الفصل الثالث

العيش معًا أم الحياة فرادى؟

«يُعلي أبناء شرق آسيا من قيمة النجاح والإنجاز عن رضًا ورحابة صدر؛ لأنهما يعودان بالنفع على الجماعات التي ينتمون إليها. ويُعلي الغربيون من قيمة النجاح والإنجاز لأنهما وسام دالٌّ على جدارة شخصية.»

المؤلف

يؤمن غالبية الغربيين، أو لنقل غالبية الأمريكيين، بأن التعميمات التالية تصدق تقريبًا على كل فرد:

  • كل فرد يتصف بمجموعة من الصفات المتمايزة والمميزة له. وأكثر من هذا يريد الناس أن يكونوا متمايزين، أي: مختلفين، عن الآخرين من نواحٍ مهمة.

  • الناس متحكمون إلى حد كبير في سلوكهم؛ يشعرون بأنهم في حال أفضل حين يكونون في مواقف من شأنها أن تجعل الاختيار والتفضيل الشخصي هما العامل المحدد للنتائج.

  • الناس يتجهون صوب أهداف شخصية تمثل نجاحًا وإنجازًا، ويرون أن العلاقات والانتماء عضويًّا إلى جماعة ما يتوافقان أحيانًا مع نهج المرء لبلوغ هذه الأهداف.

  • يجاهد الناس بغية الإحساس بالرضا عن أنفسهم. وتمثل النجاحات الشخصية، والضمانات التي تؤكد هذه الخاصيات الإيجابية، عنصرًا مهمًّا لتوليد هذا الإحساس بالرضا والرفاه.

  • يفضل الناس الكيف في حالة العلاقات الشخصية، أو يفضلون الوضع الاسمي حين تكون العلاقات تراتبية هرمية.

  • يؤمن الناس بضرورة أن تنطبق القواعد والقوانين نفسها على الجميع، ينبغي عدم استثناء أحد ليلقى معاملة خاصة بسبب صفات شخصية، أو روابط وعلاقات خاصة تربطه بأشخاص مهمين ذوي حيثية. العدالة عمياء لا تميز بين شخص وآخر.

وهناك في الحقيقة ملايين بهذه الصفات، ولكن نجدهم أساسًا في أوروبا، وبخاصة في شمال أوروبا، وفي بلدان الكومنولث البريطاني الآن وفي الماضي، بما في ذلك الولايات المتحدة. ويُلاحَظ أن السمات النفسية الاجتماعية المميزة لغالبية المجتمعات الأخرى في العالم، خاصة مجتمعات شرق آسيا، أميل إلى الاختلاف عن ذلك بدرجة أو بأخرى.

(١) الذات غير الغربية

هناك تعبير آسيوي يعكس انحيازًا ثقافيًّا ضد الفردية: «الخنزير الذي يبعد عن القطيع يشبع ضربًا.» ويسود اعتقاد عام يفيد بأن الآسيويين أقل اهتمامًا من الغربيين بالأهداف الشخصية أو تعظيم الذات، لكن الاهتمام ينصبُّ غالبًا على أهداف الجماعة والعمل المتآزر. كذلك فإن الحفاظ على العلاقات الاجتماعية في تناغم، له الأسبقية على إنجاز نجاح شخصي. والنجاح هدف منشود، باعتباره هدفًا جماعيًّا، وليس وسام استحقاق شخصي. والتميز الفردي ليس مستصوبًا في ذاته. والملاحَظ عند الآسيويين أن الشعور بالرضا عن النفس مقترن — على الأرجح — بالشعور بأنهم في تناغم مع رغبات وأماني الجماعة التي ينتمون إليها، ووفائهم بكل ما تتوقعه الجماعة منهم. أما المساواة في المعاملة فليست مفترضة، ولا ينظرون إليها كشيء مستصوب بالضرورة.

ومن المسلَّم به أن القواعد التي تنطبق على العلاقات في شرق آسيا هي قواعد محلية خاصة، ومحددة جيدًا على أساس الدور المنوط بها، وليست قواعد كلية. قال لي صديق آسيوي إن أهم شيء لحظه عند زيارته للأسر الأمريكية هو أن كل فرد حريص دائمًا على توجيه الشكر لكل فرد آخر؛ «شكرًا لإعدادك المائدة»، «شكرًا لك إذ غسلت السيارة.» ولكن في بلده كل امرئ عليه التزام واضح في سياق محدد، ولا حاجة بك لأن تقدم شكرًا على أداء الواجب. والاختيار ليس أولوية قصوى عند غالبية شعوب العالم. [سألني ذات يوم صديق من شرق آسيا لماذا يرى الأمريكيون ضرورة في أن يحددوا اختيارهم من بين أربعين نوعًا من حبوب طعام الإفطار في السوق المجمعة (السوبر ماركت).] ويتسق هذا مع ما يشعر به الآسيوي من أنه غير أهل ليكون صاحب قرار عندما يكون لزامًا عليه أن يختار.

إن غالبية الأمريكيين ممن تجاوز عمرهم سنًّا معينة يتذكرون كتاب «تعلم القراءة» في الطفولة، وعنوانه «ديك وجين». كان ديك وجين وكلبهما سبوت عناصر فردية نشطة. نطالع الصفحة الأولى من الطبعات الأولى في ثلاثينيات القرن العشرين (هذا الكتاب لتعلم القراءة ظل مستخدمًا على نطاق واسع حتى ستينيات القرن العشرين) فتجد هذه الصفحة تصور صبيًّا صغيرًا يجري وسط المروج. وتقول العبارات الأولى: «انظر ديك يجري. انظر ديك يلعب. انظر ديك يجري ويلعب.» ويبدو أن هذا نوع طبيعي جيد لتقديم المعلومات الأساسية عن الأطفال — وفقًا للذهنية الغربية — ولكن الصفحة الأولى من الكتاب الأول الصيني لتعليم القراءة خلال الحقبة نفسها يوضح صبيًّا صغيرًا جالسًا على كتفَي ولد أكبر: «الأخ الأكبر يعتني بالأخ الأصغر. الأخ الكبير يحب الأخ الصغير. الأخ الصغير يحب الأخ الكبير.» ها هنا لا نجد سلوكًا فرديًّا، بل علاقات بين الناس، وهي الشيء المهم نقله للطفل في أول عهده مع الكلمة المطبوعة.

والحقيقة أن الذات بالأسلوب الغربي تبدو في نظر الآسيوي الشرقي ضربًا من نسج الخيال. ويقول في هذا الصدد الفيلسوف هو شيه: «في الفلسفة الكونفوشية التي تتخذ الإنسان محورًا لها، لا يمكن أن يوجد الإنسان وحده، ويجب أن تكون جميع الأعمال في صورة تفاعل بين إنسان وإنسان.» المرء موجود دائمًا داخل أوضاع — خاصة المواقف التي تضم أفرادًا أو جماعات بذاتها، ممن يرتبط بهم المرء بعلاقات من نوع محدد — وإن الفكرة التي ترى أن بالإمكان وجود صفات أو أفعال غير مشروطة بظروف وملابسات اجتماعية فكرة غريبة على الذهنية الآسيوية. وقدم عالم الأنثروبولوجيا إدوارد تي هول فكرة مجتمعات «السياق-الأدنى» low-context society، ومجتمعات «السياق-الأعلى» high-context societies. وأراد بذلك أن يمسك بالفوارق في فهم الذات. يرى الغربي أن من المعقول لديه أن يتحدث عن شخص باعتبار أن له صفات محددة مستقلة عن الملابسات والظروف، أو عن علاقات شخصية محددة. إن هذه الذات — العنصر الفاعل الحر ذا الحدود الملزمة، والذي لا يقبل النفاذية — يمكن أن تنتقل من جماعة إلى جماعة، ومن وضع إلى آخر، من دون أن يطرأ عليها تغير مهم. ولكن المرء من أبناء شرق آسيا (وكذا غالبية الشعوب الأخرى بدرجات متفاوتة) يرى الشخص ملزمًا بارتباطات، ومحكومًا بشروط وأوضاع، وغير معزول بحدود. وعبر عن هذا الفيلسوف دونالد مونرو إذ قال: «يفهم الآسيويون الشرقيون أنفسهم في ضوء علاقاتهم بالكل، من مثل الأسرة أو المجتمع، أو مبدأ الطاو، أو الوعي المحض. يشارك المرء في مجموعة من العلاقات التي تيسر عليه العمل، كما أن السلوك المستقل تمامًا فهو سلوك غير ممكن ولا حتى مستصوب.»
وحيث إن كل عمل يجري في تضافر واتساق مع الآخرين، أو أنه على أقل تقدير يؤثر في الآخرين، فإن التناغم (الهارموني) في العلاقات يغدو هدفًا رئيسيًّا للحياة الاجتماعية. وقد عرضت تصويرًا تخطيطيًّا عامًّا بهدف تحديد مختلف أنماط الإحساس بالذات في علاقتها بالجماعة المفضلة أو الجماعة الداخلية١ أو دائرة الأصدقاء الوثيقة الصلة والأسرة. ويكشف التصوير التوضيحي أيضًا عن البعد النسبي بين الجماعة الداخلية والجماعة الخارجية، أو من هم مجرد معارف على أحسن تقدير. ويشعر أبناء شرق آسيا أنهم ساكنون في أعماق جماعاتهم الداخلية، وبعيدون عن جماعاتهم الخارجية. وهم أميل إلى الشعور بأنهم متماثلون للغاية مع أعضاء الجماعة الداخلية، ويولونهم ثقة أكبر كثيرًا من ثقتهم بأعضاء الجماعة الخارجية. ويشعر الغربيون أنهم مقطوعو الصلة نسبيًّا بجماعاتهم الداخلية، وهم أميل إلى اصطناع تمايزات أساسية وكبيرة تميز بين الجماعة الداخلية والجماعة الخارجية.
وتوضح بعض الحقائق الإنسانية الهوة النفسية الاجتماعية بين الشرق والغرب. إننا لا نجد في اللغة الصينية كلمة للدلالة على «النزعة الفردية». وأقرب كلمة للدلالة عليها كلمة تعني «الأنانية». كذلك فإن الرسم الصيني لكلمة جن — الخيرية — فإنه يعني رجلين. كذلك كلمة «أنا» في اللغة اليابانية — التي تعني الذات المتعدية للموقف، غير المشروطة والعامة الكاملة لجميع صفاتها وأهدافها وقدراتها وأفضلياتها — لا تُستخدم كثيرًا في المحادثات. ونجد في اللغة اليابانية، بدلًا من هذا، كلمات كثيرة للدلالة على «أنا»، وكل منها رهن جمهور المخاطبين، ورهن السياق. وإذا حدث أن أدلت امرأة يابانية بحديث رسمي فإنها عادة ما تستخدم، حسب العرف والتقاليد، كلمة «واتاشي»، وهي أقرب كلمة يابانية لكلمة «أنا» المتعدية للموقف. وإذا أشار رجل إلى نفسه من حيث علاقته بأصدقاء حميمين فإنه يقول مثلًا: «بوكو»، أو «أور». وعندما يتكلم أب مع طفله فإنه يقول: «أوتوسان»، أي: أب (dad). وقد تشير الفتاة إلى نفسها بكنيتها إذا ما كانت تحادث عضوًا في الأسرة: «تومو ستذهب إلى المدرسة اليوم.» وغالبًا ما يسمي اليابانيون أنفسهم «جيبون»، وهي كلمة يفيد تحليلها التاريخي إلى أنها تعني «حصتي» أو «نصيبي» أو «قدري».
figure
النظرتان الشرق آسيوية والغربية إلى العلاقات بين الذات والجماعة الداخلية والجماعة الخارجية.

ونجد في اللغة الكورية عبارة مثل «هل لك أن تحضر لتناول العشاء؟» تستلزم استخدام كلمات مختلفة للدلالة على «أنت» أو «المخاطب»، وهو أمر شائع في لغات كثيرة. ولكن أيضًا كلمة العشاء، فإنها تتوقف على نوع من تخاطبه؛ هل تدعو طالبًا أم أستاذًا. وتعكس مثل هذه الممارسات ليس فقط الأدب أو التواضع وإبقاء الذات بعيدًا عن الأضواء، بل تعكس أيضًا اقتناع أبناء شرق آسيا بأن المرء شخص مختلف باختلاف من يتفاعل معهم.

وعبارة «حدثني عن نفسك» تبدو عبارة مباشرة تمامًا، وكافية لكي تسأل عن شخص ما، ولكن نوع الإجابة يعتمد إلى حد كبير على نوع المجتمع الذي تسأل فيه هذا السؤال. الأمريكيون الشماليون سيحدثونك عن سماتهم الشخصية (ودود، دءوب في العمل)، وعن تصنيفات وصِفات الدور (معلم، أعمل في شركة تنتج الشرائح الإلكترونية)، وعن الأنشطة (سأذهب إلى معسكر فترة من الزمن). وهنا نلحظ أن الأمريكيين لا يربطون أوصافهم لذواتهم بالسياق إلى حد كبير. ولكن الذات الصينية أو اليابانية أو الكورية فإنها، على العكس من ذلك، تتوقف إلى حد كبير على السياق (أنا جاد في عملي، أحب المزاح مع أصدقائي). وثمة دراسة طلبت من يابانيين وأمريكيين أن يصفوا أنفسهم، سواء في سياقات محددة أو من دون تعيين نوع محدد من المواقف. وأوضحت الدراسة أن اليابانيين وجدوا أن من الصعب عليهم جدًّا وصف أنفسهم من دون تعيين نوع محدد من المواقف — في العمل، في البيت، مع أصدقاء … إلخ. ولكن الأمريكيين في المقابل غلب عليهم الشعور بالارتباك حين حدد الباحث سياقًا، «أنا من أنا». ويُلاحَظ أن أبناء شرق آسيا حين يصفون أنفسهم يشيرون إلى الأدوار الاجتماعية (أنا صديق جون)، ويهتمون بذلك أكثر من الأمريكيين. وكشفت دراسة أخرى عن أن اليابانيين ضعف الأمريكيين في نزوعهم — عند وصفهم لأنفسهم — إلى الإشارة إلى الآخرين («أطهو العشاء مع أختي»).

وأوضحت دراسة استقصائية عن صفات وأفضليات الأمريكيين الشماليين أنهم يبالغون في تقييمهم لتميزهم. ووضح من سؤال بعد آخر أن الأمريكيين الشماليين يتحدثون عن أنفسهم بأنهم أكثر تفردًا مما هم في الحقيقة، بينما أبناء شرق آسيا أقل ميلًا إلى الوقوع في هذا الخطأ. ويفضل الغربيون كذلك التفرد في البيئة أو الوسط، وكذا التفرد في ممتلكاتهم وما يتميزون به. ونذكر أن اثنين من علماء علم النفس الاجتماعي، وهما هيجونج كيم وهازل ماركوس، سألا كوريين وأمريكيين أن يختار كلٌّ منهم من بين مجموعة موضوعات مصورة أي موضوع يفضلونه. اختار الأمريكيون الموضوع الأندر، بينما اختار الكوريون الموضوع الأكثر شيوعًا. وطلبا منهم أن يختار كل منهم قلمًا هدية، فاختار الأمريكيون اللون الأقل شيوعًا من بين الألوان المطروحة أمامهم، بينما اختار الكوريون الأكثر شيوعًا.

وإنه لأمر ذو دلالة أن الكلمة اليابانية المعبرة عن تقدير الذات هي «سيروفو إيسوتيمو»؛ إذ لا توجد كلمة وطنية تستوعب مفهوم الإحساس بالرضا عن النفس. ويُلاحَظ أن الغربيين أكثر اهتمامًا من أبناء شرق آسيا بتعزيز أنفسهم في نظرهم وفي نظر الآخرين. كذلك نرى الأمريكيين أميل من اليابانيين إلى إطلاق تعبيرات تلقائية محببة عن أنفسهم. وتأتي تعبيرات الثناء على النفس الموجهة إلى الأمريكيين والكنديين متجاوزة كثيرًا حدود المتوسط. ولكن أبناء شرق آسيا يضعون أنفسهم في مرتبة أدنى قياسًا بكل الأبعاد. إنهم لا يدعمون فقط أقل قدر من العبارات الإيجابية، بل يؤكدون على الأرجح أن لديهم بعض الخلال السلبية. وليس من المرجح أن الآسيويين إذ يضعون أنفسهم في مثل هذه المكانة إنما يعبرون عن قدر من التواضع أكثر من الأمريكيين الشماليين. إن الآسيويين — في واقع الأمر — يُظهرون تواضعًا بدافع من وخز الضمير، ولكن الفارق في تحديد مكانة الذات يظل قائمًا حتى إذا ما ظن المشاركون أن إجاباتهم عامة وجماعية تمامًا.

ليس معنى هذا أن أبناء شرق آسيا مستاءون من صفاتهم، إنما العكس، إذ لديهم التزام ثقافي قوي بالشعور بخصوصيتهم، أو أنهم موهوبون غير عاديين، وأن هدف الذات في علاقتها بالمجتمع ليست تأكيد التفوق أو التفرد، بل تحقيق التناغم داخل شبكة من العلاقات الاجتماعية الداعمة، وأن يؤدي المرء دوره في إنجاز الغايات الجمعية. وتستلزم هذه الأهداف قدرًا من النقد الذاتي، وهو نقيض دغدغة مشاعر الذات. وإذا كان عليَّ أن أكون ملائمًا للجماعة ومتلائمًا معها، فإنه يصبح لزامًا أن أتجرد من كل ما يتعلق بنفسي ويثير حنق وغضب الآخرين، أو يضاعف من صعوبة مهامهم. ويحرص أبناء شرق آسيا على تعليم أطفالهم التمازج مع الآخرين في تناغم. ولكننا في المقابل نجد بعض الأطفال الأمريكيين يذهبون إلى مدارس يحصل فيها كل طفل على صفة «في آي بي» VIP، أي: شخص مهم جدًّا. (أذكر أنه في بلدتي اجتمع مجلس إدارة المدرسة منذ بضع سنوات مضت، وناقش هل الهدف الرئيسي للمدارس نقل المعارف أم غرس احترام الذات. وأشعر بالتقدير إزاء فيلم كارتون ظهر خلال هذه الفترة نفسها يعرض باب غرفة يحمل عبارة «قاعة الاحترام».)
ويتعلم أطفال المدارس في اليابان كيف يمارسون نقد الذات، سواء من أجل تحسين علاقاتهم مع الآخرين، أو ليضاعفوا من مهاراتهم في حل المشكلات. ونجد هذا الموقف الذي ينشد بلوغ نزعة الكمال perfectionism من خلال النقد الذاتي مستمرًّا على امتداد العمر. إن رئيس الطهاة أو معلم الرياضيات لا ينظر إليه المجتمع — باعتباره مستقلًّا — إلا بعد أن يُمضي في وظيفته عقدًا كاملًا. وواقع الأمر أن المعلمين اليابانيين يظلون طوال حياتهم العملية محط اهتمام ومتابعة ومساعدة نظرائهم لكي يصبحوا أفضل في وظائفهم. وحري أن نقارن هذا بالممارسة الأمريكية التي تدفع بالمعلمين الحديثي التخرج إلى الفصول الدراسية بعد بضعة شهور من تدريبهم، ثم يتركونهم وحدهم للنجاح أو للفشل، ويتركون التلاميذ لمصير قد يكون حسنًا أو سيئًا.

وأجرى ستيفن هاين ورفاقه تجربة تحدد الفارق بين اندفاع الغربي لكي يشعر بالرضا عن نفسه، وبين دافع الشرق آسيوي لتحسين الذات. سأل الباحثون في تجربتهم طلابًا كنديين ويابانيين الإجابة عن اختبار كاذب ﻟ «الإبداع»، وأعطوا الطلاب «تغذية مرتدة» تفيد بأنهم أدَّوا أداء حسنًا للغاية أو سيئًا جدًّا. وحرص المجربون على أن يتابعوا سرًّا، ويسجلوا طول المدة التي يستغرقها كل من المشاركين لإنجاز مهمة مماثلة. عكف الكنديون على أداء المهمة مدة أطول إذا كان النجاح حليفهم، بينما عكف اليابانيون على أداء المهمة مدة أطول إذا كان الفشل حليفهم. ولم يكن اليابانيون سعداء بالفشل؛ إذ ليست لديهم نزعة مازوخية، وإنما رأوا أنهم إزاء فرصة لتحسين ذواتهم، واستثمروها. وتكشف الدراسة عن دلالات مهمة بالنسبة لتطوير المهارات في كل من الغرب وشرق آسيا. الغربيون أميل إلى إجادة عدد محدود من المهام، ويتخذون ذلك منطلقًا لعمل جيد. ويبدو أن الشرقيين أميل إلى أن يجيدوا كل شيء، أي: صاحب الصنائع السبع.

(٢) الاستقلال مقابل الاعتمادية المتبادلة

المفاضلة العامة بين طرازَي المجتمعات، والتي ناقشناها فيما سلف، كانت فكرة ثابتة رئيسية في علم الاجتماع منذ القرن التاسع عشر. ويماثل التمييز هنا التمييز الذي اصطنعه علماء الاجتماع الألمان في القرن التاسع عشر، خاصة فرديناند تونييس؛ إذ قدم تونييس تمييزًا مفيدًا للمقارنة بين الثقافات، أي: بين ما يسميه gemeinschaft (المجتمع المحلي القائم على حس مشترك بالهوية)، وGesellschaft (المؤسسة التي تهدف إلى تيسير النشاط من أجل إنجاز أهداف أداتية). وينبني المجتمع المحلي Gemeinschaft على العلاقات القائمة لذاتها، ويرتكز على إحساس بالوحدة والتبادلية، مثال ذلك العلاقات بين أبناء الأسرة أو المحفل الديني أو شبكة الأصدقاء. إنه مجتمع قائم على التعاطف والتفاعل المباشر وجهًا لوجه، والخبرات المشتركة، بل وربما الملكية المشتركة. أما المجتمع أو المؤسسة Gesellschaft فينبني على التفاعلات التي هي في غالب الأحيان وسيلة نحو غاية. وتتضمن كثيرًا تبادلات للسلع والعمل، كما ترتكز غالبًا على أسلوب المساومة والتعاقدات. وتسمح مثل هذه المنظومات الاجتماعية بالكسب الشخصي والميزة التنافسية. وتمثل الشركات الاتحادية الكبرى والبيروقراطيات مجتمع Gesellschaften.
ولا يحسبنَّ أحد أن ثمة مؤسسة أو مجتمعًا هو بالكامل، ومن دون استثناء، من هذا الطراز أو ذاك، إنهما طرازان مثاليان نظريان لا أكثر، ولكن التمييز بينهما له أهمية تحليلية كبرى بالنسبة إلى كثير من العلوم الاجتماعية الحديثة، وخاصة علم النفس الثقافي. وغالبًا ما يوصف مجتمع Gemeinschaft بالنظام الاجتماعي «الجمعي»، ويوصف Gesellschaft بالنظام الاجتماعي «الفردي». وسبق أن اقترح كل من هازيل ماركوس وشينوبو كيتاياما مصطلحَي «المتكافل أو القائم على الاعتماد المتبادل» و«المستقل»، وهذان المصطلحان يفيدان الأفكار نفسها؛ لذلك سوف أستخدمهما.

يبدأ التدرب على الاستقلال أو التكافل حرفيًّا في المهد. وإذا كان الأطفال الأمريكيون الحديثو الولادة ينامون في سرير مستقل عن الأبوين، أو ربما في غرفة مستقلة، إلا أن هذا نادر الحدوث بالنسبة إلى أطفال شرق آسيا، وهو ما يحدث أيضًا في أغلب أنحاء العالم. ونجد على العكس أن النوم في السرير نفسه هو الأكثر شيوعًا. وتتضاعف الفوارق والاختلافات في مظاهر حياة اليقظة. مثال ذلك أن الكبار المعجبين من أجيال عديدة غالبًا ما يحيطون بالطفل الصيني الوليد (حتى قبل أن تؤدي سياسة الطفل الواحد إلى إنتاج «الأباطرة الصغار»). كذلك الطفل الياباني الحديث الولادة يكاد يكون دائمًا مع أمه. وتُعتبر العلاقة الوثيقة بالأم وضعًا يتمنى بعض اليابانيين له أن يستمر بلا نهاية أو حدود. وأذكر بهذه المناسبة أن الباحثين في معهد البحوث الاجتماعية بجامعة ميتشيجان أجرَوا دراسة، تستلزم جدولًا يقارن درجة ارتباط المفحوصين من كبار اليابانيين والأمريكيين بأمهاتهم. وبدت المهمة شديدة الصعوبة؛ لأن الباحثين اليابانيين أصروا على ضرورة إضافة خاتمة مقبولة لديهم إلى جدول الاختبار للإجابة عنها. وتقول هذه العبارة الختامية: «أريد أن أكون مع أمي كل الوقت تقريبًا.» وأصر الأمريكيون بطبيعة الحال على أن عبارة كهذه ستثير صخب وسخرية المفحوصين الأمريكيين، وربما تجعلهم يمتنعون عن أن يأخذوا الاختبار مأخذًا جادًّا.

ويلقى أطفال الغرب تشجيعًا دائمًا وبأساليب صريحة على الاستقلال، ويطلب الآباء والأمهات الغربيون من أطفالهم دائمًا وأبدًا أداء أعمال اعتمادًا على أنفسهم فقط، ويسألونهم دائمًا أن يحددوا اختياراتهم بأنفسهم: «هل تحب أن تنام الآن أم تفضل تناول شيء من الطعام أولًا؟» ولكن الأب الآسيوي يتخذ القرار لابنه مفترضًا أن الأب يعرف أفضل من الابن ما هو خير له.

وطبيعي أن الآباء والأمهات الذين يعملون على غرس روح الاستقلال في نفوس أطفالهم لن يدهشهم إنجاز هدفهم جيدًا، بحيث إن أطفالهم يعارضون أي تهديد يمس حريتهم في الاختيار. وطلب عالما النفس الاجتماعيان شينا ينجار ومارك ليبار من أطفال أمريكيين وصينيين ويابانيين، تتراوح أعمارهم ما بين السابعة والتاسعة من العمر، أن يعيدوا ترتيب أحرف عبارات محددة. مثال ذلك أن سألوهم: «ما الكلمة التي يمكن أن نؤلفها من الأحرف «ظ ي ع م»؟» وطلبوا من بعض الأطفال العمل على فئة محددة من لعبة إعادة توليف الأحرف. وأعطَوا أطفالًا آخرين حق الاختيار من بين عدد من اللعب ليختاروا أي لعبة توليف للأحرف يفضِّلون العمل على حلها. وقيل لآخرين إن الباحث القائم بالتجربة تحدث إلى أم الطفل التي تريد من الطفل أن يجيب عن فئة بذاتها. وقاس الباحثون بعد ذلك عدد لعب توليف أحرف الكلمات التي جرى حلها، والوقت الذي استغرقه حل كل منها. كشف الأطفال الأمريكيون عن أعلى مستوًى للحفز — قضوا أطول وقت لأداء المهمة، وحلوا أكبر عدد — وذلك حين سمح لهم الباحثون باختيار الفئة. وكشف الأطفال الأمريكيون عن أدنى مستوًى للحفز عندما كانت الأم هي التي اختارت الفئة، مما يفيد أن في هذا انتهاكًا لاستقلالهم الذاتي؛ ولهذا فقدوا بعض اهتمامهم الذاتي بالمهمة المنوط بهم حلها. وكشف الأطفال الآسيويون عن أعلى مستوًى للحفز عندما كانت الأم هي التي اختارت الفئة.

والتأكيد على العلاقات يشجع الاهتمام بمشاعر الآخرين. إن الأمهات الأمريكيات حين يلعبن مع أطفالهن، نراهن يملن إلى توجيه أسئلة عن الموضوعات، وإلى تقديم معلومات عنها. ولكن حين تلعب الأمهات اليابانيات مع أطفالهن، فإن أسئلتهن أميل إلى الاهتمام بالمشاعر. إن الأمهات اليابانيات ينزعن — على الأرجح — إلى استخدام كلمات وثيقة الصلة بالمشاعر حين يخطئ أطفالهن في السلوك: «الفلاح سوف يستاء إذا لم تأكل كل ما طهته ماما لك»، «اللعبة تبكي لأنك ألقيتها على الأرض»، «الحائط يقول آي». ولا ريب في أن تركيز الانتباه على الموضوعات، كما يميل الأبوان الأمريكيان إلى أن يفعلا هذا، يساعد على إعداد الأطفال لعالم من المتوقع أن يعملوا فيه مستقلين. ولكن التركيز على المشاعر والعلاقات الاجتماعية، كما يميل الآباء والأمهات في شرق آسيا إلى أن يفعلوا، يساعد الأطفال على استباق ردود أفعال الناس الآخرين ممن سيكون لزامًا عليهم أن يلائموا سلوكهم معهم.

ويمكن أن نشهد في الكبر النتائج المترتبة على هذا التركيز الفارق على الحالات العاطفية للآخرين. وتوجد دلائل تؤكد أن أبناء شرق آسيا واعون ومهتمون بدقة بمشاعر ومواقف الآخرين أكثر مما هي حال الغربيين. مثال ذلك: أظهر جيفري سانشيز-بوركس وزملاؤه إلى الكوريين والأمريكيين تقييمات حددها أصحاب الأعمال بشأن جداول التقديرات. كان الكوريون أفضل من الأمريكيين في الاستنتاج من التقديرات مشاعر أصحاب الأعمال إزاء العاملين، بينما مال الأمريكيون إلى أخذ التقديرات على وجهها الظاهري فقط. ويتسع نطاق التركيز على عواطف الآخرين ليشمل حتى مدركات المرء عن عالم الحيوان. عرضت أنا وتاكا ماسودا فيلم فيديو يصور مشاهد تحت الماء على طلاب أمريكيين ويابانيين، وسألناهم أن يكتب كل منهم تقريرًا عما شاهده. كتب الطلاب اليابانيون ما يفيد أنهم «شاهدوا» مشاعر وحوافز من جانب الأسماك أكثر من الأمريكيين. مثال ذلك: «السمك الأحمر غضب بالضرورة بسبب إيذاء حراشفه.» وبالمثل عرض كايبنج بنج وفويبي الزوورث على طلاب صينيين وأمريكيين صورًا متحركة عن سمك يتحرك حركات مختلفة من حيث العلاقة بين بعضه وبعض. مثال ذلك أن تظهر جماعة من السمك وكأنها تطارد سمكة واحدة، أو تنطلق بعيدًا حين تقترب السمكة الوحيدة. وسأل الباحثون الطلاب عن مشاعر السمكة المفردة وجماعات السمك. استجاب الصينيون على نحو حسن للأسئلة، ولكن شعر الأمريكيون بصعوبة إزاء المهمتين، وأُسقطَ في أيديهم حقيقة حين طلب الباحثون منهم تقريرًا عن حقيقة انفعالات المجموعة.

وتنعكس الدرجة النسبية للحساسية تجاه عواطف الآخرين في الافتراضات الضمنية عن طبيعة الاتصال؛ إذ يعلِّم الغربيون أطفالهم توصيل أفكارهم بوضوح، وتبني توجه «الناقل»، أي: إن المتحدث مسئول عن نطق جمل تكون مفهومة بوضوح من جانب المخاطب، ومفهومة في الواقع مستقلة بدرجة أو بأخرى عن السياق. وإذا حدث سوء فهم نتيجة الاتصال فهو خطأ المتكلم. أما أبناء شرق آسيا فهم، على العكس، يعلِّمون أطفالهم توجه «المتلقي»، بمعنى أن مسئولية المستمع أن يفهم ما يُقال. وإذا حدث أن أثار غناء طفل بصوت عالٍ ضيق أب أمريكي، فإن الأب — على الأرجح — سيطلب من الطفل خفض الصوت، وها هنا لا نجد لبسًا أو غموضًا. ولكن الأب الآسيوي سيقول على الأرجح: «ما أحلى الأغنية التي تغنيها.» ربما يشعر الطفل بالسرور أول الأمر، ولكنه سيدرك على الأرجح أن ثمة معنًى آخر مقصودًا، وهنا سيحاول الطفل أن يخفض من صوته، وربما يكف عن الغناء.

والغربيون عادة — وربما الأمريكيون بخاصة — أميل إلى الاعتقاد بصعوبة فهم أبناء شرق آسيا؛ ذلك لأن هؤلاء على الأرجح يفترضون أن بيت القصيد من حديثهم وضح على نحو غير مباشر، وبطريقة مهذبة. ولكن الغربي يظل في حالة من اللبس. وأبناء شرق آسيا بدورهم أميل إلى الاعتقاد بأن الغربيين — وربما الأمريكيون بخاصة — مباشرون إلى حد التعالي، بل وربما الخشونة في الكلام.

وثمة وسائل كثيرة لبيان التمييز بين المجتمعات المستقلة نسبيًّا والمتكافلة نسبيًّا. ولعل من المفيد لتوضيح ذلك أن نركز على أربعة أبعاد متمايزة، وإن كانت مترابطة:

  • الإصرار على حرية العمل الفردي مقابل تفضيل العمل الجمعي.

  • الرغبة في التميز الفردي، مقابل إيثار الامتزاج في تناغم مع الجماعة.

  • إيثار المساواتية والمكانة العصامية، مقابل قبول التراتبية الهرمية، والمكانة التي يضفيها الخارج.

  • إيمان بأن القواعد الحاكمة للسلوك السوي ينبغي أن تكون كلية وشاملة، مقابل تفضيل أساليب التناول التخصيصية، التي تأخذ في الاعتبار السياق وطبيعة العلاقات المتضمنة.

هذه الأبعاد مترابطة بعضها مع بعض، ومن الممكن، على سبيل المثال، أن يكون مجتمع ما مستقلًّا تمامًا بالنسبة إلى بعض الأبعاد، وأقل استقلالًا بالنسبة إلى أبعاد أخرى. وحاول علماء الاجتماع قياس كل من هذه الأبعاد، وقياس أبعاد أخرى في اقتران بعضها ببعض بوسائل مختلفة، من بينها دراسة استقصائية للقيم، ودراسات عن مادة مسجلة في محفوظات وتجارب.

وجدير بالذكر أن من أهم مواد الدراسات الاستقصائية هي تلك التي وفرتها دراسة رجال الأعمال في الثقافات المختلفة؛ إذ تزودنا هذه الدراسات الاستقصائية بأدلة مقنعة تمامًا؛ نظرًا لثبات قدر كبير منها بدرجة أو بأخرى، بما في ذلك الثروة النسبية والمستويات التعليمية. وثمة دراسة كلاسيكية من هذا النوع أعدَّها جيرت هوفستيد، وتهيئ لنا إمكانًا أكبر للمقارنة؛ إذ إن جميع مشاركيه الوافدين من عشرات المجتمعات المختلفة كانوا عاملين في شركة آي بي إم، واكتشف فوارق ثقافية درامية من حيث القيم بين كبار العاملين ذوي الرداء الأزرق (المرتبة الدنيا).

وحصل على بيانات مماثلة كل من شارتس هامبدن-تورنر والفونس ترومبنارس، ويعملان أستاذين في مدرسة دولية لمشروعات الأعمال في هولندا، قدما على مدى فترة تمتد إلى سنوات عديدة عشرات الأسئلة التي طرحاها على مديرين من الدرجة الوسطى، والذين أشرفوا على ندوات انعقدت في مختلف أنحاء العالم. وبلغ عدد المشاركين في الندوات خمسة عشر ألفًا. ووفدوا جميعًا من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وبريطانيا وهولندا والسويد وبلجيكا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وسنغافورة واليابان (وعدد قليل من إسبانيا وكوريا أيضًا). عرض هامبدن-تورنر وترومبنارس على طلابهما معضلات تتضمن قيمًا مستقلة، ومتداخلة معها قيم مناهضة للاعتمادية المتبادلة أو التكافل.

وأراد هامبدن-تورنر وترومبنارس دراسة قيمة التميز الفردي مقابل علاقات التناغم مع الجماعة. ووصولًا إلى هذا، سألا المديرين أن يشيروا إلى أي أنماط الوظائف المعروضة عليهم يفضلونها؛ «أ» وظائف تكفل تشجيع المبادرات الشخصية، وينجز فيها الفرد مبادراته. مقابل «ب» وظائف لا ينفرد إنسان فيها عن الآخرين بسبب امتياز شخصي، ولكن حيث يعمل الجميع معًا. أكثر من ٩٠ في المائة ممن أجابوا من الأمريكيين والكنديين والأستراليين والبريطانيين والهولنديين والسويديين، دعموا الاختيار الأول — بديل المعبر عن الحرية الفردية — مقابل أقل من ٥٠ في المائة من اليابانيين والسنغافوريين، واحتلت موقعًا وسطًا تفضيلات الألمان والإيطاليين والبلجيكيين والفرنسيين.

وتوصف الولايات المتحدة بأنها المكان الذي يمكنك فيه أن تبين أنك تغير الرقم الرمزي للمنطقة التي تعيش فيها كل خمس سنوات أو نحو ذلك. (كان هذا قبل أن تبدأ شركة الهاتف في تغيير الأرقام الرمزية للمناطق، دون أن تنتظر حتى ينتقل الناس منها.) ولكن نجد في بعض البلدان الأخرى علاقة الناس بالشركة التي يعملون بها، والرابطة بين المرء وزملاء العمل، موضع تقدير رفيع أكثر مما هي الحال في الولايات المتحدة، فضلًا عن احتمال استمرارها بشكل دائم إلى حد ما. وعمد هامبدن-تورنر وترومبنارس إلى تقييم هذا الفارق؛ لذلك طلبا من المشاركين في الدراسة أن يختار كل منهم ما يروقه من بين التوقعات التالية؛ إذا تقدمت بطلب لشغل وظيفة في شركة «أ» سوف أعمل فيها يقينًا طوال العمر، أو «ب» إنني شبه متأكد بأن العلاقة ستمتد لفترة محدودة.

أكثر من ٩٠ في المائة من الأمريكيين والكنديين والأستراليين والبريطانيين والهولنديين رأوا أن الأرجح البقاء لفترة محدودة في الوظيفة. وصدق هذا بالنسبة لأربعين في المائة فقط من اليابانيين (وإن كانت هذه النتيجة ستكون دون شك أعلى موضوعيًّا اليوم بعد أن بدأت اليابان تطبق نظام خفض العمالة). ومرة أخرى احتل الفرنسيون والألمان والإيطاليون والبلجيكيون موقعًا وسطًا، وإن كان أقرب إلى الأوروبيين منهم إلى أبناء شرق آسيا.

وأراد هامبدن-تورنر وترومبنارس دراسة القيمة النسبية التي يراها المجتمع والفرد في المكانة العصامية مقابل المكانة الممنوحة؛ لذلك طلبا من المشاركين في الفحص بيان ما إذا كانوا يتفقون أم لا يتفقون مع النظرة التالية؛ أن يكون نجاح المرء واحترامه نتيجة جهد شاق يبذله. من المهم للمدير أن يكون أكبر سنًّا من مرءوسيه. كبار السن أحق بالاحترام من صغار السن.

أكثر من ٦٠ في المائة من الأمريكيين والأستراليين والسويديين والبريطانيين الذين أجابوا، رفضوا فكرة أن تنبني مكانة المرء على أساس السن، مهما كان السبيل. وأجاب حوالي ٦٠ في المائة من اليابانيين والكوريين والسنغافوريين بالموافقة على نظام تراتبي هرمي قائم على أساس العمر. وللمرة الثالثة كان الفرنسيون والإيطاليون والألمان والبلجيكيون في موقع وسط، وإن كانوا أقرب إلى الأوروبيين منهم إلى أبناء شرق آسيا.

وبدهي أن تنشأ احتمالات كبيرة للنزاع حين يُضطر أبناء ثقافات ذات توجهات مختلفة إلى العمل بعضهم مع بعض. ويصدق هذا بوجه خاص حين يتعامل من يؤمنون بالقواعد الكلية الشاملة مع من يرون أن كل موقف بذاته يتعين دراسته وتقييمه منفصلًا على أساس ما له من قيمة وجدارة، وأن القواعد المختلفة يمكن أن تصلح لبشر مختلفين. ويفضل الغربيون الالتزام في حياتهم بمبادئ أساسية مجردة، كما يحبون أن تكون هذه المبادئ صالحة للتطبيق على الجميع. ويرى الغربي أن ليس من الأخلاق في شيء التخلي عن القواعد الكلية الشاملة بغية ملاءمة حالات مفردة. ولكن التمسك بتطبيق قواعد واحدة على كل حالة فإنه يبدو، في أحسن الظروف، في نظر أبناء شرق آسيا أمرًا يكشف عن جمود وضعف فكر، ويبدو في أسوأ الظروف قاسيًا. وجدير بالذكر أن الكثير من المسائل التي بحثها هامبدن-تورنر وترومبنارس تكشف عن الفارق الكبير القائم بين الثقافات في تفضيلها لقواعد يمكن تطبيقها على نحو كلي وشامل، مقابل الاعتبار الخاص بكل حالة تأسيسًا على جوانبها المتمايزة. ولوحظ أن إحدى هذه المسائل موضوع بحثهما تتعلق بكيفية تناول حالة عامل ظل عمله لدى الشركة على مدى عام دون المستوى، على الرغم من أنه ظل متميزًا طوال أربعة عشر عامًا قبل ذلك. إذا لم يكن ثمة سبب يدعونا إلى أي توقع بتحسن الأداء، فهل يتعين على الشركة بالنسبة للعامل «أ» أن تفصله، تأسيسًا على أن الأداء الوظيفي سوف يظل القاعدة التي ينبني عليها سبب الفصل، بغضِّ النظر عن العمر وسجله السابق؛ أم «ب» هل من الخطأ إسقاط خمسة عشر عامًا من الاعتبار، التي قضاها العامل موظفًا جيدًا لدى الشركة؟ وأن على المرء أن يضع في الحسبان مسئولية الشركة عن حياته.

أكثر من ٧٥ في المائة من الأمريكيين والكنديين رأوا أن على العامل أن يرحل. ووافق على هذا الرأي حوالي ٢٠ في المائة من الكوريين والسنغافوريين. ووافق أيضًا حوالي ٣٠ في المائة من اليابانيين والفرنسيين والإيطاليين والألمان، بينما وافق حوالي ٤٠ في المائة من البريطانيين والأستراليين والهولنديين والبلجيكيين (يُلاحَظ في هذه المسألة تحديدًا أن البريطانيين والأستراليين كانوا أقرب إلى أبناء القارة الأوروبية منهم إلى الأمريكيين الشماليين).

توضح هذه النتائج التزام الغربيين بقواعد كلية لتطبيقها على الجميع. ونلحظ تأثير ذلك على فهمهم لطبيعة الاتفاقات بين الأفراد والشركات. وامتدادًا لهذه النظرة يؤمن الغربيون بأن العقد ملزم فور الاتفاق عليه — بغضِّ النظر عن الظروف والملابسات التي يمكن أن تجعل الاتفاق أقل استهواء لدى أطراف التعاقد عما كان عليه في البداية — ولكن بالنسبة إلى أبناء ثقافات عالية السياق، تؤمن بالتكافل والاعتمادية المتبادلة، فإن تغير الظروف يفرض تغيرات في الاتفاق.

هذه النظرات الاستشرافية المختلفة بعضها عن بعض اختلافًا شديدًا هي التي يتولد عنها بانتظام سوء فهم على الساحة الدولية. وخير مثال على هذا مسألة «عقد السكر» الياباني-الأسترالي في منتصف سبعينيات القرن العشرين. إذ تعاقدت شركات تكرير السكر اليابانية مع الموردين الأستراليين لتزويدهم بالسكر على مدى خمس سنوات بسعر ١٦٠ دولارًا للطن. ولكن بعد توقيع العقد بفترة قصيرة انخفض سعر السكر في السوق العالمية انخفاضًا حادًّا. هنا طالب اليابانيون بإعادة التفاوض بشأن العقد على أساس أن الظروف تغيرت جذريًّا، ولكن الأستراليين رأوا أن العقد ملزم — بغض النظر عن الظروف — ورفضوا التفكير في إدخال أي تغييرات.

ودلالة مهمة تتعلق بمشروعات الأعمال بسبب الفوارق بين المجتمعات المؤمنة بالاستقلالية، والمجتمعات المؤمنة بالاعتمادية المتبادلة. تتمثل هذه الدلالة في ضرورة تعديل أسلوب الإعلان في ضوء الجمهور الثقافي المعني. ونذكر هنا أن خبيرَي التسويق سانج-بيل هان وشارون شافيت أجريا دراسة تحليلية للإعلانات الأمريكية والكورية في مجلات الأخبار الشعبية والمجلات النسائية. وتبين لهما أن الإعلانات الأمريكية تؤكد على المنافع والأفضليات الفردية (شق طريقك في الزحام «اغتنم حياة المتعة»). هذا بينما الإعلانات الكورية تؤكد في الأغلب على المنافع والأفضليات الجمعية (لدينا الطريقة لجمع شمل الناس أكثر، «نعلن عن أنباء صداقات مشروعات الأعمال التي تحقق كسبًا حقيقيًّا»). وأجرى كل من هان وشافيت تجارب تتمثل في عرض أنواع مختلفة من الإعلانات على الناس، ووجدا أن الإعلانات الفردية أكثر تأثيرًا بالنسبة إلى الأمريكان، بينما الإعلانات الجمعية أكثر تأثيرًا بالنسبة إلى الكوريين.

وطبيعي أن الاستقلالية مقابل التكافلية ليست مسألة إما-أو؛ ذلك أن كل مجتمع، بل كل فرد، هو مزيج من الاثنين. ويبدو واضحًا أن من اليسير تمامًا أن يحتل هذا التوجه أو ذاك مكان الصدارة. ونذكر أن علماء النفس وندي جاردنر وشيرا جابرييل وأنجيلا لي «أعدوا» طلاب معهد أمريكي للتفكير إما على نحو «مستقل» أو «متكافل». وأنجزوا هذا بوسيلتين مختلفتين. طلبوا في إحدى التجارب من المشاركين قراءة قصة عن جنرال في الجيش في حاجة إلى أن يختار محاربًا يرسله إلى الملك. لوحظ في الصيغة «المستقلة» أن على الملك أن يختار الشخص الأفضل للوظيفة. ولكن في الصيغة «التكافلية» أراد الجنرال أن يجري اختيارًا من شأنه أن يفيد أسرته. ونجد في طريقة أخرى لإعداد الطلاب أن الباحثين طلبوا من المشاركين البحث عن كلمات محددة ضمن فقرة تصف رحلة إلى مدينة. وكانت الكلمات إما تدل بطبيعتها على الاستقلال (مثل «أنا»، و«لي»)، أو على التكافل (مثل «نحن» و«لنا»).

وطلب الباحثون من المشاركين بعد أن فرغوا من قراءة القصة أو البحث عن الكلمات داخل الفقرة، أن يملئوا بيانات في بحث استقصائي عن القيمة، من شأنه تقييم ما يولونه من أهمية للقيم الفردية (من مثل الحرية، وأن يعيش المرء حياة متنوعة)، وكذا للقيم الجمعية (من مثل الانتمائية واحترام الكبار). وقرءوا أيضًا قصة تحكي أن «ليزا» رفضت أن تعطي صديقتها «آمي» توجيهات عن الطريق إلى مستودع للفنون لأنها كانت مستغرقة في قراءة كتاب. وسأل الباحثون بعد القراءة عما إذا كان سلوك ليزا أنانيًّا وغير ملائم. ولوحظ أن الطلاب الذين جرت تهيئتهم للميل الاستقلالي وضعوا القيم الفردية في مكانة عالية، بينما وضعوا القيم الجمعية في مكانة أدنى، قياسًا إلى الطلاب الذين تهيئوا في ضوء اختبار التكافلية، كذلك كان الطلاب المهيَّئون للاستقلالية أكثر تسامحًا في نظرتهم إلى ليزا المستغرقة في قراءة الكتاب. أعاد جاردنر وزملاؤه هذه الدراسة مرة أخرى بعد أن أضافوا طلابًا من هونج كونج إلى العينة الأمريكية، وأضافوا أيضًا شرطًا ضابطًا للتجربة، ولكن دون إعداد أو تهيئة. ولوحظ أن الطلاب الأمريكيين وضعوا القيم الفردية في مرتبة أعلى من القيم الجمعية، ما لم يكونوا قد طُبق عليهم أسلوب التهيئة التكافلية. ووضع الطلاب من هونج كونج القيم الجمعية في مرتبة أعلى من القيم الفردية، ما لم تتم تهيئتهم بالأسلوب الاستقلالي.

وطبيعي أن أبناء شرق آسيا مهيئون دائمًا للمعايير التكافلية، بينما الغربيون مهيئون للمعايير الاستقلالية. وهذا من شأنه أن يثير مسألة تتعلق باحتمال أنهم حتى وإن لم تُعدَّهم تنشئتهم للميل نحو هذا الاتجاه أو ذاك، فإن المعايير المحيطة بهم ستجعل من يحيون في مجتمعات متكافلة يسلكون على نحو متكافل، بينما من يعيشون في مجتمعات مستقلة سوف يسلكون بوجه عام سلوكًا مستقلًّا. ويبدو هذا في الحقيقة تقريرًا عامًّا عمن يعيشون في كنف الثقافة الأخرى لفترة من الزمن. ويتعلق المثال المفضل عندي بعالم نفس شاب كندي، عاش سنوات عديدة في اليابان، ثم شغل بعد ذلك وظائف في جامعات أمريكا. أحس المشرف عليه بالفزع إذ اكتشف أنه استهل رسالته باعتذارات عن عدم جدارته للوظائف موضوع البحث. ويوضح دليل آخر أن احترام الذات مسألة مرنة جدًّا؛ إذ لوحظ أن اليابانيين الذين عاشوا لفترة غير قصيرة في الغرب يبدون زيادة ملحوظة في احترام الذات، ربما لأن المواقف التي واجهتهم كانت بوجه عام داعمة للتحلي بمشاعر المزيد من الاحترام أكثر مما هو شائع في اليابان، ومن ثم فإن السمات النفسية الاجتماعية للناس الذين نشئوا في كنف ثقافات مختلفة أبعد من أن تكون غير قابلة للتغير بتاتًا.

(٣) تباينات في وجهة النظر

توضح أعمال هامبدن-تورنر وترومبنارس أن الغرب ليس كتلة صماء أحادية فيما يتعلق بمسائل الاستقلال مقابل التكافل؛ إذ توجد أيضًا مظاهر اطراد موضوعي للاختلافات القائمة في البلدان الغربية؛ ذلك أن بلدان المتوسط، علاوة على بلجيكا وألمانيا، تحتل موقعًا وسطًا بين بلدان شرق آسيا من ناحية، والبلدان التي تتغلغل فيها البروتستانتية والثقافة الأنجلوساكسونية من ناحية أخرى. وثمة اطراد أكثر من هذا أيضًا، هناك من قال: «الفكرة تتجه غربًا»، بمعنى أن قيم الفردية والحرية والعقلانية والكلية أو الكونية غدت أكثر هيمنة وإحكامًا بشكل مطرد، على مراحل، مع اتجاه الحضارة غربًا، ابتداء من أصولها الأولى في منطقة الهلال الخصيب. دوَّن البابليون القانون، وأضفوا عليه خاصية كلية. وأكد الإسرائيليون التميز الفردي. وأعلى الإغريق من قيمة الفردية أكثر مما سبق، وأضافوا إليها الالتزام بالحرية الفردية وروح الجدل والمنطق الصوري. وأُوتيَ الرومان موهبة التنظيم العقلاني، وشيئًا يشبه العبقرية الصينية للإنجاز التكنولوجي. ثم بعد فترة انحطاط امتدت ألف عام أعاد خلفاؤهم الإيطاليون اكتشاف هذه القيم، وشرعوا في بناء جديد تأسيسًا على إنجازات حقبتَي الإغريق والرومان. ثم بدأ عصر الإصلاح البروتستانتي، انطلاقًا من ألمانيا وسويسرا، مرورًا بفرنسا وبلجيكا، وأضاف المسئولية الفردية وتعريفًا جديدًا للعمل باعتباره نشاطًا مقدسًا. كذلك أتى الإصلاح البروتستانتي بالتزام ضعيف تجاه الأسرة والجماعات الداخلية الأخرى، مقترنًا بإرادة أكبر نحو الثقة بالجماعات الخارجية، وعقد تعاملات مع أبنائها. وتعززت وترسخت هذه القيم في الثقافات الفرعية الكالفنية (البروتستانتية) في بريطانيا، بمن فيهم البيوريتان والمشيخيون أنصار أيديولوجيا المساواتية. وأرسى هؤلاء الأساس الذي قام عليه الحكم في الولايات المتحدة. (لقد كان توماس جيفرسون يردد عبارات قالها جون لوك، المتعاطف مع البيوريتان، حين قال: «نؤمن بأن هذه حقائق بدهية، أن جميع البشر وُلدوا متساوين … يتمتعون بحقوق لا تقبل التصرف، من بينها حق الحياة والحرية …»)

الاكتشافات التي توصل إليها هامبدن-تورنر وترومبنارس بشأن القيم الاجتماعية، وكذا اكتشافات هوفستد تتتبع بدقة تلك الرحلة الأيديولوجية لشرق آسيا وللغرب. ويُلاحَظ أنه كلما كان موقع البلد أبعد في الاتجاه غربًا ازداد دعم هذا البلد بعامة للقيم الاستقلالية. علاوة على هذا، فإن هذه الفوارق بين الثقافات الأوروبية نراها منعكسة فيما خلَّفته من ثقافات فرعية لها في الولايات المتحدة. وهذه حقيقة وثقها باحثون، من أمثال الاقتصادي توماس سو ويل، في دراسته لتواريخ المهاجرين الثقافية. وأذكر أنني عرفت ذات يوم عالمًا اجتماعيًّا متميزًا للغاية، ويحتل موقعًا رائعًا، وهو أمريكي من أصل اسكتلندي، يؤمن بالمذهب المشيخي البروتستانتي، وغارق حتى أذنيه في الالتزام بالاستقامة الكالفنية. وله ابن عالم اجتماع أيضًا كان يصارع بين الحين والآخر لضمان عمله ومستقبله خلال سبعينيات القرن العشرين، وقتما كانت الوظائف نادرة في الولايات المتحدة. واعتاد زميلي أن يؤكد أحيانًا بفخر أنه — وإن كان يسيرًا عليه التدخل لمساعدة ابنه — أبى ولم يتدخل على الإطلاق. وكان زملاء هذا الصديق، وهم من الأصدقاء الأنجلو-ساكسون البريطانيين، يهزون رءوسهم موافقين على عدالة موقفه، على الرغم مما يعرفونه عن الألم الذي يعانيه صديقهم. هذا بينما زملاؤه اليهود والكاثوليك، وما لهم من قيم تنتمي إلى القارة الأوروبية، كانوا يحدقون فيه بأنظارهم مصدومين، غير مصدقين افتقاره إلى المشاعر الأسرية. ولننتقل إلى مستوًى أسمى قليلًا من الناحية العلمية عن هذه الحكاية؛ نحن نجد بشكل عام في دراساتنا أن البروتستانت البيض، من بين المشاركين الأمريكيين في الدراسة، هم الذين يكشفون عن أنماط سلوكية «غربية» إلى حد كبير، بينما الكاثوليك وأبناء الأقليات، بمن في ذلك الأفارقة الأمريكيون والهسبانيون (المولدون) يحتلون موقعًا يبتعد قليلًا عن أولئك، متجهًا نحو الأنماط الشرقية.

وتتضمن الثقافات الشرقية في داخلها أيضًا فوارق كبيرة تشتمل على جميع أنواع السلوكيات والقيم الاجتماعية المهمة، بعضها مرتبط بالاستقلالية مقابل التكافلية.

كنت في الصين عام ١٩٨٢م قرب نهاية الثورة الثقافية. بدا لي البلد غريبًا — إلى أقصى حد — من حيث مظاهره التقليدية ومظاهره الشيوعية المفروضة عليه. وأُقيمت في بكين — وأنا هناك — أول مسرحية غربية يجري عرضها منذ الثورة. إنها مسرحية «موت بائع»، تأليف آرثر ميلر. وبدا لي الاختيار غريبًا. وشاهدت المسرحية، ليس فقط باعتباري غربي الشخصية إلى حد كبير، بل وباعتباري أمريكيًّا متميزًا. الشخصية المحورية فيها بائع. وكم كانت دهشتي كبيرة إذ لاقت المسرحية نجاحًا مهولًا. ولكن آرثر ميلر، الذي حضر إلى الصين للمشاركة في إخراج المسرحية، قدم سببًا مقنعًا لهذا الاستقبال؛ إذ قال: «المسرحية تدور حول أسرة، والصينيون هم مخترعو الأسرة.» ولعله أضاف أيضًا أن المسرحية عن الوجه، أو الحاجة إلى أن يحظى الوجه بالاحترام من المجتمع، وأن الصينيين هم أيضًا الذين اخترعوا الوجه.

ولعل اليابانيين يهتمون هم أيضًا اهتمامًا كبيرًا بالوجه، شأن الصينيين. ولكن ربما دون تورط في الأسرة المباشرة مع قدر كبير من الالتزام بالاتحاد. وثمة فوارق أخرى واضحة بين اليابانيين والصينيين. وأذكر أن كثيرين، من بينهم عالم الاجتماع روبرت بيلاه، والفيلسوف هاجيمي تاكامارا، وعالمة النفس دورا ديين، والفيلسوف الاجتماعي لين يوتانج؛ عرضوا بالتفصيل بعض هذه الفوارق. والمعروف أن الضغوط والقيود الاجتماعية بعامة أكبر على الصينيين واليابانيين منها على الغربيين، إلا أن الضغوط في حالة الصين مصدرها أساسًا السلطات، ولكنها في حالة اليابانيين مصدرها النظراء. مثال ذلك أن المعلم هو المسئول عن ضبط الفصل الدراسي والتحكم فيه، بينما التلاميذ زملاء الدراسة هم المسئولون في اليابان. وقالت دورا ديين: «يؤكد الصينيون علاقات ثنائية محددة مع الاحتفاظ بفرديتهم، بينما يميل اليابانيون إلى الذوبان في الجماعة.» وعلى الرغم من أن كلًّا من الصيني والياباني مطالَب بالامتثال نحو الحركة السلسة في الحياة اليومية، فإن الصيني، كما يُقال، يغضب من الشروط، بينما الياباني يستمتع بها عمليًّا. وثمة اعتقاد أن اليابانيين يشاركون الألمان والهولنديين الحاجة إلى النظام في جميع مجالات حياتهم، ويشارك الصينيون سكان المتوسط نهجًا أكثر استرخاء إزاء الحياة.

وهناك من يدفع أحيانًا بأن اليابانيين يتفردون بنمط محدد للعلاقة الاجتماعية. ويُسمَّى هذا النمط آماي amae، وهو مفهوم ناقشه بإسهاب عالم التحليل النفسي الياباني تاكيو دوي. وتصف كلمة آماي علاقة تسمح لمن هو أدنى، طفلًا أو موظفًا على سبيل المثال، بالانخراط في سلوك غير ملائم — كأن يطلب لعبة باهظة الثمن، أو يطلب ترقية في وقت لا تسمح فيه سياسة الشركة بذلك — ويأتي هذا السماح تعبيرًا عن الثقة بأن العلاقة قوية ووثيقة بحيث إن الرئيس سيكون متساهلًا. إن آماي تيسر العلاقة وتعزز الثقة بين الطرفين، وتقوي الأواصر، على الرغم من أن هذه النتائج تتحقق على حساب الاستقلال الذاتي للشخص الأدنى مستوًى.

ولكن الفوارق الحقيقية بين ثقافات الشرق الآسيوي وبين الثقافات الغربية؛ حري ألا تعمينا عن واقع أن شرق آسيا والغرب مختلفان أحدهما عن الآخر، تمامًا وبشكل عام بالنسبة إلى قيم محورية وصفات نفسية-اجتماعية لها أهمية محورية عظيمة.

(٤) أواسي وإيرابي «فعالية نشطة أم تناغم؟»

أساليب الصراع والتفاوض

الجدل غير شائع في شرق آسيا الحديث مثلما كان غير شائع في الصين القديمة، والملاحظ في الحقيقة أن كل المحاجاة الخطابية التي تمثل طبيعة ثانية للغربيين شبه غائبة في شرق آسيا. ونعرف أن الأمريكيين يبدءون في التعبير عن آرائهم وتبريرها منذ فترة باكرة في مدارس الحضانة: «هذا الإنسان الآلي (الروبوت) لعبتي»، «هو يسعده اللعب به لأن …» ولكننا، على العكس من هذا، لا نجد محاجاة أو مساومة بشأن الأفكار في حياة شرق آسيا. وأذكر أن صديقًا يابانيًّا قال لي إن مفهوم «النقاش الساخن، أو الذي يفيض حيوية» لا وجود له في اليابان، ضمانًا لعدم المخاطرة بالتناغم الجماعي. وهذا الواقع هو الذي أدى — على الأرجح — إلى تقويض محاولة من جانب هذا الصديق لإقامة حفل عشاء في اليابان بالأسلوب الأمريكي. ودعا ضيوفًا يابانيين فقط أعربوا عن غرامهم بهذا، ابتداء من شراب المارتيني وحتى الشواء وكعكة التفاح. ولكن فشل المشروع فشلًا ذريعًا بسبب افتقاره إلى الآراء، وإلى الراغبين في الدفاع عنها.

وكان لافتقاد تراث للجدل دلالات درامية محددة بالنسبة إلى إدارة الحياة السياسية. وأذكر أن كوريا الجنوبية أقامت منذ عهد قريب جدًّا أول حكومة ديموقراطية لها. وقبل تشكيل هذه الحكومة كان من غير المشروع مناقشة شمال كوريا. وبدا عسيرًا على الغربيين فهم هذا بعد أن حققت كوريا الجنوبية واحدة من أهم المعجزات الاقتصادية في العالم، على مدى الأربعين عامًا الماضية، بينما كوريا الشمالية تجسيد للفشل في جميع المجالات. ولكن نظرًا إلى عدم وجود تراث للجدل والحوار؛ لم تكن لدى الكوريين ثقة بأن الأفكار الصحيحة سوف تنتصر في ساحة الجدل بين الأفكار؛ ولهذا عمدت الحكومات السابقة إلى «حماية» مواطنيها عن طريق منعهم من مناقشة الأفكار الشيوعية، أو ممارسات كوريا الشمالية.

ويقترن تراث الجدل دائمًا بأسلوب معين في فن الخطابة في القانون وفي العلم. يتألف فن الخطابة في أوراق البحوث العلمية من نظرة شاملة إلى الأفكار موضوع البحث، ووصف للنظريات الأساسية ذات الصلة، وفرض علمي محدد، وطرح لمناهج البحث وتبرير لها، وعرض للشواهد والدلائل الناتجة عن طرق البحث، ودفاع مدعوم بالحجج يبين لماذا الشواهد والدلائل تدعم الفرض العلمي المطروح، وتفنيد لأي حجج مناهضة محتملة، وسند مرجعي يدعم النظرية الأساسية، وتعقيب على المجال الأكبر الذي تشكل المقالة جزءًا منه. ويُلاحَظ بالنسبة إلى الأمريكيين أن هذا الفن الخطابي عملية يجري بناؤها خطوة بعد خطوة، ابتداء من مدارس الحضانة وحتى المعاهد الدراسية العليا. ومع تخرجهم في الجامعة نكون إزاء طبيعة ثانية. ولكن فن الخطابة بالنسبة إلى طلاب شرق آسيا هو في الغالب الأعم أمر جديد عليهم، وتعلمه يكون بطيئًا، إن لم يكن عسيرًا. وجدير بالذكر أن من المألوف أن أساتذة العلوم الأمريكيين يُبدون إعجابًا كبيرًا بالطلاب الآسيويين الجادين الدءوبين في عملهم، والممتازين بدرجة عالية، ثم يستشعرون خيبة أمل عند الاطلاع على أول ورقة بحث أساسية لهم، ليس بسبب قصورهم في اللغة الإنجليزية، بل لافتقارهم إلى امتلاك ناصية فن الخطابة الشائع في مجال البحث الخاص بالأستاذ المسئول. وتشهد خبرتي بأن من الشائع كذلك أن الأساتذة لا يدركون أن السبب هو افتقار الطلاب إلى أسلوب الخطابة الغربي واعتراضهم عليه، بل يظنون سببًا أعمق، هو افتقارهم إلى فهم واستيعاب المشروع المنوط بهم إنجازه.

والشكل الخطابي القتالي غائب أيضًا في قانون شرق آسيا؛ ذلك أن القوانين هناك لا تتألف أساسًا، كما هو في الغرب، من نزال بين خصمين، وإنما المتبع أكثر هو أن المتخاصمين يحملون قضيتهم لعرضها على وسيط هدفه ليس الإنصاف، بل خفض حدة العداوة، وذلك بالْتماس حل وسط أو طريق وسطي بين مزاعم المتخاصمين. ولا نجد هناك محاولة للوصول إلى حسم للنزاع القانوني على أساس مبدأ كلي، وإنما العكس؛ إذ إن أبناء شرق آسيا يميلون على الأرجح إلى النظر إلى العدالة في صورتها المجردة، ويرون الحس الغربي تعبيرًا عن نص مكتوب صارم جامد بغير شعور.

كذلك نجد للتفاوض خاصية مختلفة في مجتمعات السياق المرتفع في شرق آسيا عنها في الغرب، حيث مجتمعات السياق المنخفض. ويصف عالم السياسة موشا كوجي كينهايد الأسلوب الغربي إيرابي (النشط الإيجابي الفعال) بأنه مبني على أساس الاعتقاد أن «الإنسان يمكنه بحرية أن يتعامل مع بيئته ويؤثر فيها وفقًا لأغراضه. وتتضمن هذه النظرة متوالية سلوكية يحدد من خلالها المرء هدفه، ويستحدث خطة يضع تصميمها بحيث يبلغ بها هدفه، ثم يعمل بجهده على تغيير البيئة وفقًا لتلك الخطة.» وطبيعي أن شخصًا ينهج مثل هذا الأسلوب لن يركز أساسًا على العلاقات، وإنما الذي يعنيه أساسًا هو النتائج. وتتمثل الاقتراحات والقرارات غالبًا في صورة إما-أو؛ ذلك لأن الغربي يعرف ما يريد، ولديه فكرة واضحة عما هو ملائم ليأخذه أو ليعطيه، وصولًا إلى صفقة مقبولة. ويتعين أن تكون المفاوضات قصيرة وفي الصميم؛ تحاشيًا لتضييع الوقت، وصولًا إلى الهدف.

ولكن الأسلوب الياباني أواسي (المتناغم-الملائم) «يرفض فكرة أن الإنسان بإمكانه معالجة البيئة والتأثير فيها، ويفترض بدلًا من ذلك أن يوفق نفسه معها.» ولا يرون المفاوضات جهودًا «قذائفية» يجريها مرة واحدة وصولًا إلى الهدف مباشرة ولا سبيل إلى العودة إليها ثانية أبدًا، كما يفترضون أن العلاقات بعيدة المدى طويلة الأمد؛ لذلك يتجنبون الاختيارات الحاسمة على أساس إما-أو. ويسود اعتقاد بأن الحكمة القصيرة الأمد يمكن أن تكون حمقًا على الأمد الطويل. والملاحظ أن المفاوض الياباني يمكن أن يكون حصاده من المفاوضات لأول صفقة أكثر من حصاد الغربي الذي يكون في وضع مماثل له، ويتوقع من المفاوضات أن ترسي قاعدة صلبة للثقة والتعاون في المستقبل. ويرى اليابانيون أن المسائل معقدة وذاتية ومتداخلة، على عكس البساطة والموضوعية والقابلية للتجزئة، التي يراها ويجسدها الأمريكي في أسلوبه الموسوم بأنه إيرابي.

وهكذا يبين واضحًا أن هناك فوارق نفس-اجتماعية شديدة العمق بين أبناء شرق آسيا كمجموعة، وبين أبناء الثقافة الأوروبية في جملتهم. يعيش أبناء شرق آسيا في عالم من التكافل أو الاعتمادية المتبادلة، حيث الذات جزء من كلٍّ أكبر، ويعيش الغربيون في عالم الذات فيه عنصر فاعل حر وحدي. ويعلي أبناء شرق آسيا من قيمة النجاح والإنجاز عن رضًا ورحابة صدر؛ لأنهما يعودان بالنفع على الجماعات التي ينتمون إليها. ويعلي الغربيون من قيمة النجاح والإنجاز؛ لأنهما وسام دالٌّ على جدارة شخصية. ويعلي أبناء شرق آسيا من قيمة التلاؤم مع المجموع والالتزام بالنقد الذاتي، بغية التأكد من أنهم حققوا ذلك الهدف. بينما يعلي الغربيون من قيمة الفردية، ويكابدون لكي يظهروا في صورة جيدة على هذا الأساس. ويحرص أبناء شرق آسيا على التوافق مع مشاعر الآخرين ومشاركتهم هذه المشاعر، ويكابدون من أجل التناغم فيما بين الناس. ولكن الغربيين معنيون أكثر بمعرفة أنفسهم هم، ومستعدون للتضحية بالتناغم وفاء بالإنصاف. ويرضى أبناء شرق آسيا بالتراتبية الهرمية والتحكم الجماعي، ولكن الغربيين أميل إلى تفضيل المساواة، ويتطلعون إلى الفعالية الشخصية. ويتجنب أبناء شرق آسيا الجدل والخلاف في الرأي، بينما يؤمن الغربيون بالمحاجات الخطابية في جميع المجالات، ابتداء من القانون وصولًا إلى السياسة، وحتى العلم.

وطبيعي أن لا شيء من هذه التعميمات ينطبق بالكامل على جميع أبناء أي من الفريقين؛ ذلك أن كل مجتمع يضم أفرادًا قريبين جدًّا في الشبه لأفراد في مجتمع آخر مختلف تمامًا عنهم أكثر مما يشبهون أبناء مجتمعهم. كذلك فإن كل فرد في مجتمع بذاته يتراوح وضعه ما بين قطبَي الاستقلال والاعتمادية المتبادلة على مدى مسيرة حياته، بل على مدى مسيرة يوم واحد في الحقيقة. ولكن التباينات بين المجتمعات وفي داخلها، وكذا بين الأفراد، يجب ألا تحجب عنا واقعًا حقيقيًّا، وهو وجود فوارق حقيقية للغاية، وموضوعية من حيث المتوسط العام بين أبناء شرق آسيا وأبناء الثقافة الأوروبية.

ولنا أن نقول، عن ثقة قدر الاستطاعة، إن هذه الفوارق الاجتماعية تكاد تكون هي عينها الفوارق التي مايزت بين الصين والإغريق قديمًا. وإذا كانت الظروف والملابسات الاجتماعية هي التي أنتجت في الماضي الفوارق المعرفية بين الصين والإغريق قديمًا، فإن لنا أن نتوقع استمرار الفوارق المعرفية بين مجتمعات شرق آسيا وبين الغربيين في عصرنا الحديث، والتي تُبنى في توافق على مظاهر الاختلاف بين الصين والإغريق قديمًا.

١  الجماعة الداخلية in-group جماعة يسودها مستوًى عالٍ من روح الجماعة، وشعور قوي بالاعتداد الذاتي لهذا الانتماء، ويحدد الفرد انتماءه الاجتماعي على أساس هذه العلاقة، ويؤثرها على غيرها. أما الجماعة الخارجية فهي الجماعة التي لا ينتمي إليها المرء، ولا يربطه بها التزام ما. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤