الباب الأول

الفصيلة الحُوتيَّة١ أو فصيلة القياطس

القياطس Cetacea هي أضخم دَوابِّ البحر جُثَّة، بل إنها أكبر الحيوانات التي ظهرَت منذ الخليقة حتى اليوم. وليس ثابتًا بين عُلماء الحيوان من أيِّ فصائل الثدييَّات انحدَرَت هذه الدوابُّ ولا كيف أوَتْ إلى البحر ووصلَتْ فيه إلى هذه الضَّخامة غير العاديَّة. وقد قيل بصدَد ضخامتِها: إنَّ وجودها في ماء المُحيط مُعتمِدةً عليه أدَّى إلى اضمِحلال العَضَلات التي يعتمِد عليها الحيوان في اليابِسة حافظًا بها ثقله وبَدَنه ممَّا أدى بعد ذلك إلى نمو غير عادي لبقية أنسجة الجسم كلها، فوَصلَت إلى الضَّخامة التي هي عليها الآن. ولكن هذه الضخامة التي جعلَت منها سادَة المُحيط كثيرًا ما تكون سببًا في هلاكها؛ إذ إنَّها لو حُصِرت في خليجٍ ضيِّق أو جنَحَت إلى الماء الضَّحل، ثم دَفعها المَوج إلى الشاطئ ولامَسَت بصدرِها اليابِسة تعذَّرت عليها الحركة، فيضغَط جِسمُها بثِقَله العظيم على صدرِها فيَنُوء تحت حِملِه فيتثاقل التنفُّس، ثم تختنِق وتموت كما حدَث في عام ١٩٣٦م في المنطقة الواقعة شرقي رشيد؛ حيث دفع المَوج بواحِدٍ منها (شكل ١-١) إلى الشاطئ فاختنق ومات وهيكلُه العظمي (شكل ١-٤) لا يزال قائمًا للعرض في مُتحف معهد الأحياء المائية بالإسكندرية. وينبَغي أن نتنبَّه إلى كيفية اختنِاقها على اليابِسة بالضَّغط على الصَّدر لا كما تختنِق الأسماك في الهواء نتيجةَ بُعدِها عن الماء فهي لا تتنفَّس إلَّا الهواء الذَّائب فيه.
fig1
شكل ١-١: الهركول العادي وقد جنَح إلى الشاطئ (صورة فوتوغرافية خاصة بمعهد الأحياء المائية).

وما دُمنا بصدَد حجم هذه القياطس، فقد بالَغ كثير من القُدماء فيه، فقال بلنيوس (نقلًا عن بدارد) يصِف «سمكة» يُقال لها دابَّة العَنبر — وهي إحدى هذه القياطس — بأنها تبلُغ من الطُّول والعرض حدًّا كبيرًا جدًّا، فتُغطِّي من الأرض مساحة أكبر من فدَّانَين اثنين!

وجاء في حديث السِّندباد القديم أن «ابن الوَردى ذكر نقلًا عن القَزوِيني أن ببحر الخزر دَوابَّ عظيمةً مُختلفة الأشكال هائلة المنظر يُقال إن السمكة يمرُّ رأسُها كالجبل العظيم الشامِخ، ثم يمرُّ ذَنَبها بعد مُدَّة، ويُقال إنَّ مسافة ما بين رأسها وذَنَبها أربعة أشهر.» ومن الفُكاهات الطريفة المُتعلِّقة بضخامة هذه الدَّوابِّ أن يَهوديًّا كان ببحرٍ في سفينةٍ مُحمَّلة بِشُحنةٍ من البُرتقال فصادَفَها حُوت عظيم فابتلَعَها، فنمى خَبرُه إلى عشيرته فخَرجوا في أسطولٍ عظيمٍ واصطادوا الحُوت وجرُّوه إلى الشاطئ وفتَحوا بطنه، فوَجدوا صاحِبهم بخيرٍ يبيع البُرتقال لملَّاحي السفينة بعد أن عضَّهم الجوع!

غير أن كثيرًا من كُتَّاب العرب اعتدل في ذِكر طول هذه الدَّوابِّ، فمنهم من قدَّره بمائة ومنهم من قدَّره بخمسمائة ذراع. والثابِت أن أضخم هذه الدَّواب يبلُغ مائة قدَمٍ في الطول، أي ما يزيد بقليلٍ على الثَّلاثين مترًا. ويميل بعضُ عُلَماء العصر الحاضِر إلى الاعتِقاد بأن القياطس، قبل أن يُلاحِقها الإنسان بالصَّيد ويقتُل جموعها بالمئات سنويًّا في القرون الخمسة الماضية، كانت تُعمَّر فتبلُغ أكثر من ذلك في الطول. وليس معنى ذلك أن كلَّ أنواع القياطس تصِل إلى هذا الحَجم، بل إنَّ بعضًا منها كالدُّلفين الصغير لا يتعدَّى طول اليافِع منه مترًا واحدًا.

أردتُ بهذه المُقدِّمة عن هذه الدَّوابِّ أن أرسُم للقارئ صورة قريبة لِما يكون عليه تركيبها؛ فكلُّ شيء فيها ضخم يُقاس بالأمتار ويُوزَن بالأطنان. ولأنتَقِل به الآن إلى دِراسة هذه الحيوانات مُبتدئين بالشكل الخارجي (شكل ١-٢). وهو أقرَب ما يكون إلى شكل الأسماك مِغزَليٌّ يتركَّب من رأسٍ ضخم يكون في بعض الأنواع أكثر من ثُلث الجسم، ولا يُوجَد عُنُق ظاهِر بين الرأس وبقيَّة البدَن، وهذا ينتهي بذَنَبٍ ذي فصَّيْن يُقال لهما الوَشيعتَين Flooks وهما تُكوِّنان زَعنفةً مُستعرِضة تختلِف عن تلك الموجودة في الأسماك؛ حيث تكون رأسية، وهذه صِفة خارجية مُهمَّة تُميِّز القياطس عن الأسماك. وقد جاء هذا الاختلاف في وَضْع الزَّعنفة الذَّيلِيَّة تَبعًا لاتِّجاه حركة الحيوان؛ فالسَّمكة أغلَب ما تتحرَّك حركة أُفُقيَّة فجاء ذَنَبها رأسيًّا تضرِب به الماء يُمنةً ويُسرة، فيدفَعها إلى الأمام، بينما تغطُس القياطس من سطح الماء إلى الأعماق في حركةٍ عموديَّة من أعلى إلى أسفل، فجاء ذَنَبها مُستعرِضًا أُفُقيًّا، كما أن الزَّعْنَفة الذَّيلية في الأسماك يدعَمُها هَيْكل شُعاعي، بينما هي في القياطس مُدعمة بنسيجٍ لِيفيٍّ قوي عَديم الأشعة، ويبلُغ عرض الذَّنَب (أي الوَشِيعتَين) حوالَي ثلاثة أمتار في القياطس الكبيرة.
والفم مُتَّسِع يُوصَف بأنه كَهْفي تُحيط به شفَتان ثابِتتان وتُوجَد العَيْنان على جانِبَي الرأس خَلْف الفم، وهما صغيرتان وليس لهما غِشاء رامِش كما في مُعظَم الثدييَّات، كما أنَّ الغُدَّة الدَّمعيَّة صغيرة أو أثرية. والأنف ذو فتحةٍ واحدة أو فتحتَين تُوجَدان في أعلى الرأس، ويخرج هواء الزَّفير من الأنف بقوة بالِغة، وهو هواء ساخِن مُحمَّل بكثيرٍ من بُخار الماء يتكاثَف في الهواء الجوي، خصوصًا في المَناطق الباردة، فيبدو كالنَّافورة الشديدة (شكل ١-٢) شبَّهَها القُدماء بالمَنارة. وقد يندفِع قليل من ماء البحر مع هذا الزَّفير إذا زَفَر الحوت قُبيل أن يبلُغ سطحَ الماء. ويُميِّز الصيَّادون القياطس بهذه النَّافورة إن كانت واحدةً من فتحةٍ واحدة أو اثنَتَين من فتحتَين. وقد كانت الفِكرة السائدة قديمًا بين هؤلاء الصيَّادين أن القيطس يدفع هذا الماء من فمِه إلى أنفِه في عمليَّة التنفُّس، ولكن هذا خطأ؛ لأن القيطس يتنفَّس الهواء الجويَّ بالرِّئتَين فهو يصعَد إلى سطح الماء ليتنفَّس تنفُّسًا عميقًا، ثم يغوص إلى الأعماق باحِثًا عن قُوتِه.
fig2
شكل ١-٢: شكل تخطيطي لأحد القياطس (البال) ويُلاحَظ فيه هواء الزَّفير وقد صعَد في الجوِّ كالنَّافورة، كما يُلاحَظ على اليسار حُوت يَغوص في الماء عموديًّا تقريبًا (عن كتاب عِلم الحيوان للدكتور ولي إلخ).

وليس للأذُن صِيوان كما في بقيَّة أنواع الثدييَّات، كما أن فتحة الأذُن الخارجية، وهي تقَع خلْفَ العين بقليل، غاية في الدِّقة فهي في مساحة ثقب الدبوس في قيطس طوله مِتران، وذلك يرجِع بطبيعة الحال إلى عادَة هذه القياطس في الغَوص إلى الأعماق، فلو أن هذه الفَتحة كانت مُتَّسِعة لكان ضغطُ الماء على طبلة الأذن بالِغًا ممَّا يؤدي إلى تَمزيقِها. وتنتقِل ذَبذبة الصَّوت إلى الأذُن في القياطس بواسطة عِظام الجُمجمة.

ويتحوَّر الطرَفان الأماميَّان إلى مِجدافَين يَحفَظان توازُن الحيوان في الماء بينما اختفى الطرَفان الخَلفِيَّان أو صارا أثَرِيَّين. وتُوجَد في كثيرٍ من الأنواع زَعنَفة دُهنيَّة على الظهر تظهر من سطح الماء تشقُّه شقًّا عندما يكون الحيوان قريبًا منه، وقد شبَّهها القُدَماء — لضخامَتها — بالشِّراع. ومِمَّا هو جَدير بالذِّكر بصَدد أطراف القيطس أنها مُدعمة بهيكلٍ عظميٍّ قريب الشَّبَه من هيكل أطراف ذَوات الأربَع (شكل ١-٣) أي إنها ذات أصابِع، ولو أنَّها غير ظاهِرة فهي في هذا جدُّ مُختلفة عن أطراف الأسماك التي يدعمُها هيكل شُعاعي. وتمتاز أصابِع القياطس بأنها كثيرة السلامَيَات كثرةً غير عادية.
fig3
شكل ١-٣: هيكل الطرف الأمامي لسَمكة ودُلفين ويُلاحَظ أن سُلامَيَات الأصابع (١–٥) أكثر ممَّا هي عليه في مُعظم الفقاريَّات (عن براديل وبدارد).
وجِلد القيطس ناعِم لامع أملَس لا يكسُوه الشَّعر كما في بقيَّة الثدييات، فقد اختفى إلَّا من شَعراتٍ قليلةٍ صُلبة عديمة الغُدَد الدُّهنية تقَع حول الفم. وقد تظهر هذه الشَّعرات في الجنين، ثم تختفي أو تَظلُّ باقيةً في الحيوان اليافِع. وقد جاء اختفاء الشَّعر نتيجة مُلاءمة الحيوان للحركة السَّريعة في الماء، وإلا كان احتِكاك الشَّعر به عائقًا دون سرعة العوم. والشَّعر في بقيَّة الحيوانات الثدييَّة ذو وظيفةٍ هامَّة؛ إذ هو كِساء يحفَظ للجسم حرارته؛ ولهذا كان أشدَّ غزارةً في حيوانات المنطقة القُطبية فهو فيها فِراء. ولمَّا كان كثيرٌ من القياطس يعيش في المناطق الباردة، نجِدها قد استَعاضَت عن هذا الكِساء بطبقةٍ سميكة جدًّا من الشَّحم Blubber تقَع تحت الجِلد مُباشرة فتُساعِد على حِفظ حرارة الجسم كما أنها لخِفَّتها تُقلِّل وَزنه النَّوعي، وتُصاد القياطس من أجل هذا الشَّحم فهو يُستعمَل في شتَّى الصِّناعات الزَّيتيَّة كما سيجيء بَعْدُ. ولا تُوجَد بالجِلد غُدَد عرَقِيَّة كتلك التي تُميِّز مُعظَم الثدييَّات وذلك بطبيعة الحال يُوافِق الحياة في الماء.
fig4
شكل ١-٤: صورة فوتوغرافية في إحدى قاعات العَرْض بمعهد الأحياء المائية بالإسكندرية يظهَر فيها جانِب من هَيْكل الهركول العادي، ويُلاحَظ فيه أن الفقرات تتَّصِل بأجسامها فقط دون أقواسِها العصبية، والسَّهم يُشير إلى الفُقم الراهب مُحنَّطًا.
وعِظام القياطس على وجه العموم إسفنجية تَمتلئ تَجاويفُها بمادَّةٍ زيتيَّة؛ ولذلك جاءت خفيفةً في وزنِها نِسبيًّا. والفقرات (شكل ١-٤) كبيرة جدًّا لا تتَّصِل إلَّا بأجسامها فتُسَهِّل حركتها كل واحدةٍ مع جارَتَيها ممَّا يستطيع معه الحيوان ثَنْيَ جِسمه في يُسر. غير أن فقرات العُنُق، وهي سبْع في الأصل، كثيرًا ما تَندَغِم في كُتلةٍ واحدة. والقصُّ صغير نسبيًّا ولا يتَّصِل به سوى عددٍ قليلٍ من الضُّلوع لكي لا يكون القفَص الصدريُّ عائقًا لتمدُّدِ الصدر أثناء التنفُّس العميق الذي يلجأ إليه القيطس قبل أن يغُوص في الماء. والجُمجُمة ذات شكلٍ خاصٍّ مُميَّز ففيها محفَظَة المُخِّ كُرويَّة (شكل ١-٥) بينما تَمتدُّ عِظام الوَجْه إلى الأمام يُحيط بها كِيسٌ كبير من الشَّحم يقَع أمام محفظة المُخِّ كالدِّعامة يَصونها ويَقِيها أثَرَ الصَّدمات. وتختلِف الأسنان من حيث عددها ولكنَّها تكاد تكون كلها ذات شكلٍ واحد، أي ليس منها قَواطِع وأنياب وأضراس. وفي بعض القياطس لا تُوجَد أسنان في الحيوان اليافِع ولكنَّها تظهَر في الجَنين، ثم تَندثِر بعد ذلك، وينمو عِوضًا عنها في سقْفِ الحلْق عُضو يُسمَّى عَظْم الحُوت أو البالين Whalebone = Baleen (شكل ١-٦) مُركَّب من صفائح قَرْنِيَّة تتدلَّى منها خُيوط سميكة يَستعمِلها الحيوان كمِصفاةٍ يَحجُز بها الحيوانات الصغيرة العالِقة بالماء؛ ليتغذَّى منها كما سيجيء بعد.
fig5
شكل ١-٥: جُمجُمة دابَّة العَنبر، ويُشير الخطُّ المُنَقَّط إلى حدود الرأس في الحيوان الحَيِّ وتمتلئ المسافة بينه وبين عِظام الجُمجمة بشَحْمٍ وفير يَقِي محفظة المُخ (عن براديل).
fig6
شكل ١-٦: عَظْم الحوت أو البالين (عن براديل).

وللأنْثى ثَدْيان في منطقة الحَوض بالقُرب من فتحة الشرَج حيث تُوجَد الحلَمَتان على جانِبَيها، وتنمو الغُدد الثدْييَّة في وقت الرَّضاعة إلى حدٍّ كبير، ويتجمَّع اللَّبن منهما في حَوضَين كبيرين تتَّصِل بكلٍّ منهما إحدى الحلَمَتين. وعندما يرضَع الصغير من الثَّدْي تتقلَّص بعض العَضَلات المُتَّصِلة بحوض اللَّبن فينسكِب اللَّبن فيه كأنه خارج من مِحقَن، فلا يَستغرِق الصغير في الرَّضاعة سوى وقتٍ قصير، وهذا يُوافِق حاجة هذه الحيوانات البحرية؛ لأن الصغار ترضَع بطبيعة الحال تحتَ الماء.

ومن الصِّفات الظاهرة أنَّ الحنجَرة تستطيل وتمتدُّ إلى أعلى مُقابلةً فتحَتَي الأنف الدَّاخليَّتين فوق سقْف الحلْق؛ حيث تلتفُّ عليهما اللَّهاة، فتُحيط بهما فيَنتُج عن ذلك مَمرٌّ مُتَّصِل بين فتحتي الأنف والحنجرة فيستطيع الحيوان أن يفتح فمه، فيغمره الماء والتنفُّس آخِذٌ مَجْراه عن طريق هذا المَمَر؛ أي أن الحيوان يتنفَّس ويبتلِع في وقتٍ واحد، كما أن تركيب الحنجرة على هذا النحو يُساعد الرَّضيع على فتْح فمه أثناء الرَّضاعة من غير أن يصِل الماء أو اللَّبن إلى الحنجرة، وإلَّا اختنق، ولا يكاد يَستعمِل الأنف عُضوًا للشمِّ، بينما هو في الأسماك عضو ظاهِر تتعرَّف به على مواطِن الغِذاء. ولهذا تفسير طريف هو أن الأسماك في إبَّان نشأتها كانت تتعرَّف على رائحة المواد الذَّائبة في الماء فنَما عضو الشَّمِّ تَبَعًا لهذه الخاصية، فلما نشأت حيوانات اليابِسة من الأسماك وتركت الماء إلى اليابِسة، نما عُضو الشَّمِّ في البيئة الجديدة ليُحسَّ المواد الغازيَّة في الهواء الذي تتنفَّسه، فلما عادت القياطس — وقد انحدرَت أصلًا من حيواناتٍ بريَّة كانت تعيش على اليابِسة — إلى الماء، لم يعُد لعضو الشمِّ المُكيَّف لتَعَرُّف المواد الغذائية قيمة؛ لأن القياطس تهتمُّ بما في الماء لا بما في الهواء. هذا من ناحية ومن ناحيةٍ أخرى لو أن الماء وَصل إلى أنفِ الحيوان لاعْتراه ألَمٌ في أنفه وشعور مُضايق نُحسُّ به نحن عند وجودنا في البحر ونفاذ الماء إلى تجويف الأنف. وتَبَعًا لهذا اضمَحلَّ الأنف كعضوٍ للشمِّ في هذه الفصيلة وبات أثريًّا لا وظيفةَ شمِيَّة له سوى مرور الهواء فيه في طريقه إلى الرئتين ومنهما.

وليس للقياطس غُدد لُعابيَّة؛ وهذا طبيعي لأنَّ وظيفة هذه الغُدد إفراز اللُّعاب الذي يُسهِّل ابتِلاع الطعام، ولكن طعام حيوانات البحر بطبيعته مُندَّى بالماء، والمَعِدة كثيرة الغُرف أقلُّها ثلاث، والأمعاء بسيطة ولا تُوجَد للقياطس حَوصلة مَرارية، ولا تنقسِم الرئتان إلى فُصوص، كما أن الحِجاب الحاجِز يمتدُّ في خطٍّ مُستعرِض غير مُحدَّب؛ ولذلك تتمدَّد الرئتان إلى حدٍّ كبير جدًّا؛ ولهذا التمدُّد قيمتُه التنفُّسية كما أنه يَجعل من الرئتين عُضوًا هيدروستاتيكيًّا؛ فهُما في هذا يُشبِهان المَثانة الهوائية (أو العوَّامة) في الأسماك يقلُّ بها الوَزن النَّوعي ويَزيد تَبعًا لكثافة طَبَقة الماء.

والقلب مضخَّة كبيرة يقذِف في كلِّ ضربةٍ من ضرباته في دابَّة العَنبر من عشرة إلى خمسة عشر جالونًا من الدَّم، والأورطي أسطوانة ضخمة قُطرها حوالي القدم، كما أن كثيرًا من الشرايين ذات شِباكٍ دَمويَّة أي إنَّ الشَّريان تعترِض طريقه شَبكة من الأوعية الدقيقة تتجمَّع، ثم يجري الشَّريان في طريقه كما كان، ويُقال إنَّ كثرة هذه الشِّباك تُساعد الحيوان على حِفظ كميَّة كبيرة من الدَّم المُحمَّل بالأكسجين فتُساعده على المُكث تحت الماء فتراتٍ طويلة. وتُوجَد خِصيَتَي الذَّكر داخِل تجويف البَطن لا خارِجه كما في مُعظَم الثدييَّات. ومُخُّ القياطس كبير جدًّا كثير التلافِيف كثرةً تضَع القياطس بعد فصيلة الرئيسيَّات (أي فصيلة الإنسان والقِرَدة) في هذه الناحية.

والقياطس حيوانات اجتماعية تعيش في جماعاتٍ كبيرة يُسمِّيها الصيادون القُطعان أو المدارِس Schools في حدِّ تعبيرهم، والكبير منها يُفضِّل عرْضَ البحار بينما الصغير يُلازِم الشواطئ وقد تدخل الأنهارَ من مَصبَّاتها. وتعوم القياطس بقوَّةٍ وسرعة عظيمتين بالقُرب من سطح الماء لحاجتِها إلى الهواء، غير أنها تَستطيع المُكث تحت الماء فتراتٍ تختلِف على حسب الأنواع. منها ما يصِل إلى اثنتي عشرة ساعة.

وفترة الحمْل ليست معروفةً على وجه التحديد، ولو أنَّ سكامون (نقلًا عن سدجويك) يُحدِّدها في القياطس الكبيرة بتِسعة شهور إلى اثني عشر شهرًا، ويتمُّ السِّفاد بين الأنثى والذَّكر مُتلاصِقين صدرًا لصَدْر إما في وضعٍ عمودي أو أُفُقي.

والقياطس كلُّها من آكِلات اللحوم، تتغذَّى من الأسماك والقِشريَّات (كالجنبري وأبو جلنبو) والحيوانات الرخوة (كالحبار والأخطبوطات) وقناديل البحر والكائنات الدقيقة العالقة بالماء. ويُوجَد جِنس واحد من القياطس يُسمَّى القيطس القاتل يتغذَّى من الفُقَم (من سِباع البحر)، ومن القياطس الأخرى الصغيرة منها والكبيرة. وبعض قياطس المَناطق الباردة تُهاجِر عندما يُقبِل الشتاء في جماعاتٍ كبيرة مُتَّجِهة إلى الجنوب حيث لا يتجمَّد الماء، وذلك طبعًا لوَفرة الغِذاء وسهولة الحصول عليه.

وتُصاد القياطس منذ القِدم غير أن صيدَها لم يُتَّخَذ حِرفةً وصناعة إلَّا منذُ عهدٍ قريب، فقد جاء في حديث السِّندباد القديم بأنها «لم تَنتَظِم وتُتابَع إلَّا منذ القرن السادس عشر حين خرج الباسكيُّون من خليج غلسقونيا إلى المُحيط الأطلَسي خصِّيصى لصيد دَوابِّ البحر الكُبرى، والحصول على شحومها. وتدَلُّ إشارات كُتَّاب المُسلمين ومَن قَبلَهم إلى هذه الدَّوابِّ على أن سُكان البحر الشرقي الكبير (يقصِد المُحيط الهِندي) عرَفوا كيف يَستفيدون منذ أقدَم العصور بشحمِها في بعض أغراضهم.» والثابِت أنَّ الصيَّادين كانوا إلى عهدٍ قريب يَخشَون القياطس عند صيدِها؛ فكثيرًا ما كانت تُهشِّم قوارِب الصيد فيهلَك كثير منهم، كما أن الرَّحَّالة البحريِّين من العَرَب كانوا يَخشَونها كذلك. وقد جاء في أحاديثهم بأنهم كانوا إذا رأَوا واحدًا منها دقُّوا الطبول لكي ينفِر عنهم.

وكان صيَّادو القياطس يستعملون النَّشيال أو الخُطَّاف ويُسميه الأوربيُّون الهاربون Harpoon يُشدُّ إلى حبلٍ غليظ، ثم يُقذَف بقوةٍ إلى حيث يُوجَد القيطس. ويُسلِّح الصيادون في عصرنا الحديث سفينة الصيد الكبيرة بمِدفَعٍ ضخم يُنصَب على مُقدَّم السفينة تُقذَف منه النُّشول، ويُوجَد في طرف كلِّ نَشيل مادة مُفرقِعة تنفجِر بعد ثوانٍ من الهدف، وعند انفِجارها تنفَلِتُ من النَّشيل رِيشات مُدبَّبة طويلة تَغور في لحم القيطس فلا يَنساب من النَّشيل. والغالِب أنَّ إصابةً واحِدة لا تكفي لإعياء القيطس، بل تُطلَق عليه عدَّة نُشول تَخور من بعدِها قُواه وينبثِق من مكان الإصابات دمٌ غزير يذهَب في الهواء كالنَّافورة، خصوصًا إذا كانت الإصابة قد صادَفَت مَقتلًا في الرئتين، وبعد أن تَخور قوى القيطس تقترِب السفينة منه ويَشدُّ الصيادون حول وسطة سلسلةً ضخمة حيث يُجَرُّ إلى السفينة، ثم يُقطَّع قِطعًا تُغلى في أحواضٍ كبيرة للحصول على الشَّحم.

ويَستخدم الأمريكيون الطائرات للتعرُّف على أمكِنة القياطس حيث تكون بمثابة الأدِلَّاء فتُرسِل إلى السفينة إشارةً لاسلكيَّة فتُسرِع إليها. وهي تَستخدِم نُشولًا كهربائية تُطلِقها على القياطس، وبذلك تستطيع السفينة الواحدة ذات الحمولة المُتوسِّطة الحصول على كميَّةٍ وفيرة من شَحم القياطس. وقد ذكر هاملتون أنه في عام ١٩٣٠م استطاعت سفينة واحدة أن تجمَع ٦٢٠٠٠ برميل من شَحم دابَّة العَنبر في رِحلةٍ واحدة، كما رجعت أخرى ﺑ ٣٥٠٠٠ برميل من شحم هذا الحُوت من رحلةٍ واحدة أيضًا.

وتُصاد القياطس للحصول على شحمها، فقد كان يُستعمَل قديمًا وَقودًا للمصابيح، ولكن بَطَل هذا الاستِعمال باكتشاف البترول، فيُستخدَم الآن في صناعة الصابون وتشحيم الماكينات الصغيرة. ويقول دانيال أنه يُستعمَل أيضًا في صناعة المرجرين (أي السَّمن الصناعي). ويستخرج من قيطس ضَخمٍ واحد حوالَي مائتي برميلٍ من الشَّحم، وأجوده شحم دابَّة العَنبر الذي يُجمَع من كيسٍ كبير في رأسه (شكل ١-٥). وتقدَّر الكمية التي تُستخلَص من رأس الذَّكَر الكبير الواحد بستَّة عشر طنًّا، ومن المُتوسِّط بستَّةِ أطنانٍ فقط (عن هاملتون). وقد اضطُرَّ الإنجليز في السنَتَين الأخيرتَين أن يتَّخِذوا من لُحوم القياطس طعامًا بعد أن تيقَّنت صلاحيته للأكل، فبدلًا من استِعماله سمادًا كما هو معروف يُجمَع اللحم ويُحفَظ على هيئة شرائح تجفُّ وتُباع كما تُباع الأنواع المُختلِفة من لحوم الأبقار.
وتُصاد القياطس أيضًا من أجل عَظْم الحوت (شكل ١-٦) وهي المِصفاة المُدلَّاة من سقْف الحَلْق الوارد ذِكرُها، فتُزال منه الخيوط السميكة، ثم يُغلى حتى يَلِين، ثم يُقطَّع إلى عيدانٍ مُختلفة الطول والسُّمك تُستخدَم في تقويم المَلابِس كما تُصنَع منها أضلاع المِظلَّات، غير أن خَيَّاطي المَلابِس يَستعيضون عنها اليوم بأسلاكٍ من الصُّلب. وقد كان يُباع الطنُّ الواحد من البالين في عام ١٧٩٨م في إنجلترا بألفين من الجُنَيهات أو يزيد.

وتُصاد القياطس أيضًا من أجل مادة العَنبر وهي مادة دُهنية ذات لونٍ مُعتم اكتسب شُهرة عظيمة بين أصناف العُطور، غير أنها في الشَّرق خاصة كانت ولا تزال تُستعمَل دواءً وعِطرًا. قال الدُّميري في كتابه حياة الحيوان الكبرى: «قال المُختار بن عَبدون: العنبر حارٌّ ويابِس وهو دون المِسك، وأجودُه الأشهب الخفيف الدَّسَم وهو يقوِّي القلب والدِّماغ ويزيد في الرُّوح وينفَع في الفالِج واللَّقوة والبلْغَم الغليظ ويُولِّد شجاعة!»

ويتولَّد العَنبر في مَعيِّ أحد أجناس القياطس يُطلِق عليه العرب «دابَّة العنبر»؛ وذلك أنَّ هذه الدابَّة تتغذَّى من حيواناتٍ رخوةٍ ضخمة منها الحبَّار والأخطبوطات Cuttlefish تسعى إليها في الأعماق حيث تعيش، ثم تفترسِها بعدَ معركةٍ عنيفة بينهما. ولهذه الحيوانات الرَّخوة مَماصَّات سَميكة قوية ومَناقير قَرْنيَّة حول فتحة الفم، فإذا وصلَت هذه المناقير إلى الأمعاء هيَّجَتْها تَهييجًا شديدًا فتُفرِز عليها الأمعاء مادة، وُجِدَ من تحليلها الكيميائي أنها أشبَهُ ما تكون ببعض أملاح الصفراء المُسمَّاة كولسترين، والتي كثيرًا ما تُسبِّب حصًى في مرارة الإنسان أو مَجاريه الصفراوية نتيجة التِهابها، فتَترسَّب هذه المادة حول المناقير فتتكوَّن منها كُتَل مُختلِفةُ الأحجام أضخمُها ما أشار إليها هامتلون، قِطعة استُخرِجت من دابَّة عنبر واحدةٍ زِنَتُها سبعمائة وخمسون رَطلًا، ولو أنَّ هاملتون يقول بعد ذلك إنَّ كميَّة العَنبر التي ورَدت إلى الولايات المُتَّحدة الأمريكية في عام ١٩٢٢م لم تتعدَّ أربعةً وأربعين رطلًا بِيعت بأحد عشر ألفًا من الرِّيالات الأمريكية أي بِمُعدَّل خمسة جنيهات للأُوقية الواحدة.

وقد عرَف العرب الصِّلة بين العنبر ودابَّة العنبر، غير أن كثيرًا منهم ذهب مَذاهِب شتَّى في أصله ومنبعه، فتارَةً هو من أصل شجرة وتارة من قاع البحر إلى غير ذلك. وأغلَب الظنِّ أن مرجِع ذلك إلى أن دابَّة العنبر كثيرًا ما تلفِظ هذه المادة أو أن تَموت فتحلَّل جُثَّتها وتتبقَّى مادة العنبَر فتطفو فوق سطح الماء فتعثُر عليها السفن أو أن يدفعها المَوج إلى الشاطئ فيجمعها سكان السواحل.

ومن الأخطاء الشائعة في مصر أن زيت كَبِد الحوت Cod liver oil يُستخرَج من كَبِد هذه الحِيتان. والواقع أن هذا الزيت يُستخرَج من كَبِد سمَكٍ عَظمِيٍّ يُسمَّى البَكَلاه (من الكلمة الإسبانية Bacalao) واسمه باللاتينية Gadus.
وتُقَسَّم القياطس الحيَّة إلى قِسمين كبيرين:
  • (١)
    القياطس عديمة الأسنان أوقياطس البالين Mystacoceti.
  • (٢)
    القياطس ذوات الأسنان Odontoceti.

القياطس عديمة الأسنان

تتميَّز هذه القياطس بأن الأسنان تتكوَّن في الجنين، ثم تختفي بعد ذلك وينمو عِوضًا عنها البالين أو عَظم الحُوت، كما أن للأنف فتْحتَين، والجُمجُمة مُتضاهِية الجانِبين، وضبَّتا الفكِّ الأسفل مُقوَّستان إلى الخارج ولا تتَّحِدان فلا يُوجَد ارتِفاق ذَقنِي، والقصُّ مُركَّب من قِطعة واحدة.

وأهمُّ مُميِّزٍ لهذه القياطس هو وجود عَظم الحوت أو البالين (شكل ١-٦) وهذا كما قدَّمْنا ينمو من الغِشاء المُبطِّن للفم في سقف الحلق. ويَتركَّب من عددٍ من الألواح القَرْنِيَّة يصِل في بعضها إلى ٣٨٠ تتدلَّى منها خيوط غليظة تُحاكي الشَّعر الصُّلب يزدَحِم بها تَجويف الفَمِ. ويَختلط طول الألواح القَرنيَّة فيصِل في بعض الأنواع إلى حوالَي أربعة أمتار. وطريقة الإطعام بهذا البالين هو أن يفتح البال فمَه الكَهفيَّ فيتدفَّق الماء إليه مُحمَّلًا بكثيرٍ من الحيوانات كالأسماك والقِشريَّات والحيوانات الدقيقة العالِقة بالماء، فإذا أطبَق البال فمَه حُجِزَت هذه الحيوانات في خُيوط البالين، ثم يتقلَّص اللسان العَضلِيُّ الكبير فيَزُقَّها إلى البُلعوم. وقد قيل إنَّ النبِيَّ يونس عندما ابتلَعَه الحُوت كان قائمًا في فمِه مُختبئًا بين خُيوط البالين فكان يتنفَّس كلَّما فتح الحوت فاه، وهذا أقرَب إلى العقل عمَّا إذا كان الحُوت احتواه في مَعِدته.
ويشتمِل هذا القِسم على أكبر القياطس وأعظمِها جُثَّةً، نذكُر منها على سبيل المِثال:
  • (١)
    البال الأصيل Right Whale واسمه العلمي Balaena وسُمِّي هذا الجِنس أصيلًا لأنه هو الحُوت الذي يَستحقُّ من الصيَّادين العناء، وذلك لِجَودة صنف عَظْم الحوت فيه وطوله البالِغ، كما أنَّ شحمه وَفير من نوعٍ مُمتاز غاية في الجَودة؛ فالحصول إذَن على بال أصيل يَعدُّه الصيادون ثروة.

    وتتميَّز أنواع هذا الجِنس بأن الرأس فيها يكون رُبع طول الجِسم أو أكثر، وجميع فقرات العُنق مُندغِمة في كُتلةٍ واحدة، ويتراوَح طول هذه القياطس بين خمسين وستِّين من الأقدام.

    ومن أنواع البال: بال جرينلند B. Mysticetus (شكل ١-٧) يُوجَد في المنطقة القُطبية فلا يتعدَّاها، وهو أسود اللون إلَّا من رُقعةٍ بيضاء تحت فكِّه الأسفل ويَنبُت له شَعر قليل عند نهاية الفم، وتجويف الفم أكبر من تجويف الجِسم كُلِّه؛ فالفكُّ الأعلى ضَيِّق مُقوَّس إلى أعلى ليسمح بازدِياد الألواح القَرنيَّة في الاستِطالة، كما أن ضَبَّتي الفكِّ الأسفل بَعيدتان عن بعضهما من الخَلف فيتَّخِذ تجويف الفم شكل المِلعَقة الضخمة، ويبلُغ عدد الألواح القَرنيَّة ٣٨ أو أكثر في كلٍّ من النَّاحِيَتين يصِل طول الوُسطى منها حَوالي أربعة أمتار، وهي سوداء، كما أن الخيوط مَرِنة ناعِمة كالحرير، ويتغذَّى هذا البال من الكائنات الدقيقة العالِقة بالماء Plankton والتي تعجُّ بها المناطق القُطبية.

    وقد تضارَبَت أقوال الصيادين عن الوقت الذي يستطيع هذا البال مَكثَه تحت الماء غير أنه يُظنُّ أن أقصاه ثمانون دقيقة. وَصَيد هذا البال خطَر؛ لأنه يهجم على القوارِب بقوَّة، كما أنه يغوص بسرعةٍ وقوَّةٍ كبيرتَين إلى الأعماق البعيدة، ويُناضِل نِضالًا شديدًا للتخلُّص من النُّشول. وقد نَقَل الدكتور صرُّوف «أنه غاصَ عموديًّا فصَدَمَت جُمجُمتُه قعْر البحر على عُمق ٨٠٠ يرد فتكسَّرت.» ومع ذلك فهو جَبان حتى قيل إنه يرتعِش من الطيور التي تَحطُّ على ظهره. ومن أبرز صفاته حُنُوُّه العظيم على صِغاره، فهو من أكثر الحيوانات حَدبًا عليها، أو كما يقول سكامون حدبًا أوْلى بالإنسان وأجدَرُ من هذه الدَّابَّة. ولكثرة ما صِيد منه يُخاف عليه من الانقِراض.

    fig7
    شكل ١-٧: بال جرينلند (عن فلور).
    ومن الأنواع أيضًا بال الجنوب B. australis واسِع الانتِشار، يَؤم جميع البحار عدا منطقة انتشار بال جرينلند، وقد كان هذا البال من أهم الأنواع التي تَتَبَّعها الباسكيُّون من سُكان شواطئ فرنسا وإسبانيا الغربية، والبالين فيه أقصر منه في بال جرينلند، ويصِل طوله إلى عشرة أمتار ويستطيع أن يدخل الأنهار غير أنه لو عجِز عن الرُّجوع إلى البحر مات جُوعًا؛ ففي البحر وحده تجِد هذه الدَّواب الضخمة كِفايَتها من الغِذاء.
  • (٢)
    الهركول Rorqual واسمه العلمي Balaenoptera وجمع هركول هراكلة، وقد جاء في مُعجَم الحَيوان بأن «الهركول حُوت هائل له زَعنَفة كبيرة في ظهره سُمِّي به المنارة.» وجاء فيه أيضًا «وفي التاج: والهراكِلة ضِخام السَّمَك وبه فُسِّر قول ابن أحمر الباهِلِي يَصِف دُرَّة:
    رأى مِن دُونِها الغوَّاصُ هَولًا
    هراكِلَةً وحِيتانًا ونونًا»

    ويقصِد أنَّ الغوَّاص صادَف في سبيل الدُّرَّة الأهوال من هذه الهراكِلة والحِيتان والنون وهي الحِيتان أيضًا.

    ويختلِف الهركول عن البال في ثلاث صِفاتٍ خارجية مُهمَّة؛ أولها أن الرأس صغير نسبيًّا عنه في البال ووجود الزَّعنفة الظهرية، كما أنه تُوجَد في الهركول على منطقة العُنق والصدر ثَلَمَات طويلة مُنتظمة في صفوفٍ يَختلِف عددُها من هركول لآخر، كما أن فقرات العُنُق غير مندغِمة.

    والهراكيل أضخم الحيوانات على الإطلاق، فمِنها الهركول الأزرَق B. sibbaldina وهو أكبر حيوانات الدُّنيا، فيَصِل طوله إلى ثلاثين مترًا ونِصف، ويصِل فيه طول الطرف الأمامي أي المِجداف إلى أربعة أمتار، ولونه أزرَق داكِن مُنقَّط على الصَّدر أبيض، ويقضي الشتاء في عَرض المُحيط، ثم يقترِب من شواطئ النِّرويج في شَهري إبريل ومايو. وفي هذه الفترة يتغذَّى من حيوانٍ قِشريٍّ صغير يكثُر في الخِلجان المعروفة بالفيورد.
    ومن الهراكيل أيضًا الهركول العادي B. musculus (شكل ١-١) ذو لون ارتوازي أبيض البطن، يصِل طوله إلى اثنين وعِشرين مترًا أو يزيد، وعَظْم البالين فيه ارتوازي به زَركَشة صفراء أو بُنِّية. وهو أكثر الهراكيل انتشارًا ويتغذَّى من الأسماك خصوصًا الرِّنجة حيث يؤم مناطق انتشارها. وُجِد في مَعِدة واحدٍ منه عدَّة براميل من هذا السَّمك، وكثيرًا ما يصِل هذا الهركول إلى البحر الأبيض المتوسط، وهو النوع الموجود هَيكله بمُتحف معهد الأحياء المائية بالإسكندرية (شكل ١-٤)، كما يُوجَد منه هيكل بمُتحَف فؤاد الأول الزراعي بالجيزة قذَفَه البحر بجِهة رُمَّانة على بُعْد ١٦ ميلًا شرقي بورسعيد في إبريل ١٩٣٤م، كما يُوجَد هيكل آخر منه معروضًا في مُتحف حديقة الحيوان بالجيزة أهدَتْه إليها مصلحة الحدود في مايو ١٩٢٧م حيث عثَرَت عليه بالقُرب من مرسى مطروح. من هذا يتَّضِح أن تردُّد هذا الهركول على بحرِنا الأبيض غيرُ قليل.
  • (٣)
    جَمَل البحر Humpback واسمه العلمي Megaptera وهو قريب الشَّبَه من الهراكيل سوى أن الزَّعنفة الظهرية فيه غير واضحة إنما احتل مكانها سَنام يُحاكي سَنام الجَمَل، ومن هنا جاءت تَسميتُه، ولِجَمل البَحر مِجدافان بالِغا الطول يضرِب بهما الماء ويُداعِب أفراد جِنسه مُداعبة يسمَعُها الصيَّادون من مسافة كبيرة، وهو كالهراكيل واسِع الانتشار ويقطُن البحار الشمالية والجنوبية على السواء، ويُوجد نوع منه في الخليج الفارسي، ويصِل طوله إلى ثمانية عشر مترًا والأنثى أطول من الذَّكر.

القياطس ذوات الأسنان

تمتاز هذه القياطس بأن لها أسنانًا لا عَظْم حوت، وفتحة الأنف فيها واحدة والجُمجمة غير مُتضاهِية الجانِبين إذ يعظُم الجانب الأيمن عن الأيسر، والقصُّ مُركَّب من عددٍ قليل من القِطَع يتَّصِل بها عدد قليل من الضلوع.

وتشتمل هذه القياطس على عددٍ كبير من الأجناس نذكُر منها على سبيل المثال:
  • (١)
    دابَّة العَنبر Sperm whale واسمُها العلمي Physeter وتمتاز دابَّة العنبر بكِبَر رأسها لوجود وسادة ضخمة من الشحم أمام محفظة المُخ ممَّا يُكسِبها شكلًا صندوقيًّا، وتُفرِز هذا الشحم خلايا كبيرة تقَعُ على طول المَمَرِّ الأنفي، وتُوجَد الأسنان على الفكِّ الأسفل فقط، وهي أسنان غاية في القوَّة أشبَهُ ما تكون بأسنان فرَس النهر (سيد قشطة). ومن أنواعها العنبر السبرماسيتي P. macrocephalus (شكل ١-٨)، مُنتشِر في البِحار الحارَّة ويُظنُّ أنه كان موجودًا بكثرةٍ في البحر الأبيض المُتوسِّط منذ ثلاثة آلاف سنة، وهو من أضخم القياطس فيصِل طوله إلى اثنَين وعشرين مترًا والأنثى أصغر من الذَّكر بكثير.
    ويُصاد هذا العَنبر من أجل الشحم الموجود تحت الجِلد ويُعرَف في الصناعة باسم Sperm oil ومن أجل الشحم الموجود في الوسادة واسمه Spermaceti ومعناه نُطفة القيطس، وقد عُرِف الفرق بين الشحمين فكانوا يظنُّون أن الثاني منه — نظرًا لسُيولته — مَنِيَّ الحيوان، ثم ظنُّوه بعد ذلك مُخَّ الحيوان، حتى جاء هنتر وكمبر في أواخر القرن الثامن عشر واكتشفا حقيقته (انظر بدارد). ويُصاد هذا العنبر أيضًا من أجل مادة العنبر، وهي كما قدَّمنا إفراز في أمعاء القيطس، ولكلِّ هذه المواد تَتبَّع الإنسان هذا القيطس من قديم فَصِيدَ منه الكثير حتى أصبح قليلًا ويُخشى عليه من الانقراض. ويتغذَّى هذا العنبر من الأخطبوطات والحبَّار وكثيرٍ من الحيوانات الرَّخوَة عديمة الأصداف التي تعيش في الأعماق البعيدة، كما أنه يفترِس الأسماك الكبيرة، وهو حوتٌ جبَّار ذو قوَّةٍ هرقليَّة فيستطيع أن يقفِز بجِسمه كلِّه فَوق الماء. ويَظنُّ سكامون (عن بدارد) أن السفن التي تنقطِع أخبارُها لغير سببٍ ظاهِر، كثيرًا ما يكون هذا العنبر سبَبَ هلاكها.

    وهناك عنبر يُسمَّى العنبر القِزم لا يتعدَّى طوله أربعة أمتار ونِصف يقطُن البحار الجنوبية.

    fig8
    شكل ١-٨: دابَّة العنبر (العنبر السبرماسيتي) (عن فلور).
  • (٢)
    الحوت الأبيض White Whale واسمه العلمي Delphinapterus leucas وكما تُشعِر التَّسمية هو أبيض اللَّون. والغريب أن الصِّغار تُولَد سوداء، ثم تُقَشَّر شيئًا فشيئًا حتى يَزول سوادها — وهو مُنتشِر في البحار الشمالية وقد يدخل الأنهار كنهر سنت لورنس بأمريكا الشمالية — ومن صِفاته المُميِّزة وجود ثمانية أو عشرة أسنانٍ في طرف الفكَّين الأمامي.
  • (٣)
    كركدن البحر Narwhal (شكل ١-٩) واسمه العلمي Monodon monoceros، قريب الشَّبه من الحوت الأبيض ويعيش في البحار المُتجمِّدة الشمالية، وسُمِّي كذلك لأن للذَّكر نابًا طويلًا جدًّا مُستقيمًا يُحاكي الرُّمح يظنُّ بعض العلماء أنه صِفةٌ شِقِّيَّة ثانوية، فهو غير موجود في الأنثى، ويظنُّ البعض الآخر أنه يَبقُر به بَطن فريسته ويُدافع به عن نفسه ويُحطِّم به الجليد إذا تكثَّف حوله. ويَصِل طول الناب إلى سبعة أو ثمانية أقدام وعاجُه جيِّد غالي الثمن ولا عَيب فيه سوى أن الناب مُجوَّف فتقِلُّ قيمته في صناعة الأدوات الصغيرة. وقد شاهد بعض الرَّحَّالة ذكور كركدن البحر يمزحون ويتحاطَبون بأنيابهم.٢
    fig9
    شكل ١-٩: كركدن البحر ذَكر وأنثى (عن هاملتون).
    ويَظنُّ بعض الصيادين خطأ بأن كركدن البحر يَخرِق السفينة بنابه ولكنَّه في الواقِع حوت مُسالم، وما يفعل ذلك سوى السَّمك السيَّاف Swordish.
  • (٤)
    خنزير البحر Porkpisce, Porpoise واسمه العلمي Phocaena ويُوجَد منه نَوعان أحدهما واسِع الانتِشار، أما الثاني فخاصٌّ بالمُحيط الهادي فقط. أما الأول، فقد شُوهِد بباريس في نهر السين، وقد كان كثير من الأوربيين يأكلونه ظنًّا منهم أنه نوع من الأسماك. ويمتاز خنزير البحر بأسنانه الكثيرة فلَه منها عدد يَتراوح بين اثنين وثلاثين واثنين وخمسين في كلِّ فك.
  • (٥)
    القاتل Killer واسمه العلمي Orca gladiator وهو حوت ضَخم يصِل إلى عشرة أمتار، أبلَق بين أسود وأبيض وأصفر، كما أنه واسِع الانتِشار فيُوجَد في جميع المُحيطات تقريبًا، ومن صفاته التشريحية أنَّ عدَد أسنانه يتراوَح بين عشرةٍ واثني عشر في كلِّ فك، وله زَعنفة ظهرية قويَّة كبيرة مُدبَّبة.

    وهذا الحوت من أشدِّ القياطس بل من أشدِّ الحيوانات فتكًا. وُجِد في مَعِدة واحدٍ منه ثلاثة عشر من خنازير البحر المُتقدِّم ذِكرها وأربعة عشر فُقمًا، ووُجدت في مَعِدة آخَرَ أربعة وعشرون فُقمًا، فهو يتغذَّى منها ومن الأسماك الكبيرة ومن القياطس، الكبير منها والصغير. وقد ذكر فرانجيس بأن القاتل إذا تعقَّب قيطسًا ذُعِر منه ذُعرًا شديدًا فيُغمغِم كما يُغمغِم الثَّور ويَخور خُوارًا عاليًا.

    ويُسمِّي بونتنج هذه القياطس ذِئاب البحر لأنها تصيد القياطس الضخمة كما تصيد الذئاب الثِّيران والوُعول، فعندما تُشاهد هركولًا مثله — الذي يصِل حجمُه أضعاف حجم القاتل — يُدبِّرون خطَّةً مُحكمة للقضاء عليه كما تفعل الذئاب، فيُسرع اثنان منهم إلى الأمام ويقبِضان على الفكِّ الأسفل بقوَّةٍ شديدة من كلِّ ناحية، ثم يقفِز الآخرون فوق الماء ويضرِبون الهركول بأذنابِهم أو مَجادِيفهم ضربًا شديدًا، ولا يزالون به على هذه الحال حتى يُنهِكون قُواه فيَسقُط فكُّه الأسفل الضَّخم، وهنا يَلِج أحد القَتَلة إلى فَمِ الهركول وينهَش لِسانه فلا يملِك لنفسه بعدَها حولًا ولا قوَّة ويُصبِح فريسةً هيِّنة للقَتَلة فيُقطِّعونه إرَبًا.

    وتستطيع هذه الذئاب أن تغوص تحت طبَقات الجليد، ثم تُهشِّمها بظهورها فينزل كلُّ كائن حيٍّ كان فوقها إلى الماء لتسقُط في أفواه الذئاب؛ ولهذا كانت جموع الطائر الأكتَع أو البطريق الذي يعيش في المناطق القُطبية الجنوبية فريسةً سهلةً لها.

  • (٦)
    الدُّلفين Dolphin واسمه بالعامية الدرفيل وأشهر أنواعه Delphinus delphis (شكل ١-١٠) وهو من أوسَع الحِيتان انتشارًا يَعيش في البَحرَين الأحمر والأبيض المتوسط، وكثيرًا ما يُشاهَد فيهما يَتبع السفن في جماعات كبيرة ويقفِز من الماء في مرحٍ كأنه يلهو؛ ولذلك اشتُهر من قديمٍ بِحُبِّ الناس له. فذكر النويري «فأما الدُّلفين — وهو كالزَّقِّ المَنفوخ، وله رأس صغير جدًّا، وهو يُوجَد في بحر النِّيل يَقذِفه بحر المِلح إليه ويُقال: ليس في دوابِّ البحر ما له رِئة غيره؛ فلذلك يُسمَع له التنفُّس والنَّفخ، وهو إذا ظفِر بالغَريق كان أقوى الأسباب في نَجاته، فإنه لا يزال يدفعُه إلى البرِّ حتى يُنجيه، وهو من أقوى الدوابِّ المائية، ولا يؤذي ولا يأكُل غير السَّمك، وربما ظهر على وجه الماء وهو نائم كالميِّت، وهو يلِد ويُرضِع، وأولاده تتبَعُه حيثُ ذهب، ولا يلِد إلَّا في الصيف، وفي طبعه الأُنْس بالناس وخصوصًا الصبيان، وإذا صِيد جاءت الدَّلافين لقِتال صائده، فإذا أطلَقه انصرفَت، وأهل المَراكِب في البحر الفارسي إذا رأوه استبشروا به وأيقَنوا ببلوغ المأرب.»
    fig10
    شكل ١-١٠: دلفين البحر الأبيض المتوسط (صورة فوتوغرافية خاصة بمعهد الأحياء المائية بالإسكندرية).

    وقد نقل الدُّميري مُعظَم ما جاء في هذه الفقرة ولكنَّه أضاف عليها في باب خواصِّ الدُّلفين خُرافاتٍ كثيرة، نذكُر منها أن شحم كُلاه إذا أُذيب بالنار ودُهِن به مع دُهن الزئبق وَجهُ امرأةٍ أحبَّها زوجها! والذي يَسترعي الانتباه في وصف النُّويري للدُّلفين أنه وَصفٌ دقيق بالنسبة للعصر الذي كان فيه، ولولا الفقرة الخاصَّة بمُساعدة الغرقى وأُنسه بالصبيان لكان الوَصف بعيدًا عن النَّقد. وأغلَب الظنِّ أن هاتين الملحوظتين إنما مَرجِعهما لقصَّةٍ قَصَّها بلنيوس اليوناني عن دُلفينٍ صادَقَ صبيًّا فكان يَمتَطيه الصبيُّ ليعبُر به إحدى جَونات البحر، وإلى عادة الدُّلفين في اقترابه من الشواطئ ودُخوله الأنهار. وهو — باعتباره حيوانًا ثدييًّا — ذو قدْرٍ غير قليل من الذَّكاء، لا يَجفُل من الناس.

    وتتغذَّى الدلافين من السَّمك ويتراوَح طولُها بين مترٍ واحد وثلاثة أمتار، ودُلفين البحر الأبيض المُتوسِّط يبلُغ طوله حوالَي مترين أو يزيد بقليل، وله زَعنفة وفمٌ مُستطيل به أسنان عديدة تتراوَح بين ثمانين ومائة وعشرين على كلِّ فكٍّ ولكنها أسنان صغيرة، وتُوجَد أجناس كثيرة من الدلافين يحتوي كلٌّ منها على عددٍ من الأنواع.

    وتُوجَد من القياطس غير ما ذكرت أجناسٌ أخرى كثيرة، منها الحيُّ ومنها البائد، تختلِف عن بعضها البعض ولا يَتَّسع المقام لذِكرها غير أنَّني أوَدُّ قبل أن أختِم هذا الباب عن القياطس أن يقِف القارئ معي مُتأمِّلًا هذه الدواب، مُتأمِّلًا في تركيبها وضَخامتها وعاداتها فيَجِد أنها من أكثر الحيوانات احتفاظًا بوحدتِها أو قُلْ بشخصيَّتها، فقلَّما نجِد مجموعةً من الحيوانات قد طاوَعَت البيئة فلبِستْها إلى هذا الحدِّ الكبير، فهذه ثدييَّات انحدَرَت من غير شكٍّ من ثدييَّاتٍ كانت تَعيش يومًا على اليابِسة فتركَتْها إلى البحر لتَصِل فيه إلى هذه الدَّرجة الرائعة من المُلاءمة البيولوجية، فجمَعت بين صِفاتٍ كثيرة، صِفاتها كحيواناتٍ ثدييَّة صِرفة وصِفاتها الجديدة التي اكتسبتْها من بيئتها الجديدة، فجاء بُنيانها غايةً في الإحكام والدِّقَّة والتَّخصيص، غايةً في الكمال، فالقياطس في هذه الناحية تُقارَن بالخفافيش (الوطاويط) فهذه قد لاءمت المَعيشة في الهواء كأنها الطيور، بينما لاءمت القياطس المَعيشة في الماء كأنها الأسماك. والخفافيش بعيدة عن الطيور كما أن القياطس أبعد عن الأسماك، وفَصيلتا الخفافيش والقياطس أقرَب كلٌّ منهما إلى الأخرى منهما إلى أيٍّ من الفصائل التابِعة لمَراتِب المملكة الحيوانية المُختلفة، فكلتا الفَصيلتَين حيوانات ثدييَّة، وقد عرَفْنا فيما تشترك حيوانات هذه المَرتبة من الصِّفات التشريحية التي جعلَت منها مجموعة تقسيمية قائمة بذاتِها بين مَراتِب المملكة الحيوانية الأخرى. وقد يعجَب القارئ من اللَّبس الذي كان يقَع فيه القُدَماء إذ كانت تُشْكِل عليهم القياطس فاعتبروها أسماكًا كما كانت تُشْكِل عليهم الوطاويط، فذهبوا بها مَذهبَ الطيور. والواقع أن الفَضل لوَضْع كلٍّ من هاتين الفصيلتين في وَضعهما الصحيح إنما يرجِع إلى دِراسة العِلم البَحْت دِراسةً مَبنيَّة على أساسٍ متين من المُلاحَظة والدِّقَّة العلمية في تَناوُل الكائنات بوجوهٍ نكون مُنصِفين إذا قُلنا إنها لم تكن مُيسَّرة لكُتَّاب العصور القديمة والوسطى.

١  جاء في الإفصاح (للأستاذَين الصعيدي وموسى: طبع دار الكُتب المصرية ١٩٢٩م) الحوت: السَّمك كلُّه. وقيل: هو ما عظُم منه والجَمع أحوات وحِيتان، ومن أسماء ضروبه النُّون والبال والبِياح والجَوفي والزَّجر والدَّخس والدوع.
٢  أي يلعبون الحطَب، كنوعٍ من المُبارَزة تُستبدَل السيوف فيها بِعصِي غليظة وهي مُباراة معروفة في الصَّعيد خاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤