الفصل السادس عشر

الخصائص الترابطية: القوة في الأعداد

في العلوم التجريبية، نُطلِق على الأشياء التي نعرفها «قوانين الحتمية» والتي نجهلها «القوة الحيوية». والقوة الحيوية ما هي إلا مصطلح يُعبِّر عن البقية المجهولة، إلى جانب ما نعرفه عن جوهر هذه الحياة.

الكاتب الروسي ليو تولستوي في رواية «الحرب والسلام»، ١٨٦٦

عند التعامل مع التفاعلات الكيميائية، عادةً تتعلق الأسئلة الأولى بنوعيَّة المادة؛ ما المادة المتفاعلة؟ وماذا سيكون الناتج؟ ما رائحته؟ لكن عندما يتعلق الأمر بالخصائص الترابطية للمحاليل، يكون السؤال: ما مقدار المذاب؟ وليس ما نوعه؟ بكلمات أخرى، قد يُهمك إذا كنت ستضع سكرًا أم خمرًا في الشاي الخاص بك، أما الخصائص الترابطية للشاي فلا تهم البتة ما دمت ستضع عدد الجزيئات نفسه من السكر أو الخمر.

والخصائص الترابطية للمحاليل هي خصائصُ فيزيائية وليست كيميائية؛ لأن الطبيعة الكيميائية للمذاب وللمذيب ستظل كما هي دون تغيير. في الواقع، في المحاليل التي تحوي قوًى بينجزيئية شديدة بين الجسيمات، قد تتصرف المواد المذابة المختلفة بطرق مختلفة بدرجة طفيفة، غير أن التأثير العام سيكون هو نفسه. وتكون هذه التأثيرات وثيقة الصلة بعمليات كيميائية عديدة، ويُمكنها أن تتحكم في الظروف المتنوعة تنوعًا كبيرًا قدر تنوع المهام التي تقوم بها الخلايا الحية للحفاظ على الحياة على الطريق السريع.

وتُعد الخصائص الترابطية للمحاليل هي خصائصَ تغير الحالة، وتتضمن مجموعة غريبة من التأثيرات. يُشير الانخفاض في درجة التجمد إلى الملاحظة التي تقول إن المحاليل تتمتع بدرجة تجمد منخفضة عن درجة تجمد المذيبات النقية. فكلما أُضيفت جسيمات من المذاب انخفضَت درجة التجمد. ويستفيد العاملون بالطرق من هذا التأثير في الشتاء فيقومون برشِّ الملح على الطرق الجليدية لإذابة الجليد، فكما ذكرنا في مناقشتنا لتغيرات الحالة أن الجليد يُغطَّى بطبقة رقيقة من الماء بسبب التوازن الحادث بين حالات المادة. ويذوب الملح المرشوش على الجليد في طبقة الماء التي تكسو الجليد ويُكوِّن محلولًا مركزًا جدًّا. وكما أشرنا من قبل، يكون التوازن حركيًّا بمعنى أن الجزيئات في الحالة الصلبة تقوم باستمرار بتبادل الأماكن مع الجزيئات في الحالة السائلة، لكن الموقف يختلف قليلًا في هذه الحالة، فعندما تتحرك الجزيئات الصلبة نحو المحلول، فإنها تكون محلولًا لم يعد عند نقطة التجمد، وعليه لا تعود مرةً أخرى إلى الحالة الصُّلبة، فالاتزان يميل إلى اتجاه الحالة السائلة، ويجد عددٌ أكثر فأكثر من الجزيئات نفسه في المحلول. وتُستخدَم الرمال أيضًا أحيانًا في الطرق الزلِقة، غير أن الرمال تصلح للاستخدام في المواقف التي تتضمَّن وجود الجليد أو في الأماكن الموحِلة حيث يُمثل السَّحبُ والجر مشكلة. وعندما يكون الهدف هو إذابةَ الجليد، تُستدعى على الفور شاحنات الملح.

وتُشير خاصية الارتفاع في درجة الغليان إلى حقيقة أن المحاليل تغلي عند درجاتٍ أعلى من تلك التي تغلي عندها المذيبات النقية. فكلما وُجد المزيد من المواد المذابة ارتفعت درجة الغليان. وعند إضافة مذاب مثل إحدى المواد المانعة للتجمد إلى مذيب مثل ماء مبرد السيارة، فإن درجة تجمد المحلول في المبرد تنخفض؛ ومن ثَم لا يتجمد بسهولة. وقد اتضح أنه يُمكن أن يُطلَق على موانع التجمد، موانع الغليان أيضًا؛ لأن الموادَّ التي تُساعد في حفظ مبرد السيارة من التجمد هي نفسُها التي تُساعد في حفظه من الغليان، لكنَّ ثمَّة تحذيرَين ينبغي أن نذكرهما هنا؛ أولهما: موانع التجمد وموانع الغليان التي لا تتطلَّب مبردات لا تتجمد أو تغلي أبدًا، كل ما هنالك أنه يجب الوصول إلى درجة أقلَّ من درجة التجمد أو درجة أعلى من درجة الغليان لتحقيق التجمد أو الغليان. وثانيهما: المادة مانعة التجمد التي تُضاف إلى المبرد هي مادة مُتخمرة سامة؛ ومن ثَم لا ينبغي تجربتها.

وعندما نتحدث عن تقليل الضغط البخاري، فإننا نتحدث عن تصرف الأدخنة؛ أي مُذيب متطاير لديه أدخنة مقترنة به، مثل الأدخنة اللاذعة التي تقترن بالبنزين أو الكحول. يُشار في لغة الكيمياء إلى هذه الأدخنة على أنها الأبخرة المتصاعدة فوق المذيب، وتتوقف كمية الأبخرة المقترنة بمذيب على درجة حرارة المذيب وهو السبب الذي يربط الكثيرون من أجله أدخنةَ البنزين بحرارة الصيف أكثرَ من برودة الشتاء. ويتوقَّف ضغط الأبخرة أيضًا على مقدار المذاب المنحلِّ في المذيب.

أما خاصية الأزموسية فهي مَيل المذيب إلى التدفق في اتجاه المحاليل الملحية لتخفيفها. والأزموسية هي التي تتولَّى مسئولية إحياء أوراق نبات الكرفس الذابلة عند نقعها في الماء النقي؛ إذ يتدفق الماء إلى داخل خلايا الكرفس كي يُخفف الخلايا الملحية. والأزموسية هي المسئولة عن تخليل المخللات؛ إذ يتدفق الماء خارج المخللات ليُخفف المحلول الملحيَّ للمخلل. كيف يصل الطعم إلى المخلل؟ الأزموسية هي المسئولة عن الوصول إلى الاتزان، والمواقف التي يحدث فيها الاتزان هي مواقفُ ديناميكية. وفي الاتزان يُعاد توزيع الجزيئات التي تحمل النكهة بين المخلل والمحلول الملحي. لنتذكر معًا التجربةَ التي استُخدِم فيها ورق الحمَّام وألوان الطعام؛ فقد سُمِح لورق الحمام وهو في حالة اتزان أن يحمل قدرًا من الماء من جزء من الكوب، وعندئذٍ أُضيفَت صبغة الطعام إلى هذا الجزء من الكوب. ولأن الاتزان ديناميكي؛ فإن بعض ألوان الطعام انتقلت إلى الورقة. وفي حالة المخللات، في وضع الاتزان، يكون مقدار من الماء خارج خلايا المخلل أكثرَ من مقداره داخلها، لكن ينتقل جزء من النكهة الموجودة في المحلول الملحي إلى داخل المخلل.

تُوجَد الخلايا، وهذه الخلايا هي السبب في الحياة لأن أغشية الخلية أغشيةٌ شبهُ مُنفذة، أي تسمح بدخول احتياجات الخلية إليها وتسمح بطردِ ما لا تحتاجه، كما تحافظ على محتويات الخلية من أن تُهدَر خارجها أو تقطر بعيدًا. ويُمكن لواحد من هؤلاء الذين يمكثون أوقاتًا طويلة في حوض استحمام أن يرى مثالًا على عمل الغشاء شبه المنفذ للخلية؛ إذ تتجعد بشرتهم. وإذا سألت بعضهم عن السبب، سيُجيب الكثيرون أن سبب هذا التجعيد هو فقدان البشَرة للماء. في حقيقة الأمر، تحدث هذه الانثناءات والتجعيدات للبشرة بسبب انتفاخ البشَرة بالماء الذي امتصَّته، فالسائل الذي يُوجَد في البشَرة هو خليط من المواد المذابة تركيزه عالٍ جدًّا، فهو يتركب من بروتينات وأملاح وسكريات وبعض الجزيئات الأخرى، وعليه يُحاول الماء الموجود في حوض الاستحمام أن يتدفق إلى الخلايا في محاولةٍ لتخفيف تركيز محتويات الخلية.

لكن الاستجمام الذي يحدث للجسم عند المكوث في حوض الاستحمام ليس الفائدة الوحيدة التي تعود على الجسم من الأزموسية. فالجسم يستغلُّ وجود موادَّ ذائبة معينة أو غيابها كي يُحفِّز حدوث عملياتٍ كثيرةٍ ضروريةٍ لنمو الخلايا أو تكاثرها أو إصلاحها، أو يمنعها. لقد تمكَّن العالم الألماني جاك لوب، في نهاية القرن التاسع عشر من استثارة بيض غير مخصَّب لحيوان قنفذ البحر لكي يُنمي طور اليرقة عن طريق تغيير تركيز الملح في المحاليل المحيطة بها؛ ومن ثَم يبثُّ فيها الحياة باعتبارها عمليةً فيزيائية كيميائية، لا قوةً حيوية خفية.1

ومع ذلك، فلا يزال يشوب الخصائصَ الترابطية للمحاليل قدرٌ من الغموض منها وفي طبيعتها ذاتها. ويُشير الرأي السائد إلى أن ثمَّة عاملَين أساسيَّين يدفعان السلوك الترابطي الذي يجري ملاحظته؛ أحدهما هو أن الوجود الفيزيائي للمذاب في المحلول يعوق الدور المعتاد الذي تُؤدِّيه جسيمات المذيب. فعلى سبيل المثال، ينخفض الضغط البخاري؛ لأن جُسيمات المذاب تَشغل بعض مناطق السطح التي من المفترض أن يرحل منها المذيب إلى الحالة الغازية. ويتسبَّب هذا المنع للبخار في انخفاض الضغط البخاري — ومن ثم ارتفاع درجة الغليان — وذلك لأن الغليان يحدث عندما يتساوى الضغط البخاريُّ للمذيب مع الضغط المحيط وعندئذٍ يُمكن لفقاعات البخار أن تتصاعد. ويُمكِن لجزيئات المذاب أن تعوق أيضًا قوى الجذب البينجزيئية التي تُسهل عملية التجمد؛ ومن ثَم تعمل على انخفاض درجة التجمد. ولكن، مع أن هذه التأثيرات لها تعليلاتها، فإن الدافع الرئيسيَّ وراء الخصائص الترابطية المرصودة هو الأنتروبيا.

ذكرنا من قبل أن النظام يميل إلى حالة من الفوضى العارمة، أي حالة أنتروبيا قصوى، وأن المحلول المخفَّف أكثر فوضوية من المحلول المركز. والآن تخيل موقفَين متناقضَين تمامًا، يُوجَد في أحدهما جُسيمان — واحد لمذاب والآخر لمذيب — وفي الموقف الثاني يُوجَد جسيمٌ واحد من مذاب موضوعٍ في بحر من مُذيب. يُعتبَر الموقف الأول منظمًا للغاية؛ إذ يسهل تحديد موضع جسيم المذاب، أما في الموقف الثاني فيُعتبَر غايةً في الفوضى إذ يستحيل تحديد موضع جسيم المذاب الموضوع في بحر من المذيب، ومن ثَم فكلما زادت خفةُ المحلول زادت فوضويته.

ويميل النظام بطبيعته إلى حالةٍ من الأنتروبيا القصوى، كما شدَّدنا على ذلك في مناقشتنا للديناميكا الحرارية. وتميل الأنظمة الكيميائية والفيزيائية على حدٍّ سواء نحو الفوضى، فهذه هي حالتها الطبيعية، فالغازات تتمدَّد، والأصباغ تنتشر، والمخاليط تبذل ما في وسعها كي تصبح مُخففة، والمحاليل لا تُريد أن تفقد المذيبات كي تُصبح مركزة؛ إذ إن الأنتروبيا تزيد بالتخفيف. ويُقلِّل الضغط البخاري للمحلول، كي لا يفقد المحلول المذيب ويُصبح أكثر تركيزًا. وتُرفَع درجة الغليان للسبب عينِه. وتزيد الأنتروبيا أيضًا في الحالة السائلة عن الحالة الصلبة؛ ومن ثَم يمنع التجمد حدوث الأنتروبيا. وعليه، تختبر المحاليل انخفاض درجة التجمد. ويكون الدافع في الأزموسية هو السعيَ نحو محلول منظَّم مخفف كوسيلة لزيادة الأنتروبيا.

وبالمرور عبر المخللات إلى الكرفس إلى الخلايا، إذا كان هناك قوًى حيوية وراءها، فستكون الأنتروبيا.

على سبيل المثال: الكُلى والكيمياء

ما الذي ينبغي أن تفعله الكُلى حيال المخللات والكرفس؟ في الواقع، هي تقوم بدورٍ لا بأس به حيالَهما. تبرز الخصائص الترابطية في كيمياء الجسم بدرجة كبيرة؛ لأن الجسم محلولٌ ملحي واحد كبير موزَّع في خلايا عن طريق الأغشية شبه المنفذة. غير أن الأغشية شبهَ المنفذة للخلايا لديها دورٌ تُؤديه يفوق في أهميته مجرد السماح للماء بالنفاذ إلى الخلايا الذابلة في نبات الكرفس أو النفاذ من المخللات. يغمر الدم الخلايا في محلول مركَّب من جسيمات متنوعة إلى جانب الماء، علاوة على أن الخلايا نفسَها تحوي سائلًا مكونًا من جسيمات مُتنوعة إلى جانب الماء أيضًا. بعض هذه الجسيمات كبير نسبيًّا والبعض الآخر صغير نسبيًّا. ويكون البعض منها أيونات والبعض الآخر متعادل، وبعضها قطبي والآخر غير قطبي، وجسيمات يُفترَض وجودها، وأخرى لا يُفترَض وجودها. ولكي يُضبَط تركيب محتويات الخلية، يجب أن تُوجَد احتياجات الخلية في الدم وينعدم فيه أي شيء تعتبره الخلية فضلات. والجانب الشائك هنا هو تقرير أي هذه الأشياء فضلات وأيها ليس كذلك، بمعنى تقرير أيهما سيبقى وأيهما سيُخرج.

فعلى سبيل المثال، اليوريا، الذي هو نتاج هضم البروتين والذي اشتقت منه كلمة يورين، يجب أن يجري التخلص منه. وكذلك الفضلات الأخرى الناتجة عن عمليات الأيض، أو أي سموم تنتجها البكتيريا، أو أي بقايا أدوية أو مواد غير مستخدمة أو هرمونات زائدة. ومن ناحية أخرى، لا ينبغي التخلص من الجلوكوز أو إفراز البروتينات، وينبغي الاحتفاظ بالفيتامينات والكالسيوم ونسبة معينة من الصوديوم والمعادن الأخرى. غير أنه ينبغي ضبط كمية الماء؛ لأن ارتفاع الماء في الدم مضرٌّ لأن الدم إذا أصبح مخففًا للغاية حينئذٍ لن يُوجَد قدر كافٍ من المواد الغذائية كي تُنقل إلى الخلية. وإذا كان الدم يحوي كمية قليلة من الماء، فإن العملية الفيزيائية المتعلقة بضخ الدم في كل أنحاء الجسم سوف تضعف، ووظيفة الكُليتين هي فرز المواد المتنوعة التي تطفو بالقرب منها ثم تختار ما تحتفظ به وما تطرده.

ويُعتبَر الترشيح الجيد والمعروف منذ القِدَم هو إحدى الآليات المباشرة التي تستخدمها الكُلى؛ إذ تُخفِّض نسبة الماء والجزيئات الصَّغيرة باستخدام الضغط، كما في ماكينة صنع القهوة. فالمحلول الذي يمرُّ عبر المرشِّحات يُطلَق عليه «المادة المُرشحَة» (التي تُقابلها القهوة في ماكينة صنع القهوة). وتكون خلايا الدمِ الحمراء كبيرةً في الحجم على أن تُرشح عند هذه الدرجة، وينبغي أن تبقى بعيدةً عن عملية الترشيح. ويُشير وجود أي خلايا دمٍ حمراءَ في البول إلى إمكانية حدوث ارتشاح في الشُّعيرات الدموية، وينبغي استشارةُ الطبيب في هذه الحالة.

غير أن المرشِّح لا يُمكنه أن يُفرِّق جيدًا بين الأشياء التي يجب التخلُّص منها والأشياء التي لا يجب؛ فبعض الموادِّ التي يجب أن تُحتجَز تكون دقيقةً للغاية حتى إنها تستطيع المرور. وتُعوَّض الكُلى عن ذلك باحتوائها على بروتينات خاصة تُدعى «الناقلات» تُوجَد على أغشية الكُلى، التي يُمكنها أن تُميز الجزيئات وتُعيد امتصاصها مثل بعض أنواع السكر والبروتين. وبالطبع يكون للجسم ناقلاتٌ خاصة لهذه المواد فحَسْب؛ يصنعها بنفسه، أو يأخذها بانتظامٍ من البيئة الداخلية. ويُصنِّف الجسمُ الأدوية التي يصنعها الإنسان على أنها فضلات، وعليه يجري التخلص منها؛ ومن ثَم يجب أن يُضبَط وقتُ جرعات الدواء وكمياتها بما يحفظ كمياتٍ مناسبةً منه في الدم.

ولا يجب تركُ الدم ليُصبح غايةً في الحامضية أو غايةً في القاعدية — أي لا يجب تركُ رقم الأسِّ الهيدروجيني (pH) ليُصبح مرتفعًا أو منخفضًا للغاية — من ثَم يجب أن تُضبَط بعناية نسبةُ أيونات الكربونات والبيكربونات. فإذا كان هناك مزيدٌ من نسبة الكربونات، فإنها سوف تُقشَد وتُطرَد، أما إذا كان هناك القليل، فثمَّة آليةٌ لاستعادة هذا الاتزان أيضًا.
ينتج عن أيضِ خلايا الكلى، شأنها في ذلك شأن الخلايا الأخرى كافَّة، ثاني أكسيد الكربون. وكما ذكرنا من قبل، يتفاعل ثاني أكسيد الكربون مع الماء ليكون حامض الكربونيك، الذي يُصبح البعض منه كربوناتٍ في الدم. وينتقل ثاني أكسيد الكربون تحت ظروف أخرى إلى الرئتَين ويُطرَد، أما إذا كان الدم في حاجة إليه لاستعادة اتزان الأس الهيدروجيني (pH)، فإنه يُمكن احتجازه.
وعليه، تتولد عن كل هذه الآليات المعقَّدة والمتخصصة لتوزيع المواد بين الدم ومنبع الفضلات حاجةٌ مُلحَّة وشديدة إلى الأزموسية، لكن إذا تُرِك العِنان للأزموسية لكي تحدث دون ضبطها فإن خلايانا قد تتورم أو تتلف مثل الكرفس والمخللات غيرِ المنضبطة، لكن مِن حسن الحظ، ثمَّة هرمونات يُنتجها الجسم تُؤثر على نفاذية الأغشية التي تُحدِث الأزموسية من خلالها، وأحد هذه الهرمونات هو هرمون ADH المضادُّ لإدرار البول.
وهرمون ADH تُفرِزه الغدةُ النُّخامية الموجودة في الجزء السفلي من المخ. والغدة النخامية مسئولة أيضًا عن إفراز هرمونات أخرى تقوم بتنظيم النموِّ والأيض. وعندما تكتشف الغدة النُّخامية وجود نِسَب عالية من الصوديوم في الدم، فإنها تُفرز هرمون ADH ومن ثم تمنع الكلى الماء من الخروج، ويُصبح الدم أكثرَ تخفيفًا، وستفقد الخلايا نسبةً أقلَّ من الماء — ومما لا يُشَك فيه أن هذه الآلية تعمل جيدًا عندما نركض عبر إقليم السافانا ونأكل وجبات الحمية التي تُغيرنا بالتدريج. وللأسف، لم نعد نُمارس رياضة الركض كثيرًا كما اعتدنا أن نفعل من قبل، ونحن نميل إلى أن نتناول كمياتٍ كبيرةً من الصوديوم في وجَباتنا أكبرَ كثيرًا مما كان هذا متاحًا لنا في إقليم السافانا؛ ومن ثم يُمكن أن يكون معدل احتجاز الماء في الجسم مرتفعًا بدرجة غير طبيعية، مما يُمكنه أن يُؤديَ إلى حدوث خللٍ في العديد من أنظمة الجسم. وبالطبع، يُمكن أن تفسد العديد من أنظمة الحمية؛ إما بسبب أكل وجبات الحمية اللذيذةِ المذاق التي تحتوي على نسبةٍ كبيرة من الصوديوم، وإما بسبب الامتناع عن شرب الماء؛ اعتقادًا أن الماء الزائد سوف يُختزَن في الجسم. في حقيقة الأمر الماء الزائد يُخفف الدم؛ ومن ثَم يُقنع الجسم أن كل شيء على ما يُرام، ويُمكنه أن يصرف الماء بدلًا من أن يحتجزه. فضلًا عن أن الجفاف يُسبِّب الإعياء (عندما يشعر الجسم بنقص الماء، ويُحاول أن يحتفظ بما لديه)، الذي يُقلل من أداء الفرد. لذا، في حين قد يبدو أن الإفراط في شرب الماء في الحمية الغذائية مُناقض للبديهة، فهو في الحقيقة يُساعد على زيادة مُعدَّل الأيض.

وليست مُعدلات الأيض وحدَها هي التي يُمكن التحكُّم فيها، فالتفاعلات الكيميائية كافةً — بداية من أكثر التفاعلات نشاطًا إلى أبطئها — تقوم على مجموعةٍ من القواعد والمبادئ، وهو ما سننتقل إليه الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤