العالم سينظر إلى قمر فون براون باعتباره ليس إلا مقدمة لغزو الفضاء بالقوة العسكرية.

لكن، كان مقترح ميلتون روزن أمرًا مختلفًا تمامًا؛ فتصميم الصاروخ المعزِّز كان مستمَدًّا من الصاروخين «فايكنج» و«إيروبي»، اللذين صارا يُعرَفان باعتبارهما صواريخ أبحاث يجري إطلاقهما لأغراضٍ علمية. ولم يكن مختبر البحوث البحرية — وهو المركز الذي يُنتظر أن يجري فيه تنفيذ مشروع «روزن» — يمتلك السُّمعة القوية التي يتمتع بها «ردستون آرسنال»، وكان المختبر معروفًا باعتباره مركزَ بحوثٍ بالمعنى الصريح للكلمة؛ حيث يضمُّ علماءَ ذوي سُمْعة مرموقة قدَّموا إسهاماتٍ مهمة في مجالاتهم.

لذا، بالنسبة إلى دون كوارلز، لم يكن الخيار يحتاج إلى تفكير عميق، لكنه لم يكن يستطيع الإعلان عن اختياره فحسب؛ إذ كان الأمر سيصبح مثارًا للقيل والقال. وكانت إثارة استياء الجيش آخِرَ ما يريده كوارلز؛ إذ كان في مقدور الموالين للجيش إثارةُ الأمور ضده في الكونجرس. لم يستطع كوارلز أيضًا الإفصاح عن السبب؛ إذ كان يتعيَّن إبقاء أمر «دبليو إس-١١٧إل» طيَّ الكتمان؛ ومع ذلك، استطاع كوارلز بسهولةٍ ممارَسة اللعبة القديمة في تشكيل لجنة استشارية، وصارت مهمته أكثر سهولةً في أواخر شهر مايو؛ حيث صدَّقَ مجلسُ الأمن القومي على قمر «آي جي واي» الصناعي، شريطةَ التشديد بوجه خاص على الأغراض السلمية للمشروع، وهو ما أسهم في إقناع لجنة كوارلز، التي اتفق أعضاؤها على أن مقترح روزن أكثر سلميةً من مقترح فون براون. وممَّا استحسنه أعضاءُ اللجنة أيضًا أن روزن كان يقدِّم مقترحَ قمر صناعي كامل التجهيز بمعنى الكلمة، فضلًا عن اشتماله على وسائل تعقُّب. وبناءً على نسبة التصويت التي بلغت سبعةَ أصوات إلى صوتين، وقع الاختيار على هؤلاء المستشارين للانضمام إلى البحرية.

كانت ثمة مشكلة واحدة، أَلَا وهي أن الجيش كان يمتلك الوسائلَ التي من شأنها أن تجعل الولايات المتحدة الأولى في ريادة الفضاء، بينما لم تكن البحرية تملك هذه الوسائل.

درس مساعدو كوارلز مقترحَ «آي جي واي» من وجهة نظرٍ عسكرية، مشيرين في أحد التقارير أنه «يُعتقَد أن مجموعةً من أهم العلماء الروس يعملون على برنامج إطلاق قمر صناعي». وأضاف أحد المعاونين الرئاسيين، نيلسون روكفلر، ملاحظاتٍ تشدِّد على أهمية أن يكون للولايات المتحدة الدور الريادي في هذا الأمر؛ حيث قال: «إنني متأثِّر جدًّا بالآثار المكلِّفة المترتبة على السماح للمبادرة الروسية بالتفوُّق على مبادرتنا، من خلال إنجازٍ سيراه الناس في كلِّ مكان رمزًا للتقدم العلمي والتكنولوجي. وأمام المراهنة على هذه المكانة، فإنني أراه سباقًا لا نستطيع تحمُّل آثار الهزيمة فيه.» لم يتأثر مجلس الأمن القومي؛ حيث أصدر وثيقة السياسات «إن إس سي-٥٥٢٠» التي تضمَّنت قسمًا سرِّيًّا أكَّد بشدة على أهمية الحفاظ على سرِّيَّة مشروع «دبليو إس-١١٧إل».

بالإضافة إلى ذلك، حاوَلَ فون براون اللحاق بالرَّكْب من خلال تقديم مقترح بإطلاق جهاز إرسال لاسلكي بدلًا من منطاد يدور في مدار فضائي، ولكن وزن الجهاز كان خمسة أرطال فقط، وهو ما لم يكن كافيًا. وفي أغسطس، عندما جاء تصويت اللجنة الاستشارية في صالح البحرية، عبَّرَ اللواء لزلي سايمون من إدارة التسليح في الجيش عن غضبه، ومن خلال تركيب صواريخ وقود صلب تُضاف من خلالها مراحلُ أعلى إلى صاروخ «ردستون»، وعَدَ سايمون بإطلاق قمر كامل التجهيزات يبلغ وزنه ثمانية عشر رطلًا، وصرَّحَ قائلًا: «من الممكن إطلاق أول رحلة مدارية في يناير ١٩٥٧ إذا مُنِحت موافقة فورية.» واستجابت الشركات المتعاقدة مع البحرية — «جنرال إلكتريك»، و«مارتن»، و«إيروجت جنرال»، و«ثيوكول كيميكال» — من خلال تأكيداتها على اتخاذ إجراءاتٍ سريعة، ولم يُلتَفَت إلى طلب سايمون.

ذهب رئيس اللجنة الاستشارية، هومر ستيوارت، من مختبر الدفع النفاث إلى هانتسفيل، وأخبر فون براون بأن يجهِّز الصاروخ «ردستون»، في حال استجَدَّتْ أيُّ أمور، وسرعان ما أضاف فون براون صواريخَ المراحل العليا، التي لم يكن المقصود منها إطلاق قمر صناعي، بل إطلاق النماذج التجريبية من المقدمات المخروطية، وقرَّرَ أن يبدأ بعملية إطلاق تجريبية لإثبات أن صاروخه المتعدد المراحل، باسم «جوبيتر-سي»، سينجح في الانطلاق.

نصب فون براون الصاروخ «جوبيتر-سي» على منصة الإطلاق في ٢٠ سبتمبر ١٩٥٦، استعدادًا لإطلاقه. وبَدَا مشابهًا تمامًا للصاروخ الذي حمل أول قمر صناعي أمريكي، «إكسبلورار ١»، بعد ذلك بستة عشر شهرًا. ثم دقَّ جرس الهاتف وسمع فون براون صوتَ رئيسه، اللواء جون مداريس، الذي حدَّثَه قائلًا: «فيرنر، يجب أن أوجِّه إليك أمرًا مباشرًا وبصفة شخصية لفحص صاروخ المرحلة الرابعة لضمان عدم إطلاقه بصورة فعلية.»

على الرغم من عدم بلوغ الصاروخ مداره، فاقَتِ المرحلة الأخيرة من عملية الإطلاق جميعَ مقاييس الأداء الموضوعة؛ حيث حلَّقَ الصاروخ لمسافة ٣٣٥٥ ميلًا بعيدًا عن مكان الإطلاق، ووصل إلى ارتفاع ٦٨٢ ميلًا. ومع ذلك، لم يحدث حتى هذا الأمر أي فرق؛ مثلما عقَّبَ المؤرِّخ والتر ماكدوجال قائلًا:

لو كان تحقيق الريادة هو الاعتبار الأول في سياسة الولايات المتحدة لإطلاق قمر صناعي أمريكي، لَكان من الممكن أن تتخطَّى وزارة الدفاع لجنتها الاستشارية. ولكن السرعة وتحقيق السَّبْق «لم» يكونا اعتبارًا أوَّليًّا؛ فالمطلب الأهم، في النهاية، هو ضمان إضفاء أقوى صِبغة مدنية على المشروع. وكان قد أُشير على الإدارة الأمريكية بأهمية الدعاية في تحقيق الريادة للولايات المتحدة في الوصول إلى الفضاء. ولكن، حاز هذا المطلب السياسي على أقل مستوًى من الأولوية بين جميع المطالب السياسية الحيوية الأخرى؛ فقد كانت ثمة وسيلتان لإيجاد مسار قانوني لإطلاق أقمار الاستطلاع الصناعية، وكانت إحداها هي أن تتمكَّن الولايات المتحدة من تفادي رصد القمر الصناعي الصغير الذي سيجري إطلاقه أولًا، وأَلَّا يثير إطلاقُه أيَّ اعتراض. وكانت الأخرى أن يطلق السوفييت قمرَ استطلاع أولًا.

كان الميل للأخذ بالحل الثاني أقلَّ، ولم يكن الأمر يستدعي اتخاذ التدابير اللازمة للحيلولة دون أن يكون للاتحاد السوفييتي السَّبْق في ذلك.5

إذن، كان برنامج الفضاء في أمريكا، منذ البداية، يتضمَّن ثلاثة أنواع مختلفة من الأنشطة، أَلَا وهي جهود تطوير «آي جي واي»، وقمر «دبليو إس-١١٧إل»، والرحلات الفضائية المأهولة. بدأت أنشطة رحلات الفضاء المأهولة مع السيناريوهات التي طرحتها مجلة «كوليرز»، وعندما تبلورت البرامج الحقيقية، حافظت البرامج على تركيز «كوليرز» القوي على إطلاق برامج تتسم بتوقُّعات مبالَغ فيها والترويج الهائل لها. ونال مشروع «آي جي واي» حظَّه الوافر من الدعاية، التي بدأت بالإعلان عنه في مؤتمر صحفي في البيت الأبيض بدعوة من السكرتير الصحفي للرئيس؛ جيمس هاجرتي. وبالطبع، لم يزد المؤتمر عن كونه مجرد تعمية عن المشروع الفضائي الحقيقي، بَيْدَ أن هاجرتي لم يكن يتحدَّث عن المشروع الحقيقي، بل لم يكن حتى يعرف به، في حقيقة الأمر.

في سبتمبر ١٩٥٥ وجَّهَ نائب وزير الدفاع روبن روبرتسن تعليماته الرسمية إلى البحرية بالمُضِيِّ قُدمًا في مشروع قمرها الصناعي، مطلقًا عليه مشروع «فانجارد». وكان هذا الاسم الذي يعني «طليعة» قدريًّا؛ حيث ظلَّ الحزب الشيوعي يؤكِّد لعقودٍ أنه يقف في طليعة الجهات العاملة في العالم. وفي موسكو، كان سيرجي كوروليف يمضي حثيثًا في خطط التطوير.

على الرغم من أن كوروليف كانت تداعِبه آمالُ الفضاء منذ العام الأول له في موسكو، لم تأتِه الفرصة الأولى للعمل الجاد في هذا الشأن إلا في عام ١٩٤٨، وجاءت الفرصة من دراساتٍ أجراها صديق قديم، يُدعَى ميخائيل تيخونرافوف، الذي كان كوروليف يعرفه منذ أيام الدراسة تلك، وكانا قد عملَا معًا في مجموعة موسكو لدراسة حركة رد الفعل (موسجيرد)، عندما كانت لا تزال تتخذ قبوَ الخمور مقرًّا لها، ثم انضمَّا إلى معهد البحوث العلمية للدفع برد الفعل، على الرغم من أن تيخونرافوف لم يقع رهن الاعتقال خلال عمليات التطهير. يشير ياروسلاف جولوفانوف — كاتِب سيرة حياة كوروليف — إلى «الحماس الوجداني وشطحات الخيال» لدى تيخونرافوف؛ إذ «كان يرسم لوحات باستخدام الزيت، ويجمع الخنافس الآكلة للأخشاب، وكان يدرس ديناميكا الطيران لدى الحشرات. كان ببساطة يعشق التعلم».

بعد الحرب، انضمَّ تيخونرافوف إلى معهد صواريخ جديد كان سيحدِّد متطلبات سلاح صواريخ جاهز للعمل. وفي عام ١٩٤٧، قرَّر تيخونرافوف بحث إمكانية تصميم قمر صناعي. صرَّحَ له رئيسه بتكوين مجموعة صغيرة من الزملاء المتحمسين، الذين أجْرَوْا العمليات الحسابية الخاصة ﺑ «حزمة صواريخ»، وهي مجموعة من الصواريخ المتماثلة ترتدُّ في مسار عمودي خلال صعودها عندما تستنفد ما فيها من وقود دفعي. وصارت المجموعة مقتنعةً — من خلال التحليلات التي أجرتها — بأن تكنولوجيا الصواريخ في ذلك الوقت كانت تكفي لبناء حزمة صواريخ يمكنها إطلاق مركبة فضائية في مدار فضائي.

في يونيو ١٩٤٨، تلقَّى تيخونرافوف دعوةً لتقديم ورقة بحثية في أحد اجتماعات أكاديمية علوم المدفعية، وكان يعرف بطبيعة الحال ما كان يُراد منه أن يقدِّمه، بَيْدَ أن الفكرة بَدَتْ غريبةً للغاية، حتى إنه قرَّرَ أن يتحدَّث إلى رئيس الأكاديمية، الجنرال أناتولي بلاجونرافوف. قرأ الجنرال ورقته البحثية وقال: «لا يمكن أن نقدِّم هذه الورقة البحثية ضمن فعاليات الاجتماع؛ فلن يستوعبها أحد. وسيتهمونني بأنني أهتمُّ بأمورٍ لا حاجةَ لنا بالاهتمام بها.»

في ذلك المساء، عندما قرأ بلاجونرافوف الورقةَ مرةً أخرى، بدأ يفكِّر أنه ربما لا يكون من السهل رفض هذه الورقة على أية حال. بالإضافة إلى ذلك، حثَّ زملاء تيخونرافوف إيَّاه على عدم التسليم بالرفض، ونصحوه بتقديم حجج أقوى وإعادة المحاولة مجددًا. وبالفعل، عاد تيخونرافوف إلى الجنرال مرةً أخرى، فابتسم الجنرال واستمع إليه بعناية؛ وفي النهاية، قرَّرَ الجنرال الموافقة قائلًا: «حسنًا، سنقدِّم الورقة. كن مستعِدًّا، سنتعرَّض للإحراج معًا.» كان يعلم ما سيواجهانه؛ إذ بعد أن قدَّمَ تيخونرافوف الورقةَ، نظر ضابط عسكري آخَر صوبَ بلاجونرافوف وسأل قائلًا: «أَلَا يوجد لدى المعهد ما يفعله حتى يناقش أمورًا خيالية كهذه؟»

لكن كان كوروليف موجودًا أيضًا، واقترب من صديقه القديم وقال: «لدينا أمور مهمة علينا مناقشتها.» شارَكَ بلاجونرافوف نفسه في المناقشات التي أعقبت ذلك، ثم رتَّبَ عمليات إطلاق عدة صواريخ طراز «في-٢» من كابوستن يار كصواريخ تجريبية. وفي يونيو ١٩٥١، اتسع نطاق المشروع ليشمل وضْعَ كلابٍ على متن الرحلات؛ وحلَّقَ كلبان، أُطلِق عليهما اسم «دزيك» و«تزجان»، إلى ارتفاع أكثر من مائة كيلومتر، ومرَّا بحالة انعدام وزن لمدة أربع دقائق، ثم سرعان ما لحق بهما سبعة كلاب أخرى في رحلاتٍ تالية.

كان كوروليف منهمكًا بشدة خلال ذلك الوقت في إنجاز تصميمات الصاروخ «آر-٣»، وكان يدرك تمامًا أن «آر-٣» قادر تمامًا على حمل قمر صناعي، من خلال إضافة صاروخين لتولِّي مرحلتين إضافيتين، وكان هو وتخونرافوف قد خطَّا وثيقةً، بعنوان «بحث حول قمر صناعي يدور حول الأرض»، وبدأت هذه الوثيقة تناقش أمورًا فنية على نحوٍ جادٍّ. ثم صدر، في مايو ١٩٥٤، القرارُ النهائي بالبدء في تطوير الصاروخ «آر-٧» الباليستي العابر للقارات؛ وبعدها بستة أيام، كتب كوروليف خطابًا إلى مجلس الوزراء قائلًا: إن المشروع الحالي لتطوير صاروخ جديد تبلغ سرعته القصوى ٧٠٠٠ متر في الثانية، يتيح لنا على الأرجح التحدُّث عن إمكانية تطوير قمر صناعي أرضي في المستقبل القريب. وبتقليص وزن الحمولة نوعًا ما، سيمكننا تحقيق سرعة ٨٠٠٠ متر في الثانية، وهي السرعة التي يحتاج إليها القمر الصناعي.6

في يوليو، كان كوروليف قد أعَدَّ تصميمًا عامًّا كاملًا للصاروخ «آر-٧»، في خمسة عشر مجلدًا، وكان المهندسون يعدُّون الرسومات الفعلية الأولى. واقتضى التصميم تطوير صاروخ قادر على حمل رأس حربية زنة ٥٤٠٠ كيلوجرام لمسافة ٨٦٠٠ كيلومتر. وفي يوليو أيضًا، أشار تيخونرافوف في تقريرٍ له إلى أن وزن القمر الصناعي قد يتراوح ما بين ١٠٠٠ و١٤٠٠ كيلوجرام، أو ثلاثة أطنان. (لم يكن القمر الصناعي الذي صمَّمه فريد سينجر تحت اسم «ماوس» يزن أكثر من مائة رطل.) وفي نهاية الشهر، في واشنطن، أعلَنَ المسئول الصحفي هاجرتي عن برنامج أمريكا حول مشروع قمر «آي جي واي». وفي كوبنهاجن، وفي أحد مؤتمرات الاتحاد الدولي للملاحة الفلكية، قدَّمَ أحدُ أعضاء أكاديمية العلوم، ليونيد سيدوف، ردًّا خاصًّا؛ إذ صرَّحَ سيدوف للصحفيين بأن بلاده ستفعل نفس الشيء، مضيفًا: «من المحتمل أن ينتهي العمل في أقمارنا الصناعية قبل انتهاء العمل في الأقمار الصناعية الأمريكية، وستكون أقمارنا الصناعية أثقل وزنًا.»

في تلك الأثناء، كان تطوير الصاروخ «آر-٧» يجري على قدمٍ وساق، وكان في حاجة إلى موقع إطلاق؛ إذ لم يكن من الممكن استخدام موقع «كابوستن يار»، نظرًا لما كان ينطوي عليه ذلك من خطر التحطُّم في منطقةٍ آهلةٍ بالسكان. وانضمَّ كوروليف إلى إحدى اللجان لاقتراح موقع ملائم، ووقع الاختيار في نهاية المطاف على تيوراتام؛ نهاية خط سكة حديدية على نهر سير داريا، على مسافة مائة ميل شرق بحر آرال وبالقرب من صحراء قيزيل قوم. وكان كوروليف قد وضع هذا الموقع في ذيل قائمة اختياراته، لكن الأمر قُوبِل بالتجاهُل.

figure
مواقع الإطلاق السوفييتية، حوالي عام ١٩٦٠. الشكل (أ) لموقع «كابوستين يار»، والشكل (ب) لموقع «تيوراتام» (وكالة الاستخبارات المركزية).
figure

واصَلَ جلشكو أيضًا أبحاثه حول المحركات؛ حيث أجرى اختبارات استاتيكية في مركز اختباراتٍ قُرْبَ موسكو، وكان كل محرك يغذي مجموعةً مكوَّنة من أربع غرفِ دفعٍ تشترك في مجموعة واحدة من المضخات التوربينية. بدأت التجارب في منتصف عام ١٩٥٥، باستخدام غرفِ دفعٍ منفصلة. وفي ديسمبر، انتقَلَ جلشكو إلى إجراء اختباراتٍ باستخدام مجموعات مكونة من غرفتَيْ دفعٍ. وبعدها بشهر، في يناير ١٩٥٦، وُضِع المحرك الرباعي الغُرَف على منصة اختبارٍ حيث أُجرِيت أول عملية إطلاق ناجحة له. وكان من المفترض أن يتضمَّن الصاروخ «آر-٧» في نموذجه الكامل أربعة صواريخ معزِّزة مُلحَقة بالصاروخ المركزي، الذي أصبح جاهزًا للإطلاق في شهر أغسطس. ثم جاءت الصواريخ المعزِّزة المنفصلة، وأُجرِيت اختبارات استاتيكية على الصاروخ «آر-٧» الكامل، فضلًا عن الصواريخ المعزِّزة والمكونات الأخرى، في موسم الشتاء التالي.

عمل كوروليف عن كثبٍ — أثناء تنفيذه قمرَه الصناعي — مع الرياضي مستيسلاف كيلديش؛ وكان كيلديش قد صنع له اسمًا في عالَم الفضاء من خلال دراسة الاهتزاز في الطائرات، والإشراف على دراساتٍ حول المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي أُجرِيت في فترة ما بعد الحرب. وفي عام ١٩٥٠، استخدم زملاؤه النتائجَ التي أسفرت عنها أبحاثُه في بناء محرك نفاث تجريبي ذي دفع هوائي بلغت سرعته ٢٫٧ ماخ؛ أيْ كانت سرعته ١٨٠٠ ميل في الساعة تقريبًا. ثم مضى في العمل مع كوروليف في دراسة الصواريخ الباليستية، وبحث موضوعات مثل تصميم نظام توجيه يستطيع من خلاله صاروخٌ ضخم الحفاظَ على توازُنه أثناء التحليق بينما يدور حول محوره، مع تدفُّق الوقود في الخزانات. وللتعامل مع هذه الأمور، بدأ كوروليف في استخدام أول أجهزة كمبيوتر سوفييتية.

كان كيلديش لطيف القول ونحيف الجسم، وذا بشرة وردية صحية، وكان ذوقه رفيعًا في ارتداء الحُلَل الأنيقة، كما كان عضوًا يتمتع بكامل حقوق العضوية في أكاديمية العلوم. وعلى الرغم من أن كوروليف كان قد صار عضوًا مراسِلًا، أو مشارِكًا، عام ١٩٥٣، فقد سمحت مكانة كيلديش له بالتواصُل مع المجتمع العلمي العريض، الذي خاطَبَ أفرادَه ومؤسساته لكسب التأييد لبناء قمره الصناعي. وفي منتصف عام ١٩٥٥، جمع كيلديش مجموعةً من الزملاء في مكتبه، وألقى تيخونرافوف خطابًا حول الموضوع واندفع في حديثه قائلًا: «أعلم كَمْ هي مثيرة عملية إطلاق الصواريخ هذه، وإنني مقتنع بأن المرء إذا شاهَدَ عمليةَ إطلاقٍ مرةً واحدة، فلن ينساها أبدًا وسيظل يحلم بإجراء عملية أخرى.»

سرعان ما تحوَّلَ الحديث إلى مصادر الطاقة، وأساليب التبريد، والإسهامات المحتمَل تلقِّيها من المعاهد والمؤسسات المختلفة. وختم كيلديش حديثه قائلًا: «في صباح الغد علينا أن نرسل خطابًا إلى الأكاديميين والأعضاء المراسِلين لأننا في حاجةٍ إلى اقتراحاتهم. وأدعو للمشاركة في هذه الجهود جميعَ مَنْ لديهم باعٌ في تصميم مقياس مغناطيسية وجهاز لدراسة الأشعة الكونية.» وعندما سأله أحد الحاضرين عن الوقت المتوقَّع أن يستغرقه تصميمُ مَرْكبة فضائية كاملة، أجاب قائلًا: «عام ونصف أو عامان، لكنني لا أستطيع الجزم بذلك؛ فالمشروع الذي نحن بصدد البدء فيه كبير للغاية، ويصعب التنبُّؤ بآثاره.»7

في نوفمبر ١٩٥٥، أعَدَّتْ أكاديمية العلوم خطابًا يتضمَّن برنامجًا لإجراء أبحاثٍ حول الفضاء، وأُرسِلت نُسَخ إلى مجلس الوزراء وإلى اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي. ونتيجةً لذلك، في أواخر يناير ١٩٥٦، حصلت الأكاديمية على تصريحٍ لتشكيل لجنة مختصة بتصميم قمر صناعي لإطلاقه، يتولَّى رئاستها كيلديش، ويُعيَّن كلٌّ من كوروليف وتيخونرافوف نائبَين له. وكان قد وقع الاختيار بالفعل على الصاروخ «آر-٧» لحمل أنواع متعددة من الرءوس الحربية النووية، تحمل الأسماء «إيه» و«بي» و«في» و«جي»، بالترتيب الأبجدي السلافي، وخُصِّص الرمز «دي» للإشارة إلى المركبة الفضائية، وهو الحرف التالي في التسلسل، فأصبح اسمها المركبة دي. وكان من المتوقَّع أن تُسجَّل المركبة باسم «سبوتنيك ٣».

في ديسمبر ١٩٥٦، وصل الصاروخ «آر-٧» الأول الجاهز للإطلاق إلى تيوراتام؛ حيث وُضِع على منصة الإطلاق وأُجرِيت له اختبارات ما قبل الإطلاق. وبَدَا واضحًا أن كوروليف سيمتلك قريبًا الوسائلَ اللازمة لإطلاق قمره الصناعي. ولكن، كان قد مرَّ أقل من عام منذ بدء العمل في «المركبة دي»، ولن يتسنَّى الانتهاء من المركبة لبعض الوقت، وهو ما أثار احتمال أن يكون الأمريكيون هم أول مَنْ ينطلق إلى الفضاء. وقدَّمَ تيخونرافوف اقتراحًا يقول فيه: «ماذا لو صنعنا قمرًا صناعيًّا أخفَّ وزنًا وأقلَّ تعقيدًا؟ ليكن وزنه ثلاثين كيلوجرامًا أو نحو ذلك، أو حتى أخف؟»

أدرك كوروليف سريعًا أن بإمكانه بناء مركبة فضائية كهذه باستخدام موارد المؤسسة التي يتبعها. وفي أوائل يناير ١٩٥٧، كتب تقريرًا يتضمَّن تصميمَ مركبتين فضائيتين؛ نموذج مبدئي يتراوح وزنه ما بين أربعين وخمسين كيلوجرامًا، ثم «المركبة دي» التي تزن ١٢٠٠ كيلوجرام. وحصل كوروليف على موافقة، واتخذ القمر الصناعي الأول اسم «بروستيشي سبوتنيك» (وهو قمر صناعي بسيط). وكان القمر عبارة عن كرة مصقولة من الألومنيوم، تتضمَّن مجموعةً من أجهزة الهوائي، التي تحمل جهازَ إرسال لاسلكي ومجموعة من البطاريات؛ ولم يكن القمر يحمل أي معدات، لكن كان في مقدوره إرسال صافِرة تنبيه واضحة يسهُل استقبالها.

مع الكشف عن هذه الجهود السوفييتية واحدًا تلو الآخَر، كان الأمريكيون أيضًا يسرعون الخطى في تنفيذ برامجهم، وكانت وكالة الاستخبارات المركزية على عِلْمٍ بالفعل بموقع «كابوستين يار»، الذي اكتُشِف أمره خلال عام ١٩٥٣. وأجرت قاذفة تابعة للقوات الجوية الملكية — هي طائرة «كانبيرا» — عمليةً استطلاعية جريئة من ألمانيا الغربية إلى إيران؛ حيث عادت إلى مركز الصواريخ وقتَها بما وصفته وكالة الاستخبارات المركزية بأنه «بعض الصور الجيدة نوعًا ما».

بعد ذلك، أخذ تريفور جاردنر — الضابط في القوات الجوية — مبادرة إقامةِ محطة رادار قُرْبَ مدينة سامسون في تركيا، على السواحل الشمالية، واستطاعت المحطة أن ترصد بوضوح مناطق تتجاوز منطقة جبال القوقاز حتى كابوستين يار، وفي منتصف عام ١٩٥٥ عثرت على صيدٍ ثمين. يتذكر روبن متلر، أحد المديرين المساعدين في شركة «رامو وولدريدج»، أن هذه المحطة الرادارية التقطت «الجزء العلوي من مسار صاروخ باليستي، شُوهِد فوق بعض السلاسل الجبلية»؛ وكان هذا هو مسار الصاروخ «آر-٥»، الذي صدَمَ مداه البالغ ١٢٠٠ كيلومتر (أيْ ما يعادل ٧٥٠ ميلًا) المسئولين الأمريكيين، الذين كان أفضل الصواريخ المتوافرة لديهم، وهو الصاروخ «ردستون»، لا يستطيع التحليق إلا رُبْع مسافة «آر-٥». وفي فبراير ١٩٥٦، انطلق صاروخ «آر-٥» آخَر من الموقع نفسه، وصاحَ المراقبون في منطقة الرصد بعدها بدقائق: «رصدنا بايكال». وكان الصاروخ يحمل أول رأس حربية نووية، تلك التي انفجرت بنجاح.

كان ثمة المزيد من الأخبار غير سارة في عالم القاذفات. ففي العرض الجوي في الأول من مايو عام ١٩٥٤، عرض السوفييت قاذفتهم النفاثة «بيزون». وبعدها بعام، وسط تجهيزات الاستعداد للحدث نفسه، رأى المراقبون الأمريكيون تشكيلًا مكوَّنًا من عشر طائرات من هذا الطراز محلقةً في الجو. ووقعت المفاجأة في منتصف يوليو؛ ففي اليوم الوطني للطيران، أحصى الكولونيل تشارلز تايلور، الملحق الجوي في موسكو، ما لا يقل عن ثمانية وعشرين طائرة طراز «بيزون» أثناء تحليقها في عرض جوي في مجموعتين. وبدا بديهيًّا أن هذه القاذفة صارت تُنتَج على نطاق واسع، وسرعان ما قدَّرت وكالة الاستخبارات المركزية أن عدد قاذفات «بيزون» المقرَّر أن تدخل الخدمة بحلول عام ١٩٦٠ سيصل إلى ثمانمائة قاذفة.

في حقيقة الأمر، كان تايلور قد شاهد خدعة ماكرة. فقد كانت مجموعة الطائرات الأولى المكوَّنة من عشر طائرات «بيزون» حقيقية، لكنها غابت عن الأنظار وانضمت إلى ثماني طائرات أخرى، لتمر جميعًا مرةً أخرى أمام تايلور دون أن يلاحظ العدد. ولكن، مع تسرُّب تقديراتٍ سرِّيَّة إلى الصحافة، طلب السيناتور ستيوارت سايمونتن إجراء جلسات استماع واستخدم التقديرات المسرَّبة في الضغط على مسئولي البنتاجون واستجوابهم فيما يتعلق بوجود «فجوة في أسطول القاذفات». وحدثت حالة من الذعر أجبرت آيك على بناء مزيد من طائرات «بي-٥٢» يفوق ما كان مخطَّطًا له، وزيادة معدل إنتاج الطائرات المقاتلة أيضًا. عكست هذه الواقعة صعوبة الإلمام بما كان يحدث في الكرملين في واقع الأمر؛ إذ لن يبني السوفييت إلا ستًّا وخمسين طائرة قاذفة بحلول عام ١٩٦٠، بدلًا من المئات كما زُعِم. ولكن، حتى عندما كشف المحلِّلون عن خدعة يوم الطيران، لم يشعر المسئولون الأمريكيون إلا بقليل من الراحة. إذا كانت موسكو تحاول أن تخدع وكالة الاستخبارات المركزية، فربما يعني ذلك أنها سوف تستثمر جهدها الحقيقي في بناء الصواريخ بدلًا من القاذفات.

مع ذلك، كان تطوير «يو-٢» يسير على ما يرام خلال عام ١٩٥٥. وفي وقت مبكر من ربيع ذلك العام، كان ريتشارد بِسل وكيلي جونسون قد حلَّقا فوق نيفادا للبحث عن بحيرة مالحة جافة تصلح كمركز لاختبارت الإطلاق. وكانت قاعدة «إدواردز» الجوية المركز المعتاد لإجراء اختبارات الإطلاق، لكن في حين كانت هذه القاعدة ملائمة للقوات الجوية، لم تكن تتمتع بالسرِّيَّة الكافية بالنسبة إلى وكالة الاستخبارات المركزية. وعثر جونسون على ضالته في بحيرة جرووم، وهو موقع تحوطه الجبال. وكانت البحيرة تقع على مسافة مائة ميل شمال لاس فيجاس، في موقع ملاصق لمنطقة يوكا فلاتس للاختبارات النووية؛ ممَّا سهَّل من مهمة إقناع بِسل آيزنهاور بضم هذه المنطقة إلى ذلك الموقع. ومن ثمَّ، حصلت بحيرة جرووم على التصريح الأمني من لجنة الطاقة الذَّرِّيَّة.

في أوائل شهر يوليو، جرى نقل قمر «يو-٢» الأول من «سكانك ووركس» في صورة أجزاء في صناديق. ونقلت طائرة شحن طراز «سي-١٢٤» أجزاء القمر إلى منطقة الاختبار لتجميعه في شكله النهائي. وكان الشكل النهائي لقمر «يو-٢» يشبه طائرةً شراعية، ذات جناحين عملاقين. وكان الجناحان المرتخيان في هذا النموذج النهائي يساعدانه في التحليق على ارتفاعاتٍ شاهقة والطيران مسافاتٍ طويلة. وفي ٢٩ يوليو، مع إعلان هاجرتي عن برنامج القمر الصناعي «آي جي واي»، انطلق «يو-٢»، الذي كان بمنزلة النموذج الأوَّلي لقمر «دبليو إس-١١٧إل»، محلِّقًا في أول رحلة طيران، وهو ما لم يكن مفترضًا أن يحدث؛ إذ كان طيَّار الاختبار، توني ليفييه، يعتزم فقط اختبار طريقة هبوط القمر الصناعي إلى الأرض. لكن ظلَّ القمر يحلِّق، بسرعة ٦٥ ميلًا في الساعة، بما لا يزيد عن سرعة سيارة على طريق سريع، وارتفع القمر عدة أقدام في الهواء. ونجحت أول عملية تحليق فعلية بعد ذلك بأسبوع، وسرعان ما أظهر قمر «يو-٢» أداءً متميزًا.

حدث تطور أيضًا في نموذج «دبليو إس-١١٧إل». استجابت ثلاث شركات — هي «آر سي إيه» و«مارتن» و«لوكهيد» — إلى طلب القوات الجوية بالتقدم بعروض في مارس ١٩٥٥. وكان عرض «لوكهيد» مثيرًا على نحو التحديد؛ لأنه أشار إلى إمكانية حصول وكالة الاستخبارات المركزية على صور أوضح وأكثر عددًا من خلال تجنب استخدام أساليب شركة «راند» لإرسال الصور إلى محطات أرضية. وبدلًا من ذلك، فمن المفترض أن يخزِّن قمر «لوكهيد» الصناعي فيلمه المعرَّض للضوء في كبسولة محمية، تعاود الولوج إلى المجال الجوي وتهبط إلى الأرض من أجل الاسترداد الفعلي لها. وتوافق هذا الرأي مع وجهة نظر شركة «راند»، التي كانت تعِدُّ تقريرًا سرِّيًّا جديدًا، «الاسترداد الفعلي لحمولات القمر الصناعي: استقصاء مبدئي». وصدر التقرير في يونيو ١٩٥٦، في الشهر نفسه الذي ظفرت فيه شركة «لوكهيد» بالعقد.

تضمَّن عرض «لوكهيد» أيضًا وصفًا لشكل القمر الصناعي، فهو قمر أسطواني، طوله تسع عشرة قدمًا وقطره خمس أقدام، ويتكوَّن الجزء الأكبر فيه من صاروخ المرحلة العليا الذي سيتولى إطلاق القمر في مداره. وكان صاروخ هذه المرحلة العليا، الذي يحمل ٧٠٠٠ رطل من الوقود السائل، سيستخدم محركًا بقوة دفع ١٥ ألف رطل من إنتاج شركة «بيل إيروسيستمز» والذي كان مقررًا في البداية استخدامه في دفع قنبلة محمولة على قاذفة طراز «بي-٥٨». وكان اسمه، «أجينا»، وهو اسم نجمٍ ساطع في مجموعة نجوم قنطورس. وكان صاروخ المرحلة العليا يوفر قوة رفع أكبر بكثير من نموذج «إيروبي-إتش آي» الذي كان يشكِّل المرحلة الثانية من قمر «فانجارد»، والذي صار بعد ذلك مكونًا أساسيًّا في برنامج الفضاء.

في تلك الأثناء، كان قمر «يو-٢» على وشك الدخول في الخدمة. وكانت الطائرات الأولى المكوَّنة من أربع وحدات وستة طيارين جاهزةً للعمل في مايو ١٩٥٦ وانطلقت من قاعدة في مدينة إنجرليك في تركيا. وبعد شهر من ذلك، ذهب بِسل وآلان دالاس إلى البيت الأبيض للحصول على تصريح يسمح لصاروخ آيك بالتحليق فوق الاتحاد السوفييتي. وفي اليوم الأول للطيران الذي كان جيدًا، بينما كانت الأجواء صافية، التقى بِسل مرةً أخرى مع دالاس قبل عملية الإطلاق. وتساءل دالاس عن المسار الذي سيتخذه «يو-٢». وأجاب بِسل بأن القمر سيحلِّق فوق موسكو وليننجراد، فأصبح وجه دالاس شاحبًا، وسأله قائلًا: «هل تعتقد أن هذه خطوةٌ حكيمة؟» لكن، حققت المهمة نجاحًا مبهرًا.

كانت كل رحلة طيران تعود بمجموعة واضحة المعالم من الأهداف المصوَّرة، إلا أن الطيَّارين تمكَّنوا من الانحراف عن المسار المخطَّط لهم بحثًا عن أهدافٍ متميِّزة. ويتذكَّر بِسل إحدى المرات التي حدث فيها ذلك قائلًا: «كان يحلِّق فوق تركستان، ثم رأى في الأفق شيئًا بَدَا مهمًّا للغاية، وهو ما اتضح أنه موقع إطلاق تيوراتام. وعاد بأجمل صور لهذا الموقع.» لم تكن وكالة الاستخبارات المركزية تدري حتى بوجود الموقع، بينما حاوَلَ السوفييت لاحقًا إخفاء الموقع بالإشارة إليه باسم «بايكينور»، وهو موقع على مسافة أربعمائة كيلومتر من موقع تيوراتام. وسرعان ما عجَّلَتِ القوات الجوية من إيقاع برامج الاستطلاع الخاصة بها؛ إذ أنشأت محطة رادار ثانية في موقع قُرْبَ مدينة ترابزون في تركيا، وهي نفسها مدينة ترابزون الأسطورية في بيزنطة خلال القرون الوسطى، فضلًا عن موقع تنصُّت قُرْبَ أسطنبول. وكانت المحطة تلتقط مقايساتٍ عن بُعْد من الصواريخ المحلِّقة، أثناء إرسالها بيانات خاصة بالأداء لاسلكيًّا؛ مثل: معدل استهلاك الوقود، وقوة الدفع، وزمن الاحتراق، والسرعة، ونقطة انفصال الرأس الحربية، والارتفاع، والمدى.

شكَّلَ الصاروخ «آر-٥» تهديدًا حقيقيًّا لحلف شمال الأطلسي وأوروبا. وأثناء الحرب، أطلقت القوات الألمانية الصاروخ «في-٢» باستخدام معدات متنقلة لم تكن تتطلَّب سوى إزالة بعض أشجار الغابات في نطاق ضيق، وكانت غاباتُ منطقة شرق ألمانيا تسمح بإخفاء القواعد الأمامية التي يمكنها إطلاق قذائف تصل إلى جميع أنحاء بريطانيا العظمى، وهو ما أثار سؤالًا مشوِّقًا حول كون البريطانيين يستطيعون بناء صاروخ يمثِّل تهديدًا لموسكو. وتبيَّنَ أن البريطانيين لا يمكنهم القيام بذلك، على الأقل ليس في القريب العاجل، وهو ما كان يعني ضرورةَ تدخُّل القوات الجوية لتقديم يد المساعدة. وعلى وجه التحديد، كان على الولايات المتحدة تطوير صواريخ باليستية متوسطة المدى، تنطلق من إنجلترا، بمدى ١٥٠٠ ميل يجعلها قادرةً على الوصول إلى الكرملين.

بعد الموافقة على الصاروخ «أطلس»، أصبحت الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى موضوعَ الساعة. أعلن مؤيدو استخدامِ هذه الصواريخ أنها ستكون أبسطَ في التطوير وأسرع في التجهيز، بل اقترح بعض المسئولين في البحرية إمكانيةَ إطلاقها من غواصات. وأكدَّ تقرير لجنة كيليان، الذي صدَّقَ على هذه الأفكار، على أهمية هذه الصواريخ؛ حيث ورَدَ فيه: «يجب تطوير صواريخ باليستية متوسطة المدى للاستخدام الاستراتيجي. ويجب بحث مسألة إطلاق الصواريخ برًّا وبحرًا.»

انتهز فيرنر فون براون هذه الفرصة الجديدة سريعًا؛ فمع قُرْبَ اكتمال تطوير الصاروخ «ردستون»، كان فريقه على وشك الدخول في حالة سكون، إلا أن تطوير صواريخ باليستية متوسطة المدى قدَّمَ لهم فرصةً جديدة مواتية لمواصلة العمل دون توقُّف. وفي مارس ١٩٥٥، بعد بضعة أسابيع فقط من صدور تقرير كيليان، اقترح فون براون أن تتولَّى شركة «ردستون آرسنال» مهمةَ تطويرِ صاروخ باليستي متوسط المدى باعتبارها شركةً متعاقِدة مع القوات الجوية. ورفض الجنرال شريفر اقتراحَ فون براون على الفور، قائلًا: «من السذاجة الاعتقاد بأن الجيش سيطوِّر سلاحًا، ثم يسلِّمه إلى القوات الجوية لاستخدامه.»

اعتقد شريفر أن تطوير صاروخٍ كهذا يمكن أن يتمَّ من خلال تطوير الصاروخ «تايتان» الباليستي العابر للقارات ذي المرحلتين، كنموذج مطوَّر يعتمد على صاروخ المرحلة الثانية في الصاروخ «تايتان». ولكن في يوليو أدرَكَ شريفر أن أفضل صاروخ من هذا النوع لن يتجاوز مداه ثمانمائة ميل، وهو ما يعادل تقريبًا نصف المدى المطلوب. وطلب شريفر من اثنين من مساعديه، هما روبرت ترواكس وأدولف «دولف» ثيل، وضْعَ الخطوط العريضة لتصميم صاروخ جديد تمامًا. وكان ترواكس يخدم كممثل لسلاح البحرية في قسم التطوير الغربي الواقع تحت إشراف شريفر، بينما كان ثيل قد رحَلَ عن هانتسفيل للانضمام إلى شركة «رامو وولدريدج». وكان مقترح الصاروخ الذي تقدَّمَا به يحمل اسم «ثور».

كان لدى ترواكس وثيل عروضٌ من شركاتٍ يتعيَّن عليهما بحثها، فضلًا عن الأشخاص الموهوبين في قسم التطوير الغربي وشركة «رامو وولدريدج». وبينما كان برنامج «أطلس» في طور التنفيذ، توافرَتْ لدى ترواكس وثيل دراسات محدَّثة حول التوجيه والمقدمات المخروطية والمحركات. ونظرًا لأن قابلية النقل بسهولة كانت مسألة جوهرية، صمَّمَ ترواكس وثيل الصاروخ الجديد بحيث يمكن نقله عن طريق قاذفة طراز «سي-١٢٤». وكان من المفترض أن يعمل الصاروخ بمحرك الصاروخ «نافاهو» التقليدي من إنتاج شركة «نورث أمريكان»، وهو المحرك الذي أشار إليه ثيل بأنه «المحرك الوحيد المتوافر». وتلقَّى شريفر العرضَ النهائي بحلول عيد العمال، فرفعه إلى تسلسُل القيادة للموافَقة عليه.

في تلك الأثناء، كان تريفور جاردنر يدبِّر لإثارة رد فعل تجاه الموضوع؛ فعلى الرغم من أن الصاروخ «أطلس» كان يتمتع بالأولوية في القوات الجوية، كان تريفور يرى أن ذلك لم يكن كافيًا؛ إذ كان يجب أن يتنافس مع الوكالات الفيدرالية الأخرى لاجتذاب أفضل العلماء والمهندسين. بالإضافة إلى ذلك، أدرك جاردنر أن التعامل مع الأمر سيسير وفْقَ طريقة القوات الجوية المعهودة. وكتب شريفر قائلًا: «يوجد لدينا في البنتاجون عشرات المساعدين — أو أكثر — لوزير الدفاع، ويوجد العدد نفسه في جميع الوزارات؛ وكلُّ مساعدٍ لديه مملكة صغيرة يحكمها، ويعمل تحت إمرته مائة موظف بيروقراطي أو أكثر، وجميعهم لديهم الأهداف والمصالح التي تؤثِّر على قراراتهم؛ لذا، عندما يُقدَّم برنامج نُظُم في البنتاجون، فإن أصداءه تتردد في اثني عشر أو خمسة عشر اتجاهًا مختلفًا. ولا يمكن للمرء أن يرى البرنامج في صورته الأصلية مجددًا، حيث كان الجميع يدْلُون بدَلْوِهم في الموضوع.»

وجد جاردنر الفرصة سانحة أمامه مجددًا في تقرير كيليان، الذي كان يحثُّ مجلسَ الأمن القومي على الاعتراف بالصواريخ الباليستية العابرة للقارات باعتبارها «جهدًا ذا أولوية قصوى يتمتَّع بتأييدٍ على المستوى القومي»، وهو ما كان يعني بالنسبة إليه أن الصاروخ «أطلس» يجب أن يتمتع بما هو أكثر من مجرد الأولوية القصوى لدى البنتاجون؛ إذ كان يجب أيضًا أن يتصدَّر جميع الأولويات على المستوى القومي، وهي مكانة لم يَحْظَ بها أيُّ مشروعٍ سابق في وقت السِّلْم. وقضى جاردنر فترةَ الصيف يلحُّ على هذه المسألة، وحصل على ما يريد في منتصف سبتمبر، عندما وافَقَ آيزنهاور على المشروع.

جاء قائد جديد إلى القوات الجوية، وهو دونالد كوارلز، الذي أصدر إليه الرئيس تعليماتٍ للحَدِّ من الإجراءات الروتينية بدرجة كبيرة. ومثلما يتذكر شريفر قائلًا: «جئتُ حامِلًا معي مقترَحًا كبيرًا طفتُ به جنبات البنتاجون، وذهبت إلى مكتب تريف جاردنر، وكان لدى تريف رسمٌ تخطيطي، ونزلنا إلى مكتب دون كوارلز. وألقيتُ نظرةً سريعة على الرسوم التخطيطية، أكَّدَت لي استحالةَ التعامُل مع البنتاجون بالطريقة التي جرى تنظيمه بها. ولم يكن في وسعنا الانتظار للحصول على موافَقةِ كلِّ هؤلاء الأفراد.»8

أصدر كوارلز توجيهًا إلى نائبه المختص بإدارة البرامج، هايد جيليت، لتشكيل لجنةٍ تقترح طريقةً للتخلُّص من اللجان القائمة. ومنحت إجراءات جيليت التي تمخضت عنها هذه اللجنة سلطاتٍ واسعةً لشريفر، مؤكِّدة على أن مؤسسته ستصبح مسئولةً حصريًّا عن تخطيط وإدارة برامج تطوير الصواريخ الباليستية في القوات الجوية. وقلَّصَتْ هذه الإجراءات عددَ هيئات الفحص والمراجعة من اثنتين وأربعين هيئة إلى عشر هيئات، وعيَّنت الإجراءات مستوًى واحدًا في منح الموافقات الرسمية داخل القوات الجوية، باسم لجنة الصواريخ الباليستية، مع وجود مجموعة مماثلة تمارس السلطة النهائية على مستوى وزير الدفاع. وفي ظل هذه الترتيبات، مضى مشروع «ثور» قُدمًا بسرعة فائقة.

مع ذلك، كان الصاروخ «ثور» يتطلَّب الحصول أولًا على موافَقة رئاسة الأركان، وهنا واجَهَ مزاحَمةً من جانب الجيش. كان رئيس إدارة التسليح في الجيش قد تلقَّى مقترحَ فون براون بعد أن رفضه شريفر، داعيًا إيَّاه إلى تطوير صواريخ باليستية متوسطة المدى يستخدمها الجيش. وكان هذا الصاروخ، الذي يحمل اسم «جوبيتر»، مماثِلًا للصاروخ «ثور» تمامًا، وهو ما أثار مسألة إهدار الموارد في إنتاج صواريخ متشابهة. وكان من الواضح أن «جوبيتر» يتمتع بميزات، نظرًا للخبرة التي لا تُضاهَى التي كان يتمتع بها فريقُ عملِ فون براون، في حين عيَّنَتْ شركة «ردستون آرسنال» مجموعةَ أفراد من داخل الشركة اتَّضَحت كفاءتهم الفنية من خلال تطوير نظام توجيه يعتمد على القصور الذاتي للصاروخ «ردستون». لكن، في هيئة الأركان المشتركة رأى رئيس أركان الجيش، الجنرال ماكسويل تايلور، أنه لا يمكن إحراز تقدُّم إلا من خلال التوافُق مع نظيره في سلاح البحرية، الأدميرال أرليه بيرك. وكان بيرك يرغب في إطلاق صواريخ بحرًا، بَيْدَ أن الصاروخ «ثور» لم يكن يَفِي بهذا الغرض؛ فلم يكن طوله البالغ خمسًا وستين قدمًا يسمح بدخوله غواصة. ونظرًا لأن الصاروخ «جوبيتر»، الأقصر طولًا والأكثر سُمكًا، كان يَفِي بالغرض على نحو رائع، أمكَنَ لهذا الاستخدام المزدوج أن يعالج مسألةَ إهدارِ الموارد المثارة في البنتاجون. وفي إطار موافقة وزير الدفاع ويلسون على هذه الترتيبات، أصدر ويلسون قرارًا في ٨ نوفمبر تضمَّنَ توجيهًا بالمُضِيِّ قُدمًا في «ثور» و«جوبيتر». بالإضافة إلى ذلك، كان من المقرر أن يحظى كلا البرنامجين الجديدين بنفس الأولوية القصوى التي كان يحظى بها الصاروخ «أطلس».

figure
سباق الصواريخ: الصواريخ «أطلس» و«تايتان» و«ثور» و«جوبيتر» و«آر-٥» و«آر-٧» (دان جوتييه).

على الرغم من ذلك، واجَهَ كلا البرنامجين في البداية احتمالات مختلفة للغاية؛ فقد وجد قائد برنامج الجيش، الميجور جون مداريس، نفسَه شريكًا مع البحرية، ولم تبرهن البحرية على رغبتها في التجاوب؛ إذ سرعان ما تبيَّنَ أن فكرة تخزين وقود صاروخي سائل ومناولته في غواصة بحرية تتخطَّى اهتمامات البحرية، وسرعان ما أسقَطَ أدميرالات البحرية مشروعَ الصاروخ «جوبيتر» من اعتباراتهم في غضون أشهر. بالإضافة إلى ذلك، واجَهَ مداريس مشكلةً مع المحركات؛ إذ كان مداريس سيستخدم المحرك نفسه المزمع استخدامه في الصاروخ «ثور»، لكنه كان من المحركات المملوكة للقوات الجوية، واستغرَقَ الأمرُ فترةً من الوقت قبل أن يتمكَّن من شراء محركات الصواريخ مباشَرةً من شركة «نورث أمريكان»، وهي الشركة المصنِّعة لهذا النوع من المحركات. حتى ذلك الحين، كان عليه أن يذهب إلى شريفر، وفي حوزته جميع الأوراق اللازمة، ويحصل على ما يستطيع الحصول عليه.

لكن، كان شريفر في تلك الأثناء في مانجمنت هيفن، وكان يدير أهم برامج تطوير الأسلحة في البلاد، ويتمتع بجميع الصلاحيات التي قد يريدها، وكان نفوذه آخِذًا في الاتساع. وفي وقت مبكر من عام ١٩٥٥، أضاف مشروع «تايتان» الذي كان مشروعًا مكملًا لمشروع «أطلس»، وكان على وشك تولي مشروع قمر «دبليو إس-١١٧إل»، وكان سيضمُّ الصاروخ «ثور» أيضًا إلى القائمة. بالإضافة إلى ذلك، كانت شركتا «دوجلاس إيركرافت» و«بيل لابس» تتسابقان للحصول على العقود التي ستمكِّنهما من بناء هذا الصاروخ، وكانت الشركتان قد عملتا معًا باعتبارهما شركتين من الشركات المتعاقدة الرئيسية في مشروع «نايكي» للصواريخ المضادة للطائرات التابع للجيش، وكان المديرون في كلتا الشركتين مهتمِّين بمشروع الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى الجديد.

لم يستطع شريفر استغلالَ نفوذه في منح عقود مباشَرةً؛ إذ كان يتعيَّن عليه الاعتماد على مناقصات على درجة كبيرة من التنافسية، لكنه كان يستطيع الاختيار مسبقًا بين الشركات المتنافسة، ودعا شركتَيْ «نورث أمريكان» و«لوكهيد» إلى إعداد عرضَيْهما. وبعد عيد الشكر مباشَرةً، أرسَلَ البنتاجون رسالةً تلغرافيًّا إلى مكاتبه نصَّتْ على الآتي: «صدرت الموافَقة على البرنامج، امضوا في تنفيذه بأقصى سرعة.» وسرعان ما أجرى نائب شريفر، الكولونيل تشارلز تريون، عددًا من الاتصالات الهاتفية التي جرى الإعداد لها طويلًا مع مسئولين تنفيذيين في شركات الطائرات الثلاث، والتقى بجميع المسئولين التنفيذيين وشدَّدَ على أن ترواكس وثيل كانا قد حدَّدَا الملامح العامة للصاروخ «ثور». ومثلما يتذكر تريون: «ستحصل الشركة المتعاقدة على المحركات ونُظُم التوجيه والمقدمات المخروطية المحددة، وستتولَّى جانبًا كبيرًا من عمليات التكامل والتصنيع. ستحصل على جميع مستلزمات المشروع، ومن ثَمَّ يتعيَّن عليها إطلاعنا على الطريقة التي سوف تنتهجها في تنفيذ المشروع.» وأشار إلى «ثور» باعتباره «برنامجًا على أقصى درجة من الخطورة». ثم أشار زميلان إلى جوهر الأمر بقولهما: «لن يكون ثمة وقتٌ لارتكاب أخطاء.»

أُمهِلت الشركات أسبوعًا لإعداد عروضها حسبما يقول تيرون، ثم أشرف تيرون على لجنة اختيار المصدر، وهي اللجنة المختصة باختيار الشركة المتعاقدة. وفازت شركة «دوجلاس» بالعقد، ولم يكن هذا الأمر مفاجئًا، ثم مضى تريون إلى واشنطن للحصول على الموافقات اللازمة؛ ولم يستغرق الأمر إلا يومين للحصول على تلك الموافقات، من المسئولين الذين كان من بينهم عضو هيئة الأركان الجوية وقائد القوات الجوية كوارلز. وكانت شركة «دوجلاس إيركرافت» قد شكَّلَتْ إدارة المشروع، التي كان من بينها أحد خبراء مشروع «نايكي»، وهو جاك برومبرج، الذي كان من المنتظر أن يتولَّى إدارةَ المشروع الجديد، وكان العاملون في المشروع يُطلِقون عليه «ثورهيد».

قبل أن ينقضي عام ١٩٥٥، استجاب مسئولو شركة «دوجلاس» إلى طلبٍ رسمي للإعلان عن أنفسهم، من خلال وضع ختم الشركة الرسمي، بموجب التوقيع على العقد. ولم يكن قد مضى إلا سبعة أسابيع فقط على إصدار وزير الدفاع ويلسون أوامرَه بالمُضِيِّ قُدمًا في المشروع، وهو إيقاع سيظل مستمرًّا. ومثلما أشار شريفر في حديثه عن الأمر: «لم يكن يتوافر لدينا دومًا محامون محترفون نستشيرهم، وفي كل مرة نقرِّر فيها فعْلَ شيءٍ ما، لا يكون لدينا رأي قانوني مطوَّل نتجادل حوله. وكنت أُملِي على أية شركة من الشركات المتعاقِدة ما تفعله وما لا تفعله، وكانت تنصاع لأوامري، ثم تُتَّخَذ بعد ذلك الإجراءات الإدارية.»

في تلك الأثناء، كانت البلاد تباشر تنفيذ أربعة مشروعات كبرى في مجال الصواريخ، وهي «أطلس» و«تايتان» و«ثور» و«جوبيتر». وفي الوقت المناسب، كان من المنتظر أن يظهر كل صاروخ باعتباره صاروخًا معزِّزًا فضائيًّا، إلا أن الاهتمام كان منصَبًّا في ذلك الوقت على الأسلحة النووية. وكانت ثمة منافسة أيضًا في هذا المجال؛ إذ صار للمختبر النووي في لوس ألاموس منافِسٌ، هو مختبر «لورانس ليفرمور»، الذي أسَّسَه إدوارد تيلر. وقاد هارولد أجنو — وهو مصمِّم أسلحة، خَلَفَ نوريس برادبري في رئاسة مختبر لوس ألاموس — برنامجَ تطويرٍ كان ينافِس ليفرمور في تصميم الرءوس الحربية للصواريخ الجديدة. وصار هارولد براون، نظيرُه في ذلك المختبر المنافِس، وزيرَ الدفاع في إدارة جيمي كارتر.

يتذكر أجنو تلك الأحداث قائلًا: «كنَّا نشعر دائمًا في لوس ألاموس أن مشكلتنا الرئيسية كانت مع ليفرمور، وليس الاتحاد السوفييتي. بدأ مختبر ليفرمور نشاطه متأخرًا، وكان عليه اللحاق بنا. ولم تسفر مساعيهم المبكرة عن نجاحاتٍ كبرى.» وفي التنافس على مشروعات الصواريخ، «اكتسحناهم اكتساحًا؛ فالرءوس الحربية في جميع الصواريخ — «ثور» و«جوبيتر» و«أطلس» و«تايتان» — كانت نتاج الجهود في مختبر لوس ألاموس؛ ولا أعتقد أن هارولد غفَرَ لنا ذلك على الإطلاق.»9

اعتمدت المشروعات الأربعة جميعها على نفس المحركات، وهو ما تطلَّبَ إجراءَ عمليات تطوير واختبار شاملة، وتضمَّنَ هذا الأمر ما هو أكثر من البرهنة على سلامة التصميم الأساسي؛ إذ كانت ثمة تعديلاتٌ تستدعي إجراءَ اختبارتٍ إضافية، خاصةً بعد تفاوُض الجنرال مداريس مع شركة نورث أمريكان حول العقود التي كانت تشترط زيادة قوة الدفع من ١٣٥ ألف رطل إلى ١٥٠ ألف رطل. وكانت المضخات التوربينية تمثِّل مشكلةً في حد ذاتها، إلا أن عملية إصلاحٍ سريعة كانت تكفي لمتابعة تشغيلها. يتذكر بيل إزل، وهو أحد المديرين في مختبر سانتا سوزانا الميداني، ذلك قائلًا: «كنا نفقد ريشةً في أحد جوانب التوربين، فندسُّها في موضعها ونُزِيل ريشةً أخرى من الجانب الآخَر.» ومع استعادة التوازن على هذا النحو، كان التوربين يعود إلى العمل مجددًا.

بالإضافة إلى ذلك، كان كل محرك مستخدم في هذه البرامج بحاجة إلى اختبار تأهيل، مثل السيارات التي تخرج توًّا من خطوط الإنتاج وتمر باختبارت قيادة أوَّلية. وفصلت شركة «نورث أمريكان» أنشطتها في مجال الصواريخ في قسم جديد أطلقت عليه اسم «روكيت داين»، وسرعان ما عُيِّن المزيد من العاملين في المشروع، وكان من الضروري أن يشاهد كل موظف جديد عمليةَ إشعال محرك ميدانية واحدة على الأقل في «التل»؛ أيْ في مختبر سانتا سوزانا. ولكن، لم يكن في المركز منصات إطلاق كافية؛ لذا صرَّحَتِ القوات الجوية باستخدام العديد من المنصات في قاعدة «إدواردز» التابعة للقوات الجوية، وهي المنصات التي كانت قد استُخدِمت في اختبار صاروخ «بومارك»، وهو صاروخ بعيد المدى مضاد للطائرات. وأصبحت هذه المنصات جاهزةً للاستخدام بعد إجراء عدد من التعديلات السريعة عليها.

كانت منطقة الاختبارات تقع في صحراء موهافي، التي كانت تشتهر بالثعابين، وكتب المؤلِّف جوليان هارت عن ذلك يقول: «بعد حلول الظلام، لم يكن أحد يترجَّل خارجَ شاحنات النقل في مناطق الانتظار المرصوفة بالأسفلت، أو يحافظ على توازنه من خلال الإمساك جيدًا بالدرابزين الحديدي بطول ممرات السير، دون أن يستخدم الكشافات اليدوية لاستكشاف المكان بعنايةٍ؛ إذ كانت الكشافات تحتجز الحرارة وتطلقها على نحو يجذب أفاعي الرمال القاتلة التي تسعى إلى تدفئة نفسها من برودة الرياح ليلًا.»10 ويضاف إلى ذلك أيضًا الحيوانات البرية الموجودة في سانتا سوزانا، مثل الأفاعي الجرسية، والغزلان، والراكون والأسود الجبلية التي تجدها بين الحين والآخر. وكانت قوارض الجوفر تمثل مشكلة أيضًا حتى اكتشف أحدهم طريقة للتخلص منها عن طريق صب أول أكسيد الهيدروجين النقي في جحورها.
يتذكر بول كاستنهولتس، الذي كان يعمل في هذا الموقع، تلك الأوقات قائلًا: «كنا مهندسين في الموقع، وكانت درجات الحرارة تصل إلى ١٠٥ أو ١١٠ درجات خلال فصل الصيف، وكان لدينا نوع من أجهزة التبريد التبخيري؛ حيث كانت المياه تتدفق عبر هياكل خشبية عن طريق مروحة، لكن لم تكن لدينا أجهزة تكييف على الإطلاق. وأعتقد أن الطقس لم يكن يمثِّل فارقًا كبيرًا لنا. كان الطقس مقبولًا، ولم يكن أحد يرتدي رابطة عنق. كان العمل مشوقًا جدًّا، وكنا نستمتع به كثيرًا. كنا نشعر أننا مجموعة من الصفوة.»11
أضاف إزل قائلًا: «كان إيقاع العمل سريعًا للغاية.» وكان رئيسه، روي هيلي، قد ترأس جمعية الصواريخ الأمريكية مرتين، ومثلما يتذكر إزل: «لم يكن لديَّ إلا عامان من الخبرة، وكنت رجل هيلي الأول. كنا نعمل ستة أيام في الأسبوع، وفي حال وجود مشكلات كنا نعمل سبعة أيام. وكان لدينا ثماني منصات لاختبار المحركات، في قاعدتَيْ إدواردز وسانتا سوزانا. وكنا نعمل في نوبَتَين؛ كنت أعمل طوال اليوم، ثم أتوجه ليلًا إلى الموقع، لمساعدة الشباب في تعلُّم طريقة تشغيل منصة اختبارات. وفي الليالي الأخرى، كنت أمكثُ أنا أو روي هيلي في المنزل؛ حتى إذا صادف أحد مشكلة ما يستطيع الاتصال بنا هاتفيًّا.» وكانت الإخفاقات أمرًا معتادًا؛ يقول إزل: «ذات يوم، تسبَّبْتُ في انفجارِ أحد محركات الصاروخ ردستون، وفي اليوم التالي حصلت على ترقية.»12
سجَّلَتْ مجلة «تايم» انطباعاتها عن الموقع:

سانتا سوزانا مكان رائع، مساحته ثلاثة أميال مربعة، وهو مكان محاط بسور ومزوَّد بحراسة، وتكثُر فيه نتوءات جيئةً وذهابًا، تتخللها صخور حمراء مستديرة. وينعطف طريق شديد الانحدار أعلى ممر سفلي، ثم يفضي إلى مجموعة مدهشة من المباني ذات الطابع المستقبلي. ولا توجد أرض طبيعية منبسطة، بل توجد مبانٍ ضخمة، وخزانات ممتلئة، ومعدات اختبار عجيبة تقبع فوق الأجراف أو تقع بين الفجوات الصخرية. وكانت تقام منشآت جديدة بسرعة محمومة، ويعجُّ المكان بعمَّال يرتدون الخوذات، وتتسلَّق البلدوزرات المناطقَ المرتفعة مثل الماعز الجبلي، بينما تزيل في طريقها أجزاءً من الصخور الجبلية أمامها. كما يوجد مصنع قيد الإنشاء سيسحب ٦٠٠ طن من الأكسجين السائل يوميًّا من الهواء.

وكانت الهياكل الصلبة الهائلة التي تُوضع فيها محركات الصواريخ تتوارى عن الأنظار في أودية ضيقة؛ ممَّا يجعل أصداء أصواتها تتردَّد لأعلى. وكانت دعامات تلك الهياكل في قوة ركائز الجسور المعلقة، وتراها «منغرسة مثل خطَّاف الصنَّارة» في الصخور حتى لا تتزحزح بقوةِ دفْعِ الصخور. وعلى مسافة سبعمائة قدم، كانت توجد مباني المراقبة التي تحتوي على نوافذ مزوَّدة بمنظار لمراقبة الأفق. وعندما كان يتم اختبار محرك قوي، يندلع لسان ضخم من اللهب أسفل تلك النوافذ، مرتفعًا في بعض الأحيان إلى أعلى في صورة عمود من النيران الصفراء، ويصدر صوت مدوٍّ كما لو كان صوت ضجيج نهاية العالم بين جنبات الصخور، وهو ما يجعل الأجساد ترتعش مثل الجيلي المهتز.13

كانت عملية الإنشاء ساريةً أيضًا في كيب كانافيرال، الذي حلَّ محلَّ وايت ساندز باعتباره مركز الصواريخ الرئيسي في البلاد؛ حيث كان المركز يقع في مواجهة المحيط الأطلنطي ويتوافر أمامه مدًى مفتوح يمتد إلى عشرة آلاف ميل بدءًا من خط الساحل. اختار البنتاجون هذا الموقع لاستخدامه كمركز اختبارات صواريخ في عام ١٩٤٧، وسمحت الحكومة البريطانية فيما بعدُ للولايات المتحدة ببناء محطاتِ تتبُّعٍ في بعض جزر الباهاما، التي كانت على مرمًى مباشر من موقع كيب كانافيرال. وأُجرِيت عمليات الإطلاق الأولى في يونيو ١٩٥٠؛ حيث نجح إطلاق صاروخين من طراز «في-٢»، استُخدِمت فيهما صواريخ «دبليو إيه سي كوربورال» كصواريخ مرحلة ثانية، وهو نفس مزيج الصواريخ الذي تمكَّنَ من بلوغ ارتفاع ٢٤٤ ميلًا فوق موقع وايت ساندز في العام السابق لهذا. اتسع نشاط المركز بعد ذلك، ولكن دون تخطيطٍ محكم. ولسنوات عديدة، ظلَّ أبرز الصواريخ التجريبية التي انطلقت من هذا الموقع هو الصاروخ «سنارك»، وهو صاروخ طراز «كروز»، ينطلق بسرعةٍ أقل من سرعة الصوت معتمِدًا على محركات نفاثة، لكنه سقط في نهاية الأمر في المحيط الأطلنطي؛ ممَّا جعل الناس يشيرون إلى موضع سقوط الصاروخ ﺑ «المياه المُجتاحة بصواريخ سنارك».

كانت أرض الموقع منخفضة السطح، سَبِخة في بعض المواضع، تكتسي بالعفن الفطري وتعجُّ بالناموس. وكان الناموس يتكاثف بعد سقوط الأمطار الغزيرة، التي كانت تسقط على فتراتٍ متكررة، حتى إنك قد تجد خمسين مليون ناموسة في فدان واحد من الأراضي السَّبِخة المالحة؛ وفي المناطق الأسوأ، كان مَنْ يقف لمدة دقيقة واحدة فقط يغطِّي جسدَه أكثر من خمسمائة ناموسة. ويتذكر واحدٌ من أقدم مَنْ عملوا في الموقع تلك الأيام قائلًا: «الجميع كانوا يرتدون قمصانًا ذات أكمام طويلة وقفازات، حتى في فصل الصيف. ولم يكن من الممكن ارتداء قميص أبيض؛ إذ كان الناموس يتجمع بكثرةٍ على القميص محوِّلًا لونه إلى الأسود.»

لم يكتشف السائحون موقع كيب كانافيرال؛ إذ لم يكن يوجد نُزُل في الأرجاء المحيطة بالمكان، وكانت أقرب مدينة إلى الموقع هي تيتوسفيل، عاصمة المقاطعة، التي لم يتغيَّر تعداد سكانها البالغ ٢٦٠٤ نسمات في عام ١٩٥٠ كثيرًا منذ التعداد الأخير. ولكن مع اقتراب ذروة العمل في مشروعات تطوير الصواريخ، خلال عامَيْ ١٩٥٤ و١٩٥٥، اكتملت منشآت موقع كيب كانافيرال الرئيسية، التي كانت تشمل محطة رادار ومحطة قوًى كهربية ومركز اتصالات ومركز إطفاء حرائق ومبنى تحكُّم مركزي، فضلًا عن حظيرة طائرات وصواريخ. وكانت المنطقة لا تزال وَعِرة إلى حدٍّ كبير، مع وجود طيور برية وحيوانات المدرَّع التي تظهر في المنطقة بين الحين والآخر. أما الآن فالحاجة تقتضي التوسُّع في منشآت الموقع بسرعة؛ حيث كانت الصواريخ «نافاهو» و«فانجارد» و«جوبيتر» و«ثور» و«أطلس» و«تايتان» جميعها في حاجة إلى منصات إطلاق.

تصدَّرَ الصاروخ «ثور» قائمةَ الصواريخ الأخرى، وكان أول صاروخ ينطلق من منصة الإطلاق. ووضع المديرون جدولًا زمنيًّا طموحًا كان يتطلَّب إجراءَ عمليات إطلاق مبكرة كثيرة. ولم ينتظر المسئولون عن الصاروخ تصميم نظام توجيه حقيقي، كما لم ينتظروا أيضًا تصميم نظام توجيه بالقصور الذاتي والإشارات اللاسلكية، ذلك النظام الذي ربما لا يستغرق تطويره وقتًا طويلًا للغاية، فبدءوا بدلًا من ذلك بنظام طيران آلي بسيط، لا يضمن تحقيقَ دقة فعلية لكنه يسمح على الأقل بتحليق الصاروخ «ثور». وتعهَّد المديرون أيضًا بالبدء قريبًا في إنتاج الصواريخ التجريبية، وإن كان هذا سيتضمن بعض أوجه القصور في النموذج النهائي نظرًا لغياب التطوير. وتوقَّع القائمون على المشروع أن تفشل بعض عمليات الإطلاق، لكنهم كانوا يتوقعون أيضًا أن يتعلموا دروسًا قيِّمة من تجارب الإطلاق، حتى إذا انفجرت الصواريخ.

كان الجدول الزمني يتطلب ألا تزيد الفترة، من لحظة توقيع العقد إلى عملية الإطلاق الأولى لصاروخ جاهز، عن سنة واحدة؛ وبحلول ثمانينيات القرن العشرين — وهي فترةٌ كان فيها إصلاح الحلقات الدائرية في الصواريخ المعزِّزة للمركبات الفضائية يستغرق ما لا يقل عن ثلاث سنوات — بَدَا هذا الجدول الزمني ضربًا من السفه. ومع ذلك، اكتمل تصميم «ثورهيد» تقريبًا في أواخر شهر يوليو من عام ١٩٥٦، بعد سبعة أشهر فقط منذ بداية البرنامج. وفي أكتوبر من العام نفسه، جرى نقل الصاروخ الأول، رقم ١٠١، إلى كيب كانافيرال على متن قاذفة طراز «سي-١٢٤»، ثم أعقبه في نوفمبر الصاروخ الثاني رقم ١٠٢. وكان لا يزال نجاح عملية إطلاق الصاروخ «ثور» بحلول نهاية العام احتمالًا قائمًا.

كان مجمَّع «١٧-بي» مجهَّزًا بمنصة إطلاق، ومبنى مراقبة، ومنصة شاهقة مطلية بخطوط حمراء وبيضاء اللون لاستخدامها كنقطة مراقبة لمنصة الإطلاق. ولم يكن لدى أيٍّ من العاملين في دوجلاس أية خبرة في تصميم أبراج المراقبة، بَيْدَ أن ذلك لم يُقلق المسئولين عن عمليات الإطلاق؛ فقد قال دولف ثيل: «ليس أمامنا وقتٌ كافٍ لوضع تصميم برج مراقبة؛ لأننا نريد أن نُجرِي عملية الإطلاق في الفترة ما بين شهرَيْ نوفمبر ويناير. دعونا نفحص تصميمات أبراج المراقبة المتوافرة لدينا بالفعل.» ونفى أحد الزملاء، وكان يُدعَى الكولونيل جيك، وجودَ ضرورةٍ لذلك؛ حيث قال: «يوجد برج مراقبة مكتمل التصميم يُستخدَم لمراقبة عملية إطلاق الصاروخ «ردستون»، وليس عليك إلا اقتراض مجموعة من تصميمات أبراج مراقبة ردستون وبناء مثلها.» ورأى ثيل أن ذلك سيجعل موقع الاختبارات مزدحمًا، وإن كان حلًّا يَفِي بالغرض.

لم يُجْرِ طاقم العمل في موقع كيب كانافيرال أيَّ عملية إطلاق خلال عام ١٩٥٦، لكنهم كانوا يقتربون من ذلك. ونُصِّب الصاروخ ١٠١ على منصة الإطلاق في ٢٠ ديسمبر، لإجراء عملية إطلاقٍ استاتيكية للتأكُّد من جاهزية الصاروخ لعملية الإطلاق النهائية، لكنَّ المحرك لم يعمل بسبب وصلةٍ كهربائية صغيرة، إلا أن ذلك لم يفسد على أحدٍ بهجةَ الاحتفال بعيد الميلاد. وخلال عام ١٩٥٧، نجح الصاروخ «ثور» في الانطلاق بالفعل، وتلاه الصاروخ «جوبيتر»، ثم «أطلس»، ثم «فانجارد». وكان سيرجي كوروليف في موقع تيوراتام يُجرِي استعداداتٍ مماثلة لإطلاق صاروخه طراز «آر-٧».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤