مقدمة المؤلف

«إن الكتاب له دلالاته بشأن الكيفية التي يمكن بها للشرق والغرب أن يمضيا معًا في علاقات أفضل، تأسيسًا على فهم متبادل للفوارق الذهنية.»

المؤلف

منذ بضع سنوات مضت، بدأ طالب صيني نابهٌ يعمل معي في بحث قضايا عن علم النفس الاجتماعي والاستدلال العقلي. وذات يوم، ونحن لا نزال في بداية تعارفنا، قال لي: «هل تعرف أن الفارق بيني وبينك أنني أرى العالم دائرة، وأنت تراه خطًّا مستقيمًا؟» ومن دون أن يقلقه ما ارتسم على وجهي بالضرورة من تعبير يفيض روعًا، استطرد موضحًا الفكرة: «يؤمن الصينيون بالتغير المطرد أبدًا، لكن مع إيمان بأن الأشياء دائمًا وأبدًا تتحرك مرتدة إلى حالة ما كانت في البدء. إنهم يولون اهتمامهم لنطاق واسع من الأحداث، يبحثون عن العلاقات بين الأشياء، ويظنون أن لا سبيل أمامهم إلى فهم الجزء من دون فهم الكل. هذا بينما يعيش الغربيون في عالم أبسط حالًا وأقل خضوعًا للحتمية، إنهم يركزون انتباههم على موضوعات أو أناس لهم وجودهم الفردي البارز دون الصورة الكبرى، ويظنون أن في وسعهم التحكم في الأحداث؛ لأنهم يعرفون القواعد والقوانين الحاكمة لسلوك الأشياء.»

بدوت شاكًّا، لكن فضولي شغوف للمزيد. عشت طوال حياتي مؤمنًا بنظرة كلية شمولية إلى الطبيعة والفكر البشري. التزمتُ المسار الغربي الطويل خطوة خطوة، ابتداء من الفلاسفة التجريبيين، من أمثال هيوم ولوك وميل، وحتى علماء المعرفة من معاصرينا اليوم، مؤمنًا بأن جميع البشر يدركون بحواسهم، ويستدلون بعقولهم بطريقة واحدة. ويسعني أن أوجز الافتراضات المشتركة التي يقوم عليها هذا التراث في المبادئ القليلة التالية:

  • كل امرئ لديه، ويجري، العمليات المعرفية نفسها. إن رعاة القطعان في ماووري، ومن يعيشون على قطف الثمار والقنص في كونج، ومن يتعاملون مع الشبكة الدولية (الإنترنت)؛ جميعهم يعتمدون على الأدوات نفسها من حيث الإدراك والذاكرة، والتحليل السببي، والتصنيف الفئوي والاستدلال.

  • عندما يختلف شعب في ثقافة ما عن غيره من الشعوب، من حيث المعتقدات، ليس لنا أن نرد هذا الاختلاف إلى اختلاف العمليات المعرفية، بل بسبب أنهم واجهوا جوانب مختلفة للعالم، أو لأنهم تعلموا معارف أخرى.

  • عمليات التفكير العقلي من «المرتبة الأعلى» تنبني على أساس القواعد الصورية للمنطق، مثال ذلك: رفض الجمع بين النقيضين؛ القضية لا تكون صادقة وزائفة في وقت واحد.

  • التفكير العقلي منفصل عن موضوع التفكير؛ إذ يمكن استخدام العملية نفسها للتفكير في أمور مغايرة تمامًا، وإن شيئًا محددًا يمكن التفكير بشأنه مستخدمين أي عدد من الإجراءات المختلفة.

وأذكر أنني قبل أن ألتقي تلميذي هذا بأكثر من عشر سنوات شاركت لي روس في تأليف كتاب يحمل عنوانًا يكشف بوضوح عن مظان تعاطفي؛ الاستدلال البشري. لم نقل الاستدلال في الفكر الغربي (ويقينًا ليس الاستدلال العقلي في جامعة أمريكية)، بل قلنا «الاستدلال البشري». وشخص الكتاب ما اعتقدت أنه قواعد الاستدلال العقلي التي يستخدمها الناس في كل مكان لكي يفهموا العالم، بما في ذلك بعض القواعد التي أعتقد أنها معيبة أو قاصرة، وتؤدي إلى أحكام خاطئة.

وأذكر من ناحية أخرى أنني — قبل أن ألتقي تلميذي الصيني بفترة قصيرة — كنت قد فرغت لتوِّي من سلسلة من الدراسات أبحث فيها عما إذا كان بالإمكان تحسين عمليات التفكير العقلي عند الناس عن طريق تعليمهم قواعد جديدة للتفكير. وتأسيسًا على افتراضاتي بشأن الكلية وشمولية التفكير وعتاد البشر في التفكير، ذهبت في المبتدأ إلى الظن بأن هذا العمل سوف يكشف عن صعوبة، إن لم أقل استحالة، تغيير أنماط التفكير العقلي التي كنت أدرسها، حتى وإن استغرقتنا دراسات تفصيلية وممتدة في مجالات أخرى، من مثل الإحصاء والاقتصاد. ولكن كم كانت دهشتي كبيرة إذ اكتشفت نتائج جوهرية للتدريب، مثال ذلك أن من تلقَّوا برامج محدودة عن الإحصاء تجنبوا الوقوع في كم هائل من الأخطاء في الحياة اليومية؛ إذ أصبح من المرجَّح لهم أن يردُّوا «إخفاق طالب الثانوي» في لعبة البيسبول إلى نكوصه وتراجعه عن المستوى المتوسط، وليس بسبب سوء حظ أو لعنة غيبية، وأصبح الأرجح لهم أن يعتبروا الاختبار الشخصي بمنزلة مثال بسيط دالٍّ على سلوك المرء، ومن ثم فإن أي قرار حكيم بإلحاق الشخص بالعمل ينبغي أن نبنيه على أساس عينة من المعلومات أوسع نطاقًا يتضمنها ملف طلب العمل. وتبيَّن أن الاقتصاديين يفكرون بشأن جميع ما يَعرِض لهم من أمور على نحو مختلف عن بقية الناس — ابتداء من اتخاذ قرار بالاستمرار في مشاهدة فيلم ممل، وحتى التفكير في السياسة الخارجية — واكتشفت، علاوة على هذا، أن بالإمكان تدريب الناس في دورات تدريبية قصيرة لتغيير عاداتهم في التفكير، بل وأيضًا تغيير سلوكهم العقلي عندما اختبرناهم بأسلوب خفي خارج المعمل.

لهذا كله حرصت على أن أوليَ الطالب أذنًا صاغية. وأذكر أن اسمه كايبنج بنج، ويدرس الآن في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. وطبيعي إذا كان بالإمكان إحداث تغيرات واضحة ومهمة في طريقة تفكير الكبار، فقد بدا من الممكن يقينًا القول بأن تلقين البشر عادات فكرية متمايزة منذ الميلاد من شأنه أن يُفضي إلى فوارق ثقافية شديدة جدًّا في عادات الفكر.

وشرعت في قراءة دراسات مقارنة عن طبيعة الفكر ألَّفها فلاسفة ومؤرخون وأنثروبولوجيون من الغرب والشرق على السواء. واكتشفت أن بنج مراسل صحافي أمين. ولاحظت أنه في الوقت الذي يفترض فيه علماء النفس الشمولية والطابع الكلي للبشر، وجدت باحثين كثيرين في ميادين بحث مختلفة يعتقدون أن الغربيين (ويعنون بذلك أساسًا الأوروبيين والأمريكيين ومواطني الكومنولث البريطاني)، وشعوب شرق آسيا (وهم أساسًا شعوب الصين وكوريا واليابان) ترسخت لدى كل جانب منهم منظومات فكر مختلفة جدًّا عن نظيرتها لدى الجانب الآخر على مدى آلاف السنين. علاوة على هذا اتفقت آراء هؤلاء الباحثين جوهريًّا بشأن طبيعة هذه الاختلافات. مثال ذلك أن غالبية من تناولوا هذه المسألة يؤمنون بأن الفكر الغربي مبني على افتراض أن سلوك الأشياء — الطبيعية والحيوانية والبشرية — يمكن فهمه في ضوء قواعد صريحة مباشرة. ولوحظ أن الغربيين يهتمون كثيرًا بالتصنيف الفئوي، مما يساعدهم على معرفة أي القواعد التي يتعين تطبيقها على الموضوعات محل البحث والسؤال، كما أن المنطق الصوري له دور في حل المشكلات. وعلى العكس من هذا شعوب شرق آسيا؛ إذ يُعنَون بالموضوعات في سياقها العام. إن العالم يبدو في نظر الآسيويين أكثر تعقدًا مما هو عليه في نظر الغربيين، كما أن فهم الأحداث عندهم يستلزم التفكير في كم كبير من العوامل التي يؤثر بعضها في بعض بطريقة غير بسيطة ولا حتمية. وليس للمنطق الصوري دور كبير في حل المشكلة. والحقيقة أن الشخص الذي يبالغ في الاهتمام بالمنطق يمكن اعتباره لم ينضج بعد.

أما عن نفسي — كعالم نفس — فقد تبين لي أن هذه آراء ثورية في دلالاتها. فإذا كان الباحثون في الدراسات الإنسانية وفي العلوم الاجتماعية الأخرى على صواب، إذن فإن علماء المعرفة على خطأ، المعرفة البشرية ليست واحدة في كل زمان ومكان. وحتى نتحاشى استخدام كلمات كثيرة للتعبير عن هذا نقول إن الباحثين في مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية طرحوا دعاوى مهمة إلى أقصى حد بشأن طبيعة الفكر. أولاها أن أبناء الثقافات المختلفة يختلف بعضهم عن بعض في «رؤاهم الميتافيزيقية»، أو في معتقداتهم الأساسية عن طبيعة العالم. والثانية أن عمليات الفكر المميزة لدى الجماعات المختلفة يختلف بعضها عن بعض اختلافًا بينًا. والثالثة أن عمليات الفكر هي جزء من المعتقدات عن طبيعة العالم، يستخدم الناس الأدوات المعرفية التي يبدو أنها تفيد معنًى، أي: تأسيسًا على معنى العالم عندهم.

ويلفت النظرَ بالدرجة نفسها أن الهياكل الاجتماعية ومعنى الذات، اللذين يميزان الشرقيين من الغربيين، يتلاءمان تمامًا مع المنظومات العقيدية والعمليات المعرفية عند كلٍّ منهما. إن الطبيعة الجمعية أو التكاملية للمجتمع الآسيوي تتسق مع نظرة الآسيويين العامة والمتداخلة إلى العالم، ومع إيمانهم بأن الأحداث شديدة التعقد والتحدد بسبب عوامل كثيرة. وتبدو الطبيعة الفردية أو المستقلة للمجتمع الغربي متسقة مع تركيز الغرب على الموضوعات الجزئية في استقلال عن سياقها، وكذا مع إيمان الغربيين بأن بإمكانهم معرفة القواعد والقوانين الحاكمة للموضوعات، ومن ثم يمكنهم التحكم في سلوكها.

وإذا كان الناس يختلفون حقًّا، وبعمق، في منظوماتهم الفكرية — نظرتهم إلى العالم والعمليات المعرفية — إذن فإن اختلافات الناس من حيث المواقف والتوجهات والمعتقدات، بل من حيث القيم والأفضليات يمكن ألا تكون مجرد مدخلات وتعاليم مختلفة، بل هي على الأصوب نتيجة حتمية لاستخدام أدوات مختلفة في فهم العالم. وإذا كان هذا صحيحًا فإن الجهود المبذولة لتحسين التفاهم الدولي لن تحقق النتائج المرجوة منها بالكامل.

وجدير بالذكر هنا أن التعليق الذي قال به تلميذي على نحو عابر، وكذا اهتمامي بعلم النفس الثقافي، علاوة على برنامج القراءة الذي شجعني عليه؛ كل هذا جعلني أشرع في برنامج بحثي جديد. بدأت بسلسلة من الدراسات المقارنة مستعينًا في العمل بعدد من تلامذتي في جامعة ميتشيجان، ثم مع بعض زملائي في جامعة بكين وجامعة كيوتو والجامعة الوطنية في سيئول والمعهد الصيني لعلم النفس. وتوضح البحوث وجود فوارق كبيرة حقيقية في طبيعة عمليات الفكر الآسيوية والأوروبية، وتمثل الدلائل دعمًا لدعاوى الباحثين من غير المعنيين بعلم النفس، وتوسع من نطاق هذه الدعاوى لتشمل كثيرًا من الظواهر العقلية الجديدة على نحو يثير الدهشة. علاوة على هذا تمثل الدراسات المسحية الاستقصائية وبحوث المشاهدات توثيقًا يؤكد الفوارق في الممارسات الاجتماعية، التي تتشابك مع فوارق عادات الفكر. وهيأ لنا البحث الجديد معلومات كافية لم تيسرها لنا الدلائل السابقة، وهكذا أصبح بالإمكان صوغ نظرية عن طبيعة هذه الاختلافات، بما في ذلك أسباب نشأتها، وآثارها ودلالاتها بالنسبة إلى الإدراك والتفكير العقلي في الحياة اليومية، وكيف تؤثر في العلاقات بين الناس من أبناء الثقافات المختلفة.

ويسمح لنا البحث بالإجابة عن أسئلة كثيرة عن العلاقات الاجتماعية وعن الفكر، وهي أسئلة أثارت، وعلى مدًى زمنيٍّ طويل، حيرة المعلمين والمؤرخين وعلماء النفس وفلاسفة العلم. ولا ريب في أنه لا الآراء النمطية الشائعة عن الاختلاف بين الشرق والغرب، ولا حتى آراء الباحثين الأكثر تقدمًا وإحكامًا، يمكنها أن تجيب عن هذه الأسئلة، أو أن تعالج وتبحث الاكتشافات الجديدة. إن الألغاز والملاحظات الجديدة يتسع نطاقها لتشمل ميادين كثيرة مختلفة. نذكر منها على سبيل المثال:

  • العلم والرياضيات: لماذا تميز الصينيون القدماء في علم الجبر والحساب دون الهندسة التي كانت قلعة الإغريق؟ لماذا يتميز الآسيويون المُحدَثون في الرياضيات والعلوم، بينما كان حصادهم في العلم الثوري أقل من الغربيين؟
  • الانتباه والإدراك: لماذا أبناء شرق آسيا أقدر من الغربيين على رؤية العلاقات بين الأحداث والوقائع؟ ولماذا يجد أبناء شرق آسيا أن من الصعب عليهم نسبيًّا عزل موضوع ما عن محيطه؟
  • الاستدلال السببي: لماذا الغربيون أميل إلى تجاوز أثر السياق في سلوك الأشياء، بل الناس؟ ولماذا الشرقيون أميل إلى «الانحياز للنظر إلى الحادث بعد وقوعه»، مما يسمح لهم بالاعتقاد بأنهم «يعرفونه دائمًا»؟
  • تنظيم المعرفة: لماذا أطفال الغرب يتعلمون الأسماء بدرجة أسرع كثيرًا من الأفعال، بينما أطفال الشرق يتعلمون الأفعال بدرجة أسرع كثيرًا من الأسماء؟ ولماذا ينزع أبناء شرق آسيا إلى تجميع الأشياء والأحداث تأسيسًا على كيفية ارتباطها بعلاقات بعضها مع بعض، بينما الغربيون أميل إلى الاعتماد على المقولات والفئات؟
  • التفكير العقلي: لماذا الغربيون أميل إلى استخدام المنطق الشكلي عند التفكير عقلانيًّا في الأحداث اليومية، ولماذا إصرارهم على المنطق حتى وإن أدى أحيانًا إلى وقوعهم في أخطاء؟ ولماذا يميل الشرقيون ميلًا كبيرًا إلى التفكير في ضوء القضايا الواضحة التناقض، وكيف يساعدهم هذا أحيانًا على الوصول إلى الحقيقة؟

أنَّى لنا البحث عن أسباب هذه المنظومات الفكرية على الرغم من الاختلاف الواسع بينها؟ هل تكمن الأسباب في البيولوجيا، أم اللغة، أم الاقتصاد، أم المنظومات الاجتماعية؟ وما الذي يحافظ على بقائها حتى اليوم؟ هل الممارسات الاجتماعية، أم التعليم، أم القصور الذاتي؟ وإلى أين نحن نمضي بهذه الاختلافات؟ تُرى هل ستبقى على مدى خمسين أو خمسمائة سنة أخرى من الآن؟

قادني البحث إلى الاعتقاد بأن ثمة نهجين مختلفين أشد الاختلاف في النظر إلى العالم، قد ترسخا على مدى آلاف السنين. ويتضمن هذان النهجان علاقات ونظرات اجتماعية بينهما اختلاف عميق بشأن طبيعة العالم وعمليات الفكر المميزة. وإن كلًّا من هذين التوجهين — الغربي والشرقي — منظومة داعمة لنفسها، ومتوازنة ذاتيًّا. وتعزز الممارسات الاجتماعية النظرة إلى العالم عند كلٍّ منهما، كما أن النظرة إلى العالم تفرض على أهلها عمليات فكر ملائمة لها، ويُلاحَظ أيضًا أن كلًّا من عمليات الفكر تبرر النظرة إلى العالم، وتدعم الممارسات الاجتماعية الخاصة بها، وأن فهم هذه المنظومات الاتزانية homeostatic له آثاره ودلالاته بشأن إدراك الطبيعة الأساسية للعقل، وبشأن المعتقدات عن الأسلوب الأمثل للتفكير، وكذا بشأن الاستراتيجيات التعليمية الملائمة للناس على اختلاف مشاربهم.

ولعل الأهم من هذا كله أن الكتاب له دلالاته بشأن الكيفية التي يمكن بها للشرق والغرب أن يمضيا معًا في علاقات أفضل، تأسيسًا على فهم متبادل للفوارق الذهنية. إن كثيرين في بلدان الشرق يؤمنون، ولهم بعض الحق، بأن القرون الخمسة الماضية للهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية الغربية جعلت الغرب متغطرسًا فكريًّا ومعنويًّا. وسوف يكون هذا الكتاب قد حقق إنجازه المنشود لمصلحة القراء الغربيين إذا ما حفزهم على التفكير في إمكان وجود نهج آخر صائب للتفكير في العالم، وأن بالإمكان أن يفيد كمرآة تساعدهم على تفحُّص ونقد معتقداتهم، وعادات تفكيرهم العقلي. وسوف يحقق الكتاب الغرض منه بالنسبة إلى القراء الآسيويين إذا ما شجعهم على التفكير في إمكانية أخرى مكملة. هذا على الرغم من أن حاجتهم إلى هذا أقل ضرورة وإلحاحًا؛ ذلك لأن غالبية المفكرين الغربيين يألفون، بالفعل وإلى درجة كبيرة، أساليب الغرب في التفكير.

وتوخيًا لتأكيد دفعي بوجود منظومات إدراك وفكر مختلفة أشد الاختلاف — وأنها كذلك منذ آلاف السنين — اعتمدت على براهين تاريخية وفلسفية، كما اعتمدت أيضًا على بحوث علمية حديثة، من بينها الإثنوجرافيا، والدراسات المسحية، الاستقصائية والبحوث المعملية. ففي الباب الأول أعرض أرسطو وكونفوشيوس كمثالين لمنظومتَي فكر مختلفتين. وهذان الفيلسوفان من دون ريب عملا أيضًا على ترسيخ عادات الفكر التي كانت من قبل إحدى سمات مجتمعاتهما. أما البابان الثاني والثالث فيهدفان إلى بيان أن الاختلافات في الممارسات الاجتماعية، التي نشهدها في المجتمعات الحديثة، سوف تميل إلى الإبقاء على، بل وإلى خلق، تلك الأنماط المختلفة، حتى إن لم تكن موجودة في الأزمنة القديمة. ونجد لب الكتاب في الأبواب من الرابع وحتى السابع. وتعرض هذه الأبواب الدليل على أن المعتقدات الأساسية عن طبيعة العالم، وكذا سبل إدراكها والتفكير العقلي بشأنها، أمور تختلف اختلافًا جذريًّا بين الشعوب الحديثة. وينبني الدليل في قطاع عريض منه على بحث معملي أدرته مع تلامذتي وزملائي، مستخدمين مجموعة متباينة من الاختبارات لدراسة كيف يدرك الناس، وكيف يتذكرون ويفكرون. ويحدد الباب الثامن في جلاء بعض الدلالات التي تعني علم النفس والفلسفة والمجتمع، بشأن الفوارق العميقة بين منظومات الفكر التي اكتشفناها. وتمثل الخاتمة تأملًا حول الغاية التي سنمضي إليها؛ إلى تلاقٍ أم إلى استمرار واطراد الفُرقة، بل وزيادتها حدةً وكثافة.

ورغبةً مني في تهيئة مسرح الحديث، وتيسيره قليلًا من أجل البحث أوضح ما يلي: عندما أتحدث عن شرق آسيا فأنا أعني الصين والبلدان التي تأثرت بثقافة الصين تأثرًا قويًّا، وبخاصة اليابان وكوريا. (وسوف أختصر أحيانًا «الشرق آسيويون» إلى «الشرقي»، وأحيانًا إلى «آسيوي».) وعندما أتحدث عن الأمريكيين والأوروبيين فأنا أعني السود والبيض والخلاسيين «الهسبانيين»، أي شخص ما عدا من هم من سلالة آسيوية. وإن هذا الاستعمال الذي قد يبدو غريبًا إلى حد ما يمكن تبريره على أساس أن كل من وُلد ونشأ وتربى في أمريكا تعرض لمؤثرات ثقافية متماثلة، وإن لم تكن بطبيعة الحال متطابقة. وواضح أن هذا يصدق أيضًا على الأمريكيين الآسيويين. لكننا في بعض البحوث التي نعرض لها هنا درسناهم كجماعة منفصلة؛ ذلك لأننا توقعنا منهم أن يكونوا أكثر تماثلًا مع الآسيويين، على عكس ما توقعناه بالنسبة إلى الأمريكيين — الذين هم من أرومات أخرى — وهذا ما ثبت لنا فعلًا.

أخيرًا أود أن أعتذر مقدمًا إلى من سوف يقلقهم أن يرَوا بلايين من الناس نَسِمهم بمصطلح واحد؛ «الشرقي آسيوي»، ونتعامل معهم وكأنهم متطابقون. وأنا لا أقصد الإيحاء إلى أنهم حتى قريبون من أن يكونوا متطابقين. إن الثقافات العامة والفرعية في الشرق تختلف عن بعضها اختلافًا بينًا مثلما هي حال الغرب. ولكن مع هذا فإن الوصف العام «الشرقي آسيوي» له ما يبرره؛ إذ أوضحت سبل اجتماعية وسياسية كثيرة جدًّا أن ثقافات هذه المنطقة متماثلة بعضها مع بعض من بعض النواحي العامة، ومختلفة عن البلدان الغربية. وأعرف أن هذا لن يرضي بعض من هم على دراية واسعة بالشرق، بَيد أنني أرجوهم أن يتحملوا قليلًا معي. إن بعض التعميمات تجد ما يبررها على الرغم من كثرة الفوارق والاختلافات. وإن بالإمكان عمل تناظر مع دراسة الفصائل اللغوية. إن اللغات الهندو-أوروبية تختلف عن بعضها بطرق لا حصر لها كما تختلف اللغات الشرق آسيوية بالقدر نفسه تقريبًا. ومع هذا فإن التعميمات بشأن الفوارق بين اللغات الهندو-أوروبية واللغات الشرق آسيوية — كمجموعة — أمر ممكن ومفيد. كذلك، وكما سوف يتضح لنا فيما بعد، أن بعض تلك التعميمات الرفيعة المستوى تماثل، بدرجة لافتة للنظر، بعض الاختلافات التي كشفت عنها العمليات الإدراكية والفكرية موضوع دراستنا في هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤