الخاتمة

نهاية علم النفس أم صدام ذهنيات؟

«إذا كانت الممارسات والقيم والمعتقدات الاجتماعية والأفكار العلمية مآلها إلى تلاقٍ، إذن لنا أن نتوقع أن الاختلافات في عمليات الفكر ستبدأ هي الأخرى في التلاشي.»

المؤلف

علماء الاجتماع في ميادين كثيرة يناقشون الآن نظرتين عن المستقبل بينهما خلاف شديد، إحداهما يتزعمها العالم السياسي فرنسيس فوكوياما، الذي يفترض تلاقي المنظومات العالمية السياسية والاقتصادية، وبالتالي منظومات القيم. وتتنبأ النظرة الأخرى باستمرار الاختلاف. كتب فوكوياما عن «نهاية التاريخ» بمعنى أن الرأسمالية والديموقراطية فازتا، ولا توجد قوًى في الأفق يمكن أن تتولد عنها أحداث مهمة (كما هي حال اللعنة الصينية، ونتمنى له طول العمر في أزمنة مهمة). النظرة الأخرى يتزعمها عالم السياسة صمويل هنتنجتون، ويتنبأ باستمرار الاختلاف. إن هنتنجتون أبعد ما يكون عن قبول رؤية فوكوياما عن التلاقي المجتمعي، ويعلن أن العالم على حافة «صدام حضارات» بين جماعات ثقافية رئيسية، من بينها شرق آسيا والإسلام والغرب. وهذه القوى محصورة داخل تضادٍّ فيما بينها لا فكاك منه بسبب الاختلافات التي لا يمكن التوفيق بينها من حيث القيم والنظرة إلى العالم: «نحن على عتبة عالم بازغ، زاخر بالصراع العرقي والصدام الحضاري.» وإن عقيدة الغرب المؤمنة بكونية وشمولية الثقافة الغربية تعاني في هذا العالم الآن من ثلاث مشكلات؛ هي زائفة، ولا أخلاقية، وخطرة.

وطبيعي إذا كانت أشكال النظم الاقتصادية ونظم الحكم واحدة في كل مكان في العالم، فإن هذا يشير إلى أن الخصائص النفسية للشعوب ستكون واحدة أيضًا. ولكن من ناحية أخرى يشير صدام الحضارات إلى إمكان اطراد التباين في عادات الفكر. فهل هذا يعني أن الفوارق المعرفية التي وثقها هذا الكتاب ستتحول لتصبح مجرد اهتمام تاريخي؟ هل مآلها أن تختفي بعد خمسين أو مائة عام بسبب تلاقي القيم والمنظومات الاجتماعية؟ وهل سيصبح أصحاب النظرة الكونية الكلية على صواب، وإن كان ذلك لأسباب خاطئة (صواب لأن كل امرئ سيفكر بالطريقة نفسها، وخطأ لأن أسباب ذلك لن تكون أسبابًا بيولوجية، بل ثقافية)، أم أن الفوارق ستبقى مثلما بقيت آلاف السنين؟

(١) هل هو التغريب؟

آراء فوكوياما تأخذ بألباب كثيرين في الغرب، ربما الأمريكيون بخاصة، ممن ينزعون إلى افتراض أن كل إنسان هو أمريكي الهوى والفكر في قلبه، وإن لم يكن كذلك فإن المسألة مسألة وقت فقط ليكون كذلك. وثمة أدلة سطحية الطابع كثيرة العدد تدعم هذا الاعتقاد. الناس في كل بلدان العالم يرتدون الجينز واﻟ «تي-شيرت» والأحذية النايك ويشربون الكوكاكولا ويستمعون إلى الموسيقى الأمريكية، ويشاهدون سينما وبرامج تليفزيونية أمريكية (حتى فرنسا أحست أخيرًا أنه من الضروري أن تسمح بنسبة من برامج التليفزيون الأمريكية المنشأ تصل إلى ٢٥ في المائة من إجمالي المعروض. ونجدها من ناحية أخرى استسلمت في مجال اللغة، وقررت أن يتعلم تلاميذ المدارس الابتدائية الفرنسية اللغة الإنجليزية). وأكد لي باحثون من شرق آسيا أن التعليم العالي في شرق آسيا تغلب عليه طبيعة غربية متزايدة؛ التأكيد على التحليل والنقد والمنطق والنهج الشكلي في حل المشكلات.

ونجد بعض الشواهد والأدلة على أن التنشئة الاجتماعية للأطفال في شرق آسيا تتجه نحو النمط الغربي. وسبق أن رصد هارولد ستيفنسون وزملاؤه أمهات الأطفال في مدرسة ابتدائية محددة في بكين على مدى أكثر من عقد ابتداء من منتصف الثمانينيات، وسألوهن عما يرونه لأطفالهن. كانت الأمهات، وقت بداية هذه الدراسة، يعنيهن تنمية مهارات العلاقات لدى أطفالهن؛ قدرتهم على التلاؤم مع الآخرين في تناغم. وبعد عشر سنوات كانت الأمهات معنيات أساسًا بما يعني الأمهات في الغرب؛ هل توافرت لابني المهارات والروح الاستقلالية ليمضي قدمًا في طريقه في العالم؟

ومنذ بضع سنوات خلت، شرعتُ أنا وكايبنج بنج ونانسي وونج في مشروع دراسي للتأكد من أن كثيرًا من الدراسات الاستقصائية عن القيم كانت تعرض فعلًا وصدقًا أن أبناء شرق آسيا أفادوا بأنهم يؤمنون بقيم «غربية»، ويتمسكون بها بقوة أكثر من الغربيين أنفسهم. واكتشفنا نحن أنفسنا — للحقيقة — أن طلاب جامعة بكين أفادوا بأنهم يُعلون من قيمة المساواة والقدرة التخييلية imaginativeness والاستقلال، واتساع أفق التفكير، والحياة المتنوعة، وكانوا في تقييمهم هذا أكثر من طلاب جامعة ميتشيجان. هذا بينما أفاد طلاب ميتشيجان بأنهم يعلون من قيمة الانضباط الذاتي والولاء، بل واحترام التقليد واحترام الأبوين والمسنين، وكانوا في هذا أكثر مما كان طلاب جامعة بكين! (خبرتي الشخصية كأب لطالبين في جامعة ميتشيجان تجعلني أشك للغاية في هذه النتيجة.) إن النتائج الغريبة ربما ترجع جزئيًّا إلى أن قوائم حصر القيم، بل ومقاييس الاتجاهات النفسية، ليست وسائل جيدة جدًّا للكشف عن القيم. ويُلاحَظ أننا حين عرضنا سيناريوهات تتضمن بشكل متكاثر قيمًا متعارضة، وسألنا المشاركين كيف لهم أن يتصرفوا في مثل تلك المواقف؟ أو ماذا يفضلون أن يكون عليه سلوك الآخرين؟ حصلنا على نتائج تُناظر توقعات الباحثين الأمريكيين والشرق آسيويين الذين يدرسون شرق آسيا. ولكن إذا كانت هناك أي درجة من الصدق في الفكرة القائلة بأن الناس ينزعون إلى أن يصبحوا بالصورة التي يحاولون أن يكونوا عليها، أو أن يكونوا مرآة لما يقولونه عن أنفسهم؛ فإن عمليات المسح القيمي يمكن أن تكون نبوءة بالمستقبل.

(٢) هل تباعد مطرد؟

يذهب هنتنجتون إلى القول بأن افتراض أن ثقافات العالم ستتمثلها وتستوعبها ثقافات الغرب؛ هو وهم ناشئ عن قصر نظر ومحورية عرقية؛ ذلك أن الفوارق المجتمعية كبيرة جدًّا، بحيث إن النزاعات الدولية مستقبلًا ستكون أقرب إلى نزاعات ثقافية المنشأ منها إلى نزاعات اقتصادية أو سياسية مثلما كانت في الماضي. إن الإسلام وشرق آسيا (وبخاصة الصين) والغرب على مسارات ثقافية متباعدة. كذلك فإن النفوذ النسبي للغرب آخذ في الانخفاض بسبب التقدم الاقتصادي في الشرق الأقصى، والزيادة السكانية للإسلام؛ لذا ليس بالضرورة أن يكون العالم آمنًا للديموقراطية وللأسواق الحرة.

هناك دليل يقينًا يحفز المرء على الدعوة إلى مساندة هذا الرأي.

تطبق اليابان نظام الاقتصاد الرأسمالي منذ أكثر من مائة عام، ولنا أن نتوقع أن يدعم النظام الرأسمالي قيم الاستقلال والحرية والعقلانية. ولكن ثمة شواهد لا حصر لها تدل على أن اليابان تغيرت قليلًا في كثير من المجالات الاجتماعية، ونجد اختلافات كبيرة بين طريقة كل من اليابانيين والأمريكيين في إدراك العالم والتفكير فيه. وأكثر من هذا أن النظام الرأسمالي نفسه تبدل ليتسق مع القيم الاجتماعية اليابانية. الولاء للشركة، وروح الفريق، والإدارة الاستشارية consultative management، والنهج التعاوني بين الصناعات، كل هذه التحولات نابعة من القيم الاجتماعية اليابانية. واعتقد كثيرون أن هذه القيم مسئولة أساسًا عن «المعجزة اليابانية» للتطوير الاقتصادي خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وسادت في الحقيقة دعوة منذ خمسة عشر عامًا مضت إلى أن على الغرب أن يتحول إلى الأشكال اليابانية في الإدارة وممارسة الأعمال، ليكون قادرًا على المنافسة. وطبيعي أن الأزمة الاقتصادية الراهنة التي تواجهها اليابان يعزوها كثيرون في الأساس إلى هذه القيم الاجتماعية ذاتها مثلما كانت سببًا في نجاحها السابق. والملاحظ أن كثيرين من المراقبين الغربيين يرون اليوم أن تلك القيم (التي كانوا يؤيدونها هم أنفسهم في السابق) بمنزلة عوائق أسفرت عن عزوف شديد عن تحجيم عدد العاملين، واستعداد كبير لإقراض أصدقاء في شركات آفاقها الاقتصادية غامضة ومشكوك فيها.

وحققت اليابان لنفسها شكلًا ديموقراطيًّا للحكم بعد الحرب العالمية الثانية بوقت قصير. ولكن دستورها كتبه الأمريكيون، وربما يقول كثيرون إن نظام الحكم يشبه إلى حد كبير نظامًا أوليجاركيًّا (حكومة الأغنياء) أكثر منه نظام حكم ديموقراطيًّا، على الأقل حتى عهد قريب جدًّا. وليس واضحًا على أي حال ما هي الفترة الزمنية التي ينبغي أن يعيشها بلد ما في ظل الديموقراطية قبل أن يقرر المرء أن هذا البلد سيلتزم هذه السبيل، خاصة حين يواجه توترات اقتصادية خطرة.

وتبدي الصين، بطبيعة الحال، اهتمامًا ضئيلًا بالديموقراطية في هذه المرحلة، أو لنقل إنها في جميع الأحوال، تبدو وكأن قسطًا كبيرًا جرى اقتطاعه لأنصارها. هذا كما أن تبنِّي الصين للرأسمالية أمر غير مقنع حتى هذه اللحظة. ويبدو أن كوريا أقبلت بقلب مفتوح على ممارسات السوق الحرة، ولكن الديموقراطية لم يزد عمرها على خمس سنوات في هذا البلد. وغير خافٍ أن كلا البلدين يظلان في الأساس بطبيعة الحال بلدين شرق آسيويين بالمعنى المعرفي.

وكما لحظ هنتنجتون، فإن الغربيين ينزعون إلى الخلط بين التحديث — بمعنى التصنيع، ومزيد من البنية المهنية المعقدة، وزيادة في الثروة والحراك الاجتماعي، ومحو أوسع نطاق من الأمية، والتوسع في المدن — والتغريب. ولكن ثمة مجتمعات أخرى غير اليابان أصبحت حديثة دون أن تصبح غربية. نذكر من بينها سنغافورة وتايوان، وهناك إيران ولكن بدرجة أقل. وإن أي إنسان يفترض أن التحديث يفضي فقط إلى مزيد من التغريب، حري به أن يتمهل إزاء التقديرات الراهنة التي ترى أنه بحلول عام ٢٠٠٧م ستكون الأكثر شيوعًا واستعمالًا في شبكة الإنترنت هي اللغة الصينية. وحري أن يتمهل ثانية إزاء تنبؤ بعض الاقتصاديين بأنه خلال بضع سنوات فقط ستكون نصف الرحلات الجوية العالمية عبر المحيط الهادي.

صفوة القول أن القيم سيطَّرد تباعدها، وأن أي إنسان يرى غير ذلك إنما يخلط ما بين شرب الكوكاكولا وبناء الكمبيوتر وبين التغريب.

(٣) هل من تلاقٍ؟

ولكن ثمة رؤية ثالثة يجدر أن نفكر فيها، وهي أن العالم يمكن أن يكون على طريق التلاقي، وليس اطراد التباعد، غير أنه تلاقٍ ليس مبنيًّا على أساس التغريب الخالص، بل وأيضًا التشريق، علاوة على صور معرفية جديدة، هي مزيج من المنظومات والقيم الاجتماعية.

وتوجد مؤشرات مؤكدة على أن الغرب يصادف قبولًا وهوًى في الشرق؛ إذ بينما يشرب بقية العالم الكوكاكولا ويرتدي الجينز، نجد الغربيين يضيفون إلى أطعمتهم أطعمة شرقية. وها هي كوريا أصبح ثلث سكانها مسيحيين، غير أن منتجعات لا حصر لها في جبال كاتسكيل كانت في السابق توفر الطعام لزبائن يهود من الطبقة الوسطى تتحول سريعًا الآن إلى مراكز لدراسة البوذية، التي تكسب أنصارًا لها في الولايات المتحدة، يتزايدون بمعدل أسرع من المذهب البروتستانتي الرئيسي. ونرى الآن كثيرًا من الأطباء الغربيين يقبلون بعض الأفكار العامة عن الطب الكلي، أي: الذي يعتمد على النظرة الكلية للإنسان والبيئة. وأكثر من هذا أن الأطباء يوصون الآن بطرق علاج شرق آسيوية قديمة، بديلًا عن وسائل العلاج الغربية الحديثة، لعلاج أمراض تبدأ من الصداع وحتى الغثيان. وأهم من ذلك، شيوع الحاجة إلى علاج الإنسان ككيان شامل، بدلًا من مهاجمة المشكلة الجزئية. ويمارس ملايين الأمريكيين الآن رياضة اليوجا وتاي تشي. كما أن أمريكيين كثيرين ممن رأوا تقاليد النزعة الفردية تفضي بهم إلى حالة من الاغتراب، بدءوا يتطلعون إلى أشكال تراثية في المجتمعات الشرق آسيوية، ويرونها علاجًا لحالة الخواء أو الأنوميا الاجتماعية. وتطبق مؤسسات صناعية كاملة أشكال العلاقات الجامعة بين أصحاب الأعمال والعاملين، والتي كانت اليابان رائدة لها. وبينما يتعلم أبناء شرق آسيا التأكيد على الحوار والمناقشة في التعليم، يُجري الغربيون تجارب مع المنظومات المنطقية التي لا تستلزم أن تكون القضية إما خطأ أو صوابًا. وجدير بالذكر أن علماء الفيزياء العظام في القرن العشرين، من أمثال نلز بور، إنما حققوا إسهاماتهم والتقدم في ميكانيكا الكوانطم نتيجة تقييمهم لأفكار شرق آسيوية، وبينما كان علماء الرئيسات في الغرب يؤمنون بأن رابطة الأم-الطفل هي وحدها العلاقة المهمة بالنسبة إلى قردة الشمبانزي، كان علماء الرئيسات من اليابانيين يرون أن ثمة علاقات متداخلة ومعقدة داخل مجتمعات الشمبانزي المستقرة. ورفض الغرب بدايةً هذه النظرة اليابانية، التي أصبحت مقبولة الآن بالإجماع في هذا المجال. وأود أن أوضح أيضًا نقطة لم أركز عليها، وهي أنني مدين بأفكاري في هذا الكتاب لمفكرين ومجربين من شرق آسيا بقدر ما أنا مدين لمفكرين ومجربين من الغرب. وإني على ثقة من أن دخول شرق آسيا إلى مجال العلوم الاجتماعية سيؤدي إلى تحول جذري في طريقة تفكيرنا ورؤيتنا عن الفكر والسلوك البشريَّين.

وإذا كانت الممارسات والقيم والمعتقدات الاجتماعية والأفكار العلمية مآلها إلى تلاقٍ، إذن لنا أن نتوقع أن الاختلافات في عمليات الفكر ستبدأ هي الأخرى في التلاشي. وثمة شواهد في الحقيقة تدل على حدوث تغيرات في الممارسات الاجتماعية، بل وتغيرات طرأت على الحالات الوقتية للتوجه الاجتماعي، وهو من شأنه أن يغير طريقة الإدراك الحسي والتفكير عند الناس.

ولنتذكر أن دراساتنا شارك فيها أمريكيون آسيويون، ونظرًا إلى أن لهم خبراتهم الاجتماعية المختلفة أشد الاختلاف عن خبرات أبناء شرق آسيا، فإن لنا أن نتوقع أن مدركاتهم وأنماط فكرهم ستشبه مدركات وأنماط فكر غيرهم من الغربيين بدرجة كبيرة. وحقيقة الأمر أن أنماط الإدراك وأساليب التفكير عند هؤلاء المشاركين كانت دائمًا في موقع وسط بين أبناء شرق آسيا والأمريكيين الأوروبيين، وأحيانًا نكاد لا نميزها عن أنماط الإدراك وأساليب التفكير عند الأمريكيين الأوروبيين.

وثمة دراسة أخرى لشعوب هي أصلًا ثنائية الثقافة، تفيد بأن قابلية التعديل المعرفية أمر ممكن. وتشير الدلائل إلى أن هذه الشعوب لا تسودها فقط قيم ومعتقدات تتوسط بين ثقافتين، بل إن عملياتها المعرفية يمكن أن تحتل أيضًا موقعًا وسطًا، أو أنها على الأقل تستطيع أن تتناوب بين شكلين للتفكير، كل منهما يميز ثقافة عن الأخرى. وجدير أن نتذكر هنا دراستنا عن الإدراك السببي، التي أوضحت أن جماعات من هونج كونج بإمكانهم أن «يتفوقوا» عندما نعرض عليهم رموزًا غربية، مثل ميكي ماوس ومبنى الكابيتول في الولايات المتحدة، وأن هذا يحفزهم على الإجابة عن المسائل المتعلقة بالأسباب بأسلوب يغلب عليه الطابع الغربي بأفضل مما لو كنا عرضنا عليهم رموزًا من شرق آسيا، مثل المعابد أو حيوان التنين. وأجاب الأمريكيون الآسيويون، هم بالمثل أيضًا، عن أسئلة تتعلق بالسببية الفيزيقية بأسلوب يغلب عليه الطابع الغربي، حين طلبنا منهم بداية أن يتذكروا خبرة تجعل هويتهم كأمريكيين واضحة، عما لو كنا طلبنا منهم أن يتذكروا خبرة تبرز هويتهم كشرق آسيويين.

ووجد كل من شينوبو كيتاياما وزملائه براهين تثبت إمكان تعديل العمليات المعرفية حتى بعد مضي فترة زمنية محدودة نسبيًّا في ظل ثقافة أخرى. وأجروا تجربة رائعة، إذ عرضوا على مشاركين يابانيين وأمريكيين أمثلة عديدة لخط مرسوم داخل مربع. ثم اصطحبوهم إلى ناحية أخرى من القاعة، وعرضوا عليهم صورة مربع مختلف الحجم عن الأول، وطلبوا منهم رسم خط داخل المربع بالطول نفسه للخط الذي رأوه، أو أقرب ما يكون إليه. كان الأمريكيون أدق في رسم الخط؛ إذ كان مساويًا تمامًا في طوله، مما يدل على أنهم كانوا أقدر من اليابانيين على إغفال السياق. وكان اليابانيون أدق في رسم خط له الطول نفسه نسبيًّا، مما يكشف عن أنهم كانوا أقدر على الربط بين الموضوع والسياق. خطا بعد ذلك كيتاياما وزملاؤه خطوة أبعد، وتأملوا سلوك الأمريكيين الذين عاشوا في اليابان لفترة من الزمن (بضعة شهور عادة)، وإلى اليابانيين الذين عاشوا في أمريكا لفترة من الزمن (بضعة شهور عادة). لوحظ أن الأمريكيين تحولوا إلى اتجاه ياباني دون أي شك. كذلك كانت حال اليابانيين الذين عاشوا في أمريكا، لم يكن بالإمكان عمليًّا تمييزهم عن الأمريكيين أبناء البلد. وغني عن البيان أن الدراسة لا تثبت حقيقة أن قضاء وقت في ظل ثقافة أخرى يؤدي إلى مثل هذه التغيرات الدرامية في السلوك؛ إذ ثمة تفسيرات أخرى، من بينها مثلًا احتمال أن يكون من ذهبوا للعيش في ثقافة أخرى كانوا يحبونها جدًّا أصلًا قبل رحيلهم إليها. بيد أن النتائج تشير بقوة إلى أن العمليات المعرفية يمكن أن تتعدل لمجرد أن يعايش المرء ثقافة أخرى لفترة من الزمن.

ويمكن القول بمعنًى ما إننا جميعًا «ثنائيو الثقافة» بالنسبة إلى القيود الاجتماعية والمصلحة الاجتماعية. إن إدراكنا للروابط مع الآخرين، وحجم رغبتنا في الارتباط بالآخرين مسألة تتباين من وقت إلى آخر. هل هذه الاختلافات المتأرجحة في مدى الصلة الوثيقة بالآخرين مقترنة بالاختلافات في الإدراك وفي الفكر؟ أذكر هنا أن عالم علم النفس الاجتماعي أولريتش كوهنين وزملاءه أشرفوا على بعض الدراسات المهمة التي تشير إلى أن التغيرات المعملية البسيطة في التوجه الاجتماعي لها أثرها في الطريقة التي نفكر بها. مثال ذلك: حاولوا «غرس» توجه تكافلي جمعي عن طريق مطالبتهم للمشاركين في التجربة بأن يقرءوا فقرة ويضعوا دائرة حول ضمائر الجمع للمتكلمين (نحن، نا … إلخ)، كما حاولوا غرس توجه مستقل فردي، بأن طلبوا من المشاركين رسم دائرة حول ضمائر المفرد المتكلم (أنا، «ي» المتكلم … إلخ)، ووجدوا أن المشاركين الذين غرسوا فيهم توجه التكافل كانوا ممن يعتمدون على المجال في إدراكهم أكثر من المشاركين الذين غرسوا فيهم توجه الاستقلال، كما يوضح اختبار الأشكال المطمورة Embedded Figures Test، معنى هذا أنهم وجدوا أن من الصعوبة بمكان إدراك شكل بسيط وسط سياق أكثر تعقدًا. واستخدم كوهنين ودافنا أويزرمان أسلوب المعالجة اليدوية ذاته، ووجدا أن الناس لديهم القدرة على تذكر السياقات التي رأوا فيها موضوعات محددة — نتيجة الربط الإدراكي بين الموضوع والمجال — وأن قدرتهم بعد غرس توجه التكافل أفضل منها بعد غرس توجه الاستقلال.

وهكذا نحن جميعًا نكون في مجالات ما أكثر شبهًا بأبناء شرق آسيا حينًا من الوقت، وأكثر شبهًا بالغربيين حينًا آخر؛ لذلك لنا أن نتوقع أن تحولًا يطرأ على الممارسات الاجتماعية المميزة، من شأنه أن يؤدي إلى تحول في الأنماط القياسية للإدراك والفكر.

لهذا أومن بأن الاثنين سيلتقيان بفضل تحرك كل منهما في اتجاه الآخر. الشرق والغرب يمكن أن يسهما في نشوء عالم مزيج، حيث تتمثل الجوانب الاجتماعية والمعرفية لكل من الإقليمين، ولكن في صورة متحولة، تمامًا مثل المكونات الفردية لطعام ما، حيث يمكن تمييزها وإن تغيرت وتغير معها الكل. ولعلنا لا نبالغ في الأمل بأن هذا الطعام سيحتوي على أفضل ما في الثقافتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤