الفصل الخامس

هاري، وهوجوارتس، ودستور الأدوية العامة؛ غموض في الماضي وسحر في المستقبل

أنت هنا كي تتقن العلم البارع والفن الدقيق لصناعة الأدوية … ولأن هناك عصًا سحرية خرقاء تلوح، سيصعب على الكثيرين منكم تصديق أن هذا سحر … جمال الغلاية التي تتصاعد أدخنتها اللامعة، والقوى الدقيقة للسوائل التي تزحف عبر أوردة البشر ساحرة أذهانهم، وملهبة مشاعرهم … بمقدوري أن أعلمك كيف تُعبئ الشهرة في زجاجات، وتطهو المجد، وتُوقف زحف الموت …

صاح سناب فجأة قائلًا: «بوتر، ما الذي يُمكن أن أحصل عليه إذا أضفت جذورًا مطحونة من نبات البروق إلى منقوع الشيح؟»

جيه كيه رولنج في «هاري بوتر وحجر الساحر»، ١٩٩٧

هل تظن أن العلوم كانت لتنشأ وتصبح رائعة لو لم يكن هناك سحرة وخيميائيون ومُنجِّمون ومشعوذون الذين كانوا متعطشين لقوى محظورة؟

فريدريش فيلهلم نيتشه، ١٨٩٠

هناك عشرات الملايين من المركبات الكيميائية المعروفة، ويُجمَع المزيد كلَّ يوم، وفعليًّا عددُ مجموعات العناصر التي ستُكتشف في المستقبل عددٌ لا نهائي، وهكذا يستمرُّ الجدول الدوري في التوسُّع، وقد أصبحنا تقريبًا ماهِرين في مهنتنا. ومثلما يكونُ الأطفال في متجر الحلوى حيث يُوجَد الكثير من الحلوى، لكنهم لا يعرفون من أين يبدَءُون، هكذا الحال معنا؛ إذ لا يكون السؤال هو هل هناك المزيدُ من الكيمياء لتُكتشَف، لكن السؤال هو أين ينبغي أن نُركز أولًا. ومع كل المشكلات التي تُواجه بقاء الجنس البشري، فلا يُمكننا أن نضع مليونَ كيميائي في مليون مختبر، ونأمُلَ أن نجد الحلول لهذه المشكلات، ولنأخذ على سبيل المثال مشكلة اكتشاف الأدوية، فكيف يُمكِننا أن نُقرر أي مركَّب من عشرات ملايين المركبات غير التقليدية الموجودة لدينا سوف نُجربه كعلاج للأمراض؟ لقد حدث في الماضي بعضُ الصُّدف السعيدة، لكن لا يُمكِننا أن نعتمد على الحظ.

وهناك اختياران في عملية التصنيع الرشيد للأدوية؛ أوَّلهما: أنه يُمكِننا أن نُجرِيَ اختباراتٍ متنوعةً على المركبات التي نجح استخدامها في الماضي وهذا النهج مقبول ومعقول وغالبًا ما ينجح؛ فعندما يتغيَّر نوع معيَّن من البكتيريا يُطوِّر سُلالة مُحصنة ضدَّ أدويتنا، عندئذٍ يُمكِنُنا أن نأخذ الدواء الذي كان يعمل من قبل ونُضيف مجموعةً جديدة من الذرات، أو نُغير رابطة لنرى هل بمقدورنا أن نجعله فعالًا مرة أخرى، وقد أنتج هذا النهج، الذي يُسمَّى «النهج التوفيقي»، مركباتٍ نافعةً عديدة، غير أن هذا النهج قد شُبِّه أيضًا بشجرةٍ ذات جذور عدة، فهي يُمكنها أن تختبر أنواعًا عدة من التربة، لكن أنواع التربة التي تقع على مقربة منها فحسب، فإذا كان هناك دواء جديد ذو تركيب جديد تمامًا، فمن أين للنهج التوافقي أن يكتشفه؛ فهو ينحصر في مجموعة معينة من المركبات!

أما عن النهج الآخر الذي كان ناجحًا في الماضي، سواءٌ أكان عن قصد أم لا، فهو تُرِك ملايين السنين من التفاعلات بين الإنسان والنبات تُؤدي دور ملايين الاختبارات والأبحاث، فالأسبرين اكْتُشِفَ عندما قرَّر أحدُهم أن يرى هل يُوجَد شيءٌ متعلِّق بالدواء الشعبي القديم المتمثِّل في مضغ لحاء الصفصاف بُغية تخفيف الألم، وشرب شاي لحاء الصَّفصاف لتقليل الحُمَّى.1 واكْتُشف الكينين عندما قَدِم راهبٌ يئس من سيدة من إحدى الطبقات النبيلة كانت تحتضر إحدى مستخلصات لحاء اقترحه عليه السكان الأصليون لدولة بيرو.2 وأُجْرِيَ حاليًّا أبحاثٌ جادة ومكثَّفة لدراسة العلاج الشعبي ولا سيَّما ذلك المُستمَد من النباتات.
ويُعزَى نجاح جيه كيه رولينج مؤلفة سلسلة هاري بوتر الشهيرة، بلا أدنى ريب، إلى شخصياتها الفاتنة، وقصصها التي تأسر الألباب وحواراتها الجريئة ومشاهدها الخلابة،3 لكنَّ ثَمَّة عنصرًا آخر أيضًا وهو الإشارة للسحر وللأعشاب السحرية والأحجار والفُطْريات الرنَّانة بالإضافة إلى الذاكرة الثقافية، فقد وجَدنا الأمر غايةً في اليُسر بأن نعتقد في السحر؛ لأن أجدادنا اختبَروا الأشياء التي يبدو أنها سِحر. والعديد من الأعشاب السحرية التي ذُكرت في سلسلة هاري بوتر، مثل الشيح، نبات الأفسنتين wormwood، الذي سُمِّي هكذا بسبب قدرته على إزالة ديدان الأمعاء، له هذه الفاعلية في الواقع.4 تخيل أنك تُقاسي من ديدان الأمعاء، وأنك ستجد مستحضرًا من الشيح يُخلصك من هذه الطُّفيليات، وتخيَّل أيضًا أنك ابتُليتَ بتضخُّم في الغدة الدرقية ثم وجدت علاجًا في طُحْلب بحريٍّ محروق يحتوي على اليود، وتخيل أنك مُصاب بداء الإسقربوط، وهو نقص فيتامين ج، ووجدت وصفة طبية في عصير الليمون، وهذه هي كل أنواع العلاجات الحقيقية التي استخدمَت في الماضي وكانت بمنزلة السحر للمريض.

ألقِ نظرةً أخرى على خِزانة الأدوية الخاصة بك لترى منتجات أخرى مصنوعة من النبات في الأصل، مثل الأدوية المثبِّطة لمستقبلات البيتا، وأدوية تنظيم النسل، والمسكنات، والملينات، والمطهرات، والصابون … من ثم المرة القادمة التي تتناول فيها الأدوية المهمة اذهب للخارج، واحضن شجرة كي تُعبر لها عن امتنانك.

ويُطلَق على دراسة كيمياء النباتات مصطلح «الكيمياء النباتية أو كيمياء العقاقير»، وحقيقة أن أدوية فعالة عديدة وُجِدت في المواد الطبيعية التي تُنتجها النباتات (يُقال إنها قد تصل إلى ثلث الأدوية المصنَّعة حاليًّا) تُثير التساؤل: لماذا؟ لماذا يُفترَض أن النباتات تُنتج موادَّ تتفاعل مع الإنسان؟ ولماذا تجعلنا بعض المواد التي تُنتجها نباتات معينة في صحة جيدة، وبعضها يجعلنا سعداء، وأخرى تجعلنا ننام، والبعض منها يُميتنا؟

بالطبع من الممكن أن يكون هذا مجرد صدفة، فكلُّنا وُجِدنا في الكوكب نفسِه — الإنسان والنبات — ومن ثَم ينبغي أن تكون كيمياؤنا متشابهة، ومن المرجح جدًّا أن الأدوية التي هي في أصلها نباتاتٌ متوافقة تمامًا مع أنظمتنا؛ لأننا نتشارك في الحيز الكيميائي نفسِه (الكوكب)، ولكن هناك أيضًا علاقة نفعيَّة بين النبات والحيوان، فكلاهما على القدر نفسِه من الأهمية، تستهلك النباتات ثانيَ أكسيد الكربون وتُنتج الأوكسجين، والحيوان يستهلك الأوكسجين وثانيَ أكسيد الكربون. ويُلقِّح النحلُ الزهور، وتُغذِّي الزهورُ النحل. ونجد أن أكثر القطط المتوحشة وآكلة اللحوم تأكل الأعشاب من وقتٍ لآخرَ لِتَحصل على الألياف التي تحتاجها. وتنمو مبايِضُ بعض النباتات إلى فاكهة، وعليه تأكل الحيوانات البذور وتنقلها بعيدًا؛ ومن ثم يجري تجنُّب المنافسة مع النبات الأم على الموارد.

وتُعَد بعض المواد الكيميائية التي تنتجها النباتات مفيدة لنا؛ وذلك لأنَّ النباتات تحمي نفسها من نفس الأشياء التي نحمي أنفسنا منها، مثل البكتيريا والفيروسات والفطريات، لكن النباتات يُمكِنها أن تقوم بدور أكثرَ من مجرد المطهرات، ففي هاري بوتر، كانت إحدى الشخصيات التي تُدعى سناب يُوبِّخ بوتر، وكان هاري بحاجة إلى أن يعرف عشبه، نبات البروق، الذي يُستخدَم لصنع منوِّم قوي للغاية حتى إنه يُعرَف ﺑ «إكسير الحياة».5 وهذا أمر حقيقي،6 فقد حُذِّرَ هاري من أن نبات خانق الذئب، ونبات أصفر الزهر هما سُمَّان قويَّان جدًّا،7 وهما كذلك بالفعل،8 ويُوجه سناب هاري إلى أن يكتب اسم «أكونيت أو نبات خانق الذئب السام» — ونبذة تاريخية تخبرنا بأن الأكونيت والبلادونا (حشيشة ست الحسن) كانا في وقتٍ ما يُستخدَمان معًا لعمل عقار للهلوسة الخاصة بالطيران.9

لماذا تُنتج النباتات موادَّ كيميائية تتمتع بهذه الخصائص المميزة؟ هل النباتات يُصيبها آلامٌ في الرأس؟ هل لديها اضطراباتٌ في النوم؟ لماذا تُكوِّن النباتات موادَّ كيميائية بها نسبة من المسكنات أو المهدئات أو تكون ذات خصائص سيكلوجية المفعول؟

مرة أخرى نقول إن الأمر قد يكون مجرد صدفة؛ فالنباتات تُنتج موادَّ كيميائية لقتل الحيوانات الضارية، لكن السم الذي قد يقتل حشرة، قد يُسبب مجرد اهتياج للإنسان فحسب، بل قد يعمل كمُهدِّئ له، فغالبًا ما يكون الفرق بين المهدئ والسم هو فرق في الجرعة فحَسْب، فابتلاع السموم دون المستويات المميتة من أجل الحصول على اللذَّة أصبحت معروفة باسم «نشوة التسمم»، إشارةً إلى أصلها السُّمِّي.

ومن ناحية أخرى، قد تُكوِّن النباتات بعضَ المسكنات والمهدئات؛ لأن هذا يُفيد النبات نفسه، فإذا كان الحيوان الضاري يأكل النبات بغرض الأكل، فقد لا يكون هناك مُنبِّهات تجعل الحيوانَ يُوقِف نفسَه عن أكل البراعم أو الزهرة كلها، أما إذا كان يأكل بغرض الفائدة الحسية، فإن الحيوان قد يأكل فقط ما يكفي لإشباعه ثم يتوقَّف؛ إذ يُخدر الحيوان. ما الفائدة التي تعود على النبات إذن؟ لعلها التَّخصيب؛ فعلى الأرجح، يتبرَّز الحيوان الذي هدَّأه النبات على مَقرُبة من النبات بدلًا من التجوُّل بعيدًا بالعناصر الغذائية للنبات الضحية. أو هناك فائدةٌ أخرى قد تعود على النبات وهي التقليم، فالنباتات العُشبية يُمكِنها أن تتكاثر عن طريق قطع أوراقها وبذورها، فإزالةُ أطراف هذه الأنواع من النباتات يسمح للنبات أن يُوجِّه كلَّ طاقاته نحو الأجزاء الباقية، عندئذٍ يكون التشذيب علاجًا ذاتيًّا، ونفس المادة الكيميائية التي تكون مهدئًا للحيوان، تكون سامَّة لبعض الحشرات مما قد يحدُّ من تكاثر الحشرات أيضًا.

وأيًّا كانت الضغوط النابعة من التطور، فإن النباتات تُكوِّن مركبات تؤثر علينا مثل القهوة والشاي والتبغ وعرق السوس والكودين والكوكايين والأفيون، وكل هذه جميعها في الأساس هي أدوية عشبية. وتُعَد النباتات أيضًا مصادرَ للمُطهِّرات، والمسكنات، والمضادات الحيوية، والأدوية الطاردة للديدان، والمهدئات، والمنبهات، والمجهضات، والسموم، والملينات، والأدوية المدرَّة للبول، ومضادات الإسهال، وأيضًا الأدوية الترويحية الفعالة، وكما يقول معلم هاري بوتر إنها الشهرة المكتومة، والمجد المختمِر، وحتى الموت المختوم.

وعلم العقاقير هو الدراسة التي تدور حول اكتشاف الأدوية المنتجة طبيعيًّا وتطويرها، وهو يتضمَّن في نطاقه البحث في الادِّعاءات الخاصة بالسلالات النباتية — أو بكلمات أخرى «الطِّب الشعبي» — وتنظر هذه الأبحاث في مُمارسات الثقافات الحديثة، مثل قاطِني الغابات المطيرة، كما يُنعِمون النظر أيضًا في الممارسين البارزين مثل ناسكو ومُتسوِّلي القرون الوسطى في أوروبا، والزوجات المتقدِّمات في السنِّ والعرَّافين والساحرات.

وثمَّة إدراك جديد مفاده أن الناس الذين اضطُهِدوا بوصفهم سَحرةً ومُشعوِذين في العصور الوسطى في أوروبا، كانوا في حقيقة الأمر مجردَ قابِلات ومُعالِجين، وبعضٌ مِن علاجاتهم المزعوم أنها سحرية هي أدوية ذاتُ كفاءة وفاعلية معترَف بها؛ فقد كانوا يَنصحون الشخص الذي يُعاني ألم الأسنان باستعمال زيت القرنفل المسكن للألم، وقشر البيض الجيري لاضطرابات المعدة؛ لأنه مصدر لكربونات الكالسيوم المكون الأساسي لمضادات الحموضة المستخدمة اليوم.

لكن ليست كل الممارسات الطبية التي كان يُمارسها القدماء ذات فائدة؛ فهم لم يتبعوا الإجراءات العلمية السليمة المتعارف عليها مثل الاحتفاظ بسجلات المحاولات الناجحة لاتباعها والخاطئة لتجنُّبها، ولم يُميزوا بدقةٍ أيضًا السبب والنتيجة، وكانت تشتهر فلسفاتهم الطبية بأنها تتضمن علاج السلاح الذي سبب الجرح بدلًا من علاج الجرح نفسه، وكانوا يستخدمون أدوية ذات تأثيرات تُشبِه تأثيرات المرض المقصود علاجه، ولعل أصل الاعتقاد بأنك سوف تُشفى إذا أخذت شعرة من الكلب الذي عضَّك. وقد جلب العربُ الكثيرَ من المعرفة الطبية العملية، وكذلك المعرفة الخاصة بالرومانيين واليونانيين القدامى إلى أوروبا الغربية في أواخر العصور الوسطى، فبدأ المعالجون الأوروبيون في محاكاة الكلام العربي في محاولة لتحسين مجهوداتهم، ومن ثم كلمة «سحرية» مثل ألاكازام  alakazam، وأبراكادبرا  abracadabra. وتلتقط جيه كيه رولينج في هاري بوتر الفكرة عندما تجعل العرَّافين الصِّبية يُنشِدون تعويذاتهم السحرية بجمل سحريَّة بارعة أشبهَ باللغة اللاتينية.10
غير أن المعالجين القدامى كانوا يعرفون جيدًا ماذا يفعلون، لكنهم لا يُريدون أن يعرف أحدٌ غيرهم ما يَعرفون، ولقد كان للأوروبِّيين الذين عاشوا في القرون الوسطى السبقُ بعدة سنوات في عملِ براءة اختراعٍ للأدوية، فكان على المعالجين الناجحين أن يَصونوا أسرارَهم إذا أرادوا أن يُحافظوا على مهنتهم، فكثيرٌ من الأدوية التي استخدموها كان يُمكِن إدراكها بسهولة مثل الأعشاب العطرية (البهارات)؛ ومِن ثَم كانوا يُخْفون المكون الفعال الأساسي في طبخةٍ دوائية مَذاقها ورائحتها كريهان، وكانوا يَعملون ستائرَ دُخانية لطقوسٍ مُتقَنة؛ ومِن ثَم لم يَكُن تناول الدواء إلا مجرد خطوة مِن بين خطوات عديدة مؤثِّرة، ولم يكن الأمر مجرد صدفة حينما كان هاري بوتر المبتدئ يتطلَّع بلهفةٍ إلى عصاه السحرية.11 مما هو معروف أن مُمارسين آخَرين للسحر كانوا يستخدمون عصًا، ويُلوحون بها حول المريض، فيُركز المريض نظره على العصا ولا يلحظ ما كانوا يُضيفونه خُفْية للمزيج، ولعل شعوذة «الهوكس بوكس» hocus-pocus كانت بمنزلة ضمان للممارسات السيئة البُدائية، فإذا لم يكن العلاج فعالًا، فإن السحرة يدَّعون أن تعليماتهم لم تُتَّبَع، أو أن هذا النوع بعينه من الأعشاب ينبغي أن يُقطَف في منتصف الليل عند اكتمال القمر.
وإذا كان هناك الكثير من الهراء، فكيف نُميز عندئذٍ الأعشابَ المفيدة مما لا فائدة له؟ وهل نستطيع أن نفعل هذا؟ وهل هناك درجةٌ حقيقية في فحص التقاليد الطبية القديمة؟ نعم، فثمة دراسة لطرق استخدام الأدوية الآن — وطرق استخدامها في الماضي — تُخبرنا عن أكثرَ من مجرَّد طحن النباتات وتمريرها في مطياف ضخم، ومن الضروري أن نعرف الطريقة التي تُعَد بها الأعشاب لدى تقييم مدى كفاءتها، فالإعدادُ المناسب قد يكون ضروريًّا لإطلاق المادة الفعالة، ومن الضروري أيضًا أن نَعرف طريقة تقديم العشب، ففي كثير من الأوقات لا بد أن تكون العقاقير خليطًا تآزريًّا، بمعنى أنها لا تعمل إلا عند مَزجِها مع عقاقير أخرى، وهو التأثير الذي لا يُمكِن تمييزه أو إدراكه عند اختبار هذه العقاقير بمعزِل عن العقاقير الأخرى. وتُعَد إمكانية حدوث أية تفاعلات السبب في ضرورة استشارة الطبيب لدى مزج العقاقير، حتى في حال التحضيرات العشبية، ففي بعض الأحيان يُمكن أن تحدث تفاعلات عكسية، فعلى سبيل المثال، يُمكن أن يتحوَّل التخلص المذهل من آلام الطفيليات المعوية بسبب تناول الشيح إلى كارثة، بل قد تُفضي إلى الموت؛ فالشيح يُستخدَم مع بعض الأعشاب الأخرى في عمل الأفسنت، وهو مُسكِر معطِّر إدماني يُعرَف أنه يُسبب العمى وتلَف الأعصاب والاضطرابَ العقلي لمُدمِنيه.12 وتقدم الأبحاث التي تُجرى بالطرق التقليدية التي كانت تُستخدَم فيها الأعشاب معلومات، قد تُغفَل في نواحٍ أخرى.
وبالإضافة إلى دراسة دستور الأدوية الشعبية، يبحث علم العقاقير عن أدوية جديدة في الموارد الطبيعية أيضًا، وثمة مُبشرات لإيجاد موادَّ كيميائية مثيرة عديدة، فهناك أشجارٌ تعيش آلاف السنين، فما الذي تعرفه هذه الأشجار ولا نعرفه نحن؟ وعندما يتعلَّق الأمر بنموِّ أفرُع الأشجار، فالأشجارُ تعرف كل شيء أكثر منا! فعند تَعرُّض النباتات للآفات الحشرية، وُجِد أن النباتات تبثُّ إشاراتٍ كيميائيةً لجذب حشرات أخرى تتغذى على هذه الآفات الضارة، وقد اتضح حديثًا أن بعض النباتات التي تتعرض للهجوم يُمكنها أن تُرسِل إشارات تحذيرية لنباتات أخرى كي تسلح نفسها من الخطر الوشيك الحدوث.13 وقد يُوجَد مثل هذه المركبات الكيميائية في النباتات التي لا تظهر إلَّا في جزء من اليوم، مثل ذلك الوقت الذي يكون فيه النبات في حالة تهديد، أو تحت ظروف مُناخية معيَّنة. كأن تكون في منتصف الليل وعند اكتمال القمر؟!

ولا شك في أنَّ هناك أيضًا موادَّ أخرى ذات فائدة في أماكنَ أخرى في الطبيعة، مثل المحيطات، والأغطية الجليدية القطبية، والبراكين، وربما حتى في كواكِبَ أخرى وأقمار، وقبل أن نَستفيد من هذه الموارد، ثم كمًّا كبيرًا من المشكلات التي تحتاج إلى إيجاد حلول لها، بيد أنَّ هناك احتمالًا لحدوث الوفرة الكيميائية إذا قُمنا بحلِّ هذه المشكلات. أين نُكثِّف جهودنا؟ قد تجد الإجابة في كلمات العالم المبجَّل مؤلف الكتب العلمية إيزاك أزيموف حينما قال: «إن أكثر العبارات التي يُمكِن أن تسمعها في العلم إثارة … ليست «وجدتها»، ولكن «هذا ممتع» …»

إننا سوف نجد الوجهة التي نقصدها عندما نحصل على اكتشاف ما، عندما يلتقط أحدهم حصاة ويلحظ نمطًا جديدًا، أو يجد حشرة جديدة أو معدنًا غريبًا، إنها تحتاج إلى شخص يتمتع ببعض الفضول والرغبة في المعرفة، شخص يستمتع بالتاريخ والموسيقى والفنون، وربما بعض كتب الكيمياء الغريبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤