الفصل السابع عشر

الحركية الكيميائية: انفجار حقيقي

حسنًا. أنتِ إنسانة بريئة مباركة! … الحياة لن تظلَّ هادئة مع فتاة في التاسعةَ عشْرة من عمرها تعيش في مثل هذا المكان. قد تخدعين نفسك، لكنكِ لا تستطيعين أن تخدعيني. ألا تتفاعل فتاة في التاسعة عشرة من عمرها مع الأشياء! إنها قد تنفجر! الأشياء لا تتفاعل في أي مكان باستثناء بوسطن وفي المختبَرات الكيميائية. أظن أنكِ تعلمين أنكِ تصطحبين معكِ قنبلةً إنسانية إلى مستودَع أسلحة، ألست كذلك؟

كريستوفر مورلي، «المكتبة المسكونة»، ١٩٤٠

تتعامل الديناميكا الحرارية كما ذكَرنا من قبلُ مع تأثيرات الحرارة والأنتروبيا على الاتزان، وهي تُفيد في التنبُّؤ بالمدى الذي سيحدث عنده التفاعل، لكن الديناميكا الحرارية تُشبِه طفلًا مشاغبًا يتجنَّب القيام بمهامه اليوميَّة؛ فهي قد تُخبِرك بأن التفاعل سيحدث لكن لن تُخبرك متى، فعلى سبيل المثال، تتنبَّأ الدِّيناميكا الحرارية بأن الجرافيت هو أحدُ أشكال الكربون النقيِّ الأكثرِ ثباتًا من الماس، وعليه سيتحوَّل كل الماس في آخر الأمر إلى جرافيت، لكني أودُّ أن أنصحك قبل أن تَشرع في تعديل حافظتك الاستثمارية بأن هذا التحوُّل قد يستغرق مليارات السنين.

ولا ينبغي أن تُلام الديناميكا الحراريَّة؛ فثمَّة مُمارسات عديدة تكون أكثرَ سهولةً في التنبُّؤ بحدوث الحدث من معرفةِ توقيت حدوثه. فعلى سبيل المثال، يُمكننا توقُّع أننا حتمًا سنموت، لكن لك أن تتخيل كيف كنا سنتصرف إذا عرَفنا متى! لكن بصرف النظر عن القابلية للتنبؤ، من الضروري جدًّا معرفة معدلات التفاعل عند التحكم بالتفاعلات الكيميائية. قد لا نتعرض في حديثنا اليومي لتحول الماس تدريجيًّا إلى تراب الكربون، غير أن الانفجارات هي التي تتصدر الأخبار الليلية. والغرض من دراسة معدلات التفاعلات — الحركية الكيميائية — هو قياس ودراسة معدلات التفاعلات الكيميائية بالعين التي تُمكننا من التنبؤ بمدى السرعة أو البطء اللذَين يحدث بهما التفاعل الكيميائي وكيفية تعجيله أو إبطائه حسبما تتطلب الحاجة.

ويتضمَّن المصطلح الإنجليزي kinetics معنى حركة — كما في الفن الحركي kinetic art، أو في علم الحركة الذي يهتمُّ بدراسة عضلات الإنسان وحركته kinesiology. وقد اختِيرَت الكلمة الإنجليزية kinetics لتصفَ الدراسة التي تهتمُّ بمعدلات التفاعل الكيميائي لأن معدلاتِ التفاعل تعتمد على حركة الجزيئات. ويقيس العلماء في أوروبا معدلات التفاعل منذ منتصف القرن التاسعَ عشر على الأقل، لكن التفسيرات التي توصلوا إليها بشأن المعدلات التي لاحَظوها كان عليها أن تنتظر حتى تُصدَّق عليها نظرية الحركة الجزيئية. تذكر نظرية علم الحركة بشأن الحركة الجزيئية أن الجزيئات والذرات تكون في حالة حركة دائمة، وإن كانت هذه الحركة دقيقة مثل اهتزاز الأيونات في سبيكة بلَّورية أو شديدة الاهتياج مثل الجزيئات في الحالة الغازية التي تنتشر بسرعة ١٦٤٠ قدمًا (٥٠٠ متر) في الثانية الواحدة.

ولكن المسافة التي يقطعها جزيء غاز واحد في الثانية الواحدة، تحت الضغط الجوي العادي، لا تكون في خطٍّ مستقيم؛ وذلك لأن كثافة جزيئات الغلاف الجويِّ تحت الظروف العادية في الأرض تكون هي تلك الكثافةَ التي يمرُّ عندها الجزيء الواحد في الحالة الغازية بما يقرب من سبعة مليارات تصادم كل ثانية. وتُعَد كل هذه التصادمات بمنزلة أخبار سارة للكيميائي الذي يدرس معدل التفاعلات الكيميائية؛ لأن معدل التصادم يرتبط بمعدل التفاعل، الذي يرجع إلى أن الجزيئات يجب أولًا أن تجتمع مع بعضها البعض قبل حدوث أي شيء آخر في التفاعل، بمعنى أنها يجب أن تتصادم.

ويُطلَق على الفكرة القائلة إن معدل التفاعل الكيميائي يرتبط بمعدَّل التصادم «نظرية التصادم لمعدلات التفاعل» غير أن الغموض الذي يكتنف الطبيعةَ لا يُمكن حلُّه بهذه السهولة. فأثناء التفاعلات الكيميائية، تتشابك مدارات الإلكترونات (أي السحُب الإلكترونية) في المتفاعلات الفردية ويندمج بعضها مع بعض بالطريقة التي تندمج بها فقاعتان معًا وتُصبحان فقاعة واحدة. وما إن تُصبح الظروف مواتية حتى تستغرق الإلكترونات في المدارات الفردية ما يقرب من كوادريليون من الثانية؛ كي تُعيد ترتيب نفسها في المدارات حول النواتج، لكن إذا حدثت جميع التفاعلات بالسرعة نفسِها التي تحدث بها التصادمات، فإن الطعام كان سيُطهى في أقلَّ من لمح البصر، وكان الدهان سيجف بمجرد وضعه، وكنا سنموت فور ولادتنا؛ لأن تفاعلات الأيض التي تحدث في أجسامنا كانت ستُدمرنا. إذن، لماذا لا تحدث التفاعلاتُ كافةً في أجزاء من الثواني؟ تكمن الإجابة في هذه الجملة: «عندما تُصبح الظروف مواتية.»

في البداية، يجب أن نعرف أن المتفاعلات في الحالة الغازية قد يتصادم بعضها مع بعض ملياراتِ المرات في الثانية الواحدة، أما المتفاعلات في حالة المحلول فيُمكن أن يعزل بعضَها عن بعضٍ بحرٌ من المذيب، وقلما يتصادم بعضها مع بعض. ويُمكنك أن تتأكد من ذلك عن طريق إضافة بعض قطرات صبغة الطعام في الماء والبعض الآخر في الجلسرين، فستجد أن معدل انتشار — أي حركة المذاب في المذيب — يختلف اختلافًا جذريًّا من مذيب لآخر (شاهد هذا الانتشار من جانب الكوب للحصول على مشاهدة أفضل). لكني أود أن أُكرر مرة أخرى أن اللزوجة لا تمنع دائمًا حدوث التفاعل الكيميائي، بل إنها تعمل في بعض الأوقات على تعزيز حدوث التفاعل عن طريق وضع المتفاعلات معًا.

لكن، مع أن المتفاعلات تكون قادرةً على التصادم معًا فإنه ليست كلُّ التصادمات تُفضي إلى حدوث تفاعل، كما أنه ليست كل مواعدة ينتج عنها زواج. أُكرر مرة أخرى، يجب أن تكون الظروف مناسبة؛ لأن المدارات يجب أن تكون مصفوفة كما ينبغي، والتصادم يلزمه كمٌّ كافٍ من الطاقة كي يحدث. عندما يحدث اصطدامٌ بين سيارتَين قريبتَين إحداهما من الأخرى بسرعة خمسة أميال في الساعة، فإنه قد لا يحدث حتى انبعاجٌ في الرفارف، أما إذا حدث هذا التصادم من الجنب وكان متوسط سرعة السيارتَين هو أربعين ميلًا في الساعة، فإن جانب السيارة يتحطَّم؛ ومن ثَم، كي يحدث التفاعل، فإن المتفاعلات يجب أن تجتمع معًا، وأن يكون لها اتِّجاه معيَّن، ويجب أيضًا أن تتمتَّع بالقدر المناسب من الطاقة.

ولنفترض أننا نعرف عن الجزيئات وحركتها، عندئذٍ يُمكننا أن نفعل أشياءَ معينة للتحكم في معدلات التفاعل. فعلى سبيل المثال، يُمكننا أن نتحكم في التركيز، وهي فكرة مباشرة وبسيطة؛ فكلما زاد الكمُّ، زادت فرصة حدوث التفاعل، لكن كما لاحظنا في توجيهات التجرِبة الأولى المطروحة سابقًا، لا تُعَد دائمًا الزيادة في المعدلات هي نتيجةً مباشرة للزيادة في التركيز، فعلى سبيل المثال، إذا لم يكن التفاعل يحدث في خطوة واحدة لكن بواسطة سلسلة من التفاعلات (مثل معظم التفاعلات)، فسيكون عندئذٍ استجابة معقدة للزيادة في التركيز، وذلك لأنَّ التركيزات العالية لبعض المتفاعلات تعوق حدوث التفاعل لبعض التفاعلات.

وثمة عاملٌ آخر يُمكِنه أن يُؤثِّر على معدل التفاعل الكيميائي هو الحالة الفيزيائية للمتفاعلات، فمثلًا الطباشير المستخرَج من الأرض يذوب في الخل أسرعَ من الطباشير الصُّلب المُصنَّع. ويُمكن أيضًا للحالة التي تكون عليها المتفاعلات أن تُؤثر على معدلات التفاعل، فالبنزين السائل يحترق أما بخار البنزين فينفجر. ولطالما تتواجد الأسطح الغريبة في التفاعل، حتى لو كان مجرد سطح الوعاء الذي يحوي التفاعل؛ لذا يجب أن تُؤخَذ أيضًا بعين الاعتبار. ففي بعض الأحيان تعمل هذه الأسطح على زيادة معدلات التفاعل عن طريق حمل أحد المتفاعلات على السلوك في الاتجاه المناسب. وفي أحيانٍ أخرى تعوق الأسطحُ التفاعل عن طريق جعل التفاعل يسير في اتجاه عكسي، أو عن طريق تهدئة المتفاعلات عند التصادم.

أما درجة الحرارة فهي تُعَد دائمًا عاملًا رئيسيًّا نظرًا إلى أهميتها على عدة مستويات، فالأغلبيةُ العظمى من التفاعلات تزيد سرعتها مع الارتفاع في درجة الحرارة؛ لأن ارتفاع درجة الحرارة يعمل على زيادة السرعة التي تبدأ عندها الجزيئاتُ الانتشارَ في كل الأنحاء، ممَّا يَزيد عدد التصادمات؛ ومن ثَم الطاقة الناجمة عن تلك التصادمات. فعلى سبيل المثال، عند حدوث عدوى أو إصابة لدى إحدى الثدييات، فإنها تستجيب لذلك بعدة طرق؛ من بينها رفع درجة حرارة الجسم؛ ومن ثم تكون استجابة كلٍّ من الجهاز المناعي واستجابة الخلايا المختصة بالتصليح أسرع. فعادةً يُصاحب الارتفاعَ في درجة الحرارة زيادةٌ في معدل التفاعل، لكن ذلك لا يحدث دائمًا. فإذا نتجت حرارة عن خطوة معينة من خطوات التفاعل، فإن زيادة درجة الحرارة عن طريق إضافة حرارة إلى التفاعل يُمكنه أن يُغير اتجاه التفاعل إلى الخلف، وينتهي الأمر بتقليل سرعة التفاعل، لذلك، قلَّما كان التنبؤ بمعدلات التفاعل والقدرة على التحكم بها مباشرًا وبسيطًا.

ويجب أن يُؤخَذ أيضًا بعين الاعتبار الحالة التي تتوسط الطريق بين المتفاعلات والنواتج، التي يُطلَق عليها الحالة الوسيطة أو المتراكب النشط. لو استخدمت سمنًا وبيضًا ودقيقًا وسكرًا ولبنًا (كمتفاعلات)، فقبل أن تُصبح هذه الأشياء كعكة (النواتج) يجب أن تمر بالمرحلة الوسيطة وهي الخفقان والضرب.

ويمر كل تفاعل كيميائي بهذه الحالة الوسيطة، لكنها تكون قصيرةَ الأجل. فالمتفاعلات يجب أن يتَّحد بعضُها مع بعض وتُكون المتراكِب الذي تُنظَّم فيه المدارات وتتكوَّن النواتج. والأمر يتطلب دائمًا وجود الطاقة حتى يتكون هذا المتراكب النشط، أي الحالة الوسيطة، مع أن هذه الطاقة قد تكون كبيرة للغاية أو صغيرة للغاية. ويتحدث الكيميائيون عن حاجزٍ يُدعى الحاجز النشط، بمعنى الحد الأدنى من الطاقة المطلوبة لتكوين الحالة الوسيطة، ثم عندئذٍ يدفعه إلى أسفل في اتجاه النواتج. ويُمكن أن يُفهَم هذا الحاجز النشط في ضوء أي جهد يبذله الإنسان، فالأمر يتطلب قدرًا من الطاقة في الفترة التي تتوسط بزوغ الفكرة، ووصولًا إلى الناتج النهائي، بصرف النظر عن الاستحسان الذي قد يناله المنتَجُ النهائي. أما في حالة التفاعل الكيميائي، فإن الأمر يتطلب الطاقة للتغلب على المعضلة الأولى المتمثلةِ في التحول من متفاعلات إلى نواتج، حتى إن انطلقت الطاقة من التفاعل برُمَّته.

لكن في أوقاتٍ أخرى، يُمكن التأثير في الموقف (أخيرًا وجدنا أخبارًا سارة)، بمعنى أنه في بعض الأحيان يُمكن أن يعمل عامل حفَّاز على التسريع من وتيرة التفاعل المطلوب. والعامل الحفاز هو تلك المادة التي تُقلل من طاقة التنشيط المطلوبة لإتمام التفاعل. والعامل الحفاز لا يُغير من كم المنتج المكون؛ فكل دوره يقتصر على جعل التفاعل أسرع. وقد يُشبه العامل الحفاز رصيف مشاة متحركًا في مطار، فهو لا يجعل الجهة الأخرى للمطار أقرب، لكنه يُقلل كمَّ الطاقة المطلوبة للتنقل من جهة لأخرى، كما أنه يُسرع من معدل الخطوات التي قد تخطوها هناك. وأود أن أُوضح التشبيه أكثر، ينقل الرصيف المتحركُ المسافرين من جهة لأخرى لكنه لا يُغادر المطار نفسه. وبالمثل يدخل العامل الحفاز الحقيقي في التفاعل، لكنه لا يُستهلَك في التفاعل.

وتُعَد الإنزيمات من العوامل الحفازة؛ فالمكمِّلات الغذائية التي تُساعد الجسم على هضم المنتجات المصنوعة من اللبن أو موادِّ الطعام الخشنة التي لا تُهضَم مثل الفول، هي في حقيقة الأمر إنزيمات. وتُضاف الإنزيمات في بعض الأحيان إلى المنظِّفات لتُسرع من تفتيت الدهون. ويُعجل العامل الحفاز المحول في السيارة من كسر مركبات النيتروجين والأوكسجين ومركبات الكربون والهيدروجين إلى غاز النيتروجين، وغاز الأوكسجين، والماء، وثاني أكسيد الكربون. وعلى المحولات الحفازة أن تُجري هذه التفاعلات بسرعة تامة كي تتواءم مع عادم السيارة العادية.

آلية الفعل الحفزي فيما يتعلق ببعض العوامل الحفازة مفهومة تمامًا، فعلى سبيل المثال، قد تُنظم الإنزيمات الحفازة البيولوجية بحيث تعمل قُوى الجذب البينجزيئية على تجميع المتفاعلات معًا في الوضع الأمثل لحدوث التفاعل. وتعمل هذه الإنزيمات عمل اليد التي تُثبت الغطاء بطريقة لولبية على الوعاء. لكي تُثبت غطاء على وعاء، يُمكنك أن تُلقي الغطاء والوعاء في حقيبة معًا حتى يجد أحدهما الآخر في النهاية، ويصل الغطاء إلى مكانه الصحيح ويثبت بداخله، لكن إذا كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي يُمكن أن يجد بها الغطاءُ وعاءه، فإن ذلك سيستغرق وقتًا طويلًا حتى يثبت الغطاء على الوعاء، لكن من الممكن أن تُوجَد يدان تُمسكان بالغطاء والوعاء معًا وتُثبتهما بسرعة أكبر. ونجد في شكل ١٧-١ رسمًا توضيحيًّا لهذه الطريقة التي تعمل بها الإنزيمات.
fig38
شكل ١٧-١: بعض تفاعلات الإنزيمات التي تُسرع من حدوث التفاعل عن طريق تجميع المتفاعلات معًا في الاتجاه الصحيح. ويُبيِّن التفاعل في أربع خطوات ابتداءً من اليسار وحتى اليمين، فنجد في الخطوة الأولى أن مادة التفاعل (البيضاء اللون) تسبح بحرية في المحلول، وعندئذٍ تلتصق بالإنزيم (الأسود اللون). وعندما تتجمع مادتا المتفاعلات معًا، تتفاعلان معًا ويترك الناتج النهائي الإنزيم، ويُصبح الإنزيم حرًّا كي يُحفز تفاعلًا آخر.

أما الأنواع الأخرى من العوامل الحفازة، فلا تُفهَم تمامًا آلية عملها، ولا يزال الأساس الذي يقوم عليه اختيار عامل حفاز لتفاعل معين هو نوعًا من الفن. فعلى سبيل المثال، يُحفز سلك نُحاس تحلل فوق أكسيد الهيدروجين بدرجة أفضل كثيرًا من سلك من الصوف الفولاذي. ويُمكن توضيح هذا الفرق بطريقة مقنعة كالآتي: ارتدِ نظارتك الواقية، ثم ضع سلك نُحاس في منتصف كوب (١٢٠ مليلترًا) من فوق أكسيد الهيدروجين الذي يُباع في الصيدلية. ضع قليلًا من أسلاك الصوف الفولاذي في عينةٍ مماثلةٍ من فوق أكسيد الهيدروجين، نجد أنه يظهر على طول سلك النُّحاس فقاعاتٌ حيث تحلل فوق أكسيد الهيدروجين إلى غاز الأوكسجين والماء.

وبسبب العوامل العديدة التي تُؤثِّر على معدل التفاعل — مثل تركيز المتفاعلات ودرجة الحرارة والعوامل الحفازة — وحقيقة أن المتفاعلات تجتمع معًا بشكل عشوائي ولا تسير دائمًا في الاتجاه الصحيح أو تتمتع بالقدر المناسب من الطاقة؛ فإنه لا تُوجَد وصْفةٌ مباشرة للتنبُّؤ بمعدلات التفاعل، ولكنَّ الكيميائيين يُحرِزون تقدمًا حقيقيًّا، وربما يُصبح لدينا يومًا ما قدرٌ كافٍ من المعرفة حتى نتمكَّن من ضبط معدلات التفاعل تمامًا، لكننا نتحرك بخُطًى متثاقِلة حتى الآن؛ بسبب قيود السرعة التي تفرضها الطبيعة.

على سبيل المثال: عندما تُطقطق سيارتك

عادة ما ترتبط كلمة «انفجار» في أذهاننا بالتدمير، لكنها لا تعني في الواقع سِوى «رد الفعل السريع»، فهو يكون في غاية السرعة حتى إن الأشياء المحيطة ليس لديها الوقت حتى تسع أو تمتص التغيير. لقد أضحت الانفجارات في عالمنا المعاصر شيئًا مألوفًا مثل النفَس الذي نتنفسه، ومحرك الاحتراق الداخلي يُمكنه أن يُنتج آلافًا عديدة من الانفجارات في الثانية الواحدة.

ويبدو الأمر غريبًا لنا أن محرك الاحتراق الداخليَّ لا يزأر حولنا إلا لما يقرب من قرنٍ من الزمان، في حين تقوم البشرية بالانفجارات على مدار عدة آلاف من السنين. وبالطبع يرتبط التعليل بالهندسة التي تُعَد غايةً في الأهمية للتحكم في الانفجارات، بما في ذلك كيفية تفعيل العديد من الانفجارات في الوقت ذاتِه وجعلها جميعًا تعمل معًا، وبكلمات أخرى، يتعلق الأمر بالتوقيت.

يختلط البنزين والهواء في محرك الاحتراق الداخلي في أسطوانة محكمة الغلق تحوي مكبسًا متحركًا. يتحرك المكبس لأعلى ويضغط خليط الهواء والبنزين الذي يحترق عندئذٍ بشرارة. ويدفع الانفجارُ الناتج المكبسَ لأسفل، وتُحرك الحركة من أعلى لأسفل رافعةً تدور حول عمود الإدارة. ويُضبَط توقيت الانفجارات؛ ومِن ثَم عندما يندفع أحد المكابس إلى أسفل، يُستخدَم جزء من قوة اندفاعه لأسفل في تحريك مكبسٍ آخرَ لأعلى، على غِرار طريقة عمل الأرجوحة — أو على الأقل هذا ما يحدث عندما تسير الأمور على ما يُرام. وأحد الأمور التي قد تفسد في محرك الاحتراق هي تلك الحالة التي يُطلَق عليها «خبط المحرك»، وهي عبارة عن انفجار غير مكتمل ينتج عنه «فرقعة المحرك»، أو فقدان مفاجئ في القدرة، ويُمكِن فهمُ سبب خبط المحرك في ضوء معدلات التفاعل الكيميائي.

عند النظر إلى صورة مبسَّطة تعرض محركًا في حالة تشغيل، فقد يبدو أن مكبسًا يتحرك لأعلى ضاغطًا على خليط البنزين والهواء حتى يصل إلى قمة الشوط لأعلى، وعندئذٍ يطلق البوجيه شرارة كهربائية فينفجر البنزين ويتحرك المكبس لأسفل. غير أن هذه الصورة المبسطة تغفل حقيقة أن اشتعال البنزين هو تفاعل كيميائي ويشتمل على انفجارات ولا يحدث تلقائيًّا شأنه في ذلك شأن التفاعلات الكيميائية كافة، والانفجارات تستغرق بعض الوقت كي تنتشر في خليط البنزين والهواء.

ويُعزى السبب في استغراق الانفجار لبعض الوقت إلى أن البوجيه عادةً يُصمَّم كي يُطلِق الشرارة قبل أن يصل مباشرة إلى قمة الشوط لأعلى، وبهذه الطريقة يستقبل المكبسُ الدفعَ من انفجار الغاز بمجرد أن يكون في وضعِ استعدادٍ لبدء التحرك لأسفل، كما أنَّه يستفيد من الأثر الكامل للانفجار. وإذا كان مِن المفترض أن يبدأ الانفجارُ مباشرة عندما يصل المكبسُ إلى قمة الشوط، فإن المكبس عندئذٍ سيكون بالفعل في حالةِ حركةٍ في الاتجاه البعيد؛ لأن قوة الغازات المنفجرةِ بأكملها تتحرَّك نحوه، وأثرُ القوة سيكون قد خُفِّف. وإذا كان من المفترض أن تحدث الشرارة الكهربية بعيدًا جدًّا عن المكبس، فإن الانفجار الكامل كان سيُقابِل المكبس في طريقه لأعلى؛ ومن ثَم يعمل ضد شوط القدرة للمكابس الأخرى التي تُوجَد أسفل الخط.

ويُمكن أن يُدمر الإشعالُ المحظور الفوائدَ التي تُجنى من كلِّ هذه التوقيتات المعقَّدة. فإذا حدث شيء ما تسبب في اشتعال خليط البنزين والهواء قبلما يُطلق البوجيه شرارته الكهربية، أو تسبب في احتراق الخليط في أماكن مختلفة في ذات الوقت، فإن النتيجة ستكون مجموعة من الموجات الصدمية (موجات صوتية تنطلق بسرعة فوق صوتية). وهذه الضغوط الشاذة وغير الموضوعة في الحسبان يُمكنها أن تتداخل على نحو خطير مع وظيفة المكبس.

وكما رأينا، تُعَد درجة الحرارة عاملًا مهمًّا لمعدلات التفاعل. وكما ذكرنا في مناقشتنا للحالة الغازية، يُمكن لزيادة الضغط أن تتسبَّب في ارتفاع درجة الحرارة، حتى إنه يُمكن تسخين خليط البنزين والهواء إلى درجة الاشتعال عن طريق الضغط وحده. وفي الواقع يعتمد عمل محركات الديزل على هذه الفكرة، فلا تحوي محركات الديزل بوجيهات إشعال، لكنها تعتمد على الضغط لإشعال خليط الوقود والهواء، لكن إذا حدث هذا في محركات أخرى غير محركات الديزل، فإنه يتسبب في حدوث احتراق لا يُمكن التحكم فيه ويتسبَّب في حدوث الاضطرابات؛ إذ يجب التحكم الجيد في خليط البنزين والهواء في محركات تُدار بعناية لمنع حدوث الخبط.

وثمة عاملٌ مهم آخرُ هو الوقود؛ فإذا كانت درجة البنزين ذات قدرةٍ أكبرَ على تحمُّل درجة الحرارة والضغط داخل الأسطوانة دون حدوث اشتعال تلقائي داخل الأسطوانة، فعندئذٍ سيكون الخبط أقل على الأرجح. وقد أُعِدَّ الوقود الذي يحوي درجة «أوكتان» عالية، بحيث يُمكنه أن يُقاوم الاحتراق حتى يشتعل.

ويُشير اسم «أوكتان» إلى مركب يحوي ثمانيَ أنوية من الكربون في تركيبه، وتعني درجةُ الأوكتان الموجودة في البنزين، في الأساس، نسبةَ نوعٍ معين من الأوكتان (فثمَّة طرُق عديدة لترتيب ثماني أنوية كربون في سلسلة) إلى نسبة سلسة معينة ذات سبع أنوية كربون، لكن هذا المصطلح قد تغيَّر منذ بدء استخدامه ليصفَ خصائص احتراق الوقود أكثرَ مما يصف التركيب الدقيق للوقود. فعلى سبيل المثال عندما وُجد أن بعض مركبات الرَّصاص بإمكانها أن تُحسن طريقة احتراق الغازات، ومن ثَم تجنب الخبط، حينئذٍ قيل إن المواد المُضافة من منتجات الرَّصاص تعمل على رفع نسبة «الأوكتان» في البنزين.

ولحسن الحظ، يُمثل تصميم المحرك عاملًا مهمًّا أيضًا من العوامل التي تعمل على منع الخبط؛ ومِن ثَم عندما تَزيد نسبة الرصاص في البيئة بسبب زيادة نسبة الرصاص في الوقود، فإن السيارة يُعاد تصميمها كي تُزوَّد بوَقود ذي نسبةٍ أقلَّ من الأوكتان. لكن ليست بالضرورة أن تَستخدم جميعُ السيارات وقودًا عاليَ الأوكتان كي تكون بمأمن! فبعض السيارات تُدار بطريقةٍ أفضل باستخدام وَقودٍ منخفضِ الأوكتان؛ ففائدة الوقود عالي الأوكتان تتوقف على تصميم المحرك وعمره، وحالته وموقعه، وكيفية ضبطه، والوقت من السنَة. والتجرِبةُ هي خير دليل لك، فإذا كانت سيارتك تعمل جيدًا، دعها وشأنها فلا تخبطها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤