الفصل الخامس

تقنية التواصل الرمزي

الموسيقى والفن واللغة والهُوية الإثنية

لم يأتِ قط مجتمع صيد وجمع ثمار … من المجتمعات التي أنشأها الهومو سيبيانز … إلا وكان … يعتبر نفسه يعيش في عالَمٍ رمزي للغاية.

برايان فِيجَن، «الكرومانيون»

استخدام الصور والتصميمات والكلمات والموسيقى في نقل الخواطر والأفكار هو بالتأكيد أحد أكثر سلوكيات البشر تفردًا. ورغم أن العديد من أنواع الحيوانات تستطيع التواصل بمجموعة متوارَثة من الأصوات الملفوظة ولغة الجسد، لا يملك سوى البشر وحدهم حرية ابتكار آلاف لا تُحصى من الرموز المرئية والصوتية من أجل التواصل. والبشر وحدهم لديهم القدرة على نقل هذه الرموز المبتكَرة إلى نسلهم — وإلى أفرادٍ آخرين في المجموعة — بالكامل من خلال عمليات التدريس والتعليم والمُحاكاة.

على النقيض من بعض التقنيات الأخرى القديمة للغاية التي انفرد بها أشباه البشر، والتي استكشفناها في الفصول السابقة، يكاد يكون من المستحيل تحديد العمر الحقيقي لاستخدام الرموز الصوتية والمرئية لنقل الخواطر والأفكار. ويرجع ذلك بصفةٍ رئيسية إلى أن كل الأدلة التي تُشير إلى استخدام اللغة — مثل الرسومات الرمزية — أصلها حديث نسبيًّا، على عكس التطور الخاص بالحركة على قدمين وفقدان الأنياب؛ فببساطة لا يوجد دليل على أن أشباه البشر الأوائل تواصَلوا بما قد نعتبره لغةً منطوقة حقيقية، ولا يوجد في أفضل الأحوال سوى أدلة هزيلة على أن البشر الناشئين كانوا قادرين على هذا السلوك البشري الفريد.

رغم أنه يبدو من المنطقي أن نفترض أن الأشكال الحديثة من لغة البشر لم تظهر على حين غِرة من العدم في صورتها التامة منذ ٥٠ ألف سنة، فإن الفكرة التي مُفادها استخدام أشباه البشر الأوائل أو البشر الناشئين لأشكالٍ أكثر بدائية من اللغة هي محض تكهنات في هذه المرحلة؛ فلم يبدأ ظهور أدلة كثيرة على التواصل بالرموز — في شكل رسومات في مواقع كهوف العصر الحجري القديم — حتى ظهور الإنسان الحديث تشريحيًّا في سجل الحفريات، لكن هل من الدقة أن نقول إن التواصل بالرموز يُعَد تقنية من التقنيات؟

أدوات للتفكير

نستخدم كلمة «تقنية» عامةً في الخطاب الحديث لوصف آلة معقَّدة مثل سفينة الفضاء والأجهزة الإلكترونية، وكذلك العمليات المعقَّدة مثل شبكات الكمبيوتر وأنظمة التشغيل الآلي، لكنني في هذا الكتاب استخدمت كلمة «تقنية» بمعناها الأعم والأشمل الذي يعني: «التعديل المتعمد لأي شيء أو مادة طبيعية بعناية وتأنٍّ لتحقيق هدف محدَّد أو خدمة غرض بعينه.» بهذا المعنى الأوسع، حين يقطع أحد قردة الشمبانزي غصنًا من أجل استخدامه في التقاط النمل الأبيض من عش، فهو بذلك يستخدم تقنية، تمامًا مثلما كان أشباه البشر الأوائل يستخدمون تقنية حين ينزعون فرعًا من شجرة ويسنُّونه ليصنعوا منه رمحًا، لكن حتى في هذه الأمثلة يشير مفهوم «التقنية» حصرًا إلى صناعة أشياء مادية واستخدامها.

غير أننا إذا وصفنا التقنية بأنها «تعديل أي مادة طبيعية بعناية وتأنٍّ لتحقيق هدف محدَّد»، فلا بد أن نُضيف كأمثلة على التقنيات استخدام الأصباغ لرسم تصميمات وصور على جدران الكهوف، واستخدام أدوات حجرية لنحت تصاميم على أسطح العظام، خاصةً حين تكون هذه السلوكيات موجودة كتقاليد ثقافية يتشاركها أفراد جماعة اجتماعية. ورغم أن تلك التقنيات ربما لا تُستخدم من أجل أي غرض مادي — مثل صيد الحيوانات أو صناعة الملابس أو بناء المساكن — فهي تُستخدم بالتأكيد بعناية وتأنٍّ لتحقيق غرض محدَّد؛ ألا وهو نقل الخواطر والأفكار البشرية.

إذا وسَّعنا نطاق المعنى المقصود ﺑ «التقنية» أكثر قليلًا، فسيُمكننا أن ننظر إلى التعديل المتعمد والواعي للصوت البشري باعتباره أحد أشكال التقنيات؛ لأن الصوت البشري ظاهرةٌ طبيعية عدَّلناها عن عمد لإصدار أصوات محدَّدة تُمثل الأفكار البشرية رمزيًّا. الشيء نفسه يمكن أن يُقال عن تطور أشكال الموسيقى والرقص والغناء التي ربما كان لها أشكال بدائية، في البداية، بين أشباه البشر الأوائل والبشر الناشئين.

باختصار، كل أشكال استخدام الرموز المُكتسَب منها والمنقول ثقافيًّا هي في واقع الأمر أدوات للتفكير، ابتُكرت بعناية وتأنٍّ واستُخدمت عمدًا بغرض نقل المعرفة المشتركة لدى مجتمع بشري محدَّد لأيٍّ من أفراده الأحياء. هذا صحيح، سواءٌ كانت الأدوات تُستخدم لابتكار رموز مرئية — مثل الرسومات أو التصاميم أو الأيقونات أو الكلمات المكتوبة — أو تُستخدم في ابتكار رموز مسموعة، مثل الكلمات المنطوقة أو الأغنيات أو الموسيقى. باختصار، كانت تقنية استخدام الرموز هي التي حرَّرت البشر من قيود التواصل المُبرمَج مُسبقًا.

ازدهار التواصل الرمزي

لا بد أن نُشير إلى أن حيوانات بدائية مثل الحشرات الاجتماعية طوَّرت طرقًا بارعة لتبادل المعلومات بعضها مع بعض؛ فالنمل يُبلغ عن وجود الطعام والخطر بإطلاق هرمونات من أجساده فيكتشفها نملٌ آخر في الحال. كذلك يُبلغ النحل عن موقع الزهور المُتفتحة في بيئته بالاستغراق في رقصات اهتزازية معيَّنة على جدران خلاياه ليصف هذه المصادر للرحيق واللقاح واتجاهها والمسافة بالتحديد التي تفصلها عن الخلية. وكل أنواع الحيوانات — من الحشرات حتى القردة — تُصدر طائفةً هائلة من الأصوات لإبلاغ أفراد آخرين من نوعهم بالمعلومات.

تستخدم أغلب الحيوانات ذوات الدم الحار رئتَيها وجهازها الصوتي لإنتاج أصوات معيَّنة تنقل رسائل محدَّدة، مثل التحذير والإعلان عن منطقتها والتودُّد والخطر والمحنة. ويَشيع استخدام الأصوات الملفوظة في إبلاغ رسائل محدَّدة بصفةٍ خاصة بين الأنواع التي تعيش على الأشجار مثل الطيور والرئيسيات، فتستطيع أنواعٌ عديدة من الطيور — منها الببغاوات والطيور المُحاكية والغربان والغدفان — إصدار مجموعة كبيرة من الأصوات المختلفة، كلٌّ منها يهدف لتبليغ رسالة من نوع محدَّد. ينطبق الشيء نفسه على أغلب أنواع القردة والسعادين، لكن أكثر هذه الرسائل الصوتية تأتي بالفطرة، وتشمل القليل من التعليم أو من دونه.

رغم أنه لا يوجد دليل على أن أشباه البشر الأوائل استخدموا أي شكل من التواصل بالرموز، فإن ثَمة بعض الأدلة التي تُشير إلى أن البشر الناشئين كانوا قد بدءوا يُجرِّبون الرسم والتصميم فعلًا؛ ففي اثنين على الأقل من مواقع الهومو إريكتوس عمرهما نصف مليون عام على الأقل، عثر اختصاصيو علم الحفريات على بعض التصاميم البسيطة على عظام وأصداف يُمكن تفسيرها بأنها استخدام للرموز. وسوف نتناول تلك الأدلة بالفحص لاحقًا في هذا الفصل.

حتى النياندرتال، الذين كانوا بشرًا حديثين بأدمغةٍ بشرية مُكتملة الحجم، تركوا عددًا صغيرًا من القِطع الأثرية التي توحي بأنهم كانوا قد بدءوا يفهمون الأشياء ذات المغزى الرمزي ويُجربونها. تتألَّف الأدلة على السلوك الرمزي بين بشر النياندرتال في أغلبها من أصداف ذات ثقوب نُقبَت فيها ولُوِّنت بأصباغٍ طبيعية، غالبًا لارتدائها كقلادات.

لكن حين ظهر الإنسان الحديث تشريحيًّا في أوروبا قبل نحو فترة تتراوح بين ٥٠ ألف و٤٠ ألف عام مضت، صارت حياة بشر ما قبل التاريخ ثرية بغتةً في استخدام الرموز؛ فالتماثيل البشرية المصغَّرة كانت تُنحَت من الأحجار أو العاج وتُشكَّل من الطمي. أما الأغراض التي كانت تُصنع من أجل الزينة الشخصية فكانت تُصنع من الأصداف وأسنان الحيوانات التي كانت تُثقَب، وتُلوَّن بأصباغ، وتُرتدى كأنها حبات في أساور وقلائد. وبالنسبة إلى الأغراض النفعية مثل أداة رمي الرماح1 فكانت تُزيَّن بزخارف دقيقة وتُنحت على شكل الحيوانات. وكانت جدران العديد من الكهوف في أوروبا مزيَّنة بكثافة؛ إذ انتشرت فيها طبعات الأيدي والمئات من رسومات الحيوانات المُحاكية للواقع لدرجةٍ مُذهلة، وآلاف الزخارف المنحوتة أو المرسومة في شكل رموز أو أيقونات، تُسمَّى نقوشًا حجرية.2

كذلك يُعطي الانتشار المفاجئ لاستخدام الرموز دليلًا على أن أشباه البشر كانوا قد بدءوا لأول مرة على الإطلاق يُطوِّرون ثقافات وإثنيات مميزة؛ فالتماثيل المصغَّرة والزخارف والنقوش الحجرية ورسومات الكهوف التي تعود إلى هذه الحقبة تَميل للتنوُّع الملحوظ في الأسلوب والشكل من منطقة لأخرى ومن فترةٍ زمنية لأخرى. وهذه التنوعات جعلت من الممكن التعرف على ثقافات معيَّنة من حيث الزمان والمكان؛ لأول مرة يصير من المُمكن تحديد هويات قبلية وإثنية مميزة في أطلال الجماعات البشرية التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ.

وأخيرًا، كان هذا، لا شك، الزمن الذي اكتمل فيه تطور اللغة والموسيقى، أو بعبارة أخرى الاستخدام الرمزي للأصوات؛ فتُعطي بقايا المزامير التي صُنعت من العظام والعاج في عصور ما قبل التاريخ دليلًا دامغًا على أن الإنسان الحديث تشريحيًّا كان يعزف الموسيقى — وربما يُغني ويرقص أيضًا — منذ عشرات آلاف السنين. أما اللغة، لكونها غير ملموسة، فإنها لا تترك دليلًا ماديًّا ليتبيَّنه عالم عصور ما قبل التاريخ، ولا سبيل لمعرفة متى بدأ أشباه البشر يتحدَّثون على وجه التحديد. يعتقد بعض العلماء أنه كان ثَمة أشكالٌ مبكرة من اللغة تحدَّث بها البشر الناشئون، بل وربما حتى أشباه البشر الأوائل، لكن هذا الأمر لم يُحسم إلى الآن.

من الأهمية بمكانٍ الإشارةُ إلى أنه رغم أن القدرة على تعلُّم الرموز وابتكارها تكمن في الحمض النووي للإنسان الحديث تشريحيًّا، فإن شكل الرموز التي ابتكرها الإنسان الحديث ومعناها مسألةٌ ثقافية تمامًا، وليس لها أساس في علم الأحياء؛ فكل المعاني التي تتضمَّنها الرسائل الرمزية، سواءً كانت بصرية أو سمعية، لا بد أن تُعلَّم في الطفولة، وتُتذكر في مرحلة البلوغ، وتتوارثها الأجيال بصفتها المعرفة الثقافية التي تتقاسمها الفئة الاجتماعية. لو كان من الممكن سماع ضحك بشر ما قبل التاريخ لَعرفنا أنهم سعداء، ولو كان مُمكنًا سماعهم وهم يبكون لَعرفنا أنهم حزناء، لكن لو تسنَّى لنا سماعهم يتحدثون لما فهمنا ما الذي يقولونه، تمامًا كما ننظر إلى النقوش الحجرية التي نحتوها ورسموها على جدران كهوفهم، ولا نُدرك مطلقًا ماذا كان يُقصد بهذه النقوش المرسومة بعناية.

قرب نهاية هذا الفصل، سنستكشف العملية التي انقسمت بها البشرية كلها إلى عدة مجموعات إثنية مختلفة اختلافًا واضحًا؛ تلك العملية التي بدأت حين تبنَّى الإنسان الحديث تشريحيًّا التواصل الرمزي ليصبح جزءًا لا يتجزأ من حياته اليومية، لكن بيت القصيد هنا هو أنه لما كانت هذه الأساليب المعيشية التي تُمليها الثقافة تُبتكَر ولا تُورث، فقد كان من المُمكن إعادة ابتكارها وتعديلها وتغييرها مع تبدُّل مناخ عصور ما قبل التاريخ وبيئتها — سريعًا جدًّا أحيانًا — مع قدوم العصور الجليدية وانتهائها، وتغير مناخ الأرض مرارًا وتكرارًا.

خلال الفترة الطويلة لعصر ما قبل التاريخ حين كان تكيُّف أشباه البشر مع بيئتهم قائمًا بدرجةٍ كبيرة على نزعات موروثة جينيًّا، كانت أساليب معيشة أشباه البشر تتغيَّر في الغالب من خلال عملية التطور البيولوجي الشديدة البطء. يبدو أن هذا كان الحال طوال الجزء الأكبر من تاريخ تطور أشباه البشر، من أول أيام جنس الأوسترالوبيثيكوس منذ ملايين السنين قُبَيل ظهور الإنسان الحديث تشريحيًّا في أوروبا منذ أقل من ٥٠ ألف عام.

لكن جاء اختراع التواصل الرمزي فأطلق سراح البشرية ليجعل تكيُّفها مع البيئة قائمًا في المقام الأول على السلوكيات التي يكتسبونها من الثقافة والتراث. وحين بدأ الإنسان الحديث العيش وفقًا لقواعد الثقافة بالدرجة الأولى، أصبح من الممكن تغيير أساليب معيشية كاملة خلال جيل أو جيلين عن طريق عملية التطور الثقافي البالغة السرعة، وهي العملية التي سنبحثها بتفصيلٍ أكثر لاحقًا في هذا الفصل.

أعطت أشكال التكيف الثقافي الأكثر مرونة بكثير لبشر الكرومانيون ومُعاصريهم ميزةً حاسمة ليس فقط على بشر النياندرتال، ولكن كذلك على بعض البشر الناشئين الذين نجحوا في البقاء على قيد الحياة حتى أزمنة حديثة نسبيًّا. يشمل هؤلاء شعبًا معزولًا من الهومو إريكتوس كان لا يزال يعيش في جاوة منذ ٣٠ ألف عام مضى،3 وكذلك الهومو فلوريسنسز، وهو إنسان قزم يُشبه في بِنيته وحجم مخه أشباه البشر الأوائل على نحوٍ ملحوظ، وكان يعيش في جزيرة فلوريس في إندونيسيا في عهدٍ حديث منذ ١٢ ألف عام مضت.4 قد تكون سرعة التطور الثقافي ومرونته هي سبب ازدهار الإنسان الحديث تشريحيًّا خلال العصر الجليدي الأخير، في حين انقرض سريعًا النياندرتال وكل أشباه البشر الآخرين الذين كانوا على قيد الحياة، مع أغلب حيوانات القطب الشمالي الضخمة.5

اكتشاف فنون العصر الحجري القديم

تِلال كانتابريا على الساحل الشمالي الشرقي لإسبانيا زاخرةٌ بالأحياء البرية ومزدهرة الزرع من غزارة الأمطار. كانتابريا في عصور ما قبل التاريخ بجداول مائها العذب، وقربها من المحيط، ومُروجها المرتفعة، وغاباتها الجبلية، وكهوفها وملاذاتها الصخرية المتعددة، كانت وطنًا لعددٍ كبير من البشر الحديثين تشريحيًّا، الذين خلَّفوا وراءهم إحدى أثرى مجموعات مواقع العصر الحجري القديم الأثرية التي عُثر عليها على الإطلاق.

يشمل العصر الحجري القديم ثلاثة عصور طويلة في التاريخ التطوري لأشباه البشر. أقدمها هو العصر الحجري القديم السُّفلي، الذي بدأ قبل ثلاثة ملايين عام تقريبًا مع أشباه البشر الأوائل واستمر طوال زمن البشر الناشئين. يَليه في القِدم العصر الحجري القديم الأوسط، الذي بدأ تقريبًا قبل ٢٥٠ ألف عام ويتزامن مع عصر النياندرتال. الأحدث عهدًا هو العصر الحجري القديم العُلوي، الذي بدأ قبل نحو ٥٠ ألف عام وهو مرتبط ببشر الكرومانيون وبشرٍ آخرين حديثين تشريحيًّا. لقد استخدمتُ مصطلح «العصر الحجري القديم العلوي» كثيرًا في هذا الفصل للإشارة إلى الفترة التي عاش فيها الإنسان الحديث تشريحيًّا في أوروبا في فترةٍ تتراوح ما بين ٥٠ ألف سنة حتى قبل ١١ ألف سنة مضت؛ لأن هذا يساعد على تمييزهم عن مجتمعات العصر الحجري الحديث المنتِجة للغذاء التي سيأتي وصفها في الفصل التالي.6
في الفترة بين قبل ١٧ ألف عام و١١ ألف عام، كان يسكن كانتابريا شعب أوروبا المجدليني،7 الذين صنعوا شفرات حجرية متقَنة للغاية شُكِّلت بحيث تُركَّب لها مقابض مثل الأدوات اليدوية وأنصال المقذوفات. بالإضافة إلى العديد من الأمثلة الرائعة لأدوات وأسلحة من الأحجار والعظام والقرون، ترك شعب كانتابريا المجدليني أيضًا أدلةً وفيرة على أنهم كانوا قادرين على التعبير عن خواطرهم وأفكارهم من خلال رمزية التعبير الفني.

حين بدأ اختصاصيو علم الحفريات في أواخر القرن التاسع عشر استكشاف المواقع التي عاش فيها الشعب المجدليني في فرنسا وإسبانيا، اكتشفوا نوعًا من بقايا ما قبل التاريخ التي كانت، في ذلك الوقت، مجهولة تمامًا في العلم الحديث: مجموعة ثرية من الرسومات واللوحات والرموز والأيقونات التي تركها هذا الشعب المميز على جدران الكهوف التي سكنوها وأسقفها.

ذات يوم من عام ١٨٦٨م كان الصياد الإسباني موديستو بيريس وكلبه يُطاردان ثعلبًا في مكانٍ يُسمى ألتاميرا في تلال كانتابريا، حين اختفى كلبه فجأة عن الأنظار. اكتشف موديستو في النهاية أن الكلب قد سقط في صدعٍ صغير حجبتْه الصخور والزرع، وهبط بداخل كهف كبير لم يكن أحدٌ يعلم بوجوده. بعد إنقاذ الكلب، عاد موديستو لمنزله وأبلغ مالك الأرض النبيل الإسباني، مارسيلينو سانز دي ساوتولا، بما اكتشفه، لكن التلال قرب ألتاميرا كانت مليئة بالكهوف، ولم يأبَه دي ساوتولا كثيرًا بهذا الاكتشاف في البداية.

بيد أنه مع مرور عدة سنوات صار مارسيلينو دي ساوتولا مهتمًّا بعلم الحفريات الجديد وبالعدد المُتزايد لبقايا ما قبل التاريخ التي كانت تُكتشف في الكهوف الأوروبية، وفي عام ١٨٧٥م بدأ التنقيب في الرواسب التي تراكمت بالقرب من مدخل الكهف الواقع في ألتاميرا. وسريعًا ما عثر دي ساوتولا على الكثير من الأدلة على سُكنى بشر من الثقافة المجدلينية التي ازدهرت في أوروبا في الفترة قبل ١٧ ألف عام حتى ١١ ألف عام مضت، وبدأ يرتاد كهف ألتاميرا أكثر، حتى صار من عادته إحضار ابنته ذات الخمسة أعوام ماريا معه ليأنس بصحبتها. ولما كانت ماريا فتاةً فضولية فقد كانت تطلب من أبيها مرارًا أن يسمح لها باستكشاف باطن الكهف المُظلِم، لكن دي ساوتولا كان يرفض دائمًا، مُصرًّا أن سكان الكهف سكنوا بالقرب من مدخله فقط، وأنه لن يُعثَر على شيء يُثير الاهتمام داخل الكهف (انظر شكل ٥-١).
fig16
شكل ٥-١: مارسيلينو سانز دي ساوتولا وابنته ماريا، اللذان اكتشفا معًا إحدى أكبر وأروع مجموعات فن عصور ما قبل التاريخ، في كهف ألتاميرا، في إسبانيا. (صورة ماريا سانز دي ساوتولا من متحف ما قبل التاريخ في سانتاندر.)
وفي عام ١٨٧٨م سافر دي ساوتولا إلى فرنسا لحضور معرض باريس العالمي، وبينما هو في باريس تمكَّن من فحص بعض بقايا إنسان الكرومانيون التي استخرجها لويس لارتيت من الكهف الواقع في ليز إزيه. في الصيف التالي، بعد العودة إلى كهف ألتاميرا، أخذت ماريا مرةً أخرى تلتمس من أبيها السماح باستكشاف الكهف من الداخل. رضَخ دي ساوتولا أخيرًا وأعطاها شمعة، وشدَّد عليها باتخاذ حذرها حيث سارت. غابت ماريا في الظلام، وبعد دقائق قليلة، تردَّد فجأةً صوت ماريا من باطن الكهف وهي تصرخ قائلةً: «ثور! ثور!» وحين هرع دي ساوتولا داخلًا في الظلام وجد ماريا واقفة في معرضٍ كبير تتطلَّع بنظرها إلى السقف. وهناك اندهش لرؤية صور نابضة بالحياة لبيسون منقرض، مرسومًا بواقعيةٍ عجيبة على سقف الكهف (انظر شكل ٥-٢).
fig17
شكل ٥-٢: رسم لبيسون منقرض وجدته ماريا دي ساوتولا في كهف ألتاميرا. هذه الرسومات التي أنكرها في البداية علماء الحفريات، صارت الآن من أهم شواهد فن ما قبل التاريخ. (المصدر: ويكيميديا كومونز.)

تواصَل دي ساوتولا مع صديقه خوان فيلانوفا إي بييرا، المتخصِّص في الجيولوجيا وعلم الحفريات في جامعة مدريد، وبعد فترة قصيرة سافر فيلانوفا إلى ألتاميرا ليرى الرسومات بنفسه. كان فيلانوفا مُقتنعًا بأن اللوحات بالتأكيد من إبداع ساكني كهوف العصر الحجري القديم؛ لانبهاره بثراء فنها وتميزه. هكذا أعدَّ الرجلان تقريرًا علميًّا بهذا الاكتشاف الاستثنائي، ونشرا في عام ١٨٨٠م النتائج في عدة صحف إسبانية. وسرعان ما صار فن العصر الحجري القديم البارع الذي وصفاه مثار حديث أوروبا، بعد أن أشاد به الجمهور الإسباني. وفي وقتٍ لاحق من ذلك العام، في مؤتمر عن عصور ما قبل التاريخ عُقِد في لشبونة، في البرتغال، عرض البروفيسور فيلانوفا رسميًّا وصفه لفن ألتاميرا على اختصاصيي علم الحفريات المجتمعين من جميع أنحاء أوروبا.

إلا أنه مع خاتمة العرض التقديمي لفيلانوفا غشِيَ القاعةَ صمتٌ لا يُبشر بخير؛ فلم يكن أيٌّ من اختصاصيي علم الحفريات الموجودين في مؤتمر عصور ما قبل التاريخ مستعدًّا لتصديق أن بشر عصور ما قبل التاريخ الذين عاشوا في الكهوف، والذين كانوا يعتبرونهم همجًا وغلاظًا وبدائيين، كان باستطاعتهم تنفيذ أعمال فنية بهذه المقدرة. وفي الحال شكَّكوا في أصالة رسومات ألتاميرا. وهكذا استهزأت الكوادر العلمية، بزعامة اختصاصي علم الإنسان الفرنسي، جابرييل دي مورتييه، باستنتاجات فيلانوفا ودي ساوتولا، وأدانت منشوراتهما باعتبارها «أعمال تلفيق وخبل».

في ذلك الوقت، كان من القناعات السائدة بين مفكِّري أوروبا العصر الفيكتوري أنه من غير الممكن أن تستطيع مجموعة من «بدائيين» من عصور ما قبل التاريخ إنتاج فن بالواقعية والتعقيد والمهارة التقنية التي تميَّزت بها رسومات كهف ألتاميرا. هكذا فإن اختصاصيي علم الحفريات في مؤتمر عصور ما قبل التاريخ، رفضوا رفضًا قاطعًا فكرة أن تكون رسومات ألتاميرا من عصور ما قبل التاريخ، وانتهوا إلى أنها لا بد أن تكون من إبداع فنَّانين مُعاصرين، حتى إن بعض المشاركين في المؤتمر افترضوا أن «اكتشاف» دي ساوتولا كان تزويرًا متعمَّدًا نفَّذه فنانٌ إسباني معاصر بناءً على أوامر دي ساوتولا.

هكذا قُهر دي ساوتولا، وعاد إلى إقطاعيته، وقد صار مادةً للشفقة والسخرية، وعانى من الاكتئاب، وتدهورت صحته حتى وافته المنية بعد ثماني سنوات. أما مدخل كهف ألتاميرا فقد أُغلق، ولم تسمح ماريا دي ساوتولا لأي شخص بدخوله لسنوات.

لكن في السنوات اللاحقة، اكتُشفت أمثلة من فنون ما قبل التاريخ تعود لنفس فترات العصر الحجري القديم في مواقع أخرى عدة من عصور ما قبل التاريخ في فرنسا وإسبانيا. وتضمَّن الكثير من فن ما قبل التاريخ هذا رسومات في كهوف أُبدعت بمهارة وحِرفية تُضاهي تلك التي في ألتاميرا.8 وأخيرًا في عام ١٩٠٢م قرَّر عالم الآثار الفرنسي، إميل كارتياك، الذي كان من أكثر من جاهروا بالتشكيك في دي ساوتولا في مؤتمر لشبونة أن يُسافر إلى إسبانيا مع اختصاصي علم الحفريات الفرنسي، الأب بِري، ليرى بنفسه الرسومات التي في ألتاميرا.

حين وصل العالمان إلى ألتاميرا، أقنعا ماريا دي ساوتولا بأن تسمح لهما بدخول الكهف وفحص الرسومات. مذهولًا بما رآه، تراجَع كارتياك عن موقفه في الحال، ونشر اعتذارًا رسميًّا في الصحيفة العلمية الفرنسية «لانثروبولوجي»، لكن لم يعِش أيٌّ من دي ساوتولا أو البروفيسور فيلانوفا، اللذين ماتا قبل ذلك بتسع سنوات، حتى يريا تبرئة مزاعمهما وردَّ شرفهما المهني، إلا أن كهف ألتاميرا صار بمثابة كنيسة البابا في فن العصر الحجري القديم، ويُعتبر الآن واحدًا من أكبر وأهم مجموعات فن ما قبل التاريخ التي عُثر عليها على الإطلاق.

عُثر منذ ذلك الوقت على كنوز لفنٍّ شبيه في عدة كهوف أخرى في أنحاء العالم، في شرق أوروبا والهند وجنوب شرق آسيا وأفريقيا، وكذلك في الأمريكيتين الشمالية والجنوبية. وقد وثَّق علماء آثار ما قبل التاريخ في فرنسا وإسبانيا وحدهما أكثر من ثلاثمائة كهف تحتوي على أعمال من فنون ما قبل التاريخ، أغلبها كان يسكنه الشعب المجدليني في الفترة بين ما قبل ١٨ ألف عام و١١ ألف عام.

عُثر على أشهر هذه المجموعات من فنون ما قبل التاريخ في كهف نيو (الذي استقصى بشأنه إميل كارتياك نفسه عام ١٩٠٧م)، وكهف بيش ميرل (الذي اكتشفه صِبية مُراهقون بالمصادفة عام ١٩٢٢م)، وكهف لاسكو (أيضًا اكتشفه صِبية مُراهقون بالمصادفة عام ١٩٤٠م). أما أقدم الأمثلة على فن عصور ما قبل التاريخ التي عُثر عليها حتى الآن فهي موجودة في كهف شوفيه، الذي اكتشفه علماء اكتشاف الكهوف في فرنسا عام ١٩٩٤م. يحتوي كهف شوفيه على رسوماتٍ عدة نابضة بالحياة لحيوانات صيد وضوارٍ، ويعود تاريخه إلى ثلاثين ألف عام مضت، قبل أول ظهور للثقافة المجدلينية بعشرة آلاف عام على الأقل.

ورغم أن الأصول الحقيقية لفن العصر الحجري القديم وقِدمه الشديد قد تأكَّدت بما لا يدع مجالًا للشك، فإنه لا يزال هناك سؤالان مطروحان.

أولًا: لماذا رسم صيَّادو العصر الحجري القديم هذه المناظر في مناطق مُوغلةً داخل هذه الكهوف — في بعض الحالات بعيدًا عن مداخلها بمئات الأقدام — في أماكن كان يصعب الوصول إليها ويستغرق بلوغها وقتًا، ولا يستطيع ضوء النهار التسلُّل إليها، وحيث كان الضوء الوحيد المُتاح لفنان ما قبل التاريخ يأتي من ألسنة اللهيب المرتعشة للشعلات؟

ثانيًا: لماذا يُمثل العديد من هذه الرسومات أنواعًا حيوانية — مثل الماموث ووحيد القرن وثور البيسون — لم تكن فقط نادرة نسبيًّا، وإنما من الخطر صيدها كذلك؟ ولماذا كانوا نادرًا ما يرسمون صورًا للغزلان والأيائل وحيوانات الصيد الأصغر حجمًا التي كانت تُشكِّل القسم الأكبر من الحيوانات التي كانت تصطادها هذه الجماعات وكانت تُمثل عماد غذائهم؟

الإجابة الأكثر شيوعًا على السؤال الأول هي أن فن العصر الحجري القديم كان مخفيًّا في أماكن عميقة داخل الكهوف لأنه كان يقصد به شكلًا من السحر، لضمان النجاح في الصيد؛ فربما رُسمت الصور على سبيل إقامة طقوس سرية جدًّا لدرجة أنه لا يمكن أداؤها إلا في أكثر الأماكن التي عرفتها شعوب هذه العصور تعذرًا في الوصول إليها، بعيدًا عن العيون والآذان المتطفِّلة للدخلاء. في الواقع ما زال اختصاصيو علم الإنسان الذين درسوا ثقافات شعوب الصيد وجمع الثمار يجدون باستمرارٍ أن أهم وأقدس طقوس هذه الشعوب تؤدى دائمًا في سريةٍ بالغة. وطقس تجديد السهم لدى شعب الشايان، الذي سيأتي وصفه لاحقًا في هذا الفصل، إنما هو واحد من آلاف الأمثلة على هذه الأعراف الإنسانية العالمية.

السؤال الثاني أكثر استعصاءً على الإجابة، لكن لدينا دليلًا مهمًّا في ملاحظةٍ أدلى بها اختصاصي علم الإنسان الرائد، برونيسلاف مالينوفسكي، الذي عاش في جنوب المُحيط الهادئ مع سكان جزر تروبرياند البحارة من عام ١٩١٤م حتى ١٩١٨م، حيث لاحظ مالينوفسكي أنهم كانوا دائمًا ما يؤدون طقوسًا سحرية معيَّنة كجزء من الأعمال المهمة التي توقَّف عليها معاشهم، مثل زراعة الحدائق، وصنع قوارب من أجذاع الأشجار المجوَّفة، والصيد في المحيط المفتوح. وقد أشار إلى أن كل هذه الأنشطة تشمل عنصرًا مهمًّا من عدم اليقين؛ إذ إن الحدائق قد تضعف، والقوارب قد تتحطَّم، وحملات الصيد في أعالي البحار لم تكن خطيرة فحسب، وإنما كانت كثيرًا ما تنتهي بعودة الحملة خالية الوفاض.

لكن حين كان سكان تروبرياند يصطادون في المياه الهادئة لبحيرات جزرهم، كانوا يستخدمون سمًّا محليًّا لم يُخفِق قط في أن يأتي بنتيجة متوقَّعة تمامًا؛ صيد وفير. ومما له مَغزاه أنهم لم يكونوا يُمارسون أي سحر قبل القيام بحملات صيد في البحيرات. هكذا يكون من المرجَّح أن شعوب العصر الحجري العلوي لم يروا ضرورة في إقامة طقوس سحرية للحيوانات التي كانت متوفرة وسهلة الصيد، في حين كان صيد الأنواع النادرة والخطيرة من الحيوانات عملًا غير مضمون، ينطوي على مخاطر ومكافآت جمَّة، حيث بدا أداء سحر طقسي أمرًا لا مفرَّ منه.9

تماثيل الكرومانيون المصغَّرة لجسد المرأة

من بين أشهر أمثلة فن ما قبل التاريخ التي بقيت من العصور الحجرية القديمة، بعيدًا عن الرسومات والتصاوير النابضة بالحياة لحيوانات الصيد؛ تلك التماثيل المسمَّاة بتماثيل فينوس المصغَّرة. هذه التماثيل الصغيرة المُمتلئة في إغراء وشديدة الرمزية لنساء ما قبل التاريخ، التي لا يعدو طولها بضع بوصات، خالية تمامًا من الوجوه البشرية، ولديها سيقان وأذرع خالية من الواقعية والتفاصيل، إلا أنها نُحتت بتصويرٍ مُبالَغ فيه للأجزاء المرتبطة بالجنس والخصوبة في جسد المرأة: أثداء ضخمة مُتدلية، وبطون مُنتفخة، وأفخاذ هائلة، وأرداف كبيرة، وأعضاء تناسلية بارزة.

كانت فكرة أن هذه التماثيل المصغَّرة المنحوتة دائمًا من عاج الماموث أو الأحجار الرخوة هي تماثيل لفينوس — أي إنها تُمثل إلهة الحب — وهمًا حديثًا، وإن كان ثَمة القليل من الشك بأن هذه المنحوتات كانت تلعب دورًا مهمًّا في معتقدات ما قبل التاريخ عن الجنس والخصوبة. ومما لا يقبل الجدال أن تماثيل فينوس المصغَّرة كان لها أهمية رمزية لدى مجتمعات الكرومانيون في العصر الحجري القديم العلوي (انظر شكل ٥-٣).
fig18
شكل ٥-٣: فينوس ليسبوج من فرنسا (يسارًا) وفينوس ويليندروف من النمسا (يمينًا) ترجعان لنفس الفترة الزمنية، بيد أن أساليبهما الفنية تعكس الثقافات المتمايزة لهذين المجتمعين المختلفين من مجتمعات العصر الحجري القديم. (صورة فينوس ويليندروف من تصوير ماتيس كيبل، مصرَّح بنشرها بموجب رخصة المشاع الإبداعي.)

ربما أبرز حقيقة عن هذه التماثيل المصغَّرة هو انتشارها الواسع لدرجةٍ مُدهشة في الزمان والمكان؛ فقد عُثر عليها في مواقع تعود إلى العصر الحجري القديم وتمتدُّ من جنوب غرب فرنسا في الغرب حتى سيبيريا في الشرق — مسافةً تزيد على أربعة آلاف ميل — وتعود لفترات زمنية قديمة بدأت منذ ٤٠ ألف عام وحديثة منذ ١٠ آلاف عام. يكاد يشمل هذا الامتداد الزمني والمكاني المُدهش كل تاريخ الإنسان الحديث تشريحيًّا في عصور ما قبل التاريخ في أوروبا، غير أن تماثيل فينوس المصغَّرة من كل عصر من عصور ما قبل التاريخ وكل مكان من أماكن ما قبل التاريخ كانت منفَّذة بأسلوبٍ خاص ومميَّز، وهذا التنوع الكبير في الأسلوب من تمثال لآخر لهُو دليلٌ آخر على أن البشرية كانت منذ عشرات آلاف السنين قد قسَّمت نفسها إلى ثقافات مُتمايزة، كلٌّ منها مرتبط بزمن ومكان معيَّن.

بالإضافة إلى الرمزية الجنسية المُبالغ فيها في «تماثيل فينوس المصغَّرة»، نحت بشر الكرومانيون أيضًا أغراضًا أخرى شديدة الواقعية من العاج الذي أخذوه من حيوانات الماموث التي اصطادوها ومن القرون التي نزعوها عن الأيائل التي قنصوها. شملت هذه الأغراض العديد من أدوات رمي الرماح الحافلة بالزخارف وبعض المنحوتات الدقيقة لأشخاص وحيوانات. من أشهر هذه القِطع منحوتة لرأس امرأة، معروفة باسم «السيدة ذات القلنسوة» عمرها ٢٥ ألف عام، عُثر عليها في كهف في جنوب غرب فرنسا عام ١٨٩٢م. والقطعة الأخرى هي رأس حصان ذات واقعية مُذهِلة منحوتة من قرن أيل، وقد استُخرجت من كهف ما دازيل في جبال البرانس الفرنسية (انظر شكل ٥-٤).
fig19
شكل ٥-٤: يبلغ رأس الحصان هذا، المنحوت من جزء من قرن أيل، خمسة عشر ألف عام. وهو يُبرهن على مهارة فنان قبل التاريخ الممتازة في تصوير ملامح الحيوانات. (المصدر: ويكيميديا كومونز.)

تُبيِّن هذه التماثيل وأمثلةٌ رفيعة أخرى من فن العصر الحجري القديم أن بشر الكرومانيون استخدموا قدراتهم الفنية السريعة التطور في تصوير الحيوانات والناس الذين سكنوا عالمهم، لكن البشر في تلك الحقبة استخدموا كذلك تصاميم تصويرية ذات طبيعة أكثر غموضًا لتسجيل المعلومات والخواطر والأفكار وتناقلها. ربما لا يوجد بين الأشياء التي ظلَّت باقية من عصور ما قبل التاريخ ما هو أكثر إيحاءً وأكثر غموضًا من التصاميم الرمزية المسمَّاة نقوشًا حجرية التي رُسمت ونُقشت على جدران كهوف العصر الحجري القديم. وسوف نتناول موضوع النقوش الحجرية بالبحث بالتفصيل لاحقًا في هذا الفصل، لكن لا بد أولًا أن نتدبر السؤال التالي: كيف صار البشر يستخدمون تصاميم مرئية للتعبير عن الخواطر والأفكار في المقام الأول؟

رمزية آثار أقدام الحيوانات

البصر هو الأهم بين كل الحواس للرئيسيات، بما في ذلك أشباه البشر. بعد عشرات ملايين السنين من التكيف مع الحياة على الأشجار، صار أسلافنا من الرئيسيات أكثر اعتمادًا بكثير على حاسَّة البصر من حاسَّة الشم. بالنسبة إلى الحيوانات التي تعيش على الأرض، حيث تبقى الروائح وتكثُر، فهي تميل لأن يكون لديها حاسة شم متطورة للغاية، وهذا ينطبق بوجهٍ خاص على الثدييات. أما في قِمم الأشجار التي تتخلَّلها الرياح فيرجَّح أن تذرُوَ الرياح الروائح، في حين يكون من المهم رؤية حركة الضواري أو لون الفاكهة الناضجة من مسافات بعيدة. نتيجة لهذا، فقد أسلافُنا ساكنو الأشجار الكثير من قدرتهم على الشم تدريجيًّا، لكنهم اكتسبوا بصرًا أقوى بدرجةٍ كبيرة، مع رؤية الألوان والقدرة على الرؤية في الفضاء الثلاثي الأبعاد.

حين أضاف أشباه البشر الأوائل استراتيجية الصيد لدى المفترسات إلى استراتيجية جمع الثمار لدى الرئيسيات الأسلاف، صاروا لا يمتلكون سوى حاسة الشم المُتضائلة التي ورثوها من أسلافهم ساكني الأشجار؛ لذا بدلًا من تعقب فريستهم بحاسة شم شديدة التطور كما هو معهود في أغلب الثدييات المفترسة الأخرى، اعتمد أشباه البشر بدلًا من ذلك على بصرهم المتطور للغاية.

دائمًا ما يجد اختصاصيو علم الإنسان الذين دأبوا على دراسة مجتمعات الصيد وجمع الثمار أن الصيادين الرُّحَّل مُتمكِّنون من تقفِّي الأثر بالبصر؛ فأقل الأشياء التي قد يغفل الناس عن ملاحظتها من غصون مكسورة أو أوراق حشائش مُنحنية انحناءةً بسيطة، أو أثر قدم على تربة رطبة يستطيع الصائد المحنَّك قراءته بالسهولة التي أستطيع أنا وأنتم بها قراءة عناوين الصحف. وبمجرد أن يطعنوا فريستهم بالرمح أو يُسمِّموها — رغم أنها قد تعدو بعيدًا عن النظر — ستكشف أقل قطرة دماء في فيض الحشائش أو أدقُّ تغيُّر في لون فضلاتها لعَين الصياد الخبير أثر الحيوان الذي أصابوه.

على مدى المليون سنة الماضية، مع تطور البشر الناشئين إلى صيادين متزايدي المهارة، تطوَّر تفسير آثار الحيوانات إلى فنٍّ راقٍ؛ فلم يعُد البشر الناشئون يعتمدون على رؤية فريستهم رأي العين، وتعلَّموا كيف يشعرون بوجود فريستهم ويقتفون حركاتها بالتعرف على إشارات واضحة تركتها في البيئة حيوانات الصيد التي كانت تعيش بالقرب منهم والتي تمرُّ بأراضيهم.

مع تزايد بروعهم في الربط بين العلامات المرئية لآثار الحيوانات وبين نوعيات وحالة الخنازير البرية والغزلان والظباء والأيائل والخيول وثيران البيسون والماشية الوحشية التي كانوا يُطاردونها، تطوَّر لدى البشر الناشئين، بالإضافة إلى قدراتهم الشديدة الحساسية والتمييز على الإدراك البصري، القدرة الفريدة على الربط بين أنماط مرئية محددة وأنشطة الحيوانات والناس، وحالاتهم، والأعمال التي دلَّت عليها تلك الأنماط.

لا بد أن بشر النياندرتال، الذين كانوا صيادين فائقي الموهبة، كانوا يمتلكون قدرةً شديدة التطور على اقتفاء الأثر باستخدام حاسة البصر، لكن بشر الكرومانيون وغيرهم من البشر الحديثين تشريحيًّا هم الذين أخذوا الخطوة التطورية المنطقية التالية، وابتكروا إشارات ورموزًا خاصة بهم لتُمثل حيوانات وأشخاصًا وحالات وسلوكيات وأفعالًا معيَّنة. وبمجرد أن أخذ الإنسان الحديث تشريحيًّا هذه الخطوة الحاسمة، بدأ يتوسَّع في تقنية التواصل الرمزي لدرجةٍ غير مسبوقة في تاريخ أشباه البشر. وفي خضمِّ ذلك أطلق العنان لتحوُّل أساسي آخر في الحياة والمجتمع البشري.

أقدم الأدلة على استخدام الرموز

رغم أن رسومات كهوف بشر الكرومانيون ونقوشهم الحجرية قد تكون مثالًا خالصًا على التواصل الرمزي الذي تركه بشر ما قبل التاريخ، فإنه يوجد دليلٌ مُثير يعود لأزمانٍ سابقة على ظهور بشر الهومو سيبيانز بوقتٍ طويل؛ إذ يوحي هذا الدليل بأن الهومو إريكتوس وغيره من البشر الناشئين قد بدءوا يرسمون تصميمات على العظام والأصداف منذ مئات آلاف السنين.

من بين مجموعة القِطع الأثرية التي جمعها يوجين ديبوا من جزيرة جاوة الإندونيسية عام ١٨٩١م، تعرَّفت مؤخرًا عالمة الآثار الهولندية جوزفين جوردينز وزملاؤها على أصداف مياه عذبة نُقش عليها عمدًا تصميماتٌ هندسية. وعُثر على عدد من القِطع الأثرية الباهرة عام ١٩٦٩م في موقع يعود لعصور ما قبل التاريخ في بيلزينجسليبين، في ألمانيا، كان يسكنه بشر الهومو هايدلبيرجينسيس الناشئون10 (هذا هو الموقع نفسه الذي كان به دوائر حجرية تبدو أنها أساس مساكن مُوغلة في القِدم). يعود الموقع الذي في بيلزينجسليبين للفترة التاريخية الممتدة بين ٣٨٠ ألف عام و٤٠٠ ألف عام مضت، ويحتوي على أدلة تُشير إلى أن الهومو هايدلبيرجينسيس ربما كانوا يستخدمون شكلًا بدائيًّا من الرموز لتدوين الأعداد أو الكميات.

من القِطع العديدة التي تحمل علامات بفعل فاعل في بيلزينجسليبين أداةُ دق مصنوعة من عظام الأفيال، وهي واحدة من عدة أدوات مُشابهة كان يستخدمها البشر الناشئون في وضع اللمسات النهائية على مطارقهم اليدوية الأشولية. يبلغ طول الأداة المصنوعة من عظام الفيل ست عشرة بوصة تقريبًا، وتحمل إحدى وعشرين علامةً يبدو أنها كانت ترمز لنوعٍ ما من عمليات العد. وتنقسم العلامات إلى مجموعتين؛ سبع علامات في المجموعة الفوقية وأربع عشرة علامة في المجموعة التحتانية.

لاحظ ديتريش وأورسولا مانيا، عالما الحفريات اللذان نقَّبا في هذا الموقع، أن الثلث السفلي من الأداة قد انخلع، واعتزما ترميمه بحيث يحمل هذا الثلث المفقود سلسلة من سبع علامات شبيهة بتلك التي في الثلث الفوقاني. افترض آل مانيا علاوةً على ذلك أن عظام الفيل المرمَّمة بعلاماتها الثمانية والعشرين كانت تعبيرًا رمزيًّا عن التقويم القمري، حيث كانت كل علامة تُمثل يومًا واحدًا في الدورة القمرية ذات الثمانية والعشرين يومًا. إذا كان هذا صحيحًا فإن العلامات السبع الأولى ستُمثِّل الفترة من المحاق حتى طور الربع الأول، وتُمثل الأربع عشرة علامةً التالية فترة الأربعة عشر يومًا من طور الربع الأول مرورًا بالبدر حتى الربع الأخير، وتُمثل العلامات السبع الأخيرة الفترة من الربع الأخير حتى المحاق التالي.

ليست آلة الدق المصنوعة من عظام الفيل هذه إلا واحدة من عدة أغراض عُثر عليها في بيلزينجسليبين تحمل علاماتٍ مُشابهة، وقد أوحت كثرتها للعالم جون فيليكس الزعم بأن بشر الهومو إريكتوس لم يمتلكوا لغةً منطوقة فحسب، وإنما امتلك هؤلاء البشر الناشئون معرفةً متطورة للغاية بالموسيقى والرياضة أيضًا.11 غير أن انعدام أي أدلة أخرى على أن الهومو إريكتوس كان لديهم ملَكات فكرية تُباري ملكات الإنسان الحديث الفكرية توحي بأن فيليكس قد يكون بالَغ فيما ذهب إليه.

رغم أن احتمال استخدام الهومو إريكتوس للرموز ما زال مسألة بحاجة للحسم، فإنه ثَمة دليلٌ مادي على أن بشر النياندرتال كانوا يصنعون أشكالًا بدائية من الحلي مثل القلائد وزينة الشعر وربما الأقراط قبل أن يأتي الإنسان الحديث تشريحيًّا بزمنٍ طويل. ولم يكن المقصود من هذه الزينة الشخصية تدفئة الجسم أو حمايته من تأثيرات الطقس، وإنما كانت تُلبس باعتبارها رموزًا للمكانة، أو كتمائم سحرية لدرء المرض أو الإصابة، أو للتزين فحسب. فلم تكن تُستخدم في أغراضٍ عملية؛ إذ كان الغرض منها رمزيًّا محضًا.

في موقعين من مواقع كهوف النياندرتال في جنوب شرق إسبانيا، عُثر على أصداف متعددة أحدثت بها ثقوبًا، بحيث يمكن نظمها كقلائد أو ربط الشعر أو الملابس بها. كذلك احتوت مواقع الكهوف على أصباغ حمراء وصفراء كانت تُستخدم في تلوين الأصداف بألوانٍ زاهية. وفي كهف في شمال إيطاليا كان يستخدمه بشر النياندرتال، تُعطي بقايا عظام أجنحة النسور والعقبان والحمام والغربان أدلةً واضحة على نزع الريش الكبير من أجنحتهم عن عمد. وحيث إنه لا يوجد دليل على أن بشر النياندرتال استخدموا أيًّا من هذه الأنواع للغذاء، فمن الجلي أنهم كانوا يقتلعون ذلك الريش من أجنحتها لارتدائه كأغراض للزينة، ربما أقراطًا أو أغطية للرأس.

وأخيرًا، بشر النياندرتال هم أول شعب من شعوب عصور ما قبل التاريخ الذين عُرِف عنهم دفنهم للموتى. كل قبور النياندرتال التي عُثر عليها في أوروبا لها نسقٌ مُشابه: تُوضَع جثة المتوفَّى في قبرٍ صغيرٍ غير عميق في وضع الجنين، مع ثني الركبتين لأعلى وإحناء الرأس للأمام. وفي مقبرة لبشر النياندرتال يبلغ عمرها ٧٥ ألف عام، اكتُشفت في خمسينيات القرن العشرين في كهف شاندر في العراق الحديث، عثر اختصاصيو علم الحفريات على بقايا حبوب لقاح لنباتات مُزهِرة معروفة بخواصها الطبية. وقد افتُرض أن باقات من هذه الزهور قد وُضعت عن عمد على جثة المتوفَّى، في إجراءٍ يُذكِّرنا بالعادة الأوروبية الحديثة حيث تُوضع الزهور على القبور.

فسَّر بعض العلماء مدافن كهف شاندر بأنها دليل على أن بشر النياندرتال كانوا يعتقدون في الحياة الآخرة اعتقادًا ظل مرتبطًا طوال التاريخ البشري كله بالرمزية وإقامة شعائر دينية. بيد أن اختصاصيي علم الحفريات الآخرين الذين أجرَوا تحليلاتٍ أحدث لهذه المدافن، استنتجوا أنه من المحتمل أن تكون حبوب اللقاح التي في قبر شاندر قد ذرتْها الرياح إلى القبر، أو حملتها قوارض صغيرة تعيش تحت الأرض فحسب.

إلا أنه عُثر في العديد من مواقع دفن شعوب النياندرتال، التي يبلغ عمر بعضها ٢٠٠ ألف عام، على آثار لمغرة حمراء؛ إحدى الصبغات الطبيعية التي كانت تستخدمها شعوب الصيد وجمع الثمار أثناء إقامة شعائرهم. وهذا يشير على أقل تقدير إلى أن شعوب ما قبل التاريخ تلك كانت تعدُّ الموت مرحلةً مهمة في حياة البشر، وأن وفاة أحد أفراد الجماعة كان يُقام لها الشعائر التي كان يلعب فيها استخدام مواد رمزية، مثل الصبغة الحمراء، دورًا مهمًّا.

لكن مع وصول الإنسان الحديث تشريحيًّا إلى أوروبا، يصير استخدام الرموز في أقوى أشكاله غزيرًا في سجل الحفريات. وقد تكون أروع مجموعة لاستخدام الرموز من عصور ما قبل التاريخ في العالم هي آلاف النقوش الحجرية التي عُثر عليها في كهفٍ إسباني آخر في كانتابريا، وهو كهف لا باسيجا.

أسرار كهف لا باسيجا

في قلب كانتابريا، على بُعدِ أقل من أربعة عشر ميلًا جنوب شرقي كهف ألتاميرا، استكشف اختصاصي علم الإنسان وعالم عصور ما قبل التاريخ السويسري، هيوجو أوبيرماير، كهف لا باسيجا لأول مرة عام ١٩١١م. سكن كهف لا باسيجا في البداية لفترة امتدَّت نحو ستة آلاف سنة، منذ فترة تتراوح بين ٢٠ ألف عام و١٤ ألف عام، الشعب السولوتري ثم الشعب المجدليني، وهذا الكهف يحتوي على أغنى كنوز النقوش الحجرية التي عُثر عليها على الإطلاق.

تُمثِّل بعض النقوش الحجرية في لا باسيجا حيوانات أو أشخاصًا، والبعض الآخر يُمثل فيما يبدو أعدادًا أو كميات، وما زال بعضها يمثل بأكمله لغزًا. فيضمُّ كهف لا باسيجا آلاف النقوش الحجرية، لكن باستثناء بعض صور حيوانات الصيد لم تُفَك شفرة أي من النقوش الحجرية مطلقًا، إلا أنه في حين أننا قد لا نستطيع حل ألغاز هذه النقوش أبدًا، فمن الواضح أنها ذات طبيعة رمزية؛ فهي ليست سطورًا ونقاطًا بلا معنًى خُربشت عشوائيًّا بلا سبب.

إنما النقوش الحجرية التي في لا باسيجا هي أشكال وأنماط نُفِّذت بعناية حيث تتكرَّر عناصر تصويرية معيَّنة، لكن ليس على نحوٍ عشوائي. وهي من هذه الناحية تُمثِّل الحروف المستخدمة في الكتابة الفعلية للثقافات المتحضِّرة (انظر شكل ٥-٥). كذلك تختلف النقوش الحجرية للغاية عن الأشكال الزخرفية المحضة التي نجدها في فخار وسلال مجتمعات ما قبل عصر الصناعة، حيث كثيرًا ما يُغطي تصميمٌ واحد مساحةً كبيرة بقليل من التنوع أو من دونه. علاوة على ذلك، رُسمت النقوش الحجرية في مناطق مُوغلة من الكهوف لا يُمكن بلوغها؛ مما يوحي بأنها لم تُرسم عرضًا. وأخيرًا، نما إلى عِلمنا من دراسات إثنية معاصرة أن رسومات الكهوف ونقوشها الحجرية كانت تعدُّها شعوب الصيد وجمع الثمار أشكالًا من السحر وكثيرًا ما ترتبط بطقوس دينية.
fig20
شكل ٥-٥: الأشكال مُتقنة التنفيذ في كهف لا باسيجا تؤكد أنها وُضعت لتسجل معلومات محددة وتنقلها في شكل رمزي.

لكل هذه الأسباب لا بد من اعتبار النقوش الحجرية تصاميم رُسمت عمدًا للتعبير عن معانٍ محدَّدة، ولتمثيل أشياء وأحداث معيَّنة في الزمن والمكان، لكن ماذا كانت هذه الأشياء والأحداث بالضبط؟ للأسف، لا يوجد لدينا أدنى فكرة عن ذلك.

فلا يوجد حجر رشيد يكشف عن أسرار النقوش الحجرية بلغاتٍ مكتوبة نستطيع ترجمتها وفهمها، ولا يوجد ناسٌ أحياء من الشعب السولوتري أو الماجدليني ليُفسِّروا معانيها لنا. في الواقع، لا يقتصر الأمر على أننا ليس لدينا فكرة عن اللغة التي تحدَّث بها هؤلاء الناس، لكن كذلك حتى لو استطعنا سماعهم يتحدثون سنظل لا نفقه ما يقولونه؛ إذ تعتمد المعاني المشفَّرة في شكل رسائل رمزية، بطبيعتها الجوهرية، على الذاكرة الحية لأولئك الذين نشئوا وعاشوا في الثقافات التي ابتكرت تلك المعاني. وحين يختفي كل أولئك الناس وتصير ثقافاتهم في طي النسيان، يصبح لدينا القليل أو حتى لا شيء لنبدأ العمل به.

fig21
شكل ٥-٦: العديد من النقوش الحجرية التي في كهف لا باسيجا تحتوي على نقاط أو خطوط ربما كانت تعبر عن أعداد أو كميات.

قد لا نعرف على وجه التحديد لماذا نفَّذ الشعب المجدليني والكرومانيون رسومات كهوف ألتاميرا ولاسكو وشوفيه المتقَنة، لكننا نعلم على الأقل أن هذه الرسومات الشبيهة بالواقع تُمثل أنواعًا حيوانية حقيقية ويُمكن تحديدها على نحوٍ قاطع. الأمر ليس كذلك مع النقوش الحجرية؛ فلا يُساورنا شكٌّ أن هذه النقوش قد رُسمت ولُونت حتى تُدوِّن معلومات وتنقلها إلى آخرين عبر الزمان والمكان، لكن يظل السؤال حول كُنْه تلك المعلومات، وكيف تُرجمت إلى شكلٍ رمزي، سرًّا عجزت أفضل عقول علم الحفريات الحديث تمامًا عن حله.

إذا كانت الكلمة المكتوبة — التي تشمل كلًّا من الأشكال البسيطة مثل الأبجدية المسمارية أو الأبجدية الرومانية والأشكال المعقدة مثل الهيروغليفية المصرية وكتابة المايا — هي التمثيل الرمزي لمعلوماتٍ عُبِّر عنها في حديث البشر؛ فإن نقوش العصر الحجري القديم الحجرية تُعتبر أول وأقدم أشكال الكتابة البشرية التي عُثر عليها على الإطلاق، كما أنها تُعَد أفضل دليل ممكن على أن الناس الذين كتبوا هذه النقوش الحجرية كانوا يستخدمون لغة. في الواقع، يعتقد بعض العلماء أن قدرة شعوب ما قبل التاريخ على رسم صور ذات مغزًى في المقام الأول هو بينة على احتواء ثقافاتهم على أنظمة مشتركة للمعاني عبَّروا عنها في شكل لغات منطوقة بالفعل.12 لكن رغم عدم إمكانية سماع أشخاص يتحدثون لغات ما قبل التاريخ تلك مطلقًا، ظلَّت هناك أدلةٌ مُذهلة حول نشأة كلام البشر في البقايا الحفرية لهياكل أشباه البشر العظمية.

العظمة اللامية وأصول اللغة

في الفصول السابقة رأينا كيف يمكن للأدلة الحفرية المستقاة من تشريح الإنسان أن تُوفِّر أدلةً مهمة عن سلوك أشباه البشر في عصور ما قبل التاريخ، حتى حين يكون السلوك المعني قد وقع منذ زمن طويل ولا يمكن ملاحظته على نحوٍ مباشر. وهذا يطرح السؤال المُثير للاهتمام عما إذا كانت البقايا الحفرية لأشباه البشر المُنقرضين قد تُعطي بعض الخيوط التي تدلنا على الوقت الذي بدءوا فيه استخدام اللغة المنطوقة لأول مرة. وحيث إن اللسان والحنجرة والجزء العلوي من الحلق — أعضاء الكلام الأساسية — تتكون بالكامل تقريبًا من أنسجة رخوة، فلم يصمد أيٌّ من هذه الأنسجة أمام الفترات الزمنية الطويلة التي انقضت خلال تطور الإنسان.

غير أنه يوجد بالفعل عظمةٌ صغيرة جدًّا — واقعة في الجزء العلوي من حلق الإنسان، فوق الحنجرة مباشرة ومُلتصقة بها — تلعب دورًا مهمًّا في حركات عضلات اللسان والحلق التي تُشكل أصوات كلام البشر. وتُسمى هذه العظمة، المتخذة شكل حدوة الحصان ويبلغ عرضها نحو بوصة ونصف، «العظمة اللامية».

بينما تختلف العظمة اللامية لدى الإنسان الحديث اختلافًا بالغًا في شكلها عن العظمة اللامية لدى الشمبانزي، تكاد تكون مطابقة للعظمة اللامية لدى إنسان النياندرتال، وتتشابه جدًّا مع تلك الموجودة لدى إنسان هومو هايدلبيرجينسيس الناشئ؛ لذا يبدو من المحتمل أن يكون الكلام البشري قد بدأ منذ مئات آلاف السنين لدى جماعة من إنسان هومو هايدلبيرجينسيس، وأن يكون بشر النياندرتال تحدَّثوا شكلًا متطورًا من اللغة يُشبه كلامنا الحديث. ومما لا ريب فيه أن الإنسان الحديث تشريحيًّا، الذي ترك أدلةً وفيرة على استخدامه الرموز المرئية في تدوين المعلومات وتناقلها، كان قادرًا تمامًا على الكلام بطريقة البشر.

fig22
شكل ٥-٧: شكل العظمة اللامية لدى قردة الشمبانزي (أ) يختلف جدًّا عن الأشكال المتشابهة جدًّا للعظام اللامية لبشر النياندرتال (ب) والإنسان الحديث (ﺟ)؛ مما يُوحي بأن بشر النياندرتال ربما كانوا يتحدثون لغات منطوقة تُضاهي لغاتنا.
ذهب بعض العلماء إلى أن اللغة تطوَّرت لأول مرة حين بدأ أشباه البشر تشكيل مجموعات أكبر في حجمها من العدد الصغير من الأفراد المعهود لدى الجماعات الاجتماعية للسعادين والقردة وأشباه البشر الأوائل. وفقًا لوجهة النظر هذه، فقد تطوَّرت اللغة — مع تزايد حجم المخ — بحيث يستطيع البشر الناشئون الترابط مع العدد الأكبر من الأفراد الذي أخذ يتكون في المجموعات البشرية الأحدث عهدًا. ورغم أن السعادين والقردة تترابط مع أفرادٍ آخرين في المجموعة عن طريق عملية التنظيف الجسدي، فهناك حدود لعدد الأفراد الذين يستطيع الواحد منهم العناية بنظافتهم؛ من ثَم فاللغة تجعل من الممكن زيادة هذا العدد زيادةً بالغة.13

موسيقى ما قبل التاريخ

الأغنيات التي يشدو بها البشر لا تُشبه الأغنيات التي تصدر عن آلاف الأنواع من الطيور أو القليل من الثدييات، مثل الجيبون والحيتان، التي تُغني أثناء حياتها اليومية. «أغاني» تلك الحيوانات لا تختلف إلا بقدرٍ ضئيل من فرد لآخر أو مجموعة لأخرى داخل كل نوع؛ مما يشير إلى أنها فطرية بدرجةٍ كبيرة ومبرمجة مسبقًا بالوراثة الجينية.

أما أغنيات البشر فهي تتنوع كثيرًا من جماعةٍ بشرية لأخرى، ومن فرد لآخر؛ لذا يبدو أن الغناء، مثل اللغة، واحد من تلك السلوكيات التي رغم تميُّز الطبيعة البشرية بها لا بد أن تُلقن مثل اللغة. والموسيقى التي يأتي بها البشر باستخدام تقنية صنع آلات موسيقية هي واحدة من تلك السلوكيات التي ينفرد بها نوعنا تمامًا.

لم يتمكَّن اختصاصيُّو علم الحفريات قط من تحديد الوقت الذي بدأ فيه بشر ما قبل التاريخ عزف الموسيقى لأول مرة، لكن من الوارد أن تكون قدرة البشر على الغناء قد تطوَّرت أولًا، ثم اخترعوا تقنية الآلات الموسيقية لاحقًا. وإذا كان الغناء بدأ مع استخدام اللغة فقد يكون بدأ منذ ٣٠٠ ألف عام. وإذا كان بشر النياندرتال قد أصبح لديهم لغة منطوقة بحلول وقت استقرارهم في أوروبا ما قبل التاريخ منذ أكثر من ١٠٠ ألف عام، وهو الأمر الذي يبدو مرجحًا جدًّا، فقد يكون الغناء قديمًا بالدرجة نفسها على الأقل.

أقدم الآلات الموسيقية التي عُثر عليها حتى الآن هي بقايا العديد من «المزامير» الصغيرة يتراوح طولها بين خمس وتسع بوصات، صنعها منذ نحو ٣٥ ألف عام بشرٌ حديثون تشريحيًّا كانوا ينتمون إلى الثقافة الأورينياسية. صنع الأورينياسيون أغلب هذه الآلات بنقر ثقوب للأصابع في عظام مجوَّفة من أجنحة البجع والعقبان، وقد استخرج العديد من هذه المزامير الأورينياسية من مواقع كهوف العصور الحجرية القديمة الواقعة في وديان الأنهار في جنوب غرب ألمانيا. حين أُعيد بناء أحد هذه المزامير المصنوعة من عظام الطيور، استطاع الباحثون استخدامها في إصدار النغمات الموسيقية سي ودو وري وفا.

بعض المزامير الأورينياسية التي عُثر عليها في هذه المواقع كانت مصنوعة من العاج، وكان هذا يتطلب عملية تصنيع معقَّدة، حيث كان يُشَق قطاع من ناب الماموس العاجي إلى نصفين، ويُجوَّف كل نصف بامتداد طوله، وتُحفَر فتحات الأصابع في مواقع محدَّدة، ثم يُلصق النصفان معًا حتى يصير مغلقًا بإحكام بحيث لا ينفُذ الهواء. الوقت والعناية والمهارة اللازمة لصنع هذه الآلات الدقيقة من العظام والعاج لا تدع مجالًا كبيرًا للشك في أن الموسيقى — وحرفة صناعة الآلات الموسيقية — كانت تُعَد بالفعل جزءًا مهمًّا من الحياة منذ عشرات آلاف السنوات.

ربما كانت أغنيات ورقصات الحضارة الأورينياسية والكرافيتية والسولوترية والمجدلينية تؤدي في حياة عصور ما قبل التاريخ الغرض نفسه الذي تؤديه في الحياة الحديثة الآن: وسيلة للتنفيس العاطفي، وطريقة لخلق مشاعر الصحبة والانتماء بين أعضاء الجماعة الاجتماعية، وطريقة للتعبير عن الهوية الثقافية للفرد. ليس من قبيل المصادفة أن كل الدول القومية الحديثة لديها نشيد وطني يُغنِّيه أفرادها معًا للتعبير عن تكاتفهم كمُواطنين في ثقافاتهم القومية، ولدعم هُويتهم المشتركة بصفتهم أعضاء في هذه الجماعات البشرية الضخمة.

الرموز والهوية الإثنية المشتركة

في شهر يونيو في أوائل العقد الأول من القرن التاسع عشر، في السهول العظمى في غرب أمريكا الشمالية، كان قيظ الصيف يقترب، وكانت جماعات هنود الشايان المتفرقة، المشهورة بصيد الجاموس في السهول العظمى الأمريكية تسير على مهل من ملاذ معسكراتها الشتائية في الوديان الحرجية نحو دائرة المخيمات الكبرى التي ستُقام قريبًا في حقل مفتوح على ضفاف نهر بلات. وهناك، في صباح الانقلاب الصيفي، تُقام ألف خيمة، تُمثل قبيلة الشايان بأسرها، في حقل كبير مفتوح، حيث ستؤدَّى مراسم تجديد السهم المقدس.

طوال الجزء الأكبر من العام، كانت جماعات الشايان العديدة المتنوعة تعيش في مخيمات متناثرة على نطاق واسع، تصطاد طعامها وتجمعه في جماعات تتكون من أسر غير مترابطة، لكن حين كانت قوة القبيلة في أشدها سيطر أقل من ٤٠٠٠ هندي من الشايان على منطقة من البراري اتسعت مئات الأميال من مونتانا في الشمال حتى كانساس في الجنوب؛ مساحة تُعادِل ضعف مساحة تكساس. كيف دافعت قبائل الشايان بنجاح عن أرضها الشاسعة ضد القبائل الهندية الأخرى في السهول التي كانت تطمع في مناطق صيدها، والتي لم تكن أكبر منها حجمًا فحسب، وإنما تُعادلها في التمكن من فنون الحرب أيضًا؟ يبدو أن الإجابة هي أن قبائل الشايان اكتسبت القدرة على التصدِّي لأعدائها بجبهة متحدة تمامًا، وهو الأمر النادر نسبيًّا بين قبائل سهول أمريكا الشمالية.

كان أعضاء قبائل الشايان صائدي جاموس ومحاربين لا يُستهان بهم متمكنين من فنون القتال. وكان قتل شخص من إحدى القبائل المُعادية أو إصابته يُعَد إنجازًا عظيمًا بين ظهراني قبيلة الشايان، وعملًا يحق لصاحبه الزهو به ما تبقَّى له من العمر، لكن بين الرجال الذين يعرفون كيف يقتلون، دائمًا ما يوجد خطر أن يتصاعد النزاع على الأرض أو الملكية أو النساء ليصير عنفًا يؤدي إلى إصابة أو موت داخل القبيلة. في الواقع، كان مثل تلك الصراعات أمرًا مُعتادًا بين العديد من قبائل الأمريكيين الأصليين، ولم يكن من غير المألوف أن ينخرط أفراد هذه القبائل الأخرى في حلقات من الانتقام والهجوم المضاد؛ حيث يؤلِّبون أفراد القبيلة نفسها بعضهم ضد الآخر.

ما تميَّزت به قبيلة الشايان على قبائل السهول الهندية الأخرى كان متأصلًا في ثقافتهم ومنظومة قيمهم الفريدة، حيث كان تضامن القبيلة فضيلة عُظمى، وحيث كان القتل — الذي كان يُعرَّف بأنه قتل أحد أفراد قبيلة الشايان لفردٍ آخر منها — «يُلطخ» السهام المقدسة التي كانت تُعَد رموزهم العظمى لوحدة القبيلة. كان القتل يضع القبيلة بأسرها في مأزقٍ أخلاقي، فيَسلبها حماية الأرواح الإلهية والقوى السحرية الي تتمتَّع بها السهام نفسها. اعتقد الشايان أن جسد القاتل يتعفَّن من داخله، ويصير فاسدًا ومتفسِّخًا حتى يموت القاتل ميتة بطيئة. يمكن وقف هذه الآثار فقط إن تاب القاتل عن خطيئته بتولِّي رعاية مراسم تجديد السهم، وهي مهمةٌ شاقَّة تتطلب شهورًا من السفر على صهوة حصان لزيارة كل فرق الشايان المنتشرة على مساحة مُترامية من أراضي الصيد التابعة لقبيلتهم وإخبارها.

كان الهدف من مراسم تجديد السهم هو «التطهير» الرمزي للسهام الأربع المقدسة — من خلال الصوم والصلاة وإقامة الشعائر لأيام — التي توارثتها الأجيال من بطل الشايان الأسطوري «طبيب العشب الحلو»، الذي استلمها من الروح العظمى منذ زمن طويل. وكان كل أفراد قبائل الشايان يتجمَّعون مرةً كل بضع سنوات لإقامة مراسم تجديد السهم المقدس، حيث كانت قبيلة الشايان كلها تُنادي أرواح أسلافها أن تُجدِّد الأرض، وتمسح آثام الماضي، وتُجدد روابط الأخوة بين كل أفراد الشايان؛ وبهذا تضمَن وفرة حيوانات الصيد والانتصار في الحرب.

في اليوم الأول من مراسم تجديد السهم — يوم الانقلاب الصيفي — كانت ألف أسرة من أسر الشايان تُقيم ألف خيمة، على شكل قوس هلال كبير يُواجه الشمس البازغة، حيث يلتقط باب كل خيمة الأشعة الأولى التي تظهر في الأفق. وفي مركز هذا الهلال كانت تُقام خيمةٌ جماعية كبيرة، مقام سهم الطبيب؛ حيث كانت السهام المقدسة تُجدد وتُطهر.

في اليوم الثاني، كان الكهنة يتَّخذون أماكنهم في مقام سهم الطبيب، وكانت الأضاحي تُوضع على سبيل القرابين قبالة المذبح القائم في وسط المقام، وبعد أداء طقوس سرية معيَّنة بعناية، وإنشاد أغانٍ مقدسة، وإقامة الصلوات، كانت الصرَّة التي تحتوي على السهام المقدسة تُفتح وتُفحص. كان لهذه اللحظة حُرمةٌ شديدة، حتى إنه كل أفراد الشايان عدا أولئك المشاركين فعليًّا في المراسم كان عليهم التزام الصمت والسكون التام في خيمهم، في حين كان أفراد جمعية مُحاربي الشايان يحرسون منطقة المخيم الكبير في يقظة؛ فإن بدأ طفل في البكاء أُسكت سريعًا، وإن نبح كلب كان يُقتل في الحال بضربةٍ سريعة من هراوة أحد المقاتلين.

في اليوم الثالث من المراسم، كانت الأسهم المقدَّسة تُنظف وتُصلح، ويُقطع غصن صفصاف طويل لكل أسرة من أسر الشايان. كان كل غصن، واحد تلو الآخر، يُباركه كهنة القبيلة بدخان البخور لإعطاء كل أسرة عهدًا جديدًا. وكان أفراد كل أسرة يحتفظون بغصنهم ويعتنون به باهتمامٍ طوال العام، كتذكرة بأنهم شايان، وأنهم ينتمون إلى شيء أكبر من أنفسهم، وأكبر من أسرهم، وأكبر من الجماعة المحلية من العائلات المُترابطة التي عاشت وسافرت معًا، تُمارس الصيدَ وجمع الثمار كلٌّ منها داخل أراضيه.

على هذا المنوال، كان الشايان يُسخِّرون القوة العاطفية للتواصل الرمزي في دمج العشرات من المجموعات الرحالة الصغيرة في كيانٍ قبلي واحد قادر في وقت قصير على التضافر في قوةٍ مُقاتلة من آلاف الأشخاص. بلغةٍ مشتركة، وولاءٍ مشترك لسلطة السهام المقدسة وغيرها من رموز القبيلة، كانت جماعات الشايان المتعددة تستطيع الانتظام سريعًا في مجموعةٍ واحدة كبيرة تضمُّ أغلب أفراد القبيلة. بهذه الطريقة، صار المجتمع الانقسامي الاندماجي الذي ورِثه كلٌّ من قردة الشمبانزي وأشباه البشر من أسلافهم المشتركين، قادرًا على خلق شعور التضامن القبلي بين أفراد الجماعات الرحالة المتناثرة المتعددة.

المجتمع الانقسامي الاندماجي

خلال الفترات القصيرة التي كانت تندمج فيها مؤقتًا مجموعتان مختلفتان من قردة الشمبانزي في مجموعةٍ واحدة، كان أفراد المجموعتين يختلطون معًا دون أو مع القليل من العنف أو الصراع الواضح، لكن أثناء مرحلة الاندماج هذه تظهر على أفراد المجموعتين أعراض ضغط نفسي، قد تكون في شكل صراخ، واستعراض ﻟ «السيطرة» بكسر فروع الأشجار مثلًا، والركض في الأنحاء بهياجٍ شديد عامةً، لكن لا مفرَّ من أن يبدأ الضغط النفسي الناتج عن التواصل عن قرب مع أفراد مجموعة أخرى في إحداث آثاره السلبية. وبعد الاختلاط ليوم أو يومين، تفصل قردة الشمبانزي نفسها في مجموعاتها الأصلية وترحل إلى مواطنها.

لكن البشر مضَوا بالنموذج الانقسامي الاندماجي لأفقٍ أبعد، بجعل دورة الاندماج جزءًا لا يتجزأ من تكيُّفهم البيئي الموسمي. فكان الإسكيمو الإنويت يقضون شهور صيف القطب الشمالي القصير الدافئة نسبيًّا في مجموعات أسرية صغيرة تراوحت عامةً من فردَين إلى اثنَي عشر فردًا، أثناء تجوالهم في منطقة التندرة يجمعون البيض ويصطادون الأرانب. أما في الشتاء، حين كانوا يصطادون حيواناتٍ أكبر حجمًا، مثل الوعل والفقمة والفظ، التي كانت تتطلب تعاونًا بين مجموعة أكبر من الصيادين، كان الإسكيمو يحتشدون في مجموعاتٍ أكبر كثيرًا. كانت كل أسرة أو أسرة ممتدَّة من الإسكيمو تستقر في موقعٍ واحد من أجل الشتاء وتبني كوخًا جليديًّا؛ لتُقيم مستوطنات تتكون من عدة أكواخ جليدية يُقيم فيها خمسون شخصًا أو أكثر.

أبدت قبائل البوشمان في صحراء كلهاري نموذجًا انقساميًّا اندماجيًّا مُشابهًا، بالتجمع بأعداد كبيرة نسبيًّا قرب آبار الماء الدائمة القليلة في ذروة موسم الجفاف والتوزع في مجموعات أسرية صغيرة خلال الموسم المُمطر، حين يكون الغذاء وفيرًا، ويُمكن العثور عليه مُتناثرًا في أنحاء الصحراء.

حين أدمج الإنسان الحديث تشريحيًّا التواصل بالرموز في حياتهم اليومية، أطلق العنان للقوة الكاملة للمجتمع الانقسامي الاندماجي؛ فبِتبنِّي هوياتٍ ثقافيةً مميَّزة — ودعم هذه الهويات بالتشارك في اللغة والموسيقى والرقص والفنون والرسم وغيرها من أشكال التواصل بالرموز الأخرى — استطاع الإنسان الحديث دمج جماعات الرحَّالة الصغيرة التي كان يعيش فيها وقتًا طويلًا من السنة لتصير مجموعاتٍ كبيرةً قادرة على التعاون في الصيد والحرب حسبما تقتضي الحاجة وتسنح الفرصة.

رغم أن مجموعات رحَّالة عصور ما قبل التاريخ الصغيرة ربما كانت مناسِبة كأفضل ما يكون لمطاردة الحيوانات الصغيرة وجمع النباتات القابلة للأكل، فإن المجموعات الأكبر كانت أنسب للصيد الجماعي للحيوانات الكبيرة، مثل حيوانات ما قبل التاريخ الضخمة من الماموث ووحيد القرن وثور البيسون والماشية الوحشية. ورغم أن بشر النياندرتال كانوا يصطادون الحيوانات الضخمة باستمرار، فقد ظلَّت أعدادها تزيد بجانب بشر النياندرتال لعشرات آلاف الأعوام، لكن حين ظهر الإنسان الحديث تشريحيًّا في الصورة ظلَّت الحيوانات الضخمة تُصطاد فيما يبدو حتى انقرضت في غضون بضعة آلاف عام. فرغم ثقافاتهم القبلية وقدرتهم على تنظيم أنفسهم في مجموعاتٍ كبيرة حين تتطلَّب الظروف، فقد أثبتت الكفاءة القتالية للصيد الجماعي أنها عاجزة أمام الحيوانات الضخمة التي كانت تجوب المناطق الشمالية طوال العصور الجليدية.

منذ خمسة وسبعين ألف عام، كان بشر النياندرتال قد استقرُّوا في غرب أوروبا، وازدهروا هناك طوال خمسين ألف عام على الأقل، لكن بعد وصول الإنسان الحديث تشريحيًّا بعشرين ألف عام اختفى بشر النياندرتال تمامًا. وعلى النقيض من الإنسان الحديث تشريحيًّا، لم يترك بشر النياندرتال سوى القليل من الأدلة على التواصل بالرموز، ولم يتركوا أي أدلة نهائيًّا على تقاليد ثقافية أو هُويات إثنية محدَّدة. ورغم قوَّتهم البدنية الفائقة لم تكن الجماعات الصغيرة المؤلَّفة من أفراد من بشر النياندرتال لتصمد أمام إحدى القوات المقاتلة المنظمة المكوَّنة من المئات، بل والآلاف من المُحتشِدين المنتسِبين إلى الحضارة الشاتلبيرونية أو الأورينياسية.

القدرة على السرد

قد يكون أهم تطور في مسيرة التواصل الرمزي قد حدث حين بدأ البشر ضم مجموعات من الكلمات لوصف الأحداث التي جرت بتسلسل معيَّن خلال فترة من الزمن. هذه التسلسلات تُعرَف عامةً باسم «الحكايات».

«قال الملك للأرنب الأبيض: «فلتبدأ من البداية، واستمر حتى تصل إلى النهاية: ثم توقَّف»»14 (من قصة «أليس في بلاد العجائب»). هذه الصيغة البسيطة على نحوٍ خادع تصف شكلًا قويًّا من التواصل لا يقدر عليه نوعٌ آخر. مع أنه من الجائز أن البشر الناشئين كان لديهم شكلٌ بدائي من اللغة، ومن شِبه المؤكَّد أن بشر النياندرتال كان لديهم قدرة على استخدام لغة منطوقة، فإن التغييرات الكبيرة التي أدخلها الإنسان الحديث تشريحيًّا في الحياة الإنسانية ربما كانت راجعة لقدرتهم الفريدة على سرد الحكايات في شكلٍ قصصي.

القدرة على السرد جعلت من الممكن للصيادين عند عودتهم لمقرَّات إقامتهم بغنائمهم المرجوَّة من اللحم أن يقصُّوا كيف عثروا على فريستهم وتتبَّعوها وحاصروها وأجهزوا عليها وذبحوها. وقد مكَّن السرد جامعات الثمار من أن يصِفْن كيف انتقلن من مقرات إقامتهن إلى الموقع المحدد الذي أمكن العثور فيه على الثمار والجذور والدرنات المرغوب فيها وغيرها من الأطعمة. وبفضل السرد أمكن وصف عملية صناعة الأدوات والأسلحة والأوعية والمساكن والملابس خطوة بخطوة، وسائر الأشياء الكثيرة الأخرى التي كان الصيادون والجامعون يعتمدون عليها. كما مكَّن السرد المُعالجين الروحيين والمُداوِين من شرح مُسببات الأمراض، وتعليم تلامذتهم كيفية إجراء طقوس معالجة المرضى والجرحى.

من بين الإسهامات العديدة لقدرة السرد في ثقافة البشر، أنها أتاحت لرواة القبيلة أن يحكوا حياة الأسلاف وآلهة القبيلة وأعمالهم، وأن يشرحوا كيف نشأ الكون، ويُرتِّلوا الأناشيد والطقوس المقدسة التي أضفت معنًى وثراءً على الحياة القبلية. شكَّل حاصل مجموع هذه القصص «التراث الشفهي» الذي دوَّنه اختصاصيو علم الإنسان في كل ثقافات عصور ما قبل الصناعة التي درسوها. وكان هذا التراث الشفهي بمثابة مستودعات للتجارب والحكمة الجماعية لكل مجتمع من المجتمعات البشرية حتى ميلاد الحضارة واختراع الكلمة المكتوبة.

وأخيرًا منحت القدرة على السرد الإنسان الحديث تشريحيًّا طريقة لمعرفة كيف جرت الأحداث في الماضي، بل وكيف ستجري في المستقبل أيضًا. على هذا المنوال، منح اختراع الحكي لنوعنا القدرة الفريدة على تصوُّر مرور الوقت والاستعداد لأحداث لن تقع قبل أيام أو أسابيع أو شهور في المستقبل.

لذا، ليس من قبيل المصادفة أنه عندما حلَّ مكانَ بشر النياندرتال الإنسانُ الحديث الذي تمتَّع بثقافاتٍ ثرية بالتواصل الرمزي — والذي امتلك، من خلال الاشتراك في رمزية اللغة والتراث الشفهي، معلومات أكثر بكثير حول سبل العيش — ازدادت أعداد البشر في أوروبا خلال بضعة آلاف السنين حتى صارت عشرة أضعاف ما كانت عليه خلال زمن بشر النياندرتال.

قوة التطور الثقافي

تتكوَّن الآلية الأساسية للتطوُّر البيولوجي من ثلاث عمليات أساسية؛ أولًا: يرث كل جيل خواص والدَيه من خلال المعلومات المشفرة في المواد الوراثية التي يمدُّه بها كلٌّ من الأب والأم. وثانيًا: تُفقد بعض هذه المعلومات أو تتغير حتمًا من خلال عملية إلى حدٍّ كبير عشوائية نُسميها «الطفرة». وثالثًا: أغلب الطفرات إما أن تكون بلا تأثير على نمو الكائن أو تكون مُضرَّة أو غير مُلاءمة؛ مما يجعل الحياة عسيرة على الأفراد الذين تغيَّر حمضهم النووي.

إلا أنه في حالاتٍ قليلة جدًّا يتضح أن الطفرات العشوائية مُفيدة وتساعد الكائن في التكيف مع بيئته بكفاءةٍ أكثر. ونتيجة لهذا، يزداد انتشار الطفرات الأكثر نفعًا في الجماعة المتكاثرة، وفي النهاية — إن كانت تلك الطفرات مُلائمة بدرجةٍ كافية — تصير النمط الطبيعي الجديد داخل الجماعة المتكاثرة. وهذه هي العملية الأساسية التي نتجت عنها القدرة على السير والعدو على ساقين، واستخدام النار، وطهو الطعام، وبناء المساكن، وحياكة الملابس، وما إلى ذلك.

لكن التطور البيولوجي له حدود؛ فهو مبدئيًّا بطيء للغاية؛ إذ استغرق أسلافنا الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ ملايين السنين ليكتسبوا الاستقامة التامة للقامة والحركة الفعلية على القدمين، واستغرق مخ أشباه البشر أكثر من مليون سنة حتى يصل إلى حجمه الضخم الحالي. خلال عملية التطور البيولوجي، لا يمكن أن تنتقل المعلومات الجينية الجديدة والأعظم فائدة إلا من أحد الوالدين لنسله البيولوجي. هذا معناه أنه لا بد من تعاقُب أجيال عديدة قبل أن ينتشر الجين المفيد في الجماعة المتكاثرة. وقبل أن ينجح يجب على أبناء وأحفاد وأبناء أحفاد الفرد الأول الذي كان لديه هذه المادة الجينية الجديدة، أن يتفوَّقوا باستمرار على أبناء وأحفاد وأبناء أحفاد أفراد الجماعة الآخرين، ويفوقوهم عددًا في النهاية.

الحمض النووي للنوع هو مجموعةٌ كاملة من إرشادات بناء كل أعضاء الكائن الحي، مثل وصفة صنع نوع من الكعك أو مخطط تشييد بناء. وإذا تغيَّر أيٌّ من هذه الإرشادات لن تُصنع الكعكة أو يُشيَّد البناء أو الكائن كما خُطط له. وحين تكون هذه التغييرات مجرد إخفاقات عشوائية في استنساخ الإرشادات، ستبدو «أخطاءً» في المنتج النهائي؛ لذا من الضروري لأي مجموعة من الكائنات الحية أن تستبعد آلاف من الطفرات الضارَّة قبل أن تظهر طفرةٌ واحدة مُفيدة يُمكن الاحتفاظ بها خلال عملية الانتقاء الطبيعي.

أما التطور الثقافي فلا تعترضه أيٌّ من هذه العوائق؛ فقد ينشأ نوعٌ جديد من السلوكيات لدى فرد واحد وينتقل سريعًا إلى أفرادٍ آخرين من خلال التعلم والمحاكاة. وإذا كان هذا التصرف الجديد يساعد الفرد على التأقلم مع بيئته بنجاحٍ أكثر، فمن الممكن أن ينتشر بسهولة بين أفراد الجماعة الاجتماعية بأسرها خلال جيل واحد.

علاوة على ذلك، تتواصل المجموعات المختلفة من القردة والسعادين والبشر بعضها مع بعض من حين لآخر، وقد يختلط أفراد مجموعتين حين يكون هذا التواصل وديًّا. وهذا يُعطي أفراد إحدى المجموعتين فرصة ملاحظة سلوكيات أفراد المجموعة الأخرى ومحاكاتها. وعلى هذا النحو، من الممكن أن تنتشر سلوكياتٌ جديدة ليس داخل مجموعة اجتماعية واحدة فقط، لكن من مجموعةٍ اجتماعية لأخرى. وهكذا تنتشر في النهاية بين سكان منطقة جغرافية بأسرها.

وأخيرًا، نادرًا ما تنشأ المستجدات الثقافية كأحداث عشوائية؛ فعلى عكس الطفرات الجينية دائمًا ما تكون التغيُّرات في السلوك التي تدفع بالتطور الثقافي مقصودة ومتعمَّدة؛ ولذلك السبب من المرجَّح جدًّا أن تكون أكثر فائدة وقابلية للتكيف بكثير إذا ما قورنت بالطفرات التي تؤدي إلى التطور البيولوجي. هذا لا ينطبق فحسب على غسل الماكاك للبطاطا، ولكن ينطبق أيضًا على ابتكار فن الكهوف، واستئناس النباتات والحيوانات، وتطور الآلات الدقيقة، واختراع الكمبيوتر. ومن السهل أن نرى لماذا حين تتَّحد الطبيعة الهادفة للمستجدات الثقافية مع طرق نقلها وانتشارها السريعة جدًّا، يكون التطور الثقافي أسرع وأكثر كفاءة من التطور البيولوجي.

•••

مع بزوغ الثقافات القبلية — المرحلة التي يرجع الفضل فيها إلى ظهور التواصل الرمزي المشترك بأشكاله العديدة — بدأت البشرية مسار الاندماج في مجتمعات وجماعات اجتماعية متزايدة الحجم. وفي كل خطوة على هذا الطريق — في القرية الزراعية، والدولة المدينة الحضرية، والدولة القومية الصناعية — تضاعَف حجم المجموعة البشرية على نحوٍ مطرد. فلولا التواصل الرمزي ما كان هذا النمو المطرد ليصبح مُمكنًا أبدًا، أما مع التواصل الرمزي فقد كان حتميًّا على الأرجح.

الجماعة الاجتماعية البشرية التي ظلَّت لملايين السنين لا تزيد على عشراتٍ قليلة من الأفراد، حين حرَّرت نفسها من إرث الرئيسيات وتوسَّعت في قبائل من آلاف الأشخاص، بدأت عملية دمج بلغت ذروتها بتكوين دول قومية مُترامية ضمَّت ملايين الأفراد، وفرضت سيطرتها على وجه البسيطة بأكملها. ومسألة ما إذا كان نوعنا قادرًا على تحقيق عملية دمج أخيرة — حيث يتقاسم كل البشر الأحياء هويةً مشتركة كأفراد في ثقافة وحضارة عالمية واحدة — ستُحدِّد مستقبل نوعنا، وكذلك مستقبل أغلب أشكال الحياة على الأرض. وفي واقع الأمر، هذه المسألة من المسائل الجوهرية في هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤