الفصل الخامس

حماقات العولمة المالية

إن الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي من المناسبات الاجتماعية الأهم لكبار المصرفيين وصناع السياسة الاقتصادية في العالم. وهي لا تشبه تمامًا «المنتدى الاقتصادي العالمي» بدافوس، حيث يجتمع صفوة رجال السياسة والأعمال في العالم؛ لأن الرابط الذي يربط بين أعضاء هذه الاجتماعات يتمثل في علاقات حكومية لا في رعاية شركات، علاوةً على أن خيار الاستمتاع بممارسة التزلج ليس مطروحًا أمام الحضور كما هي الحال بالنسبة إلى حضور منتدى دافوس، والمواضيع المطروحة للنقاش نادرًا ما تشرد وتتجاوز المجالَين الاقتصادي والمالي، ولا بد من ارتداء رابطة عنق. لكن هذه الاجتماعات مناسِبة لكبار المسئولين في الولايات المتحدة وأوروبا كي يزهوا بأنفسهم وتزهو بهم وسائل الإعلام تحت الأضواء. في الوقت نفسه، يستطيع وزراء مالية الدول النامية ورؤساء بنوكها المركزية أن يخدعوا أنفسهم بأن يعتقدوا أن بقية العالم يعيرهم شيئًا من الانتباه.1 في هذه الاجتماعات هناك خطب رسمية مملة، ولجان تحقيق بشأن مواضيع ذات أهمية عالمية، وهناك أيضًا الكثير من الأطراف بالطبع. وكما هو معتاد في مثل هذه المناسبات الرسمية، يكون العمل الحقيقي على التوصُّل إلى قرارات وصياغة بيانات قد أُنجز بالفعل في وقت سابق، وأية مباحثات متبقية عادةً ما تُعقد على هامش الاجتماعات.

(١) التشجيع على تحرير رأس المال العالمي

كان اجتماع صندوق النقد الدولي في هونج كونج في سبتمبر ١٩٩٧ يتضمن بعض العمل الحقيقي الذي كان ينبغي إنجازه؛ فقد كان ميشيل كامديسو — المدير العام لصندوق النقد الدولي — يأمل في أن يُتوِّج فترة تولِّيه منصبه بالحصول على موافقة رسمية من مجلس إدارة الصندوق على تمديد فترة السلطة القضائية التي يملكها الصندوق على تحرير تدفقات رأس المال. كان صندوق النقد الدولي منذ أواخر الثمانينيات مؤيدًا قويًّا لتحرير أسواق رأس المال، وكانت النصائح التي يقدمها للدول الواقعة تحت سلطته تعكس هذا الميل أكثر فأكثر. وبدأت العديد من الدول النامية في التحرر من الضوابط التي التزمت بها في مجال الإقراض والاقتراض الدولي، مثلما فعلت الدول المتقدمة نفسها عقب حل نظام بريتون وودز.

عادةً، كان يُحظر قانونًا على مواطني هذه الدول قبل ذلك أن يأخذوا أموالهم إلى خارج البلاد للاستثمار في أسواق الأسهم الأجنبية أو لشراء الأصول المالية في الخارج. وبالمثل، كانت البنوك أو الشركات المحلية تواجه قيودًا صارمة تحد من قدرتها على الاقتراض من الخارج. وكانت الحكومات عادةً ما تفرض إجراءاتٍ معقدةً — ضرائبَ أو شروطًا لإصدار التراخيص أو حظرًا كاملًا — تجعل نقل الأموال إلى داخل البلاد أو خارجها أشبه بكابوس. صحيح أن معظم الدول كانت ترحب بالشركات المتعددة الجنسيات والاستثمارات الأجنبية الطويلة الأجل، لكن نظرتها إلى الأنماط القصيرة الأجل من الإقراض والاقتراض وتدفقات المحفظة المالية (أو ما يطلَق عليها الأموال الساخنة) كانت مختلفة؛ لأنها اعتبرتها مصدرًا لانعدام الاستقرار المالي لا للنمو الاقتصادي.

وعلى الرغم من أن هذه الدول كانت تتحرك وقتئذٍ في الاتجاه الصحيح من وجهة نظر صندوق النقد الدولي، كانت لا تزال هناك مشكلة؛ إذ كانت هناك قيود مفروضة على المدفوعات المتعلقة بأغراض الحسابات الجارية (أعني بذلك: التجارة)، في المقابل، لم تشمل قواعد صندوق النقد الدولي السياسات التي تنظم المدفوعات المتعلقة بالتعاملات الدولية المالية أو الرأسمالية. وهكذا فإن صندوق النقد الدولي لم يكن له عمليًّا أية سلطة قانونية على تدفقات رأس المال، وكانت أيُّ دولة حرةً في التصرف كما يحلو لها. ولو كان على صندوق النقد الدولي أن يشرف حقًّا على تحرير أسواق رأس المال العالمية، لتطلَّب ذلك تعديل المواد الأصلية لاتفاقية نظامه الأساسي.

وجَّه كامديسو نداءً حماسيًّا مؤثرًا التمس فيه إقرار التعديل المقترح. قال صائحًا: «إن للحرية مخاطرها، [لكن] هل من حقل آخر أكثر منها خصوبة للتنمية والرخاء؟»2 كانت جميع المؤشرات تدل على أنه بصدد الانتصار لحجته. وبالرغم من المقاومة التي أبدتها العديد من البلدان النامية، أعلنت لجنة مؤقتة من صندوق النقد الدولي أن «الوقت قد حان لإضافة فصل جديد إلى اتفاقية بريتون وودز.» فقد ازدادت تدفقات رءوس الأموال الخاصة أهميةً بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، وأعربت اللجنة عن اقتناعها بأن «النظام الأكثر ليبرالية وانفتاحًا أثبت أنه مفيد للغاية للاقتصاد العالمي»؛ إذ إن ازدياد حراك رءوس الأموال سيزيد الاستثمار والنمو والازدهار من خلال تمكين المدخرات العالمية من التدفق إلى أكثر استخداماتها إنتاجية. وبطبيعة الحال، سوف تحتاج الحكومات إلى المضي قدمًا «بطريقة منظمة»، وسيكون من الضروري أن تضمن السياسات المحلية والدولية أن الأمور تجري وفق ما هو مخطط لها. من وجهة نظر اللجنة لم يكن ثَمَّةَ شك في أنها تمضي قدمًا في الطريق الصحيح، وصرَّحت: «إن تحرير تدفقات رأس المال عنصر ضروري من العناصر التي تشكل نظامًا دوليًّا نقديًّا فعالًا في عصر العولمة هذا.»3
وكان ستانلي فيشر نائب كامديسو — وهو اقتصادي أكاديمي مرموق انضم إلى فريق عمل صندوق النقد الدولي عام ١٩٩٤ — منشغلًا أيضًا بتقديم مبرر فكري عقلاني لتحرير حركة رأس المال. وعلى الرغم من أنه أقر هو الآخر بأن هذا التحرير ينطوي على مخاطر، فقد رفض رفضًا قاطعًا الرأي الذي يذهب إلى أن البلدان ينبغي أن ترفض تحرير حسابات رءوس أموالها؛ فمن الواضح أن الفوائد التي ستتحقق جراء تحرير تدفقات رأس المال تفوق التكاليف؛ فتحرير حركة رءوس الأموال سيتيح تخصيص المدخرات العالمية على نحوٍ أكثر كفاءة، وتوجيه الموارد نحو أكثر استخداماتها إنتاجية، وزيادة النمو الاقتصادي. يضاف إلى ذلك أن هذه «خطوة حتمية على طريق التنمية، ولا سبيل لتفاديها.» ما أكَّد على حتميتها، أن جميع الدول المتقدمة كانت قد حررت بالفعل أسواق رءوس أموالها.4 سيعترف فيشر في وقتٍ لاحق بضعف الأدلة التي كانت تشير إلى أن الفوائد المزعومة جراء الانفتاح في مجال حركة رءوس الأموال ستتحقق في الممارسة العملية. ومع ذلك، كانت التوقعات النظرية قوية للغاية بدرجة جعلته يثق بأن ثَمَّةَ أدلة على فائدة تحرير حركة رأس المال ستظهر مع مرور الوقت، كما ظهرت أدلة على فوائد تحرير التجارة في العقود السابقة.5
ربما لا شيء يمكن أن يوضح التحوُّل في نظم المعتقدات في الفترة التي شهدت انعقاد اجتماعات هونج كونج أفضل من انقلاب موقف الاقتصادي الراحل رودي دورنبوش، وهو اقتصادي بارز آخر كان زميلًا لفيشر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. عام ١٩٩٦، نشر دورنبوش مقالًا بعنوان «حان الوقت لفرض ضريبة على المعاملات المالية»، ولا يزال هذا المقال أحد أكثر المقالات الموجزة بلاغة وإقناعًا بمزايا وضع عقبات أمام تدفق الأموال عبر الحدود. بعد ذلك بعامين، عام ١٩٩٨، أعلن دورنبوش أن ضوابط رأس المال «فكرة مضى أوانها» وكتب قائلًا: «الجواب الصحيح عن السؤال عن حرية حركة رءوس الأموال هو أنها يجب ألا تخضع لقيود.»6
وما كان يثير الدهشة حينئذٍ — وليس فقط من منظورنا الحالي — هو أن هذا النقاش كان دائرًا في الوقت نفسه الذي كان يتكشف فيه فشل مريع للأسواق المالية العالمية على مرأًى من الجميع؛ فقد ضرب فجأة تسونامي مالي لم يتوقعه أحد بعض أكثر الاقتصادات نجاحًا في شرق آسيا وجنوبها الشرقي، التي ظلت طويلًا أثيرة لدى الأسواق المالية والمؤسسات المتعددة الأطراف؛ ففي عام ١٩٩٦، تدفقت إلى خمسة من هذه الاقتصادات (إندونيسيا وماليزيا والفلبين وكوريا الجنوبية وتايلاند) صافي رءوس أموال خاصة بمبلغ ٩٣ مليار دولار. أما في عام ١٩٩٧ فقد سجلت هذه الدول عجزًا قدره ١٢ مليار دولار منها؛ ما يعني خسارة قدرها ١٠٥ مليارات دولار في عام واحد فقط، وهذه النسبة تشكل أكثر من ١٠٪ من مجموع الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول مجتمعة.7 من شأن صدمة بهذه الجسامة أن تُحدث فوضى في أقوى الاقتصادات؛ لذلك لم يكن مفاجئًا أن تجد هذه الدول نفسها في خضم أشد أزمة اقتصادية تشهدها منذ عقود. امتدت الأزمة في نهاية المطاف إلى دول في مناطق أخرى أيضًا. ولحق أبلغ الضرر تحديدًا بروسيا (عام ١٩٩٨) وبالأرجنتين (عامَي ١٩٩٩ و٢٠٠٠)؛ لأنهما كانتا قد اقترضتا مبالغ ضخمة في الأسواق المالية العالمية.
لا يحق للحكومات التي تسيء إدارة اقتصاداتها إساءة فادحة، عن طريق الانزلاق إلى عجز هائل في الحسابَين المالي والجاري والتورط في التمويل التضخمي، أن تشكوَ إذا فقدت الأسواق المالية ثقتها فيها. وحينما يعاقِب المستثمرون مثل هذه الدول السيئة التصرف بأن ينسحبوا منها زرافات، فعلينا أن نشيد بالأسواق المالية لأنها تقوم بمهمتها على النحو الصحيح. لكن هذا لا ينطبق على حالة الأزمة المالية الآسيوية؛ إذ كان من المتعذر تفسير ما ارتكبته هذه الاقتصادات كي تستحق المصير الذي خبَّأته لها الأسواق المالية، لا سيما أن صندوق النقد الدولي كان قد أشاد «بأسسها الاقتصادية السليمة» وآفاقها المستقبلية «للنمو المستدام» قبل ذلك ببضعة أشهر فقط.8
في ذلك الوقت، قال كثير من المراقبين إن العلاقات الفاسدة بين الحكومة والشركات الكبرى — باختصار، المحسوبية السياسية على الطراز الآسيوي — أدَّت إلى الإفراط في الاقتراض وعدم فعالية الاستثمارات. لكن كانت هناك عدة أخطاء تشوب هذا الرأي؛ إذ كيف سجلت هذه البلدان هذه النسب الخارقة للنمو الاقتصادي إذا كانت غارقة في الفساد على هذا النحو؟ ولماذا تبيَّن أن الدائنين الأجانب لم يلحظوا هذه الإخفاقات قبل عام ١٩٩٧، حينما بدا أنهم جميعًا قد تحوَّلوا في الوقت نفسه إلى الرأي القائل إن ديون هذه البلدان غير مضمونة السداد على الإطلاق؟ لكن سرعة تعافي كوريا الجنوبية وتايلاند وماليزيا بعد عام ١٩٩٨ بمجرد استقرار الأوضاع المالية أشار إلى أن اقتصاداتها لم تكن تعاني عيوبًا جسيمة بالأساس. وقد حدث قبل بضع سنوات، عام ١٩٩٢، أن شهدت السويد أزمة مالية بالأبعاد نفسها، ومع ذلك لم تتردد مفردتا «الفساد» و«المحسوبية» كثيرًا على الألسنة في الحديث عن ذلك البلد.9 لقد أشارت هاتان الأزمتان بوضوحٍ إلى وجود مرض مزمن متوطن في الأسواق المالية، لا إلى أية خطايا جسيمة اقترفتها الحكومات الآسيوية.

هناك بالفعل تفسير آخر أكثر معقولية يذهب إلى أن تايلاند وكوريا الجنوبية وإندونيسيا أصيبت بأحد الأمراض المتوطنة في الأسواق المالية؛ إنها الحالة الكلاسيكية للتهافت العام على سحب الودائع من البنوك. بالطبع كانت «البنوك» في حالتنا هذه عبارة عن دول برمتها، لكن عدا ذلك لم يكن هناك سوى اختلافات قليلة بين الحالتين.

انظر كيف تعمل البنوك التجارية، إنها تقترض لأجَل قصير من مودعيها كي تقدم التمويل اللازم للاستثمار الطويل الأجل، وإذا حدث أن تجمَّع المودعون فجأةً عند باب البنك وطالبوا بسحب ودائعهم، فسينفد ما يملكه البنك من سيولة نقدية بمنتهى السرعة. وهذا الاحتمال يجعل المودعين في غاية القلق؛ فيرغب كل مودع في أن يكون أول من يقف في الطابور تفاديًا لأية متاعب متوقَّعة؛ مما يسفر عن حدوث التدافع. وقد يواجه أي بنك موجة تهافت على السحب لا لسبب إلا لمجرد شيوع حالة ذعرٍ من تعرُّض البنك لهذه الموجة. ابتكر علماء الاقتصاد المعاصرون أدوات قوية لمكافحة هذا المرض؛ فقد أصبحت بنوكهم المركزية تؤدي مهمة «مُقرِض الملاذ الأخير»؛ أي إنها تقدم السيولة اللازمة لإحداث الاستقرار في البنوك المتعثرة والقضاء على احتمال شيوع حالة من الذعر في الأسواق. يضاف إلى ذلك أن في معظم البلدان ثَمَّةَ حد معين لتأمين الودائع البنكية. وبفضل هذه الضمانات الحكومية، لم يعد هناك وجود للحالة المألوفة للتهافت على السحب من البنوك.

لكن هذا لم يحدث في مجال التمويل الدولي. كانت بلدان شرق آسيا تفعل بالضبط ما تفعله البنوك التجارية التقليدية: تقترض لأجَل قصير في الأسواق المالية الدولية لتمويل الاستثمارات المحلية. (يلاحَظ أن الديون القصيرة الأجل كانت تشكل خيارًا مفضلًا لأنها أرخص، ولأن المعايير السائدة لكفاية رأس المال تفرض على المقرضين تقليل ما يحتفظون به من رأس مال إذا كانوا يقدمون قروضًا قصيرة الأجل) لكن لم يكن هناك أي مُقرض دولي يقوم بمهمة الملاذ الأخير، ولم تكن هناك أية هيئة دولية لضمان الديون القصيرة الأجل. وحينما بدأ قليل من المقرضين في إعادة النظر بشأن مواقفهم الائتمانية، كان من العقلاني بالنسبة إلى «جميع» المقرضين أن يحجموا عن منح القروض؛ وهكذا كان الاقتصادي البارز جيفري ساكس (الذي كان حينئذٍ أستاذًا بجامعة هارفرد، ثم انتقل الآن إلى جامعة كولومبيا) محقًّا حينما عارض بقوةٍ وجهتَي نظر صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية، وذهب إلى أن سبب الأزمة المالية ذعر مالي، ولا علاقة له في الغالب بالعوامل الاقتصادية الأساسية ونقاط الضعف الداخلية.10 كانت آسيا تمر بمرحلة الكساد من دورة الازدهار والكساد. وكانت البنوك قد أفرطت في منح القروض قُبيل وقوع الأزمة، فباتت تبالغ في تدارك ذلك بالانسحاب السريع. لم تكن هذه المرة الأولى التي تسيء فيها الأسواق المالية التصرف، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة.

أدَّى حجم الأزمة المالية الآسيوية وما انتشر على إثرها من آثار غير مباشرة (الأزمة الروسية عام ١٩٩٨ على وجه التحديد) إلى فشل سعْي صندوق النقد الدولي إلى اكتساب سلطة جديدة لتحرير حركة رءوس الأموال. لكن هذا السعي عكس إجماعًا جديدًا ولافتًا للنظر فيما بين المسئولين في الدول المتقدمة؛ إذ بات واضحًا أن مسألة إزالة القيود الحكومية على الأسواق المالية الدولية صارت تحظى بقبول واسع النطاق. وبالرغم من فشل صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية في تمرير إقرار تعديلهم المنشود، ظلا أبرز المنادين بتحرير حساب رأس المال إلى أن وقعت أزمة الرهون العقارية عام ٢٠٠٨. واصل صندوق النقد الدولي حث البلدان التي يتعامل معها على إزالة العقبات المحلية التي تعوق التمويل الدولي، ودفعت الولايات المتحدة شركاءها في الاتفاقيات التجارية إلى إلغاء الضوابط المفروضة على رءوس الأموال. كان كل هذا يؤذِن بتحوُّل خطير في المعتقدات السياسية، وأعتقد أننا بحاجة لأن نعود إلى اتفاقية بريتون وودز كي نقدِّر أهمية هذا التحوُّل بالكامل.

(٢) إجماع أطراف اتفاقية بريتون وودز على فرض ضوابط على رأس المال

ما من شك بشأن قوة الإجماع الذي أعقب الحرب العالمية الثانية على فرض ضوابط على رأس المال. وكما قال أحد علماء الاقتصاد الأمريكيين عام ١٩٤٦: «ثَمَّةَ احترام كبير في الوسطَين الأكاديمي والمصرفي على حدٍّ سواء للنهج الذي يذهب إلى أن فرض قدرٍ كبير من السيطرة المباشرة على حركة رءوس الأموال الخاصة، لا سيما على ما يطلَق عليها أنواع «الأموال الساخنة»؛ أمر مفيد لمعظم البلدان، ليس فقط على المدى القصير بل على المدى الطويل كذلك.»11 عكست تدابير بريتون وودز هذا الإجماع على أكمل وجه. وقد أكد كينز نفسه أن اتفاقية بريتون وودز منحت جميع الحكومات «الحق المباشر في السيطرة على كل تحركات رأس المال» على الدوام، وقال إن «ما كان يعد من قبلُ هرطقة بات الآن معتَنَقًا راسخًا.»12

لقد حدث تقارب شبه تام في وجهات النظر فيما بين علماء الاقتصاد وصناع السياسة في ذلك الوقت بشأن ضرورة السيطرة على رأس المال. وصار من الواضح تمامًا أن هذا الإجماع انصراف واضح عن سيناريو عصر معيار الذهب بشأن فوائد تحرير التمويل. بالإضافة إلى أن فرض ضوابط على رأس المال لم يكن يُنظر إليه باعتباره مواءمة مرحلية مؤقتة تنتهي بمجرد استقرار الأسواق المالية وعودتها لحالتها الطبيعية؛ إذ أكد كينز وآخرون على أن هذه السيطرة كانت من المزمع أن تكون «إجراءً دائمًا».

وتعود جذور هذا التحوُّل إلى الاضطراب الذي اعترى مجال التمويل الدولي خلال الفترة التي فصلت بين الحربين العالميتين. وكما رأينا في الفصل الثاني، ساهمت تدفقات رأس المال الخاص في زعزعة الأوضاع خلال عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته؛ فقد وجدت الدول التي لم ترجع إلى اعتماد معيار الذهب أن قيم عملاتها تتذبذب بنسب كبيرة، وتتحرك في اتجاهات لا تُعبر دائمًا عن التطورات الاقتصادية الجارية. ووجدت البلدان التي تعتمد معيار الذهب أن رءوس الأموال تتدفق خارجها سريعًا لدى ظهور أي بادرة تؤذِن بحدوث اضطراب، الأمر الذي دفعها إلى رفع أسعار الفائدة وتعريض قدرة حكومتها على تثبيت معادلة سعر الصرف للخطر. كان هناك تعارض واضح بين الحاجة إلى الحفاظ على استقرار التبادلات الخارجية والرغبة في تحقيق هدف التشغيل الكامل. أدَّت جميع هذه الضغوط داخل الأسواق المالية إلى فشل عودة بريطانيا إلى معيار الذهب. فما إن صارت تحركات الأسواق متشابكة مع السياسات الداخلية، حتى تبخر الأمل في رؤية عالم تعمل موارده المالية على النحو الصحيح وتحافظ على توازنها ذاتيًّا.

ألقى كينز الضوء على مشكلة أخرى أكثر رسوخًا: أن التحرير المطلق لتدفقات رءوس الأموال لم يقوض الاستقرار المالي فحسب، بل قوض توازن الاقتصاد الكلي كذلك؛ أي التشغيل الكامل واستقرار الأسعار. كانت الفكرة القائلة إن الاقتصاد الكلي يستعيد توازنه ذاتيًّا دون مساعدة من السياستَين المحليتَين المالية والنقدية قد تبددت إثر تجربة «الكساد الكبير» والفوضى التي شهدتها فترة الثلاثينيات. حتى في الفترات التي شهدت هدوءًا نسبيًّا، أدَّى المزج بين تثبيت أسعار الصرف وتحرير حركة رأس المال إلى جعْل إدارة اقتصاد البلاد خاضعة لسياسات نقدية لبلدان أخرى. فمثلًا إذا شَحَّت الأموال لدى بلدان أخرى بحيث لجأت إلى رفع أسعار الفائدة، لا يكون أمامك خيار إلا أن تحذوَ حذوها. وإذا حاولت أن تخفض أسعار الفائدة على الودائع، فستغادرك رءوس الأموال متدفقة إلى الخارج بمبالغ ضخمة. من ناحية أخرى، إذا أردت أن تقيد حركة الائتمان أكثر مما تفعل بلدان أخرى، فسيؤدي رفعك أسعار الفائدة داخل البلاد إلى حفز تدفق الأموال الأجنبية إليك؛ ما يجعل اقتصادك ينتعش على المستوى الائتماني، وهذا سيلغي تأثيرات سياساتك الداخلية. أكد كينز أنه ما من سبب منطقي لأن تنتهج البلدان المختلفة سياسات نقدية مشابهة؛ فقد يرغب بلد يعاني من ارتفاع معدل البطالة في توسيع قاعدة الطلب المحلي، بينما قد يرى بلد آخر أن التضخم هو أكبر خطر يهدده. إن قواعد معيار الذهب لا تترك مجالًا لهذه الاختلافات، وتجبر الإدارة الاقتصادية المحلية داخل كل بلد على تقليد قدرٍ ما من السياسات المتبعة في غيره من البلدان. هذا التوحيد في السياسة المتبعة كان مرفوضًا في ضوء رغبة كينز (التي شاركه فيها آخرون من مهندسي نظام بريتون وودز) في وضع الاقتصاد المحلي والأهداف الاجتماعية في مرتبة تسبق الاقتصاد العالمي.

كان ثَمَّةَ بديل آخر لفرض ضوابط للسيطرة على رأس المال؛ إذ تستطيع البلدان أن تلجأ إلى تعويم عملاتها؛ بحيث تترك أسعار صرف عملاتها تتحرك تبعًا لتدفقات رأس المال الخاص بينما تظل السياسة النقدية المحلية مستقلة ومنفصلة عن كل ذلك. يمكنك على سبيل المثال أن تجعل أسعار الفائدة أقل من أي مكان آخر إذا كنت على استعداد لأن تسمح بانخفاض قيمة عملتك. هذه على كل حالٍ النظرية التي توضح طريقة عمل تعويم العملة. وقد صارت هذه النظرية في نهاية المطاف النموذج الغالب في الدول المتقدمة منذ سبعينيات القرن العشرين وصاعدًا، لكن كينز ومعاصريه رفضوا هذا الحل لسببين؛ الأول: أنهم خشُوا، كما ذكر كينز أعلاه، من أن تولِّد الأسواق المالية عملات مفرطة التذبذب نتيجةً لتلاحق موجات التفاؤل والتشاؤم. والثاني: أنهم كانوا متخوفين من التأثيرات التي ستنجم عن انعدام الاستقرار وشيوع عدم اليقين بشأن المستقبل في التجارة الدولية. وأوضحوا أن هناك فارقًا ظاهرًا بين عالم التشغيل والإنتاج من ناحية، وعالم المال من ناحية أخرى؛ فقد اعتبروا عالم المال «كازينو» أو ناديًا للقمار، لا باعثًا على الرخاء الاقتصادي. كانت التجارة — لا التمويل القصير الأجل — هي التي تحتاج إلى التشجيع. ومن هنا تنبثق المفارقة: أن تخفيض تكاليف المعاملات في التجارة تطلَّب رفع تكاليف المعاملات في التمويل الدولي. بعبارة أخرى: فرض قيود على حركة رأس المال. لقد كانت حركة رءوس الأموال حرة في الخارج، ومقيدة في الداخل.

دافع نظام بريتون وودز عن المبدأ الذي يذهب إلى أن الاقتصادات الوطنية بحاجة إلى الإدارة البارعة لضمان تحقيق تشغيل كامل ونمو مناسب. وهذا تطلَّب بدوره أن تملك هذه الاقتصادات «حيزًا سياسيًّا» كي يتسنى لها تطبيق سياستَيها المالية والنقدية. كان هناك ملمحان في هذا النظام الجديد، إلى جانب ضوابط السيطرة على رأس المال، يتجهان نحو توفير هذا الحيز. أولهما تمثَّل في تقديم صندوق النقد الدولي تمويلًا قصير الأجل لمساعدة البلدان على تجاوز فترات النقص المؤقت في العملة الأجنبية والتعثر في سداد المدفوعات الخارجية. في السابق، كان مثل هذا النمط من التمويل يُرتب خصوصًا ووفقًا للحاجة، ويتوقف على توافر الدائن الخاص المستعد لأن يقتطع من ماله على مضض. لم تكن القدرة الإقراضية لصندوق النقد الدولي كبيرة كما أراد كينز، لكنها أرست مبدأً مهمًّا؛ تمثل في أن التمويل القصير الأجل لميزان المدفوعات أصبح مسئولية رسمية فيما بين الحكومات. وكان هذا عنصرًا أساسيًّا في إضفاء تعددية الأطراف على نظام التمويل الدولي.

أما الملمح الثاني فهو كما يلي: على الرغم من أن ما كان متوقعًا هو أن تحافظ البلدان على ثبات معادلات صرف عملاتها، تسنَّى تغيير هذه المعادلات في حالات «الاختلال الجذري». ولم يحدد اتفاق صندوق النقد الدولي شكل الاختلال الجذري، لكن إضافة صمام الأمان هذا أرسى مفهومًا جديدًا لم يسبق له مثيل؛ بحيث إذا كانت آفاق التشغيل والنمو في بلدٍ ما تتعارض مع ما يسدده من مدفوعات خارجية، حتى بالرغم من لجوئه لفرض ضوابط على رأس المال ولتمويل صندوق النقد الدولي، يمكن إزالة هذا التعارض من خلال تعديل سعر الصرف بدلًا من ترك الاقتصاد الوطني فريسة للمعاناة. كان الإقرار بأن أسعار الصرف «ثابتة لكنها قابلة للتعديل» مفهومًا جديدًا كليًّا في مجال سياسة أسعار الصرف، وحلًّا وسطًا يهدف إلى توفير الاستقرار في التجارة الدولية، لكن ليس على حساب تدمير التشغيل والنمو المحلي.

وكما هي الحال بالنسبة إلى النظام التجاري، تأسس النظام المالي العالمي على الاعتقاد بأن الاحتياجات الاقتصادية المحلية من المستحسن (وينبغي) أن تُغلَّب على متطلبات الاقتصاد العالمي. وإذا أسفرت هذه الأسبقية عن ارتفاع تكاليف المعاملات الدولية، فليكن. كانت السياسات المحلية والدولية تعكس هذا الاتجاه السائد طوال الربع التالي من القرن العشرين. فعلى الرغم من أن الدول الأوروبية أزالت معظم قيود المدفوعات المفروضة على العملات الأجنبية في التجارة الدولية في أواخر الخمسينيات، فقد أبقت على القيود المفروضة على المعاملات المالية. ويشير راوي عبد العال، الأستاذ بكلية إدارة الأعمال بجامعة هارفرد، إلى أن «اتفاقية روما» التي تأسست بموجبها «الجماعة الاقتصادية الأوروبية» عام ١٩٥٧، تعاملت مع تدفقات رأس المال كما لو كانت مواطنًا من الدرجة الثانية بمنتهى الوضوح؛13 فقد ظلت معظم الدول الأوروبية محتفظة بالقيود التي تفرضها على رأس المال حتى أواخر الثمانينيات. وعلى الرغم من أن ألمانيا كانت تفضِّل أن تنفتح أكثر على تدفقات رأس المال، أحبطت معارضة فرنسا ودول أخرى أي تحرك في ذلك الاتجاه. أما أمريكا فلم تفرض قيودًا على رأس المال حتى الستينيات، لكنها أيضًا لم تضغط على غيرها من الدول لإزالة ما تفرضه من قيود. وفي عام ١٩٦٣، فرضت الولايات المتحدة ضريبة خاصة على أرباح الفائدة على الودائع الأجنبية كي تواجه تدفق رأس المال خارجها، وظلت تطبِّق هذا الإجراء حتى عام ١٩٧٤. كان تقييد رأس المال السمة الغالبة بطبيعة الحال في الدول النامية، عدا استثناءات قليلة للغاية. لقد كانت القيود المفروضة على رأس المال فاعلة خلال الستينيات، وكانت تعمل على النحو الذي تصوَّره لها مهندسو نظام بريتون وودز، ففتحت مجالًا لإدارة الاقتصاد الكلي المحلي.14

كان كعب أخيل في نظام بريتون وودز متمثلًا في أن هذا النظام لم يعالج معضلة الاقتصاد الدولي الأساسية، وهي: ما الذي سيؤدي دور الأموال الدولية في النظام؟ فقد كان الحفاظ على عالمية الاقتصاد يتطلب أداة تداول عالمية ومخزنًا للقيمة — أي «أموال» — تكون متوافرة بكميات كبيرة عند الحاجة، ويمكن الثقة بأن استبدالها مقابل بضائع أو أصول عينية أمر مضمون. لعب الذهب هذا الدور في فترة معيار الذهب، وقد تحدثنا عما أحدثه ذلك من مشكلات في سبعينيات القرن التاسع عشر (حينما أدَّى النقص العالمي في مخزون الذهب إلى انكماش الأسعار) ومن نكبات في ثلاثينيات القرن العشرين. أما في ظل نظام بريتون وودز فقد أصبح الدولار الأمريكي «عملة عالمية» بالفعل تشكِّل الخيار المفضل بالنسبة إلى البنوك المركزية في شتى أنحاء العالم لتخزين احتياطياتها النقدية. تعززت الثقة في الدولار لارتباطه بالذهب، بقيمة ثابتة تبلغ ٣٥ دولارًا للأوقية. صحيح أن جميع البلدان الأخرى كانت تستطيع من حيث المبدأ تخفيض قيم عملاتها، لكن النظام اعتمد على أن الولايات المتحدة نفسها لن تلجأ إلى ذلك مطلقًا. وهكذا اعتمد نظام بريتون وودز على ما أصبح يطلَق عليه «معيار صرف الدولار».

لكنْ ماذا سيحدث إذا واجهت الولايات المتحدة صراعًا بين احتياجاتها المحلية وأرصدتها الخارجية؟ لقد ظل ميزان المدفوعات على التعاملات الخارجية بعيدًا في أغلب الأحوال عن نطاق عمل صُناع السياسة الأمريكيين حتى أواخر الخمسينيات. كانت الولايات المتحدة تشكل الاقتصاد المسيطر في العالم وأهم مصادر الإقراض الدولي. لكن حينما بدأت الولايات المتحدة تواجه عجزًا خلال فترة الستينيات بسبب حرب فيتنام والنمو الاقتصادي السريع في أوروبا وآسيا، أصبحت مدفوعاتها الخارجية شغلها الشاغل.15 كان الوضع على ما يرام ما دامت بقية دول العالم سعيدة باكتساب المزيد من الدولارات الأمريكية التي تشكل احتياطياتها العالمية من النقد. لكن استمرار العجز الذي تسجله الولايات المتحدة في ميزان المدفوعات ألقى، في نهاية الأمر، بظلالٍ من الشك على ضمان استبدال الولايات المتحدة الدولارات مقابل الذهب وفقًا لمعادلة ثابتة. على المستوى المحلي، تعتمد الثقة في العملة الوطنية على قدرة الحكومة واستعدادها لزيادة الإيرادات التي تُحصَّل من مواطنيها لدعم قيمة عملتها. والأمر الذي كان يكافئ ذلك على المستوى الدولي هو أن تكون الحكومة الأمريكية على استعداد لزيادة الضرائب أو لخفض النفقات في الداخل كي تسدد مطلوبات «الأجانب». بدا الأمر كما لو كانت قواعد معيار الذهب عادت مجددًا، إلا أن الجميع كانوا يدركون أن الولايات المتحدة من غير المرجح أن تلتزم بما ينبغي فعله.
عام ١٩٧١ تزايدت طلبات الدول الأجنبية لاستبدال ما لديها من دولارات مقابل الذهب، فوجد الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير خزانته جون كونولي أنهما أمام أحد خيارين: إما تضييق السياسات الاقتصادية المحلية أو إلغاء إمكانية تحويل الدولارات إلى ذهب بسعر ثابت. بالطبع فضَّلا الخيار الثاني.16 ففرض نيكسون وكونولي رسمًا إضافيًّا نسبته ١٠٪ على الواردات الزائدة عن الحاجات الأساسية للتدليل على أنهما لن يقفا مكتوفَي الأيدي ويسمحا للدول الأخرى بالاستفادة من عُملتهما التنافسية وبتسجيل نسب فائض تجاري ضخمة مع الولايات المتحدة. هذا القرار المصيري الذي اتُّخذ في ١٥ أغسطس عام ١٩٧١ وضع خاتمة مصير النظام العالمي لثبات أسعار الصرف، الذي شكل حجر الزاوية النقدي لنظام بريتون وودز. مرةً أخرى، انتصر الاقتصاد المحلي على متطلبات الاقتصاد العالمي. في السنوات التالية كانت هناك عدة محاولات لوضع معادلات أسعار عملات أخرى جديدة، لكنَّ أيًّا منها لم تستمر. ثم أُجيز رسميًّا التحول إلى تعويم العملات عام ١٩٧٣.

(٣) تبدد الإجماع على نظام بريتون وودز

كان نجاح نظام بريتون وودز يحوي بذور انهياره؛ فمع توسُّع التجارة والتمويل في العالم، تقلَّص «الحيز السياسي» الذي وفَّرته الضوابط القائمة وبدأت القيود الخارجية تلعب دورًا أكبر. وتبيَّن أن صندوق النقد الدولي وما يملكه من موارد غير كافٍ، على الرغم من إنشاء أصول احتياطية اصطناعية بهدف تعزيز قدرته الإقراضية (حق السحب الخاص). وحينما تعرضت الدولة المحورية للنظام، أي الولايات المتحدة، لمداهمة الدول الأخرى التي أرادت استبدال الدولارات بالذهب في أواخر الستينيات، لم يعد بالإمكان الإبقاء على نظام ثبات أسعار الصرف. ما هو أكثر من ذلك، أن النظام المعتقدي الذي دعم فرض قيود على رأس المال بدأ في التفكك خلال السبعينيات، ليحل محله في العقود التالية نهج بديل يشدد على حتمية التحرير وفوائد تحرير حركة رأس المال. وكما حدث في حالة التجارة، كانت ثَمَّةَ أجندة للتكامل العميق تركز على تحرير حركة رأس المال ستحل محل تسوية بريتون وودز.

شهدت ستينيات القرن العشرين ذروة هيمنة الأفكار الكينزية على الإدارة الاقتصادية. لكن ما جاءت به السبعينيات من صدمات نفطية وتضخُّم مصحوب بالركود — الذي عرَّض الاقتصادات المتقدمة للبطالة والتضخم في آنٍ واحد — صرف الانتباه بعيدًا عن تركيز كينز على إدارة الطلب ووجَّهه نحو جانب العرض في الاقتصاد. في النموذج الكينزي التقليدي، تحدث البطالة نتيجةً لانخفاضٍ حاد في الطلب على المنتجات المحلية؛ لكن تزامن البطالة مع ارتفاع معدل التضخم دحض هذا التفسير. وبدأ الاقتصاديون والمتخصصون ينظرون إلى السياسات النقدية والمالية التقديرية الكينزية باعتبارها قوة لإشاعة عدم الاستقرار لا الاستقرار. وأفل نجم الفلسفات التدخلية بالتوازي مع انتشار الأفكار الموجهة نحو السوق بين ممتهني الاقتصاد. لكن من قبيل المفارقة أن نمو التجارة صعَّب على الحكومات فرض قيود على رأس المال؛ لأن تدفقات رأس المال باتت قادرة على التخفي من خلال التلاعب في تدفقات التجارة.17 كان كينز على حقٍّ حينما تنبَّأ بأن قيود رأس المال ستتطلب رقابة واسعة النطاق على كل المعاملات الدولية، لكن الحكومات كانت مترددة على نحوٍ متزايد حيال تطبيق القيود اللازمة نظرًا لتغيُّر روح العصر.
لعبت المصالح الاقتصادية القومية أيضًا دورها؛ إذ كانت الولايات المتحدة وبريطانيا تشكلان مركزين ماليين وعَمِلتا على الاستفادة من التحرير المالي العالمي، لا سيما أن من شأن إزالة قيود رأس المال أن تؤديَ إلى ازدياد الطلب على الخدمات التي تقدَّم في وول ستريت ومدينة لندن.18 عملت بريطانيا بهمة لتنمية سوق اليورودولار — ودائع ذات صفة دولارية تودع عادةً في لندن — التي غضَّت عنها الولايات المتحدة الطرف على الرغم من أن السياسة الرسمية الأمريكية لم تكن من المفترض أن تشجع تدفق رءوس الأموال خارج أمريكا. تشكلت المواقف الأمريكية أيضًا تجاه التحرير المالي اعتمادًا على توقعها بأن زيادة انفتاح النظام المالي الدولي ستساعد على تمويل ما تعانيه الولايات المتحدة من عجز.19 (وهذا سيحدث بالفعل لفترةٍ ما، لكنه أيضًا سيسهِّل بعد ذلك الانصراف عن الدولار.) ومع تلاشي ذكريات انعدام الاستقرار الذي ساد خلال الفترة بين الحربين العالميتين، بدأت المصالح المالية تتمتع بثقل أكبر في صياغة السياسات الاقتصادية. كان الأوروبيون واليابانيون مستعدين للتفكير في فرض قيود مشتركة على رأس المال لإحداث بعض الاستقرار في أسواق العملات الأجنبية بعد عام ١٩٧٣، لكن الولايات المتحدة اعترضت سبيل مساعيهم تلك.20 ودافع صناع السياسة في الولايات المتحدة وبريطانيا كثيرًا عن إلغاء القيود المفروضة على أسواق المال العالمية، وانضمت لهم فرنسا في وقت لاحق حليفًا قويًّا وغير متوقع.
كانت القوة الدافعة وراء تغير الموقف الفرنسي فشل برنامج الإنعاش الاقتصادي الذي بدأه الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتيران عام ١٩٨١ — أو ما أطلق عليها «التجربة الاشتراكية في أحد البلدان».21 كانت ردة فعل الأسواق المالية تجاه برنامج ميتيران أنها هربت زرافات، ما أدَّى إلى إحداث ضغط تصاعدي على أسعار الفائدة في فرنسا. في بادئ الأمر ردت حكومة ميتيران على ذلك بأن زادت حدة القيود المفروضة على حركة رأس المال، إلى حد أنها كانت تطلب من السائحين الفرنسيين أن يحملوا كراسة صغيرة — كراسة المصروفات — خلال ترحالهم خارج الحدود القومية كي يسجلوا — من باب الوعي وحسن التدبير — مشترياتهم بالعملة الأجنبية. لكن العناء الذي واجهوه لم يزد من شعبية ميتيران. وعلى أية حال، استمر هروب رءوس الأموال بلا هوادة تدعمه قوة شبكة التجارة الأوروبية. وفي نهاية الأمر، انتهى ميتيران ومستشاروه إلى أن قيود رأس المال أتت بنتائج عكسية؛ فالتكاليف التي أحدثتها لم يتحملها سوى المواطنين الفرنسيين العاديين، أما الأثرياء فقد احتفظوا بحرية الوصول إلى حساباتهم المصرفية في سويسرا وغيرها من الملاذات المالية.
فغيرت الحكومة الاشتراكية مسارها في ربيع عام ١٩٨٣، وتخلت عن برنامج الإنعاش بأن خففت حدة قيود رأس المال وتبنت جدول أعمال لتنفيذ التحرير المالي محليًّا. عقَّب أحد المراقبين على ذلك قائلًا: «ما كانت تخشاه الحكومة المحافظة أنجزته الحكومة الاشتراكية.»22 ما هو أهم بالنسبة إلى قضيتنا أن فرنسا أصبحت من الدعاة المتحمسين إلى وضع قوانين جديدة تدعم حرية حركة رأس المال؛ فقد صار جاك ديلور، أحد وزراء المالية في فترة ولاية ميتيران، رئيس المفوضية الأوروبية عام ١٩٨٥ وشجع على تحرير رأس المال باعتبار ذلك جزءًا من التحرك نحو «أوروبا واحدة». وعلى الرغم من أن مفوضية ديلور تصورت أن تحرير تدفقات رأس المال سيقتصر على النطاق الأوروبي، نجحت ألمانيا في مد نطاق التحرير ليشمل دولًا غير أعضاء. وبحلول نهاية الثمانينيات كانت القيود المفروضة على رءوس الأموال قد أُزيلت في كل الدول الأوروبية الكبرى؛ ما جعل القارة أكثر مناطق العالم انفتاحًا ماليًّا. فيما بعد، صارت حرية تدفق رءوس الأموال العرف الأوروبي السائد — وباتت جزءًا أصيلًا من المبادئ القانونية الأوروبية، أو تشريعات الاتحاد الأوروبي — الذي تعين على كل الدول التي تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الالتزام به. ووَضعت معاهدة «ماستريخت»، التي وُقعت عام ١٩٩٢، القوانين التي تعبِّر عن التوجه الجديد، جاعلة القيود المفروضة على رأس المال في أوروبا شيئًا من الماضي.
أتاح التحول الفرنسي هجرة النهج الجديد إلى ساحة دولية مهمة أخرى هي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. تشكل هذه المنظمة التي تأسست عام ١٩٦١ منتدًى للدول الغنية ذا سلطات تشريعية وتنظيمية، على الرغم من أنه لا يطبق عقوبات اقتصادية.23 فبحلول نهاية الثمانينيات كانت المنظمة قد نبذت التمييز الذي كانت تمارسه من قبلُ بين رأس المال القصير الأجل (الأموال الساخنة) والاستثمارات الطويلة الأجل. وتبنَّت أيضًا هدف التحرير الكامل لحركة رءوس الأموال باعتباره جزءًا من «القانون المعدَّل لتحرير تحركات رءوس الأموال» الذي تفرضه؛ الأمر الذي جعل إزالة قيود رأس المال شرطًا أساسيًّا لنَيل عضويتها. وبين عامَي ١٩٩٤ و٢٠٠٠ أصبحت ستة من البلدان النامية التي تمر بمرحلة تحوُّلٍ أعضاءً في المنظمة، وتعين عليها جميعها أن تلتزم بتحرير حسابات رأس مالها خلال وقت قصير، لكن اثنين من هذه البلدان، هما المكسيك وكوريا الجنوبية، مرَّا بأزمة مالية حادة بعد انضمامهما للمنظمة بوقت قصير.24

وبحلول الوقت الذي خاطب فيه ميشيل كامديسو مجلس صندوق النقد الدولي عام ١٩٩٧ كي يقدم مبررًا لإقرار تعديل يسمح للمنظمة بأن تضغط من أجل تحرير حركة رأس المال عالميًّا، كانت حجته قد اكتسبت قبولًا واسع النطاق لدى الاقتصاديين وصُناع السياسة في الدول المتقدمة. ولم يعد فرض قيود على رأس المال أمرًا ممكنًا ولا مقبولًا. وما كان هرطقة ثم تحوَّل إلى معتَنَقٍ راسخٍ، عاد ليصبح هرطقة من جديد.

(٤) حينما تسيء أسواق المال التصرف

مع تثبيت أسعار الصرف وزوال القيود المفروضة على رءوس الأموال انهارت دعامتان رئيسيتان من دعائم اتفاقية بريتون وودز. وفي السنوات التي تلت ذلك، كانت الأسواق المالية العالمية تؤثر تأثيرًا كبيرًا على تطبيق السياسة الاقتصادية. في ذلك الوقت، كان كثير من الاقتصاديين وصُناع السياسة يميلون إلى التعتيم على هذا التحول بكلام كالتالي؛ أولًا: أن تحرير حركة رءوس الأموال أمر حتمي ومطلوب في الوقت نفسه. وأن تحرير تدفق رءوس الأموال، شأنه شأن تحرير التجارة تمامًا، سيساعد في تطوير تخصيص الموارد العالمية وسيشجع الحكومات على انتهاج شكل أفضل للسياستين النقدية والمالية. ثانيًا: أن أسعار الصرف التي يحددها السوق نعمة مزدوجة؛ لأن من شأنها أن تَحُول دون حدوث اختلالات العملة، وفي الوقت نفسه ستسمح للبلدان بأن تطبق سياساتها النقدية على نحوٍ مستقل، بحيث إذا أرادت حكومة أن تنتهج سياسات أكثر توسعيةً من سياسات شركائها، يمكنها أن تفعل ذلك بأن تسمح بانخفاض قيمة عُملتها. ولن تكون هناك قيود تضيق الخناق على السياسات المحلية تماثل تلك القيود التي كانت موجودة في ظل معيار الذهب.

وقد أظهر هذا السيناريو ثقة استثنائية — وفي غير محلها — في قدرة أسواق المال على إرسال الإشارات الصحيحة؛ فصارت النظريات التي دعمت كفاءة أسواق المال هي العقيدة الفكرية المهيمنة في ذلك الوقت. استندت هذه النظريات إلى افتراضات غير معقولة بشأن طريقة تصرف المضاربين والمستثمرين، ومدى عقلانيتهم وبُعد نظرهم وقدْر مساهمة أنشطتهم في التطور الاقتصادي. يضاف إلى ذلك أن هذا الإجماع الجديد لم يقدِّر الاختلافات الموجودة بين الوسط المالي المحلي والدولي على النحو الكافي. ولم يكن هناك وجود للأسس القانونية التي يتطلبها التمويل المالي العالمي — من ضوابط ومعايير عالمية وإشراف وإنفاذ ومقرضي ملاذ أخير — في هذه الرواية مثلما لم يكن لها وجود في الواقع؛ ومن ثَمَّ، لم تستكشف نقاط ضعف النظام المالي الذي يعمل خارج نطاق السلطتين القانونية والتنظيمية ولا يخضع لأية رقابة. كان من المفترض أن تحتاج الأسواق إلى أمور أخرى قليلة للغاية بالإضافة إلى الراغبين في المشاركة فيها؛ لذا لم يكن من المفترض أن يندهش أحد حينما تمخض الانفتاح المالي عن الخيبة تلو الأخرى، لكنهم للأسف اندهشوا. كانت المقادير الناقصة من هذه الوصفة ستجري إضافتها في وقت لاحق بعد أن تزداد المشكلات الناجمة عن تحرير الأسواق المالية وضوحًا. وكان ينبغي الاستفادة من الدروس المؤلمة المستمدة من الفترة التي فصلت بين الحربين العالميتين.

وتعويم العملة — على وجه التحديد — عمل بطريقة خالفت بشدة توقعات معظم الاقتصاديين في ذلك الوقت. وبحلول الثمانينيات، كان «التذبذب الحاد» و«اختلال سعر الصرف» مرادفَين لتعويم أسعار الصرف. ويشير هذان الاصطلاحان الاقتصاديان إلى وجود مشكلتين؛ أولًا: أن قيم العملات كانت تشهد تقلبًا مفرطًا بمعدل يومي، وثانيًا: أن طول الفترات التي كانت العملة تشهد فيها بخسًا أو مغالاة في تقدير قيمتها خلق صعوبات في الداخل، وبالنسبة إلى الشركاء التجاريين.

انظر مثلًا إلى العناء الذي واجهه الجنيه البريطاني؛ فلدينا بيانات تاريخية تعود إلى عام ١٧٩١ توضح قيمة الجنيه مقابل الدولار الأمريكي، وتقدم لنا منظورًا تاريخيًّا طويل المدى تجاه عدم استقرار العملات؛ إذ نلاحظ خلال هذه المائتي سنة الممتدة أن جميع السنوات التي سبقت التحول إلى تعويم العملة عام ١٩٧٣ لم تشهد عدم استقرار العملة إلا في فترات قليلة للغاية. في الواقع، لم تكن هناك فترات أخرى شهدت اضطرابًا مماثلًا لاضطراب السبعينيات سوى فترات الصراعات العسكرية، والفترة التي فصلت بين الحربين العالميتين بما تضمنته من محاولة فاشلة لإعادة معادلة الجنيه بمعيار الذهب؛ فقد شهد الجنيه تقلبات عنيفة خلال فترة الحروب النابليونية وخلال الحرب الأهلية الأمريكية على وجه الخصوص. لكن عدا هذه الفترات، كان الجنيه مستقرًّا في أغلب الأحيان. صحيح أن بريطانيا خفضت قيمة الجنيه مرتين تخفيضًا كبيرًا بين عامَي ١٩٤٥ و١٩٧٣ (في عامَي ١٩٤٩ و١٩٦٧)، لكن هذا كان بهدف إنهاء ما كان يطلَق عليها في نظام بريتون وودز: «حالات اختلال جذري»، وأعقبتها فترات من الاستقرار في أسواق العملة الأجنبية. في المقابل، تبدو تجربة تعويم العملة بعد عام ١٩٧٣ مختلفة كل الاختلاف بما شهدته من تقلبات سنوية متكررة في قيمة الجنيه غالبًا ما تراوحت بين ١٠–١٥٪؛ أي على نحوٍ أشبه بحركة تأرجُح لا تتبع وتيرة محددة أو تجري لسبب واضح.

ويُعزى الجزء الأكبر من حالة عدم الاستقرار إلى الدورات الجامحة التي مرَّ بها الدولار؛ فقد مرَّ بعد عام ١٩٧٣ بثلاث دورات رئيسية تضمنت تخفيض قيمته ثم المغالاة في تقديرها. كانت هناك أيضًا فترات شهد فيها الجنيه وحده صعودًا أو هبوطًا متراكبًا. وربما يتصور من لا يملك معرفة تاريخية كبيرة أن العالم اهتز إثر سلسلة من الأحداث الكارثية السياسية والعسكرية بعد عام ١٩٧٣. لكن تعويم العملات صار مصدرًا لعدم استقرار النظام الاقتصادي الدولي لا صمام أمان.

أجرى الاقتصاديون وصُناع السياسة مناقشات لا حصر لها خلال الثمانينيات والتسعينيات، حول ما إذا كانت قيم العملات تعكس الأوضاع الاقتصادية الأساسية، أم تعكس فقط التشوهات الحادثة في أسواق العملات الأجنبية، مثل: الفقاعات، أو اللاعقلانية، أو التوقعات التي تفتقر إلى بُعد النظر، أو الاستراتيجيات التجارية القصيرة الأمد. وتساءلوا ما الذي يفعله حقًّا هؤلاء الرجال — في أغلب الأحوال رجال — الذين في العشرينيات أو الثلاثينيات من أعمارهم، والجالسين أمام شاشات الكمبيوتر الضخمة، يحركون مئات الملايين من الدولارات عبر جميع أنحاء العالم بضغطة على مفتاح، فيحددون مصير عملات وطنية لدول؟ هل يعملون على إزالة أوجه القصور الموجودة في السوق ويجعلون قيم العملات أقرب إلى قيمتها الاقتصادية الحقيقية الخافية؟ أم أنهم يفاقمون حالات الصعود أو الهبوط في السوق بتصرفهم كالقطيع ومطاردتهم أرباحًا وهمية.

لكن لم يكن النقاش ذا فائدة تُذكر لأولئك الذين اضطُروا للمعاناة من تداعيات تقلبات العملات؛ فحينما ارتفعت قيمة الدولار بنسبة ٤٠٪ خلال النصف الأول من الثمانينيات، كان هذا أشبه بفرض ضريبة مساوية لهذه النسبة على صادرات كل المصانع في الولايات المتحدة، ودعم كل منافسيها الأجانب في السوق الأمريكية بهذه النسبة عينها؛ ومن ثَمَّ لا ينبغي أن تكون الزيادة المعتدلة في إجراءات الحمائية خلال هذه الفترة مثارًا للدهشة، لكن المدهش حقًّا أن هذه الإجراءات لم تتمادَ أكثر من ذلك. وأيًّا كان مصدر مشكلة الأسواق المالية، فإنه لم يكن انعدام المنافسة أو سيولة السوق. بحلول عام ٢٠٠٧، كان الحجم «اليومي» لتعاملات النقد الأجنبي قد ارتفع إلى ٣٫٢ تريليونات دولار، وهو حجم ضخم فاق حجم التجارة (التي بلغ معدلها اليومي خلال العام نفسه ٣٨ مليار دولار).25 وهكذا طغى عالم المال على الاقتصاد الحقيقي.

لقَّننا التعويم درسًا مهمًّا آخر، فبمجرد تحرير رأس المال، لم يكن هناك فرق ملحوظ بين تثبيت العملات وتعويمها. كان جيمس توبين — أستاذ الاقتصاد الكينزي بجامعة «ييل» حينئذٍ، والذي نال في وقت لاحق جائزة نوبل — قد وضع إصبعه بالفعل عام ١٩٧٨ على المشكلة الرئيسية، فكتب: «الجدال الدائر حول نظام [أسعار الصرف] يغفل مشكلة أساسية محددة ويحجبها.» فالمشكلة الأساسية تتمثل في «فرط» حرية حركة رءوس الأموال المالية الخاصة؛ «لأن الاقتصادات الوطنية والحكومات الوطنية لا يمكنها مجاراة التحركات الضخمة النطاق للأرصدة عبر التبادلات الخارجية من دون أن تعانيَ مشقة حقيقية، وتضحِّيَ تضحية كبرى من أهداف السياسة الاقتصادية الوطنية في مجالات التشغيل والإنتاج والتضخم.» كانت حجته في جوهرها هي نفسها حجة كينز، لكن الجديد أنها طُبقت على عالم العملات المُعوَّمة. أشار توبين إلى أن حرية حركة رأس المال تمنع الدول من انتهاج السياسات النقدية والمالية التي تختلف عن مثيلتها في الاقتصادات الأخرى؛ ومن ثَمَّ تقوض تنفيذ السياسات التي تتلاءم مع الاقتصاد المحلي. وبصرف النظر عن أن التعاملات في الأسواق المالية الدولية تؤدي إلى تحويلات كبيرة من الأرصدة عبر الدول أو أنها تسفر عن تقلبات حادة في أسعار الصرف، حذَّر توبين من أن لها «عواقب اقتصادية داخلية خطيرة ومؤلمة في كثير من الأحيان.»

وأوضح توبين أن اقتصاد العالم بمقدوره أن يتبع إحدى طريقتين: أن نعتمد عملة عالمية واحدة ونطبق على المستوى العالمي ما كان جيدًا على المستوى المحلي، وهذا من شأنه أن يقضيَ على كل الصعوبات والتشوهات الناجمة عن الاختلاف — في السعر بالطبع — بين العملات المحلية عند إخضاع كل الدول لسياسة نقدية موحدة. ولأنه رأى أن هذا السيناريو مستحيل من الناحية السياسية، قدم حلًّا بديلًا، وقال وصفته الشهيرة إننا نحتاج «لإلقاء بعض الرمل في عجلات أسواقنا المالية الدولية التي تدور بسلاسة مفرطة.»26 تمثل هذا الرمل فيما بات يُعرف اليوم باسم «ضريبة توبين».
لكن توبين واحد من قلة مستقلة، ونداؤه وقع على آذان صمَّاء استندت إلى أن روح العصر تغيرت بعد مرحلة بريتون وودز. وظل الإيمان قويًّا بفعالية تحرير حركة رأس المال وحتميته. وكان على الاقتصاد العالمي أن يعانيَ مزيدًا من الأضرار قبل أن تلقى آراء توبين آذانًا مُصغية لدى كبار اقتصاديي العالم ومُشرِّعيه.27
فقد أسفرت موجات الأزمات المالية التي عصفت بالدول التي تركت نفسها تحت رحمة أسواق رأس المال الدولية عن أضرار بالغة بحق. بدأ الأمر بأزمة ديون دول أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، التي تفاقمت بسبب سوء الإدارة الاقتصادية وابتلعت دول الإقليم وأنتجت «عقدًا ضائعًا» من الركود الاقتصادي. ثم حان دور أوروبا مع مطلع التسعينيات، حينما ضارب تجار العملة بنجاح ضد البنوك المركزية لعدة دول أوروبية (مثل إنجلترا وإيطاليا والسويد). كانت هذه الدول قد حاولت تحديد حركة العملة بأن ربطت عملاتها بقوة بالمارك الألماني، لكن أسواق المال أجبرتها فيما بعدُ على تخفيض عملاتها. ثم شهد منتصف التسعينيات جولة أخرى من الأزمات الاقتصادية التي كانت أشدها «أزمة التكيلا» في المكسيك (١٩٩٤) التي نجمت عن تراجع مفاجئ في تدفقات رأس المال. عقب ذلك اندلعت الأزمة المالية الآسيوية عامَي ١٩٩٧ و١٩٩٨، التي ستمتد عقب ذلك إلى روسيا (١٩٩٨) والبرازيل (١٩٩٩) والأرجنتين (٢٠٠٠) وأخيرًا إلى تركيا (٢٠٠١). هذه ليست سوى الحالات الأكثر شهرة. لكن أحد التقديرات يشير إلى حدوث ١٢٤ أزمة مصرفية، و٢٠٨ أزمات عملة، و٦٣ أزمة ديون سيادية بين عامَي ١٩٧٠ و٢٠٠٨.28 وبعد انقضاء فترة هدوء شهدها مطلع الألفية الجديدة، فجرت أزمة الرهون العقارية التي تمركزت في الولايات المتحدة سلسلة أخرى من الهزات القوية؛ ما أدَّى إلى تعرُّض الاقتصادات المنفتحة ماليًّا إلى ندرة مفاجئة في التمويل الأجنبي وإفلاس عدد قليل منها (مثل أيسلندا ولاتفيا).
جرت معظم هذه الحالات تبعًا لنمط الانتعاش والكساد نفسه. يبدأ الأمر بمرحلة تشهد نشاطًا نسبيًّا تتلقى الدولة خلالها مبالغ ضخمة من الإقراض الأجنبي. تتغذى هذه المرحلة على الأخبار التي تنتشر في أسواق المال وتؤكد على إشراق الآفاق المستقبلية لهذه الدولة. تكون الدولة قد أصلحت سياساتها وتأهبت لحدوث ازدهار مدوٍّ في الإنتاجية. حينئذٍ لا يكون هناك داعٍ للقلق بشأن تراكم الديون نظرًا لأن ما سيأتي به المستقبل من إيرادات سيكون مرتفعًا؛ ومن ثَمَّ ستتوفر القدرة اللازمة على سداد القروض. قد يكون هؤلاء المقترضون هم: الحكومة وبنوك القطاع الخاص أو شركاته. في النهاية، لا يبدو أن هناك فرقًا. ثم ينتشر عدد قليل من الأخبار السيئة، المحلية أو الخارجية، محدثة ما أَطلق عليه جييرمو كالفو، محلل الأزمات المالية البارز، اسم «توقف مفاجئ».29 فتتغير نبرة الحديث عن الدولة في الأسواق تمامًا على النحو التالي: لقد أفرطت الدولة في الاقتراض، وحكومتها تتصرف على نحوٍ غير مسئول، واقتصادها يبدو محفوفًا بالمخاطر. فتجف منابع التمويل الأجنبي، وخلال وقت قصير يُضطر الاقتصاد إلى المرور باضطرابات مؤلمة؛ بحيث ترتفع أسعار الفائدة ارتفاعًا جنونيًّا، وتنهار العملة، وتواجه الشركات ضائقة ائتمانية، وينكمش الطلب المحلي انكماشًا عادةً ما يتفاقم نتيجةً للسياسات المالية المتزمتة الرامية إلى تدارُك الأمر واستعادة «ثقة السوق». وحينما يكون كل شيء قد انتهى، يكون الاقتصاد قد خسر ما معدله ٢٠٪ من ناتجه المحلي الإجمالي.30
ما كان ينبغي لأيٍّ من هذا أن يفاجئنا. فمتى كان رأس المال حر الحركة عبر أنحاء العالم، أسفر ذلك عما أَطلق عليه المؤرخ الاقتصادي تشارلز كيندلبرجر «هَوَس وهَلَع وانهيارات».31 وقد ألقى البحث الذي أجراه مؤخرًا كين روجوف وكارمن راينهارت الضوء على الأمر الذي طالما كان واضحًا بالنسبة إلى المؤرخين الاقتصاديين. أخذ هذان الباحثان على عاتقهما التقليب في صفحات التاريخ كي يتعرَّفا على كل حدث مهم ذي صلة بالأزمات المصرفية منذ عام ١٨٠٠. وحينما راكما ما توصَّلا إليه من نتائج على طول المسار التاريخي لحركة رأس المال، اكتشفا أن ثَمَّةَ تسلسلين متوازيين على نحوٍ يكاد يكون تامًّا. فقالا: «إن الفترات التي شهدت نشاطًا في حركة رأس المال الدولي عادةً ما أنتجت أزمات مصرفية عالمية، لم تحظَ فقط بشهرة واسعة مثل أزمة التسعينيات، وإنما حظيت بشهرة تاريخية.»32

ربما كانت زيادة التقلبات والأزمات تمثل الثمن الذي دفعه اقتصاد العالم مقابل تحسُّن الانضباط المالي. وقد يشير كثير من المدافعين إلى أن العالم قد استفاد من تحرير رأس المال على الرغم من هذه الإخفاقات. أما الحجة القائلة بأن حرية التمويل تؤدي إلى تحسين التخصيص العالمي للموارد، فما زالت قائمة حتى الآن. ولا يزال هناك جدال أكاديمي دائر حول ما إذا كانت البلدان التي تزيل معوقات حركة رأس المال الأجنبي تنمو أسرع من غيرها حقًّا أم لا. لكن هذه مماحكة أكاديمية بالغة؛ لأن ما يذكره سجل التاريخ عن حرية حركة رأس المال واضح وضوح الشمس.

وإلقاء نظرة خاطفة على هذا السجل يضعنا أمام ثلاثة اكتشافات مهمة: الأول أن الاقتصاد العالمي بلغ مستويات نمو غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. ولم يحدث أن بلغ العالم مستويات تكاد تقترب من هذه المستويات على مدى التاريخ كله، لا في الثورة الصناعية ولا في عصر عولمة القرن التاسع عشر. والاكتشاف الثاني أن معدلات النمو التي تحققت خلال أول ربع قرن عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تتكرر ثانية؛ فقد نما اقتصاد العالم بنحو ٣٪ سنويًّا على أساس نصيب الفرد بين عامَي ١٩٥٠ و١٩٧٣، وهذا يعادل ثلاثة أمثال معدل نمو الاقتصاد قبل حقبة الثلاثينيات، ومثلَي معدل النمو منذ حقبة السبعينيات. صحيح أن الأداء الاقتصادي في فترة ما بعد عام ١٩٩٠ يبدو جيدًا للغاية من المنظور التاريخي، لكنه يظل أقل من مستواه في ظل بريتون وودز؛ فأداء الاقتصاد العالمي خلال فترة العولمة المالية لم يكن بجودة أدائه نفسها خلال حقبة بريتون وودز.

والاكتشاف الثالث أن أكثر البلدان التي حققت نموًّا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تمامًا مثل نظيراتها التي حققت أكبر نمو في العقود التي أعقبت الحرب مباشرة، كانت بلدانًا مثل الصين، التي لعبت لعبة العولمة وفقًا لقواعد بريتون وودز، لا لقواعد التكامل العميق؛ إذ أبقت هذه البلدان على الضوابط التي تحد من حركة رأس المال، وأبقت التمويل الأجنبي تحت السيطرة، واستخدمت ما لها من حيز سياسي لإدارة الاقتصاد المحلي (كما سنرى لاحقًا في الفصل السابع). الاستنتاج الحتمي إذنْ هو أن العولمة المالية قد خذلتنا؛ فالبلدان التي انفتحت على أسواق رأس المال العالمية واجهت مخاطر أكبر، من دون أن يعوضها عن ذلك أي منافع متمثلة في شكل ارتفاع معدل النمو الاقتصادي.33

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤