الفصل الحادي عشر

عندما تُوضَع الغازات في الأجواء

بدون الرماد ما كنا لنعرف أنه يُوجَد نار،
لا تستهن بأكثر المحروقات سوادًا،
من أجل المخلوقات الراحلة،
التي كانت تُرفرف أرواحُها منذ فترة وجيزة،

•••

في البدء كانت النيران تُوجَد في الضوء،
ثم قويت،
ما من أحد يستطيع أن يكشف
ما الكربونات إلا الكيميائي.
إميلي ديكنسون في «قصائد»، المجموعة الثالثة، ١٨٥٠

تتميز التفاعلات الكيميائية في الحالة الغازية بأنها واسعة الانتشار جدًّا ومهمة جدًّا وغريبة الأطوار جدًّا. وسنُوضِّح هنا بعض ميول التفاعلات المتضمنة لحالة الغاز عن طريق أمثلة قد تبدو مألوفة جدًّا.

تنبع معظم الأشياء المميزة في تفاعلات الحالة الغازية من حقيقة أن جزيئات الحالة الغازية، في المتوسط، متباعدة جدًّا نسبيًّا — ونقول نسبيًّا، مقارنة بمجموعات جزيئات الحالة الصلبة أو الحالة السائلة. فهي أيضًا تتطاير بسرعاتٍ عاليةٍ عمَّا يجب أن تكون عليه في الحالة السائلة أو الصلبة، وكنتيجةٍ لذلك تكون قُوى الجذب البينجزيئية غيرَ مهمة نسبيًّا، وبسبب أقفاص المذيب واللزوجة الناتجة عن التفاعلات البينجزيئية، قد تستغرق المتفاعلات في الحالة السائلة المزيدَ من الوقت حتى يذوب بعضها في بعض، ولكنها تستغرق المزيد من الوقت أيضًا حتى ينعزل بعضها عن بعض، مما يُسهل التفاعل. تجد المتفاعلات نفسها في السائل على البعد نفسِه لمدة طويلة من الوقت، وقد تتحرك في المزيد من التصادمات بعضها مع بعض. وكلما كان هناك مزيدٌ من التصادمات، زادت إمكانية حدوث التفاعل. وإذا حدثت وارتطمت جزيئات الحالة الغازية بعضها ببعض، فإنها غالبًا تميل إلى التباعد بالقدر نفسه الذي تميل به إلى التفاعل.

من ثَم هناك عددٌ من العوامل التي تعمل ضدَّ نجاح تفاعلات الحالة الغازية، حتى إن العديد من تفاعلات الحالة الغازية تشتهر بأنها لا تتفاعل فحسب، بل إنها تتفاعل مُحدِثة انفجاراتٍ أيضًا، مثل تفاعل غازات أدخنة البنزين والأوكسجين، إلا أن الفحص من كَثَب يُبين أن عددًا من هذه التفاعلات يجب أن تُستهَل أو يُشعَل بها شرار قبل أن تنطلق. قد يُسبب الشرارُ حدوث التفاعل، وإلا فلن يحدث أي شيء، حيث إن الشرار يُفضي إلى تكوين ما يُعرَف ﺑ «الراديكال» أو الجذر، وهو نوع كيميائي ذو إلكترون مفرد.

وقد يكون مصطلح الراديكال مألوفًا لمشاهدي أخبار المساء؛ فالسياسي الراديكالي يُسبب الشغْب بأفعاله المتطرِّفة، كذلك يُسبب النوع الكيميائي الراديكالي الشغْب في الجسم؛ فالزيادة المفرِطة في النوع الراديكالي أكثرَ من اللازم يُعزى إليها كلٌّ من الشيخوخة ومرض السرطان. وقد شرحنا من قبل كيف أن الذرات تميل إلى أن تجمع إليها الإلكترونات أو تلفظها بعيدًا عنها حتى تصل إلى حالةٍ من الامتلاء في أغلفتها الخارجية. الآن يُمكننا أن نُشير إلى أن هذه الأغلفة الممتلئة تمامًا غالبًا تنتهي بعدد زوجي من الإلكترونات، وكما اتضح، تميل كلٌّ من الذرات والجزيئات إلى أن يكون لديها عدد زوجي من الإلكترونات؛ لأن الإلكترونات تدخل في أزواج. مثل زوجَيِ الحذاء داخل العلبة التي يُوضع فيها حيث يُطابِق كلٌّ منهما الآخرَ كزوج، وأحدهما بجانب الآخر. وعندما يحدث شيء ما يجعل الإلكترون غير متزاوج، أي راديكالي، يميل هذا النوع إلى أن يُصبح ذا نشاط عالٍ؛ بمعنى أنه يبحث عن إلكترون آخر. يزيد وجود الجذور الحرة في الحالة الغازية من عدد فرص التلاقي الناجحة على نحو ملحوظ.

وكما رأينا في مناقشتنا لتفاعلات الأكسدة والاختزال، يُمكن لتفاعلات الاحتراق الانتقالُ عبر الحالة الغازية بسرعة عالية. وتُعتبَر المذيبات الغازية بالمثل ذات قابلية عالية للاشتعال؛ ولهذا ينبغي أن تُستعمَل بعيدًا عن أية شرارة أو مصدر للهب وفي مكان جيد التهوية. ولا ينبغي أن يتصل المذيب السائل باللهب؛ لأنه سيُحدِث مشكلة. وإذا اختلطت المذيبات الغازية مع الأوكسجين في الهواء، عندئذٍ قد يكون الشرار هو كل ما نحتاج إليه لحدوث التفاعل.

وتتشابه تمامًا الانفجارات الحادثة في محرك الاحتراق الداخلي، ويُنثَر البنزين كطبقة ضبابٍ رقيقة على الأسطوانة حيث يختلط بالهواء ويُضغَط قبل إشعاله، وتكون درجةُ الحرارة النهائية مرتفعةً جدًّا حتى إن غازَي النيتروجين والأوكسجين الموجودَين في الهواء يتفاعلان ويُكونان مركبات نيتروجينية وأوكسجينية عديدة مثل NO، NO2. ويُمكن أن يُشار أحيانًا إلى هذه الأدخنة إجمالًا على أنها NOx (تُنطَق نوكس)، ويُعلَّل اللون البني المحمر لمركَّبات NOx اللون البني المحمر الموجود في الدخان. وتُعتبَر الأدخنة التي ربما تكون قد لاحظتها عند إعداد محلول كبريتات النحاس، كما هو مذكور في «قائمة المشتريات والمحاليل»، من بين مركبات NOx.

ويُطلِق الهيدروجين المختلط بالأوكسجين أحدَ تفاعلات الحالة الغازية الانفجارية الأخرى المعروفة، الذي يُحتمل غالبًا أنه كان له يدٌ في انفجار مكوك كولومبيا الفضائي، وكذلك في كارثة هيندينبورج. وعادة ما تتفاعل انفجارات الحالة الغازية عبر سلسلة من التفاعلات؛ فالإلكترون في الجذر أو الراديكال يجد رفيقه، لكنه يسرق إلكترونًا من زوج آخر في أثناء العملية، مما يُؤدي إلى نشوء جذر آخر، وغالبًا أكثر من جذر إذا تمزقت الرابطة.

وبسبب هذه السلسلة من الأحداث، يتباين تفاعل الحالة الغازية في سِماته الانفجارية بناءً على إجمالي الضغط، بمعنى عدد الجزيئات الممكنة المستهدفة الموجودة، ففي الضغط المنخفض يُخفق تفاعل الهيدروجين والأوكسجين حيث إن تركيز المتفاعلات لا يكون كافيًا لحدوث التفاعل، ويكون التفاعل انفجاريًّا تحت الضغط المعتدل، لكن من المثير أن الخليط يُصبح أقل انفجارية مرة أخرى تحت الضغط المرتفع جدًّا، والسبب في هذا التغيير هو إخماد تكوُّن الجذور، وفي ظل الضغوط الهائلة، فإن الجذور يُمكِن أن تفقد الطاقة عن طريق التصادمات بينها وبين جدران الأوعية التي تحتويها فتُكوِّن نظائرَ سالبة بدلًا من حدوث سلاسل تفاعلات انفجارية. وفي ظل هذه الضغوط الهائلة نفسِها، ثمَّة جزيئاتٌ متفاعلة كثيرة؛ إذ إن جدران الأوعية تعجز عن إبطال مفعول الجذور بالسرعة الكافية التي تُمكنها من إيقاف تفاعل انفجاري، ثم يتولى الانفجار مسألة الجدار على نحو مستمر. ويبرز الأوكسجين في تفاعلات انفجارية عديدة، ويرجع ذلك إلى أن الأوكسجين يُوجَد طبيعيًّا كجذر ثنائي؛ فإلكترونان حول جزيء الأوكسجين مفرَدان، وكل إلكترون فردي يكون أكثر نشاطًا.

ولطالما ناقشنا التفاعلات التي يكون فيها كلٌّ من المتفاعلات والنواتج في الحالة الغازية، لكن هذه ليست هي التفاعلات الوحيدة التي تتضمَّن الحالة الغازية، فأحيانًا يكون المتفاعل مادة صلبة، ويكون الناتج في الحالة الغازية. وقد يظن البعض أن التفاعلات التي تكون متفاعلاتها موادَّ صُلبة ونواتجها غازات تتصرف ببطء؛ لأن الجزيئات في المادة الصلبة محدودة الحركة، إلا أن البارود يُعتبَر مثالًا على تفاعل يتحول فيه الصلب إلى غاز حيث يتصرف التفاعل بنشاطٍ شديدٍ عند إشعاله. ففي حالة البارود، يتحول كلٌّ من النترات الصلبة والكربون والكبريت إلى مركبات NOx الغازية، وثاني أكسيد الكربون وأكسيد الكبريت بسرعةٍ عالية جدًّا حتى إن التمدُّد يُمكنه أن يُطلِق رصاصة تصل سرعتها إلى نحو ألف قدم في الثانية. بالمثل، يملأ تحلُّل أزيد الصوديوم، الذي هو مركب الصوديوم والنيتروجين، إلى غاز النيتروجين، الوسائدَ الهوائية في السيارات في واحد على عشرين من الثانية. فالمستشعِرات تكتشف الأثر ثم تبعث بشرارة كهربية إلى تفاعلِ أداة الاشتعال التي تُوَلِّد بدورها ما يكفي من حرارة لبدء عملية تحلُّل أزيد الصوديوم إلى غاز النيتروجين.

وتفاعلات الحالة السائلة التي تُنتج غازات تتضمَّن بعض التفاعلات التي نريد أن نتجنَّبها، وقد تتذكَّر أن أحد التحذيرات التي قدمناها في «كلمات قليلة وضرورية بشأن الأمان والسلامة» ألَّا تكون مبدعًا مع مخاليط المواد الكيميائية، ومن أهم الأسباب منتجات الحالة الغازية، فيُمكن أن تُنتِج المنظفاتُ المنزلية غازاتٍ ضارةً يُمكنها أن تُسبب صعوبة في التنفس أو أكثرَ من ذلك، وتُعَد نواتج الحالة الغازية نواتجَ غادرة ولا سيما في هذا الشأن؛ لأنها تنتشر في جميع أرجاء الحجرة، حتى الغازات التي يبدو أنها غير مؤذية يُمكنها أن تُسبب اختناقًا إذا كانت مركزة بشكل كافٍ حتى تحل محل الأوكسجين اللازم للتنفس. في وقت ما في تاريخ أوروبا كان ثاني أكسيد الكربون يُسمَّى «غاز سلفستر»، تأتي كلمة سلفستر عن الكلمة اللاتينية التي تعني «غابة»، حيث كان يُوجَد الغاز في كهوف تحوي خشبًا فاسدًا فتحلَّلت مركبات الكربون في الخشب إلى ثاني أكسيد الكربون، وغاز ثاني أكسيد الكربون هو غاز أثقل من الهواء؛ لذا استقر في أرضية كهوف غير جيدة التهوية، وكانت الكلاب التي تأتي إلى الكهف تختنق في حين ينجو الإنسان لأنه يتنفس في مستوى أعلى من الأرض. وبالطبع كل هذه الأمور لا تُرى، وفي هذا الوقت من تاريخ أوروبا، كان يصعب على العالم الأوروبي إدراكُ هذه الأمور غير المرئية، فكانت غامضة جدًّا بالنسبة إليهم. لهذا السبب وغيره من الأسباب العديدة، يُمكن أن نغفر للأوروبيين الأوائل اعتقادَهم الذي يبدو غيرَ عقلانيٍّ في السحر والخرافات؛ فعندما ترى كلبك يسقط ميتًا أمام عينَيك بقوًى غير مرئية ليس لها تأثير عليك، قد يقنع هذا أيَّ أحد بالقوى الخارقة للطبيعة!

ويصعب أيضًا أن نتعامل ببساطةٍ دائمًا مع التفاعلات التي تتضمَّن متفاعلات غازية؛ لأن هذه المتفاعلات ينبغي تركيزها أو تجميعها قبل حدوث تفاعل هام. ويعني تجميع متفاعلات الحالة الغازية عامة زيادة ضغط غازات محددة. في أحد تفاعلات الغاز المشهورة التي يتفاعل فيها النيتروجين والهيدروجين ليُكوِّنا النشادر، يكون ضغط الغازات مرتفعًا، ويُسخَّن خليط التفاعل، ويُستخدَم مُيسِّر أي عامل حفَّاز.

وتُسمَّى هذه العملية «عملية هابر» ويُنتج فيها النشادر الذي يُمكن تحويله إلى نترات، وهو مكون لا يُمكن الاستغناء عنه في البارود. وقبل أن تُعرَف هذه العملية كانت الطبيعة تُوفِّر النترات، فبعض النباتات مثل البازلاء والفول تحتفظ بالبكتريا في جذورها، التي يُمكنها أن تأخذ النيتروجين من الهواء، بمعنى أنها تُحوِّل النيتروجين في الحالة الغازية إلى مركَّبات يُمكِن أن يستخدمها النبات. والحيوانات تأكل النباتات ويتكون النيتروجين في سمادها الغنيِّ بالنيتروجين، والكميات الكبيرة من السماد مثل تلك التي تُوجَد في المناطق التي تتوافد عليها أسراب ضخمة من الطيور موسميًّا، تُستخدَم كمصدر للنترات. وفي أوروبا قُبيل الحرب العالمية الأولى، كان يتعيَّن استيراد مثل هذه النترات، مما يعني أن الدول المستوردة كانت عرضة للحصار؛ ومن ثَم كان التركيز منصبًّا على أكثر الطرق الداخلية لتصنيع النشادر من غاز النيتروجين الموجود في الجو.

وكان أول من استنبط طريقة عملية، هو الكيميائي الألماني فريتس هابر الذي تلقى الكثير من المدح والتقدير (بما في ذلك جائزة نوبل ١٩١٨) ومكانة مميزة عندما تعلق الأمر بصرف الأموال والتسهيلات الجديدة. وعندما تعاقبت الحرب استمر في خدمة الحكومة الألمانية ووافق على العمل في تطوير غاز الخردل والأسلحة الكيماوية الأخرى. في تلك الأثناء، أُصيبَت زوجته بالاكتئاب، ثم انتحرت، وعندما خسرت ألمانيا الحرب العالمية الأولى، أُجبِر على الهرب من ألمانيا لأنه يهودي، عندما احتلت النازية السلطة.1
وكان إنجاز هابر هو إيجاد العامل الحفاز، الميسِّر لحدوث التفاعل، الذي كان في هذه الحالة الخاصة الحديد وصدأ أكسيد الحديد. تُيسِّر العوامل الحفازة الصلبة التفاعلات؛ لأن الجزيئات هي وحوش ثلاثية الأبعاد، وعندما يتعلَّق الأمر بالتفاعلات، فإن التوجيه مطلوب. ويُمكن فهم هذا القيد عن طريق الأخذ بعين الاعتبار التفاعلاتِ بين الأشياء الأخرى ثلاثية الأبعاد، فالقِبلة هي مجرد قبلة، لكن الإنسان ثلاثي الأبعاد ينبغي توجيهه إلى القبلة الصحيحة لتكون هادفة وفعالة. وقد تُعتبَر إحدى مميزات العامل الحفاز الصلب هي أنه يُمكِنه أن يحفظ المواد المتفاعلة في حالة من التوجه المناسب. تستخدم السيارات المحولات الحفازة لتحول NOx مرة أخرى إلى نيتروجين وأوكسجين، ولكي تحول أول أكسيد الكربون السام إلى ثاني أكسيد الكربون.

من التفاعلات الأخرى التي تتضمن الغازات والعوامل الحفازة تلك التفاعلات التي تكون فيها المتفاعلات في الحالة الغازية والنواتج في الحالة الصلبة أو السائلة، وتُعتبَر عملية «فيشر-تروبش» مثالًا على هذا التفاعل.

في عملية «فيشر-تروبش»، يتولد أول أكسيد الكربون عن طريق تعريض الفحم للبخار، وتُسمَّى هذه الطريقة «تحويل الفحم إلى غاز».

ويُسمَّى خليط الغازات الناتجة «الغازات التخليقية» ويُمكِن تخصيبه بالهيدروجين من خلال التفاعل المحول للماء.

وإذا تم هذا عدد مرات كافية، يتولد هيدروجين نقي تمامًا ليُستخدَم في تخليق النشادر على طريقة هابر، ويُمكن أيضًا تحويل أول أكسيد الكربون والهيدروجين إلى الميثانول والكحول اللذَين يُمكن استخدامهما كوقود، أو إذا كُرِّرَت عملية التحويل هذه لعدة مرات مع استخدام العامل الحفاز يتحول إلى سلسلة طويلة من مركبات الكربون التي تُكون الشمع والزيت.

رأينا الآن أن التفاعلات بين المواد الصلبة والسائلة والغازية تُعتبَر ضرورية لتفاعلات هامة عديدة تدخل في الصناعات، علاوةً على أن التفاعلات الأخرى التي تشتمل على تفاعلات المواد الغازية والمواد السائلة والمواد الصلبة هي تفاعلات حيوية لنا على مستوى الحياة غير الصناعية، مثل التفاعلات بيننا وبين الهواء الذي نتنفسه على سبيل المثال.

على سبيل المثال: توصيلات معدنية للتنفس

لعل أكثر الأمثلة الأخاذة للتفاعلات المشتملة على الحالة الغازية هو التنفس، والتنفس هو العملية التي تتبادل الكائنات الحية عن طريقها الغازات مع بيئتها، وبعملية التكافل العظيم في كوكب الأرض، تستهلك النباتات ثانيَ أكسيد الكربون وتُطلق الأوكسجين، في حين أن حلفاءها الحيوانات تستهلك الأوكسجين وتُطلِق ثانيَ أكسيد الكربون، إلا أن النباتات تحتاج أيضًا إلى الأوكسجين، والأمر الذي قد يُثير الذهول هو أن تفسير ذلك الأمر يتضمن فكرة عمل البطاريات.

تُدير البطارياتُ الأجهزة الكهربية عن طريق مدها بفيضٍ من الإلكترونات، ويُضاهي مجرى الإلكترونات تدفق النهر (في حقيقة الأمر كل منهما يُسمَّى تيارًا)، وتُعتبَر هذه المضاهاة جيدة، وتمامًا مثلما يعمل تيار الماء من خلال دوران الساقية، يُمكن أن يعمل تيار الإلكترونات أيضًا. تُنتج البطارية تيار إلكترونات بتفاعلَين؛ أحدهما يُنتج الإلكترونات والآخر يستهلكها، وهذان التفاعلان منعزلان فيزيائيًّا أحدهما عن الآخر، لكن يُمكن توصيلهما بسلك.

تحتاج البطارية إلى تفاعلَين لأن تيار الإلكترونات لا يتدفق إلا إذا كان لديه مصدرٌ ومقصد يتجه نحوه، ويُعتبَر الاحتياج الثاني — المقصد الذي يتجه نحوه — في غاية الأهمية، وإذا أُعيق التيار، فإن الماء لا يتدفَّق. في هذه الحالة لا يكون لديك تيارُ ماء متدفق، وإنما بِركة. بالمثل، كي تتدفق الإلكترونات في تيار كهربائي ينبغي أن يكون لديها مقصد، وتُخزِّن البطاريات المختزنة الشحنة؛ لأن الإلكترونات لا يُمكنها أن تغادر إذا لم يُوجَد مكان تذهب إليه، ولكي تُنتج تيارًا من الإلكترونات ينبغي أن تُوصَّل أطراف البطاريات المختزنة بسلك لكي تُنشئ قاعًا للتيار المتدفق.

ويُمكن أن تُدار أيضًا عمليات النباتات عن طريق تيارات الإلكترونات من تفاعلات ثنائية — أحدهما يجلب الإلكترونات والآخر يستهلكها — وهذه التفاعلات يُمكنك فصلها أيضًا، وينبغي أن تُوصل تفاعلات النباتات أيضًا لكي يُسمَح بتدفق الإلكترونات، لكن بدلًا من استخدام الأسلاك، تملك النباتات شيئًا يُسمَّى «سلسلة نقل الإلكترونات»، وسنسرد هنا طريقة عملها.

تُعتبَر النباتات ذاتية التغذية، بمعنى أنها قادرة على صُنع غذائها بنفسها، لكنها لا تخلقه من الهواء الشحيح، بل من الهواء الكثيف: الكثيف بثاني أكسيد الكربون (CO2). تأخذ النباتات ثانيَ أكسيد الكربون والماء وتُنتج الكربوهيدرات والأوكسجين عن طريق سلسلة متناسقة على نحو خلاق من الأحداث تُسمَّى «البناء الضوئي»، ثم تقوم النباتات بعد ذلك عن طريق طريقةٍ مماثلة لتلك التي يقوم بها أقرانها الحيوانات، باستقلاب السكريات من أجل الطاقة وتستهلك في تلك العملية الأوكسجين. كل خطوة في تلك العملية تحتاج أن تُزوَّد بالطاقة، وتأتي الطاقة من تدفق الإلكترونات، تمامًا مثلما يُمكن لتدفق الإلكترونات أن يُدير جهازًا كهربائيًّا. وعادة يكون مصدر الإلكترونات في الجهاز هو البطاريات، ويكون مصدر الإلكترونات في أوراق الأشجار شبيهًا للبطاريات أيضًا، لكن أصغر كثيرًا.

في المرحلة الأولى من عملية البناء الضوئي، التي تُسمَّى المرحلة الضوئية، فإن التفاعل الآتي:

يُمِد الكلوروفيل، وهو جزيء الصبغة الخضراء في النبات، بالإلكترونات. وتهيج أشعة الشمس الإلكترونات كي تتدفَّق في الكلوروفيل إلى سلسلة نقل الإلكترونات، التي تعمل كشبكة أسلاك في أوراق النبات، وقد أصبح استخدام الضوء لإثارة الإلكترونات حدثًا يوميًّا مع انتشار الأجهزة التي تعمل من على بُعد بالريموت كنترول. يُثير الضوء عن طريق التحكم من بُعد الإلكتروناتِ الموجودةَ في أجهزة الاستقبال المصنوعة من أشباه الموصلات والموجودة — ولنَقُل — في جهاز التلفاز، ويعمل التيار الناتج بدوره بتشغيل الدوائر الإلكترونية أو فصلها في جهاز التلفاز. وفي أوراق النبات، يُثير الضوء الإلكترونات الموجودة في الكلوروفيل والتيار الناتج يجري عن طريق السلسلة الناقلة للإلكترونات، والسلسلة الناقلة للإلكترونات هي سلسلة من الجزيئات يُمكنها أن تُمرِّر الإلكترونات، وتقع في تركيب نباتي يُسمَّى غشاء الثيلاكويد.

لكن كما أشرنا لن يتدفَّق التيار ما لم يكن هناك مكانٌ يذهب إليه، وفي المرحلة الضوئية من عملية البناء الضوئي، يقوم فوسفات ثنائي نيكليوتيد النيكوتين والأدينين — وهو جزيء يحوي العديد من الرموز في صيغته الكيميائية مثل تلك الحروف الموجودة في اسمه الصعب — بامتصاص الإلكترونات المتَّفقة لأسفل عبر سلسلة نقل الإلكترونات، ومن حسن حظنا، أنه يكفي الإشارة إلى هذا الجزيء بالأحرف الأولى منه NADP+، وهي ممارسة شائعة في عالم الكيمياء الحيوية المعقد.
ومن الخصائص البارزة في NADP+ شحنته الموجبة الصافية التي يُمكِن أن تعمل بطريقة ما كإسفنجة للإلكترونات.
وخلال تدفق سلسلة نقل الإلكترونات إلى NADP+، تعمل الإلكترونات، وفي هذه الحالة يُستخدَم العمل الذي تقوم به لخلق «ميل البروتون».

في هذه النقطة، يجب علينا أن نُقحِم شيئًا ما غير متعلق بالموضوع: الهيدروجين كما قد تتذكرون، يتكون من بروتون واحد وإلكترون واحد عندما تكون ذرته متعادلة، وعندما تُجرَّد ذرة الهيدروجين من الإلكترون، فإنها تُكوِّن أيون الهيدروجين، ويُشار غالبًا إلى أيون الهيدروجين الناتج على أنه مجرد بروتون؛ لأن هذا هو الحال بالفعل عندئذٍ، إذ يُصبح بروتون ليس إلا. ويكون «للميل» نفس الدلالة في العلوم مثل ميل جبل أو ميل طريق، أي إنه الاختلاف في الحجم بين كميتَين، مثل الارتفاع، أو كما في هذه الحالة عدد البروتونات التي تفصلها مسافة ما، وعليه يُشار إلى حركة أيونات الهيدروجين من أحد جوانب غشاء الثيلاكويد إلى الجانب الآخر على أنها إعادة ضبط لميل البروتون.

fig22
شكل ١١-١: العمل الذي يقوم به تدفُّق الإلكترونات لأسفل سلسلة نقل الإلكترونات يُستخدَم لنقل البروتونات إلى قمة ميل البروتون.
لماذا ترغب أوراق الأشجار في أن تُنشئ ميلًا بروتونيًّا؟ من ثم تستطيع البروتونات، شأنها في ذلك شأن الإلكترونات، أن تتدفق من مكانها بغزارة إلى المكان الذي يُوجَد فيه عجز وتقوم بعملها. والعمل الذي تقوم به البروتونات هو إدارة مصنع الكيمياء الموجودة في الخلايا الحية كافة ATP.
يستطيع اﻟ ATP، الذي يُعرَف أكثرَ باسمِ ثلاثي فوسفات الأدينوسين، تخزين الطاقة للعمليات الخلوية، وعندما يتفاعل ATP، تُستخدَم الطاقة المختزنة في روابط لقيادة عمليات عديدة مثل نقل المواد التي تُوجَد في الخلايا، وتخليق المركبات التي تحتاج إليها الخلية، وفي انقباض الأنسجة العضلية في الحيوانات، لكن لإنتاج ما يكفي من ATP للقيام بكل هذا العمل، ينبغي أن تُوجَد آليات أخرى لتوليد ATP، التي تبدأ بالمرحلة المظلمة من البناء الضوئي.

والمرحلة المظلمة هي مرحلة «ظلام» لأنها لا تحتاج إلى ضوء لإتمامها، وتُسمَّى المرحلة المظلمة أيضًا «دورة كالفين»، حيث إن أول كيميائي وصفها هو ملفين كالفين. وفي مرحلة الظلام، يُثبَّت الكربون الموجود في ثاني أكسيد الكربون، بمعنى أنه يتحول إلى شكل أقل تطايرًا، وهو السكر، الذي يُمكِن أن تستخدمه النباتات والحيوانات مصدرًا للطاقة، وينتج غاز الأوكسجين في هذه الخطوة، لكنه يخرج إلى الهواء كأحد المنتجات الثانوية:

ويُعتبَر أحد مصادر الطاقة لهذا التفاعل NADPH الذي يُنتَج في أثناء عملية البناء الضوئي، وتشتمل هذه التفاعلات أيضًا على ثلاثي فوسفات الأدينوسين، الذي يَنفد في أثناء تلك التفاعلات — لكن يُعوَّض عنه في المرحلة التالية، بل تجلب تلك المرحلة المزيد — وتتضمن الخطوة التالية كسر الكربوهيدرات/السكر لإطلاق الطاقة عن طريق عملية تُسمَّى «التنفس الخلوي».
يُؤدِّي كلٌّ من الحيوان والنبات مرحلة التنفس الخلوي من الأيض، ومع أن عملية البناء الضوئي لا يُمكِن حدوثها إلا في أثناء النهار، علاوة على أن بعض النباتات تُمارِس بياتها الشتوي دون أن تقوم بعملية البناء الضوئي في فصل الشتاء، فإنه يجب الاستمرار في عملية التنفس، ليلًا ونهارًا، صيفًا وشتاءً، وتُشبِه عملية التنفس الخلوي التي تحدث في خلايا النبات عمليةَ التنفس الخلوي التي تحدث في خلايا الحيوان تشابهًا كبيرًا. وتنكسر الكربوهيدرات في عملية التنفس الخلوي لإنتاج ATP. مرة أخرى يقوم بالعمل تيار إلكتروني يسري عبر سلسلة نقل الإلكترونات، وتخلق الإلكترونات المنحدرة إلى أسفل سلسلة نقل الإلكترونات، ميلًا بروتونيًّا يُستخدَم للعمل على تكوين ATP. أحد الاختلافات هو أن مصدر الإلكترونات هو الشكل المُختزَل لجزيء ثلاثي فوسفات نيكليوتيد النيكوتين والأدينين، أو NADH، وليس الماء. وفي هذه المرة، يُستخدَم الأوكسجين لسحب الإلكترونات خارجًا في الطرف الآخر، بدلًا من NADP+، ويُستهلَك الأوكسجين في هذا التفاعل.

مما يُعلِّل احتياج النباتات إلى الأوكسجين أيضًا.

إلا أنه ما زالت هناك إمكانية لبعض الخلايا أن تُنتج الطاقة أحيانًا دون الحاجة إلى الأوكسجين، وتُسمَّى عملية إنتاج الطاقة الخالية من الأوكسجين «عملية التخمر»، ومع أنه غالبًا يُؤخَذ مصطلح التخمُّر على أنه العملية المنتِجة للكحول، فإنه واقعيًّا يشمل عملياتٍ عديدةً تعمل بدون الأوكسجين؛ فعلى سبيل المثال، عندما يحدث نقص في الأوكسجين في خلايانا العضلية، كما هو الحال عندما نُمارس الرياضة بعنف، ولا يستطيع تنفسُنا أن يتواكب وحاجتَنا من الأوكسجين، فإن عضلاتنا يجب أن تعتمد على وسائل أخرى لإنتاج الطاقة، لا تتطلب وجود الأوكسجين، والمنتج النهائي لإحدى هذه الوسائل البديلة التي لا تعتمد على الأوكسجين هو نوع من الأحماض المعروف بحامض اللاكتيك. وفي حينِ يدخل حامض اللاكتيك في بِنية الخلايا العضلية المحرومة من الأوكسجين، فإن الخلايا لا تزال أقلَّ قدرة على القيام بوظيفتها، والنتيجة هي كلل وألم وإعياء. تعتمد الخميرة على نوع آخر من توليد الطاقة الخالية من الأوكسجين الذي يكون الإيثانول الناتجَ النهائي عنه، ونحن نستفيد من هذا التخمر عند صنع الخمور وغيرها من المشروبات الكحولية.

ومع أن الهضم الخاليَ من الأوكسجين قد يكون مؤلمًا لنا، فثمة كائناتٌ حية دقيقة تنمو في أجواء تُعاني نقص الأوكسجين؛ فالبكتيريا التي تُفسد الأغذية المُعلبة، من المحتمل أن تكون غير مُعقمة على نحو جيد، في غياب الأوكسجين، وتتسبَّب مخلفاتها الغازية في حدوث انتفاخ لعلب الأغذية الفاسدة. إلا أن توليد الطاقة بدون الأوكسجين لا يُعتبَر كفئًا، إلى جانب أن أنماط الحياة التي تعتمد على الطاقة الخالية من الأوكسجين فقط ليست بالكثيرة، وثمة وِجهة نظر تقول إن الديناصورات عاشت كل هذا العمر المديد بسبب توافر الأوكسجين في الهواء في ذلك الوقت، علاوة على وجود بعض الأدلة الجيولوجية على أن مستويات الأوكسجين قد تناقصت بالتدريج،2 ومن الواضح أننا الآن على وشك الاقتراب من الحجم الصحيح؛ كي نستخدم كمية الأوكسجين الموجودة، لكنه إذا تناقص مرة أخرى، فإن الأمور ستئول إلى غير ذلك.

ستستمر الحياة، لكن المخلوقات الموجودة ستُشبهنا أقلَّ من الحد الذي نُشبِه به نحن الديناصورات، وأقلَّ مما تُشبه الديناصورات الكائنات أحادية الخلايا من حيث أتت، إلا أن هذه الكائنات أحاديةَ الخلايا تضطلع بمسئولية إنتاج الأوكسجين في الأجواء، الذي تراكم في آخر الأمر إلى الحد الذي سمح بالحياة المتعددةِ الخلايا؛ ومِن ثَم قد تكون هذه الدورة تكرَّرت أخيرًا، وقد اعتدنا أن نُفكر بطريقة خطية في ضوء البداية والنهاية؛ لأننا لا نقتنع إلا بهذه الطريقة، إلا أن الحياة غيرُ مقيدة بمثل هذا، فالحياة تميل إلى تقدير الدوائر، والحياة تتعاقب في الارتفاع والانخفاض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤