الفصل الخامس

شركاء الكيمياء: من يقوم بماذا لمصلحة من؟

ما أعنفَ أثرَ هذا الفعل الشنيع عليه! لقد اندفع عبر غياهب عقله وبدَّدها، لقد سلط الضوء على أحد جوانبه وألقى بالغمام على الآخر، لقد تفاعل مع روحه … مثلما تُؤثِّر كواشفُ كيميائية معينة على أحد المخاليط العكرة عن طريق ترسيب أحد العناصر، وإنتاج محلول رائقٍ من العنصر الآخر.

فيكتور هوجو، «البؤساء»، ١٨٦٠

لا يعني المحلول «الرائق» للكيميائي ذلك المحلولَ الذي لا لون له، لكنه يعني المحلول الذي لا يحوي موادَّ صُلبة عالقة به، فتفاعُل الترسيب هو التفاعل الذي يختلط فيه محلولان شفافان مكوِّنَين مادةً صلبة في المحلول. تُرى لماذا يُقرِّر محلولان شفافان أن يُكوِّنا مادة صلبة؟ تأمل معي الموقف الاجتماعي التشبيهي الآن: أتى إلى حفل اثنان من المدعوِّين معًا؛ لأنه من الملائم أن يستقل الأشخاص السيارة نفسَها ما دام الطريق واحدًا، إلا أنهما ينفصلان في أثناء السهرة، ويتواصل كلٌّ منهما مع أناس آخرين، وإذا وجد كل واحد منهما، في الغرفة التي تعج بالناس، شخصًا ما وأقام معه صلة وثيقة خاصة، فقد يترك الحفل مع ذلك الشخص وقد يرتبطان معًا بكل توفيق. كذلك الحال في الكأس التي تعج بالأيونات، إذا وجد أيون أيونًا آخر وكوَّن معه رابطة قوية سيَنتج عن ذلك مادةٌ صلبة، وعندما يرتبط أيونان ليُكوِّنا مادة صلبة، هذه المادة الصلبة تُسمَّى «ملحًا».

وللأسف قد يتطوَّر هذا التشبيه الاجتماعي! حتى الأنواع الكيميائية المترابطة يُمكن إغواؤها لتُغيِّر شريكها إلى حين: ارتدِ نظارتك الواقية مرة أخرى دقيقة، وأذِبْ ملعقة صغيرة (٥ مليلترات) من حجر الشبَّة في نصف كوب (١٢٠ مليلترًا) ماء ثم أضف أقل من ربع ملعقة صغيرة (١ مليلتر) من النشادر وقلِّب. تُشاهد راسبًا أبيض غليظ القوام. أضف أربع قطرات من المحلول المخفض لقلوية ماء حوض الأسماك ثم قلِّب جيدًا. استمرَّ في إضافة قطرات المحلول إلى أن يذوب الراسب الأبيض ويُصبح محلولًا رائقًا مرة أخرى. يُعتبَر النشادر مادة قاعدية والمحلول المخفَّض للقلوية حامضًا (تذكر أنه كلما انخفض الأسُّ الهيدروجيني (pH) زادت حامضية المحلول). وسواءٌ تكوَّن محلولٌ أم لا فإن هذا يتوقف على محيط الملح.

ويمكن أن يتطور التشبيه الاجتماعي مرة أخرى. يُعتبَر الذوبان عكس الترسيب، وفي حالة الغياب التام للماء تُعتبَر كل وحدات الملح صُلبة، إلا أن الماء من الممكن أن يكون مدمرًا للأسرة؛ فيُمكن لجزيئات الماء أن تندس بين الأيونات. وملح الطعام، كلوريد الصوديوم، صلب بشكل كافٍ في عبوته قبل استخدامه في الطعام، لكن عندما يكون مبللًا تَشقُّ جزيئات الماء طريقها بين أيونات الكلوريد وأيونات الصوديوم وتفصلهما عن بعضهما البعض. لماذا إذن لا يندس الماء بنفسه بين أيونات الكربونات وأيونات النحاس في كربونات النحاس غير المذابة في التجربة السابقة؟ الأمر يقتصر على مجرد اعتبارها صفقة: بمعنى أنه إذا كان الانفصال أكثر كلفة من الفوائد المحتملة، فيظل الاتحاد قائمًا، إذا لم يكن كذلك، فلنرَ ماذا سيحدث.

لفهم العوامل المتضمَّنة في تحليل الكلفة والفائدة في ذوبان الملح، نحتاج أن نسترجع مرة أخرى فكرة قدمناها من قبل: لقد ذكرنا أن الذرات تميل إلى أن تكتسب أو تفقد إلكترونات، وإذا قامت بهذا الصنيع، اقتربت من الحالة المثلى لطبقات مشبعة، كما ذكرنا أيضًا أنه عندما تقوم اللافلزات بعملية الاتحاد، فإنها تميل إلى أن تُشارك بالإلكترونات على غير المعتاد لتُشبع حاجاتها. وكما يتضح، فإن بعض العناصر لديها القدرة على جذب الإلكترونات بطريقة أقوى من غيرها، ويُطلَق على القدرة على جذب الإلكترونات «السالبية الكهربائية» وتعتمد السالبية الكهربائية على موقع العناصر في الجدول الدوري.

ومن بين جميع العناصر في الجدول الدوري، يُعتبَر عنصر الفلور أكثرَ العناصر سالبية كهربائية كما هو موضح في شكل ٥-١ مما يُرجِّح أن الفلور هو العنصر الذي يأخذ نصيب الأسد من الإلكترونات من بين بقية العناصر. وتتكالب في مركبات الفلور الإلكترونات حول الفلور أكثر من أي عنصر آخر. وفي الجدول الدوري كلما كان العنصر أكثر قربًا من الفلور زادت سالبيته الكهربائية؛ لأن السالبية الكهربائية هي قياس مدى جاذبية العناصر للإلكترونات عندما تكون في اتحاد مع عنصر آخر، ولا ينطبق هذا مع العناصر النبيلة بدءًا من الهليوم He وصولًا إلى الرادون Rn؛ فهذه العائلة لا تُكوِّن مركبات تحت الظروف العادية.
fig12
شكل ٥-١: الجدول الدوري موضحًا اتجاهات السالبية الكهربائية، فتميل الإلكترونات إلى أن تُصبح أكثر سالبية كهربائية كلما اتجهنا نحو اليمين وإلى قمة الجدول. ويُعتبَر الفلور أكثرَ العناصر سالبيةً كهربائية. ولا تدخل العناصر النبيلة ضمن نطاق السالبية الكهربائية؛ لأنها لا تدخل عادة في تفاعلات كيميائية.

أليس هذا أمرًا جيدًا؟ فالجدول الدوري لا يُخبرنا عن عدد البروتونات في النواة وعدد الإلكترونات في الذرة المتعادلة للعنصر، وبعض الشيء عن تفاعلية/نشاط العنصر من خلال العائلة التي ينتمي إليها فحسب، بل يُمكن أن يعمل الجدول الدوري أيضًا كوسيلة للتنبُّؤ بالسالبية الكهربائية النسبية، ويُمكننا الحصول على تفسير لهذه المطابقة عن طريق فهم التركيب الذري: فلا تحوز العناصر الواقعة كلما اتجهنا نحو قمة الجدول الكثير من الأغلفة التامَّة الامتلاء، فيُمكِن للإلكترون الجديد الشعورُ بالمزيد من الانجذاب نحو الأنوية الموجَبة الشحنة دون وجود إلكترونات أخرى تعوق طريقه. يستمتع الفلور بحاله كأكثرِ العناصر سالبيةً كهربائية في الجدول الدوري ومرجع ذلك سببان على الأقل؛ الأول: أن الفلور ليس لديه سوى طبقةٍ واحدة مملوءة بالإلكترونات، وثانيًا: أنه العنصر الوحيد — دون كل عناصر الصف الثاني التي ليس بها غِلاف مملوء — الذي يتمتع بأكبر شحنة نووية؛ فهو يَحوي تسعة بروتونات. والعنصر الوحيد في الصف الثاني الذي له شحنة نووية أكبر هو النيون وهو يحوي كلَّ الإلكترونات التي يحتاجها. ماذا عن الهيدروجين إذن؟ لا يمتلك الهيدروجين طبقة مشبعة، وبإضافة إلكترون واحد للهيدروجين سيُصبح معرضًا تمامًا للأنوية المشحونة بشحنات موجبة. لماذا لا يتمتع الهيدروجين بسالبية إلكترونية عالية؟ لأن الأمر يتوقف على الحجم حتى في المستوى الذرِّي.

وعادة تميل الذرات إلى أن تزداد حجمًا أكبر وأنت تتحرك إلى أسفل في الجدول الدوري؛ لأن العناصر لديها الكثير من الإلكترونات، وهذه الإلكترونات تملأ الأغلفة، ولا يتمتع الهيدروجين بالقدر نفسِه من السالبية الكهربائية مثل الفلور؛ لأنه لم يكتسب أي غلاف مملوء مثل الفلور، إلى جانب أنه غاية في الصغر على أن يُوفِّر بارتياح شحنةً سالبة كبيرة. ويُشبِه الفرقُ بين أيون الفلور الذي يحمل شحنة سالبة وأيون الهيدروجين الذي يحمل شحنة سالبة؛ الفرقَ بين فرد يحمل حقيبة بها عشرون رطلًا من طعام الكلب، أو يحمل قنبلة وزنها عشرون رطلًا؛ فطعام الكلب يَسهل حمله لأن الوزن موزَّع على منطقة أكبر، أما القنبلة فيَصعب حملها لأن الوزن مركَّز في نقطة واحدة. بالمثل عندما تحمل ذرة الهيدروجين شحنة سالبة، تتجمع كل هذه الشحنة في حجم غاية في الصغر، وعندما تتداخل العناصر المتشابكة كافةً، يتمتع الهيدروجين بسالبية كهربائية مُشابهة لتلك التي للفسفور، كما هو موضح في شكل ٥-٢.
fig13
شكل ٥-٢: للهيدروجين سالبية كهربائية مشابهة لتلك التي للفسفور.

إذن ما هي نتيجة كل هذه الانجذابات ومقايضات الإلكترونات بين العناصر في المركَّب؟ النتيجة هي شيء يُطلَق عليه «الاستقطاب الجزيئي».

ويُعتبَر مفهوم الاستقطاب مفهومًا شائعًا؛ فالبطاريات لها أقطاب موجبة وأخرى سالبة، وللمغناطيس قطب شمالي وقطب جنوبي، وعندما تُفضِّل الإلكترونات أن تقترن بأحد أطراف الجزيء حيث تُوجَد العناصر ذات السالبية الإلكترونية الأكبر، يكون للجزيء قطبٌ موجب وقطب سالب؛ ومِن ثَم فهو له قطبية. ويُطلَق على الجزيء الذي له قطب موجب آخر وقطب سالب آخر «ثنائي الأقطاب»؛ لأن له «قُطبَين».

تتصرَّف الجزيئات القُطبية إلى حدٍّ ما مثلَما يتصرف القضيب المغناطيسي؛ فالطَّرَف الموجب لجزيءٍ أُحادي الأقطاب يتَّحد مع الطرَف السالب لجزيء آخر، مثلما ينجذب القطب الشمالي لقضيب مغناطيسي مع القطب الجنوبي لقضيبٍ آخر. فالماء (H2O) الذي يأخذ شكل حرف V، وبه يكون الأوكسجين في المنتصف وذرَّتا الهيدروجين عند طرَفَي حرف V، هو جُزَيء قُطبي. ويُعتبَر الأوكسجين أكثرَ سالبيةً كهربائية من الهيدروجين، فتنجذب الإلكتروناتُ نحو طرف الأوكسجين وبعيدًا عن الهيدروجين، وتنجذب أطرافُ الأوكسجين في عدة جزيئات ماء إلى أيون مشحون بشحنة موجبة، مُكوِّنة قفصًا حوله، وحامية إياه بمَعزِل عن شريكه المشحون بشحنة سالبة. بالمثل تصطفُّ أطراف الهيدروجين المشحونةُ بشحنة موجبة في عدة جزيئات ماء مع الأيون المشحون بشحنات سالبة، مكوِّنة حوله قفصًا مماثلًا. وهذا الوضع مُبيَّن في شكل ٥-٣.
fig14
شكل ٥-٣: جزيئات الماء التي تعزل أيون الصوديوم وأيون الكلور عن طريق تكوين أقفاص المذيب حول الأيونات.

تَميل جزيئات الماء إلى أن تَبنيَ أقفاصًا حول الأيونات؛ لأن هذا يُمثل موقفًا أكثر استرخاء لها. ومثلما تتطلب بعض الطاقة لتعزل قوى المغناطيس التي ينجذب بعضها إلى بعض، فإننا نحتاج إلى الطاقة لنَفصل الجزيئات التي ينجذب بعضها إلى بعض أو إلى أيون واحد. وإتاحة الفرصة لجزيئات الماء أن تُكوِّن أقفاصًا حول الأيونات، يسمح لها بالاسترخاء وإطلاق طاقة.

إلا أن هناك حاجةً إلى الطاقة لتفتيت الملح أيضًا؛ ومن ثم تحدث المقايضة. فإذا كانت تكلفةُ تفتيت الملح أكبرَ من الفوائد المحقَّقة من خلال السماح لجزيئات الماء بالاسترخاء في أقفاص، عندئذٍ يترسَّب الملح في المحلول أو لا يَذوب أصلًا. وإذا كانت تكلفة تفتيت الملح أقلَّ من الفوائد المحقَّقة عن طريق السماح لجزيئات الماء بالاسترخاء في شكلِ أقفاص، فإن الملح يبقى في المحلول أو يَذوب.

وبزيارة أخرى للجدول الدوري يُمكِننا أن نخلص إلى أن الفلزَّات التي تقع في العمود الأول (الليثيوم Li، والصوديوم Na، والبوتاسيوم K … وهكذا) تميل إلى أن تُكوِّن أيوناتٍ مشحونةً بشحنةٍ موجبة واحدة؛ لأن فقد إلكترون واحد سيمنحها غِلافًا خارجيًّا مملوءًا تمامًا. وغالبًا ما تكون الأملاح المشتقة من تلك الأيونات الموجبة قابلةً للذوبان؛ حيث إن جذب شحنة واحدة موجبة يُعتبَر أمرًا ضعيفًا نسبيًّا. قارِن قضيب المغناطيس المقترح في «قائمة المشتريات والمحاليل» بالقضيب المغناطيسي الذي يُوجَد في الثلاجات. تمتلك الأيونات الموجبة المتكوِّنة من عناصر العمود الأول جاذبيةً ضعيفة نسبيًّا للأيونات السالبة التي تُشبِه القضيب المغناطيسي في الثلاجة أكثرَ من القضيب المغناطيسي العادي.
من ناحيةٍ أخرى، تميل عناصرُ العمود الثاني إلى فقد إلكترونَين عندما تُكوِّن أيونات؛ ومن ثَم تكون لديها شحنة موجبة ثنائية. ويكون لهذه الأيونات قدرةٌ أكبرُ على جذب الأيونات المشحونة بشحنة سالبة، وهي تميل إلى أن تُكوِّن مركباتٍ تَزيد قابليتُها لعدم الذوبان عن نظيراتها في العمود الأول، لكن فيما وراء هذه الملاحظات الأساسية نجد أن العوامل المحدِّدة لقابلية الأملاح لتكوين روابط دائمة، تكون معقدة تمامًا مثل الأقران من البشر؛ إذ يلعب الحجم والشكل والمرونة دورًا أيضًا. وحتى عندما تعنون هذه الاعتبارات لمِلح ما على أنه قابلٌ أو غير قابل للذوبان، نجد أن المقدار الفعلي الذي يذوب أو لا يذوب يتوقف على طبيعة المُذيب، وعلى مقدار الملح في المحلول، ودرجة حرارة المحلول والأسِّ الهيدروجيني (pH) للمحلول.

وثَمة تجرِبة مقنعة على مدى أهمية طبيعة المحلول، وهي أن تُحاول أن تُذيب ملء ملعقة صغيرة (٥ مليلترات) من ملح الطعام في كوب (٢٤٠ مليلترًا) ماء، وحاول أن تُذيب الكميةَ نفسَها من الملح في كوب من الزيت النباتي أو الزيت المعدِني؛ يذوب مِلح الطعام في الماء بسهولة، لكنه يترسَّب في الزيت كما هو دون أن يذوب. حاول أن تُقلِّب ملح الطعام في كلٍّ منهما قبل الحكم النهائي فالتقليبُ يُساعد الأملاح على الذوبان؛ لأن عملية الذوبان تبدأ من سطح المادة الصلبة ويُساعد التقليب على تعريض المزيد من الأسطح للمحلول، لكن مهما بذَلت في عملية التقليب فلن تستطيع أن تُجبر كلَّ ملح الطعام على الذوبان في محلول الزيت.

ويُمكِن إثبات مدى توقف الذوبان على الكمية باستخدام بيكربونات الصودا والماء. فإذا أُضيفَ مقدار ضئيل من بيكربونات الصودا إلى كوب زجاجي كبير (ليس من البلاستيك) شفَّاف يسَع نحوَ كوبَين صغيرَين من الماء، ينبغي أن يذوب هذا المقدار الضئيل. في حقيقة الأمر، ينبغي أن يذوب ما يقرب من عشَرة أو خمسةَ عشر مقدارًا ضئيلًا كاملًا من بيكربونات الصودا، لكن عند نقطة محدَّدة تبدأ المقادير المضافة في جعل المحلول غائمًا، وفي نهاية الأمر تترسَّب المقادير المضافة في القاع حتى مع التقليب. ولإثبات تأثير درجة الحرارة على عملية الذوبان نضَع المحلول في الميكروويف لمدَّة ثلاثين ثانية، ما يكفي فقط لجعل المحلول يصل إلى درجة حرارة حِساء ساخن لكن يُمكِن تناوله. ينبغي أن يكون المحلول الدافئ الناتج صافيًا مرة أخرى، وينبغي أن تذوب كل بيكربونات الصودا الموجودة في قاع الزجاجة مع التقليب.

ومن الممكن مشاهدةُ أثر المواد الأخرى على المحلول عن طريق الطباشير، قارن الطباشير الذي هو كربونات الكالسيوم مع بيكربونات الصودا، التي هي المركَّب المكوَّن من الصوديوم والهيدروجين والكربونات. فعندما نُضيف ملعقة صغيرة (٥ مليلترات) من بيكربونات الصودا إلى كوب (٢٤٠ مليلترًا) من الماء الدافئ فإنها تذوب، وبوضع نفس الكمية من مسحوق الطباشير فإنها ستغوص إلى العمق مثل الصخرة، في حين أن الطباشير يذوب عندما يُوضَع في الخل؛ ذلك لأن الخل حامض والطباشير يتفاعل مع الحامض، وعند تعريف الطباشير نجد أنه قاعدة، لكنه القاعدة التي لا تذوب في المحاليل المتعادلة مثل المياه غير المرشَّحة. وفي الخل أي في الحامض تتعادل قاعدة الكربونات، ويذهب الكالسيوم إلى المحلول.

لذلك يبدو مع كل هذه التغيرات — طبيعة الملح، وطبيعة المحلول، وكمية الملح، ودرجة حرارة المحلول — أن كلًّا من عمليتَيِ الترسيب والذوبان معقَّدتان إلى حد ما؛ فهما لا يحدثان على الفور. ومع ذلك فسنخوض في هذه المفاهيم مرة أخرى في مواقف مختلفة عبر مسيرتنا؛ لأن الترسيب والذوبان يدخلان في الكثير من التفاعلات الكيميائية. فعلى سبيل المثال يتكون الصدف عندما ينبعث الكالسيوم من مخلوق بحري، فيختلط مع الكربونات الموجودة في الماء مُكونًا كربونات الكالسيوم. وتُعلِّل الأصداف المتراكمة على مر العصور في قاع المحيط تكوين الطباشير أو الحجر الجيري الذي يجد طريقه إلى سبُّوراتنا وأرصفة شوارعنا.

وتُعتبَر عملية الترسيب نافعةً في عملية معالجة النفايات الخطرة، فإذا كان من الممكن ترسيبُ المعادن الضارَّة في المحاليل، فمن المُمكن فصلُها من المحاليل باعتبارها موادَّ صلبةً تَشغل حيزًا من الفراغ أقلَّ من الفضلات السائلة؛ ومن ثَم يسهل نقلُها وتخزينها. وثمة نوعٌ آخرُ من الترسيب لكنه مزعج، وهو تفاعلات الترسيب التي تحدث في مكان غير متوقع وهو جسم الإنسان؛ فالنقرس يحدث بسبب ترسيبات حامض البوليك المتجمعة في المفاصل. وحصوات المرارة والكُلى ما هي إلا رواسب، إلا أن هذه الرواسبَ المرَضية ليست بالأمر الطبيعي. فجسم الإنسان خليطٌ قِوامُه سائل إلى حد ما؛ حيث إن جوهر الحياة هو القدرة على التغيُّر استجابة للبيئة المحيطة؛ ومن ثَم يجب أن تكون معظم مواد الجسم قادرةً على الحركة وجاهزة لذلك، ويُمكن اكتمالُ هذه القدرة على الحركة عن طريق الماء، نظرًا إلى قدرة الماء العالية جدًّا على حفظ المواد في المحلول. يستطيع جسم الإنسان أن يتحمل فترة طويلة بدون غذاء أكثرَ من تحمله لغياب الماء، وبدون الماء يُصبح كلٌّ من الجسم والمخ في حالةِ كسل وتَراخٍ. وتتأثر الكثير من الحالات وكذلك الأمزجة بشكل فعلي إذا لم يُعدَّل أمر الماء بزيادة المقدار اليومي من الماء. في كثير من الأحيان عندما يتعلق الأمر بالصحة يكون الماءُ هو الحل.

ويُعتبَر زبد الصابون نوعًا آخر من الترسيب الشائع. ويطفو زبد الصابون عادةً على الماء بدلًا من أن يترسب؛ ومن ثَم لا يُنظَر إليه عادة على أنه راسب، لكن هذه مسألة دلالات لفظية. يتكون زبد الصابون في البانيو عندما يختلط الصابون بالماء العسر، وهو الماء الذي يحوي أيونات كالسيوم وماغنسيوم. يُطلَق على الماء الذي يحوي أيونات كالسيوم وماغنسيوم «عسر»؛ لأن هذه الأيونات تميل إلى أن تكون رواسب (التي هي صخور صغيرة) غير قابلة للذوبان في الماء.

على سبيل المثال: الماء العسر والماء اليسر

figure

الشيء الجيد عن الماء هو أن الكثير جدًّا من الأشياء تذوب فيه، والشيء السيئ عن الماء هو أن الكثير جدًّا من الأشياء تذوب فيه. ويُعتبَر الماء النقي موصِّلًا ضعيفًا للكهرباء، ولا يعني هذا أن تقف في بانيو مليءٍ بالماء لتُغيِّر مصباحًا؛ لأنه من الصعب جدًّا الحصول على ماء نقي؛ فالماء الذي يحتوي على أملاح مذابة فيه هو موصل جيد للكهرباء. وقدرة الماء على إذابة المواد تُفسِّر حقيقة أن كل المياه الجوفية تحتوي على أيونات ذائبة بما فيها أملاح الكالسيوم والماغنسيوم.

وكما أن وضع قطعة طباشير في الماء يُؤكِّد أن ملح الكالسيوم غيرُ قابل للذوبان تمامًا — وتكوين أملاح الكالسيوم في غلاية الشاي يكون أمرًا مزعجًا والزبد محبطًا — فإن تكوين الرواسب القشرية داخل أنابيب المياه وفي حمامات السباحة يُعجِّل من حدوث مشكلات خطيرة. وفي وقتٍ ما كانت تُضاف أيونات الفوسفات المشحونة بشحنة سالبة إلى المنظِّفات؛ ومن ثَم يُكوِّن الكالسيوم بشكل تفضيلي الأملاح مع الفوسفات، بدلًا من تكوين الزبد، مما يُحرِّر المنظفات؛ ومن ثَم يتسنى لها أداء وظيفتها، لكن الفوسفات مخصِّبات غاية في الكفاءة. ومن ثم تُسبِّب تدفقات النُّفايات من الغسالات حدوثَ انسداد في أنابيب الصرف؛ لهذا يستدعي الأمر الحدَّ من استخدام الفوسفات، لكن في هذه الأيام، لا يُعتبَر تكوُّن زبد الصابون مشكلة خطيرة بسبب انتشار المذيبات المائية؛ فمُذيبات الماء تقوم بإزالة الكالسيوم والأيونات الأخرى المكوِّنة للرواسب من الماء قُبَيل جريانها في أنابيب الماء في المنازل.

وتُعتبَر المبادئ المطبَّقة في مُذيبات المياه هي المبادئ نفسَها الموجودةَ في تفاعلات الترسيب، حيث يتدفق الماء عبر مادة كثيفة مشبعة بأيونات الصوديوم تُشبِه شبكة عملاقة من الأملاح، وتُعتبَر أملاح الصوديوم قابلة للذوبان، في حين لا يكون الكالسيوم في نظيراتها من نفس الأملاح قابلًا للذوبان؛ ومن ثَم يحل الكالسيوم محل الصوديوم ويُحتجَز على المادة الصلبة أو يُحبَس بداخلها. ويمكن استخدام الماء المشبع حاليًّا بالصوديوم بدلًا من الكالسيوم بدون أي قلق من أنه قد يُرسب الصابون أو يُكون رواسب قشرية جافة. في دورة إعادة الإنتاج لمذيبات المياه تُغسَل المادة الصلبة بالماء المشبع بالمزيد من ملح الصوديوم حيث يحل الصوديوم في نهاية الأمر محل الكالسيوم في المادة الصلبة، ويكون العامل المستخدم في تحويل الماء من عسر إلى يسر جاهزًا للبدء في أداء وظيفته مرة أخرى.

لكن لا يتحتَّم على المادة أن تكون مِلحًا كي تذوبَ في الماء؛ فالسكَّر يذوب في الماء أيضًا، وبلا جدال لا يُعتبَر ملحًا، مما يُثير التساؤل: ما الذي يجعل السكر مختلفًا تمامًا عن الملح؟ فكلٌّ منهما مُركَّبات بِلَّورية بيضاء تذوب في الماء ويصعب التمييز بينَهما إلا بتذوُّقهما، لكنه يُمكنك أن تحيا لفترة قصيرة على ماء به سكر، ولا يُمكنك أن تعيش على ماء به ملح، ما الفارق؟ يكمن الأمر كلُّه في الرابطة؛ الرابطة الكيميائية!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤